السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في كتب الفقه نجد مصطلح " المشهور " , الذي يذكر كثيراً ويظن بعض الناس أن شهرة القول تعني صحته مطلقاً ,وليس كذلك , بل إن هذا الوصف لا يعني سوى أن هذا القول هو الذي كثر القائلون به في المذهب , هذا هو أحد الأقوال في المراد بالمشهور عندهم , وقد رجح هذا القول القرافي , والثاني أنه ما قوي دليله , فيكون هو الراجح , والثالث أنه ما رواه ابن القاسم عن مالك في المدونة , وقال بعضهم إنه قول ابن القاسم في المدونة .
وعليه فإذا تعارض الراجح والمشهور كما حددا فينبغي تقديم الراجح , وهذا من أصول مالك فإنه كان يقدم ما قوي دليله على ما كثر قائله , فينبغي أن يراعى هذا في الخلافيات , ولذا قال المحققون إذا تعارض الراجح والمشهور فالواجب العمل بالراجح .
نعم إنّ ما كثر قائله في الغالب هو الصحيح مطلقاً في أمهات المسائل , لكن ينبغي التأكد فعلاً من كون هذا القول كثر قائلوه , ثم ليعلم من هم الذين قالوا به ? , أهم من المتأخرين نقلة مؤتمنون , أم باحثون عن الحقّ محققون ? فضلاً عن كون كثرة القائلين بالقول لا تدل على الصواب دائماً , إذ قد ينقل هذا عن ذاك , ويتوالى نقل القول المعين دون تحرٍّ , تغليباً لجانب الثقة , عند بعضهم , أو لفتور الشخص عن وضع المسائل على المحكّ , أو مجرد تقليد , والتقليد ليس بعلم .
قال ابن عابدين في رسائله :" وقد يتفق نقل قول في نحو عشرين كتاباً من كتب المتأخرين ويكون القول خطأ , أخطأ به أول من وضع له , فيأتي من بعده وينقله عنه , وهكذا ينقل بعضهم عن بعض ", ثم ذكر أمثلة على هذا الأمر مما وقع في الفقه الحنفي , وهذا الأمر لا يختص بالفقه .
ولهذا المعنى كان العلماء يرون أنّ قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات , ولا جرم أن هجر المتأخرين لكتب الأمهات وتصانيف الأقدمين خطأ واضح يعرفه من أشرف على الجميع ".( هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك , لمحمد المكي بن عزوز )
كثرة الافتراضات والصور :
وفي هذه الكتب افتراضات كثيرة وصور و احتمالات أفضت إلى إدخال عملية الحساب بل الضّرب , بل الكسور في الفقه , ومبدأ تقسيم الموضوع إلى أقسام وإن كان قائماً في كتاب الله وسنة رسوله متى احتيج اليه , لأنه بيان للحق , إلاّ أنه في الكثير من كتب الفقه قد تجاوز الناس به هذا الحد , وقد كان السلف يكرهون هذا النهج في التعلم , بل ونفرون من السؤال عما لم يقع , وقد كرهه بعض علماء المالكية كالمقرّي الذي تقدم قوله فيه ,( في مقال ذكرناه في هذا المنتدى المبارك )
وقد يقال إن في ذلك شحذاً للذهن وصقلاً للتفكير واستعداداً للطوارئ والنوازل , وهذا فيه بعض الحق , لكن من الصور مالا ينتظر حصوله , فتكون الجهود التي تبذل في حفظ تلك الصور وضبطها تضييعاً للوقت الثمين , فمن الواجب أن تبذل فيما هو منها أنفع ,فإذا قلنا أن مس الأجنبية ينقض الوضوء في ثلاث صور ولا ينقضه في صورة واحدة , تتوزع بين اللذة والشعور بها , فنضرب اثنين في اثنين , فهذا تقسيم سليم , لكن منه ماقد يكون مجرد افتراض , قال الشيخ علي الصّعيدي العدوي المالكي معلقاً على قول شارح الرسالة ( فلو شك هل رفع الإمام رأسه قبل أن يضع يديه على ركبتيه أوبعد , قطع واستأنف ):" اعلم أنه إذا أدرك الدخول مع الامام تارة يعتقد الإدراك , أو عدمه , أو يظن الإدراك , أو عدمه , أو يشك , وبعد : تارة يتحقق الإدراك , أو عدمه الخ , فهذه خمس وعشرون صورة من ضرب خمسة في خمسة , فإذا شك في الإدراك بأقسامه الثلاثة في أحوال الدخول الخمسة , فإنه يلغي تلك الركعة , ولا تبطل برفعه معه , ولو عامداً أو جاهلاً , فإذا جزم بالإدراك اعتبرها بأحوال الدخول الخمسة , فإذا تحقق عدم الإدراك , فيرفع مع الإمام إذا كان حين الإحرام اعتقد الإدراك , أو ظنّه , أو شكه , فلو تركه وخرّ ساجداً لم تبطل صلاته , وأما لو كان حين الإحرام تيقن أو ظنّ عدم الإدراك , فهذا يخرّ ساجداً وتبطل صلاته إن رفع عامداً أو جاهلاً لا ناسياً , إذا تقرر ذلك فلا وجه لقوله قطع , إذ لا قطع في المسائل كلها , إلاّ أن يقال قطع , معناه قطع النظر عن الركعة التي شك فيها ,,, ( حاشية علي الصعيدي على شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ).
لكن ينبغي أن يُعلم أن هذه الظاهرة لا تختص بالفقه , بل شملت غيره من العلوم كمصطلح الحديث , وعلم أصول الفقه , والتجويد , وغيرها , فاقرأ مثلاً صور الحديث الضعيف العقلية التي بينها الشيخ الزرقاني –رحمه الله- في شرحه على البيقونية , فإنه كتب في ذلك صفحات ,دون أن تخرج منها بنائل , وقف على صور التي تُقرأ بها آلان في سورة يونس للإمام ورش- رحمه الله – وما كتب فيها , حتى إن بعض العلماء ألف فيها قصيدة من نحو سبعين بيتاً .
قال الشيخ الخضري : كان الفقه قبل هذا الدور على درجة كبيرة من البساطة لأنه كان قاصراً على إبداء الحكم فيما يقع من النوازل , ولم يكونوا يتوسعون فيبدون حكماً في مسألة يتصورونها , أما هذا الدور فقد توسع الفقهاء في وضع المسائل واستنباط أحكامها , وكان القدح المُعلّى في ذلك لأهل العراق , اعتمدوا كثيراً على قوة التخيّل , فأدى بهم ذلك إلى أن أخرجوا للناس ألوفاً من المسائل منها ما يمكن وجوده , ومنها ما تنقضي الأجيال ولا يحسّ الإنسان بوجوده ".(تاريخ التشريع الإسلامي)
ثم قال :" قرأت في كتاب الجامع الكبير للإمام محمد بن الحسن : وإذا كان لرجل ثلاث نسوة لم يدخل بواحدة منهن , اسم واحدة منهن زينب ,والأخرىعمرة , والأخرى حمادة , فقال لزينب :إن طلقتك فعمرة طالق , ثم قال لعمرة : إن طلقتك فحمادة طالق , ثم قال لحمادة : إن طلقتك فزينب طالق , وطلق زينب واحدة , فإن زينب نطلق التطليقة التي طلقها , وتطلق عمرة تطليقة بالحنث , ولا يقع الطلاق على غيرهما , فإن لم يطلق زينب ولكن طلق عمرة طلقت عمرة التطليقة التي طلقت ,,, ".
لكن الأحناف وإن نالوا في تسجيل هذه الافتراضات قصب السبق , إلاّ أن المذاهب الأخرى لم تخل منها , حتى الكتب الأمهات , ككتاب الأم للإمام الشافعي , والمدونة الكبرى لاسيما وأن بعض المذاهب قد تأثر ببعض .
والله أعلم