الجبالُ هي الكائن الذي يستطيع بمجرد رؤيتي له أنْ يثيرَ في نفسي عدة مشاعر متناقضة ... مشاعر قوية ... تنتزعني من الحال التي أكون فيها إلى حال آخر مغاير :
الجبالُ تثيرُ في نفسي الرهبةَ والجلالَ والإعظام لله ... وفي كل مرة تقع عيني على جبل عظيمٍ هائل الخلقة أقول في نفسي على الفور : لابد أنّ اللهَ أراد أنْ يثير في نفوس عباده هذه المشاعر من خلال الجبال ... لآبد أنّه - سبحانه - قد أراد أنْ يدل على عظمته من خلال هذه الكائنات المهيبة التي تجعل الروح تتساءل متوجعة : إذا كان كلُّ هذا الجلال للجبال فما بالُ جلال اللهِ خالق الجبال ؟!
وإذا كانت الروح لا تحتمل مهابة الجبال فكيف تحتمل مهابة الله يومَ لقائه ؟

هذه الأسئلة تثور في نفسي وتُطلِقُها روحي في كل مرة تقع عيني على جبل عظيم ...
*** الجبالُ تثير في الروح التأمّل والتدبّر في الوجود ... ودائما ... دائما تأخذني الجبالُ إلى رحلة روحية عجيبة عند مرآها ... أنطلق منها إلى ردهات الكون العجيب ! وكأنّ الجبال هي كلمة المرور التي أدخل منها بوابة الوجود ... وهي بالفعل كذلك ... تدفعني الجبالُ إلى التأمّل في كيانها العجيب الرّصين ... التأمل في رسوخها وثباتها ... في كتلتها الصّلدة القوية التي يثبّت بها اللهُ الأرضَ كي لا تميد بنا ... الجبالُ رّواسي ... الجبالُ رواسي ...
نعم ... نعم ... ولكن الجبالُ الرواسي تميدُ ... تمييييـــــــد !
** هذه الجبالُ الرواسي هي الأوتاد ... يسميّها البعضُ من العلماء بـ : مسامير الأرض ... هذه الأوتادُ القوية التي يمسكُ اللهُ بها الأرض أنْ تميدَ بنا ... هذه الجبالُ ذاتها تميدُ ... نعم تميدُ وتتزلزل ، وتفقدُ ثباتها ورصانتها وقوتها في أحوالٍ كثيرة يصورها اللهُ سبحانه ، ويثبتُ من خلالها قدرته على خلقه مستدلا بقدرته على الجبال وتذليله لها ...
الجبالُ تندكُّ إذا تجلّى لها اللهُ :


*** تتزلزلُ الجبال مهابة وخشية وخشوعا إذا تجلّى لها وجهُ الله - سبحانه - هكذا يصورها سبحانه وهو يجيبُ على موسى - عليه السلام- حين تمنّى على الله أنْ يراه ... قال تعالى :
" ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربُّهُ قالَ ربِّ أرنِي أنظرُ إليكَ قالَ لنْ تراني ولكن اُنْظُرْ إلى الجبلِ فإنْ استقرَّ مكانَهُ فسوفَ تراني فلمّا تجلَّى ربُّه للجبلِ جعلهُ دَكَّا وخرَّ موسى صَعِقَا فلمَّا أفاقَ قال سبحانَكَ تُبتُ إليكَ وأنا أولُ المؤمنين "سورة الأعراف / الآية 143

الجبالُ تتصدّعُ من جلال القرآن الكريم :
*** الجبالُ تتضعضعُ من جلال القرآن الكريم ... تخشع لكلام ربَّها ، وتتفتتَ بنيتها القوية إعظاما لله ! فما بالنا نحنُ ... إذا استمعنا إلى الذكرِ لا تتحركُ قلوبُنا حركة الجبال ... مالها لا تبلغ هذه الدرجة التي تبلُغا الجبال من الخشية والإجلال لله ؟ ! يقولُ تعالى :
" لو أنزَلْنا هذا القرآنَ على جبلٍ لَرَأَيتَهُ خاشعاً مُتصَدِّعاً من خشيةِ اللهِ " سورة الحشر / الآية 21
ويقولُ تعالى :
" ولو أنّ قرآناً سُيِّرتْ به الجبالُ أو ٌقطعت به الأرضُ أو كُلِّمَ به المَوتى " سورة الرعد / الآية 31
** تتضمنُ هذه الآية العظيمة البليغةُ وصفا دقيقا للإنسان الغافل الجاحد ، الإنسان الذي تصلّبت روحه وتيبّست فهي لا تستشعر جلالَ الله ، ولا تستشعر - من ثم - جلال كلام الله في كتابه ...- أو لا تستشعر كما يجب أن يكون ...
تؤكدُ هذه الآية العظيمة أنّ جلال القرآن الكريم يبلغ من الدرجة إلى حدّ أنّه يُسيّر الجبال - وهي الرواسي الأوتاد - ويقطع الأرض ، ويُخاطبُ به الموتى فيسمعون ... وذلك يعني أنّ الإنسان بلغ من جحوده أنّه أقلّ إحساسا واستشعارا لمهابة القرآن من الجبال والأرض والموتى ... الإنسان ذلك الكائن الذي خلقه اللهُ في أحسن تقويم وجادل فيه الملائكة ، وانتصر له على الشيطان ، وأنعم عليه بالجنة ، ثم أنزله منها - بمعصيته - ثم تاب عليه ومهّد له الأرض وسخّر له الكون والكائنات ليُذلّل له معيشته فيها ، وأرسل له الرسل والرسالات والكتاب الكريم ... هذا الإنسان ... هذا الإنسان -أقل في شعوره بالله - من الجوامد المُسخّرة له - الجبال والأرض - وأقلّ حياة من الموتى ، فهو في درجة من المواتِ أشد من الموت !

*** الجبالُ غيورة على جلالِ الله ! :

*** الجبالُ أشدُّ غيرة من البعض منّا على جلال اللهِ وقدره ... هي أشدُّإدراكا منهم لعظمة الله ... هي أشدُّ إعظاما لله ... هكذا يقارن اللهُ بين الجبال وبين بعض خلقه في سورة مريم حين يعرضُ لنا تجرؤ بعض عباده على الشرك به ، ونسبة الولد إليه - تعالى الله وتنزّه - يصف الله سبحانه إشفاق الجبال من هذا الإثم العظيم ، وحياءها من ربّها ، وإعظامها له ، إلى حدّ أنها تخر وتنهدُّ هدَّا قبالة افتراء الإنسان على ربّه ، وجهله بقدره ... يقولُ تعالى :
" وقالوا اتّخذ الرحمنُ ولدا 88 ) لقد جِئتُمْ شيئاً إدَّا 89 ) تكادُالسماواتُ يتفطَّرنَ منه وتنشقُ الأرضُ وتخرُّ الجبالُ هَدَّا 90) أنْ دَعَوا للرحمن ولداَ 91 ) سورة مريم

*** مسيرةُ الجبالُ يوم الهولِ العظيم :

تبلغُ عظمة الجبال ، ويبلغ مدى دلالتها على عظمة خلق الله إلى حدّ أنْ جعل اللهُ مسيرتها يوم القيامة دليل هذا الحدث العظيم ... دليل الهول ... وكأنّ حركة هذه الكائنات وتسييرها - في حدّ ذاتها - علامة وإشارة على تغيّر واقع الإنسان وانتقاله من الحياة الدنيا إلى الآخرة ... يقولُ تعالى : " ويومَ نُسيِّرُ الجبالَ وترى الأرضَ بارزةً وحشرناهُم فلم نغادرْ منهُم أحداَ " سورة الكهف / الآية 47 سورة الكهف
هل لاحظنا العلاقة بين الجبال والأرض في الآية الكريمة السابقة ؟ هل لاحظنا ترتيب هذه الكيانات العملاقة : الجبال والأرض ؟ لقد رتَّب اللهُ الأحداث - في الآية السابقة - كما يلي :
تسيير الجبال ... ثمّ
بروز الأرض ...ثم
حشر الإنسان ...
وهذا الترتيب يؤكد وحدة القرآن الكريم ؛ فالجبال موصوفة في هذا الكتاب الكريم بأنها أوتاد الأرض وأنها الرواسي بما يعني أنَّ تحريك هذه الرواسي / الأوتاد لابد أنْ يعقبه تشقّق الأرض وبروز أحشائها ؛ ومن ثم خروج الموتى منها محشورين مُساقين إلى خالقِهم ليعلمَ كلٌّ منهم مصيره وموقعه بين يديه !

*** الجبالُ عظمة وآية يهديها اللهُ لعباده المُصطفين :

لكلَّ هذا الجلال في الجبالِ ، لكلّ هذا الجمال الساكن فيها ، لكلِّ هذا الخشوع والامتثال الكامن في ملامحها ... لكل ما في الجبال من عظمة ومهابة وامتثال للخالق ... لأنّ الجبال آية ... بل هي واحدة من أعظم آيات الله - سبحانه - لكلّ هذا - ولكلّ ما لانعلم في الجبال ، وما لاندركه فيها بعد ... - لكلّ هذا- يصوّر اللهُ الجبالَ عظمةً ونعمة جليلة ويصف تسخيرها لمن يريدُ من عباده علامةً رضى وحظوة لهذا العبد عنده - سبحانه - ويصف هذا التّسخير بأنّه - في ذاته - آية ... هكذا وصف اللهُ الجبالَ مسخّرة لعبده " داود " - عليه السّلام- تسبِّحُ معه ...، وصف تسخير الجبال لداود دليلا على شكره هذا النّبي الشكور ، وإثابته له على عبادته وتأويبه ... يقول تعالى : " وسخَّرنَا مع داود الجبالَ يُسبِّحنَ والطَّيرَ وكُنَّا فاعِلين " سورة الأنبياء / الآية 79
جلالُ الجبال دليل على جبال الجلال :

يصور اللهُ سبحانه اقتداره على الجبال ، وقدرته على نسفها دليلا على جلاله وعظمته وقوته - سبحانه - وهي بالفعل دليل قاطع على هذا -... فالله يعلم مقدار ما تُثيره فينا من رهبة بكيانها الفخم الباذخ وامتدادها المتعملق في الكونِ ... إنّ الجبال مضرب المثل في الحياة نُشبِّه بها القوي ، ونشبّه بها الرّصين الراسخ ، الثابت في رأيه أو عقيدته ، أو عواطفه ... نُشبّه بها قوي البِنْية ... قوي الرأي ... الثابت غير المُتحوّل ، نشبّه بها العَصيّ على التغيير والزوال ... ولكن : سبحان من له الدوام ... سبحان من يغيّر ولا يتغيّر ... سبحان القادر قوي القبضة ... شديد الطول ... سبحان من بيده كل شئ ولا ينال منه شئٌ ... سبحان من له الملْكُ وحده في الدنيا والآخرة ... سبحان من يقبض جميع خلقه يوم القيامة ُمناديا : لمن المُلكُ اليوم ... فيكون المُلكُ له وحده وهو العزيز الجبّار ...
كلُّ هذه المعاني حرص اللهُ - سبحانه على إثارتها فينا بتصوير قدرته على الجبال وإمكانية نسفه لها ودكّها بالبساطة ذاتها التي خلقها بها ! وذلك لأنه - وهو الأعلم بمن خلق وما خلق - يدركُ أن الإنسان ضعيف جهولٌ قابل لأن يقع في فتنة إعظام الجبالِ وإجلالها - في ذاتها ولذاتها - إلى حد عبادتها ، يعلمُ أن الإنسان قابل للضلال ... قابل لأن يؤخذ بجلال الجبال حتى يصل إلى حدّ أنْ ينسى جبال الجلال التي يتّسم بها المولى - سبحانه - نحن لا نستطيع أنْ نُحصي ثناء عليه ..
يقول تعالى :
" ويسألونَكَ عن الجبالِ فقلْ ينسِفُها ربِّي نسفاَ 105 ) فيَذَرُها قاعاً صفْصَفا 106 ) لا ترى فيها عِوَجاً ولا أَمْتَا 107 ) سورة " طه"

*** اللهم خالق الجبال ، وجاعلها رواسي وتثبيتا لنا في الأرض ... اللهم ناسف الجبال والقادر عليها وعلينا ... اللهم صاحب الجلال وحدك ، ياااامن لا يعظم عليك ما خلقت ومن خلقت ، يامن يهونُ عليه الجبلُ والسهلُ ، ويسبِّح بعظمته الحيُّ والجامدُ ... بحق ما يخشع لك قلبي ، وتهتزّ لك روحي امنحني - وجميع خلقك - بعضا من خشوع الجبال لك وإعظامها لقدرك ، وإدراكها لجلالك ، وغيرتها عليك ... امنحني - في عبادتك وفي الحق فقط - ثبات الجبال ورسوخها ... و يقينها ورهبتها منك ... بعضا من عمقها وجلالها و... وعيها و... التزامها و ...بعضا من حبك لها ... آمين ...
***************
بقلم : جاميليا حفني
مدونة " أدركتُ جلالَ القرآن " لجاميليا حفني
/RI]http://greatestqoran.blogspot.com/2012/03/post.htmlT]