أحمد منصور يكتب :
خطاب الوداع لأردوغان (1)
رغم أنى لا أحب المؤتمرات والخطابات المطولة لكنى حرصت على حضور المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا يوم الأحد الماضى 30 سبتمبر وجلست ما يقرب من ثلاث ساعات أستمع لأطول وأبلغ خطاب فى حياتى رغم أنه كان باللغة التركية وأستمعه مترجما أى ليس بالدفقة العاطفية أو الدقة البلاغية التى فى اللغة الأصلية، غير أن الدموع التى رأيتها تنهمر من دموع الأتراك الذين قدر عددهم بأكثر من أربعين ألفا الذين ملأوا الصالة المغطاة لملعب أرينا لكرة السلة والساحات الخارجية حينما بدأ رجب الطيب أردوغان رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم يلقى خطابه وسعى المترجم أن يلاحقه وينقل عمق ما يقوله، جعلنى أشعر بدفء المشاعر التى ربما لم تنقلها الترجمة، أردوغان أعلن أنه لن يرشح نفسه مرة أخرى لرئاسة الحزب حتى يجدد الحزب دماءه بالشباب الذين كان لهم مع النساء نصيب وافر من الخطاب، دق أردوغان على قلوب الأتراك الذين تغلب على أفكارهم الصوفية الجهادية حينما بدأ خطابه بأبيات من الشعر لشاعر يحبه عامة الشعب يدعى سذائى ويلقب باسم الشاعر المنطوى وكان اختياره لهذا الشاعر الذى لايحبه العلمانيون رسالة لهم فى بداية الخطاب الذى انتقدهم فيه بشدة ومما دونته فى بداية خطابه من شعر سذائى قوله «لا تمد أسرى فى الدنيا.. أخبرنى عن أحوال الطيور فى بلادى.. الحبيب هناك.. عينى تنظر دائما هناك.. إنه القدر هناك.. وفى الأقدار قدر هناك..ومهما فعلوا فالقرار يصدر من السماء هناك.

ثم بدأ خطابه فقال: أحمد الله الذى أنعم علينا بهذه الأيام، علمنا الصبر والثبات من أجل الحق ومن أجل الشعب، وعلمنا المحبة، إن هذه القاعة وخارجها تضم كل تركيا بمناطقها السبع ومحافظاتها الـ 81 وسكانها الـ75 مليونا، هذه القاعة تحوى الأخوة والصداقة والمحبة، إن قلب العالم ينبض ويدق فى هذه القاعة، أنا الآن أحيى تركيا كلها من خلال الموجودين فى هذه القاعة.. «كان أردوغان يلقى خطابه ارتجاليا بطلاقة دون ورقة بكل كاريزما الزعامة والبديهة والحضور، وإذا تحرك يأخذ ميكروفونا لاسلكيا يخطب فيه وإذا عاد إلى طاولة الإلقاء وضعه وتحدث عبر الميكروفون المثبت دون أن يلاحظ أحد شيئا، دخل القاعة وهو يرتدى جاكيت وقميصا دون رابطة عنق وحينما بدأ خطابه يزداد سخونة خلع الجاكيت ورفع كم قميصه وبدأ يتحرك بتلقائية مدربة على المسرح ويستخدم لغة الجسد ونبرات الصوت ودرجاته فى الأداء فكان يلهب القاعة بين جملة وأخرى.

أخذ يعدد محافظات تركيا ومدنها وبعض قراها ثم ركز على جنوب شرق تركيا حيث ينشط حزب العمال الكردستانى بعملياته التى تستهدف الجيش التركى وسكان المنطقة فمنحهم تحية خاصة، ثم ختم الحديث عن المدن بتحية بليغة للشعب فقال «أحيى الشعب الذى يتنفس ويعيش ويحيا على أرض هذا الوطن العزيز أرسل تحياتى من هنا إلى أبعد القرى فى تركيا» ثم انتقل للدول العربية والإسلامية فعدد كثيرا من البلاد والعواصم ثم أرسل تحية خاصة إلى فلسطين، أما سوريا فقد وقف عند شعبها الصابر وحيا مدنها من درعا إلى حلب، ثم انتقل فى رشاقة إلى الداخل مرة أخرى وإلى حزبه حيث أعطى تحية خاصة للمنظمة النسائية فى حزب العدالة والتنمية وقال إن عضواتها جبن بيوت تركيا كلها بمدنها وقراها وغطين 780 ألف كيلو متر مربع هى مساحة تركيا، حيث لبين حاجة المعوزين من الفقراء والمساكين فأطعمن الجائع وكسين العارى، ثم انتقل إلى الشباب فحياهم فردوا التحية من المدرجات بالهتافات والأهازيج ثم قال لهم «حينما سلكت هذا الطريق اعتمدت عليكم أيها الشباب، إننا فى هذا اليوم نفخر ونعتز بكم»، ثم حيا الشهداء وأمهات الشهداء، ثم تحدث بتواضع عن الانتخابات الأولى التى خاضها حزب العدالة والتنمية قبل عشر سنوات وحقق فيها نسبة 34% ثم الانتخابات الأخيرة التى حقق فيها نسبة 43% وقال إن فوز العدالة والتنمية كان فوزا لكل الأتراك ثم فجر أردوغان قنبلته التى لم يجرؤ رئيس وزراء سابق أن يتحدث فيها. نكمل غدا.

http://www.elhasad.com/2012/10/1.html
خطاب الوداع لأردوغان (2)
القنبلة التى فجّرها أردوغان فى الخطاب الذى ألقاه على مدى ثلاث ساعات فى المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا حيث فاجأ الحضور والعالم بالإعلان عن هويته الإسلامية للمرة الأولى وشن هجوماً على حزب الشعب الجمهورى الذى أسسه مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك حينما قال: «هناك شباب تحت العشرين أو فوقها لا يعرفون ما تعرض له الشعب من حرب على قيمه ومقدساته.. لقد تمت محاربة قيم هذا الشعب ومقدساته فى الأربعينات من القرن الماضى، حيث أغلقت أبواب المساجد وحولت إلى متاحف وحظائر للحيوانات، ومنع تعليم القرآن من قبل حزب الشعب الجمهورى الحالى، وقسموا المواطنين إلى قسمين، مقبولين ومرفوضين، هل تعلمون أن حزب الشعب الجمهورى اليوم يهددنا ويقول لنا ونحن لنا 335 مقعداً فى البرلمان هل تريدون أن تكون عاقبتكم مثل عاقبة عدنان مندريس.. نحن نعرف هؤلاء جميعاً ونعرف ماضيهم لقد كان الشعب يبكى حينما أعاد عدنان مندريس الأذان بعدما منعوه لعشرات السنين، نحن شعب مسلم، والبلدان الإسلامية الأخرى أصبحت تتحدث عن التجربة التركية، لقد تجاوزت تجربتنا حدود بلادنا، إننا سنعيد فتح مدارس الأئمة والخطباء التى أغلقوها حتى يعود الناس ليتعلموا القرآن والسيرة النبوية، وسمحنا لبناتنا المحجبات بدخول المدارس ونسعى لإعطاء الشعب كل حقوقه، إننا نحيى الإنسان حتى تحيا الدولة، إن الدولة لن تكون مؤسسة شرعية دون أن تستند إلى الشعب، والدولة الكبيرة هى التى تصافح شعبها وهى التى تؤسس العدالة ونحن نسعى لإعطاء الشعب كل حقوقه الأساسية، لن نقوم بأى تصرفات مخالفة لفطرة الإنسان.. نحن نسعى لتأسيس فكرة المواطنة المتساوية..لن نسمح بممارسة القومية الإثنية أو الدينية، ونحن ضد كل أشكال التمييز، ونحن نؤمن بأن تركيا القوية هى التى تضم كل الهويات، لقد احترمنا جميع الناس ومعتقداتهم ولم نتدخل فى شئونهم الخاصة أو نمط عيشهم على مدار عشر سنوات، وقفنا ضد تسلط الأغلبية على الأقلية وكذلك نرفض تسلط الأقلية على الأغلبية..»، هذا الكلام ربما سمعه الشعب التركى والعالم بهذا الوضوح للمرة الأولى، وكأن أردوغان يتجاوز حدود الحديث عن الدولة العلمانية ليرسخ مفهوم الدولة الإسلامية والشعب المسلم والاضطهاد الذى تعرض له الشعب لفصله عن هويته ودينه، ثم أضاف قائلاً:« لم نأتِ لنكون سادة لهذا الشعب بل أتينا لنكون خدماً له، ولذلك راجعنا ما قمنا به خلال السنوات العشر الماضية، وراجعنا ما أنجزناه وما لم نتمكن من إنجازه.. إن واجبنا كشعب هو أن نواصل ما بدأه أجدادنا على ظهور الخيل وإننا نتطلع إلى أن تصبح تركيا واحدة من أكبر عشرة اقتصاديات فى العالم، وقد أصبحت خلال السنوات العشر الماضية من الدول المتقدمة».

لم يقف أردوغان عند حدود الخطابة العاطفية التى سيطر بها على عقول وقلوب الملايين التى كانت تتابعه، ولكنه تحدث عن قرارات مهمة ستغير الوجه السياسى لتركيا فى الفترة القادمة وقد وضع رؤية للعشر سنوات القادمة لتركيا حتى 2023 تتضمن اثنين وستين هدفاً من أهمها: إعادة تعريف مهام القوات المسلحة وإخضاعها مع الشرطة للرقابة من قِبل هيئة عليا مستقلة، وتغيير نظام الحكم إلى نظام رئاسى أو شبه رئاسى، ولمح إلى أنه سيرشح نفسه للرئاسة، وحتى يستوعب الأكراد ويحاصر حزب العمال فقد اعتمد اللغة الكردية كما منح موظفى الدولة الذين لم يكن لهم حق الانتماء للأحزاب السياسية أن يمارسوا العمل الحزبى والسياسى، وبذلك يمكن أن يضاعف القوة العددية لحزبه التى تبلغ سبعة ملايين عضو وتمثل 15% من القوة الانتخابية فى البلاد، ثم قدم قائمة طويلة بالإنجازات التى قام بها خلال عشر سنوات مدعمة بالأرقام والإحصاءات ثم استأذن حزبه فى الترشح للرئاسة لآخر مرة تطبيقاً لقانون الحزب، وختم خطابه فى تواضع قائلاً «إننى أرجو من كل من أخطأت فى حقه أو آذيته أن يسامحنى وأن يعفو عنى..»، هذا الخطاب بكل تفصيلاته أعتبره واحداً من الخطابات التى يجب أن تدرس فى أكاديميات الزعماء وفن القيادة لغة وأداء وإلهاباً لمشاعر الجماهير حتى لو كان طوله ثلاث ساعات.
http://www.elhasad.com/2012/10/2.html