الحمد لله القائل ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ) أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
يا خادم الجسم كم تسعي لخدمته *** أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إنّ الله اصطفى الأنبياء والمرسلين، وجعلهم رسلاً إلى أقوامهم، مبشرين ومنذرين، وخص كل واحد منهم بمعجزات تتناسب مع عصره وقومه، فهذا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أرسله الله إلى قومه وكانوا يعبدون الأصنام، وكانوا على سذاجة العقل والفهم، وسفه الفكر والرأي، فآتى الله إبراهيم الحجة والبيان، فبهتوا واعترفوا، و لكن أصروا على الكفر والعناد، فأرادوا إحراقه انتقامًا وانتصارًا لآلهتهم، فجاؤوا به فألقوه في النار، وكان من المفترَض أن تنتقم هذه الآلهة ـ إذا كانت تملك لنفسها ضرًا أو نفعًا ـ ممن سفّهها وحطّمها، ولكنهم حين ألقوه في النار جاءت المعجزة الربانية، قال تعالى: قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْراهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَهُمُ الأخْسَرِينَ [الأنبياء:70].
فالله سبحانه وتعالى أيّده بمعجزة لا يستطيع عقل سليم أن ينكرها، أيده بمعجزة تخالف السنن الكونية وما جرت عليه العادة من أن النار تحرق، فأبطل الله مفعول إحراقها، فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم، حتى القيود التي ربطوه بها احترقت، وانفك قيده، وهو لم يحترق حتى في أماكن القيد، ينظرون إلى النار وهي مشتعلة متأججة ومحرقة مدمّرة، وإبراهيم بداخلها معافى سالمًا، فتبين كذب وخذلان وبطلان ما كانوا يعبدون من دون الله، وتبينت معجزة رب إبراهيم، إنها قدرة الله سبحانه، فكل شيء في الكون خاضع لإرادته.
وهذا موسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكان في ذلك العصر قد استحكم السحر وقوي كيد الساحرين، فأيده الله بالمعجزات مما أبطلت السحر وأخضعت الساحرين، بل وجعلتهم مسلمين، قال تعالى: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:113-122].
وهذا عيسى عليه السلام أرسله الله إلى قومه من بني إسرائيل، وكان في ذلك العصر قد ظهر الطبّ واشتهر، فأيده الله بمعجزات أعجزت الأطباء، قال تعالى: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49] إلى آخر الآيات
وهذا نبينا المصطفى محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أرسله الله إلى العالمين أجمعين، وبعث في قومه من العرب ذوي الفصاحة في اللسان والبلاغة في الكلام، وتميزوا بحسن الأداء وجمال المنطق وسلاسة التعبير، فأيده الله بمعجزة القرآن التي أذهلت عقولهم، وقرعت مسامعهم، وأبكمت ألسنتهم، وتحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك، بل تحدى الله به الخليقة جميعًا إنسًا وجنًا: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
رسولنا صلى الله عليه وسلم بعث في أمة فصيحة في لغتها مجيدة في بيانها خطيبها أخطب الخطباء و شاعرها أرقى الشعراء فأتي إليهم صلى الله عليه و سلم بالقرآن سمعوه فدهشوا من بيانه و بهتوا من بلاغته و فصاحته فما استطاعوا أن ينكروا ذلك رغم جحودهم حتى يقول كبيرهم [الوليد بن المغيرة] و قد سمع القرآن فدهش يقول واللات والعزة إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمغدق و أنه يعلو و لا يعلى عليه ،لا إله إلا الله
الحق يعلو و الأباطل تسفل *** والحق عن أحكامه لا يُسأل
و إذا استحالت حالة و تبدلت *** فالله عز وجل لا يتبدل .
مازال به قومه بـ[الوليد] حتى رجع عن مقالته وكذب نفسه فيما قاله عن القرآن فقال منتكساً إن هذا إلا سحر يؤثر ويتولى الله الرد عليه ويعنفه و يتهدده ( سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر )
ومعجزة القرآن لم تقتصر على الإعجاز بالبلاغة فقط، ولكن كانت أيضًا بالإخبار عن أمور غيبية كثيرة لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، لقد تطرق القرآن إلى أمور كثيرة، وتنبأ بِأشياء عديدة، ولو لم تصحّ واحدة منها لكانت كفيلة بهدم الدين كله، ومنها كفر أبي لهب، قال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].
لقد نزلت هذه السورة في عم رسول الله ، وأخبرنا القرآن أنه سيبقى على حاله من الكفر، ويموت على ذلك، ويدخل النار، ولم يكن لرسول الله أن يتنبأ بهذا، لأن النبي لا يعلم الغيب، وكان حريصًا على دعوة قومه، وعلى إدخالهم في الإسلام بلا استثناء، وكان من الممكن أن يكون حال أبي لهب ـ مستقبلاً ـ كحال كثير من المشركين الذين اهتدوا بعدما كانوا كفارًا؛ كخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وآخرهم أبو سفيان رضي الله عنهم، ولكن لم يحدث ذلك لأبي لهب لجزم القرآن أنه سيموت كافرًا.
وكان من الممكن عند نزول سورة المسد أن يستخدم أبو لهب آياتها سلاحًا يحارب به الإسلام، وكان يكفي أن يذهب إلى أيّ جماعة من المسلمين، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدًا رسول الله، نفاقًا أو رياءً، ليهدم الإسلام، ويشكك في القرآن، كان بإمكانه أن يفعل هذا، ولكن لم يصل عقل أبي لهب إلى هذا التفكير، بل بقي كافرًا مشركًا، ومات على ذلك.
والمعجزة هنا أن القرآن تحدّى أبا لهب في أمرٍ اختياري، كان من الممكن أن يقوله، ومع ذلك هناك يقين أن ذلك لن يحدث، لماذا؟ لأن الله الذي نزل هذا القرآن يعلم أنه لن يتأتّى لأبي لهب التفكير بتكذيب ما جاء به القرآن عنه، فهل هناك إعجاز أكبر من هذا؟!

وفي هذه المعجزة دليل من الأدلة القاطعة في الرد على بعض الكفرة والعلمانيين، ممن لم يعرفوا من القرآن إلا اسمه، يتبجحون ويقولون: إن القرآن من تأليف محمّد، و إنه ليس منزلاً من عند الله. قولوا لي بربكم: هل يستطيع بشر أن يطّلع الغيب، و يعلم خاتمة مُعاديه، ويجزم بها، ويرهن صدق دعوته بذلك، مع وجود الفرصة والقدرة والاختيار عند عدوه لتكذيب دعواه، إن لم يكن ذلك من الله علام الغيوب.
ومن أمثلة تحدي القرآن في أمور غيبية انتصار الروم على الفرس، فقد كانت هناك أمتان قويّتان في عهد النبي : الفرس والروم، وكانت فارس ظاهرة على الروم، وكان مشركو قريش يحبّون أن تظهرَ فارس على الروم، لأنهم كانوا مجوسًا وأصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، فلما انتصر الفرس في معركة بالشام قريبًا من الأردن، وسحقوا الروم، توقع الناس أنه لن تقوم للروم قائمة بعد ذلك.
عندها نزل القرآن ليواسي المؤمنين، قال تعالى: الـم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، ثم يمعن القرآن في التحدي: وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:1-6].
هل يستطيع الرسول أن يتنبأ بمعركة حربية؟ لقد أصبحت قضية إيمانية كبرى، حتى إن أحد الصحابة راهن أحد المشركين على صحة ذلك، ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم تحدث معركة في بضع سنين أو لو حدثت وانهزم الروم؟ وما الذي يدعو الرسول لمخاطرةٍ لم يطلبها منه أحد، قد تهدم القرآن إن كان القرآن من عنده؟ لأن القائل هو الله، علام الغيوب، ومن هنا كان ما جاء في الآية يقينًا سيحدث.
فحدثت الحرب، وانتصر الروم على الفرس حقيقة كما أخبر القرآن في بضع سنين، والبضع في كلام العرب من ثلاثة إلى تسعة.

ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُرَبِّي هذه الأمة على هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ( تنزيل من حكيم حميد ) فتربت الأمة و تهذبت وأصبح عابد الأصنام قزما حماة البيت والركن اليماني تربت على كتاب ما قرأه قارئ إلا آجره الله .
ما تدبره متدبر إلا وفقه الله . كتاب مَن حكم به عدل من أستمع إليه استفاد مَن اتعظ بمواعظه انتفع . كتاب من قرأه علمه الله علم الأولين و الآخرين ، كتاب من استنار بنوره دخل الجنة و من تقفاه وجعله خلف ظهره قذفه على وجهه في النار كتاب من تدبره أخرج النفاق و الشك و الريبة من قلبه هو شفاء لما في الصدور مَن التمس الهداية فيه هداه الله و سدده و من التمس الهدى من غيره أضله الله وأهانه الله ( ومن يهن الله فما له مِن مُكْرِم ) يقول شيخ الإسلام [ابن تيمية] رحمه الله من اعتقد أنه سيهتدي بهدى غير هدى الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ويقول جل ذكره ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) والمعني ما بهم لا يتدبرون ما فيه من العظات ما بهم لا يعيشون مع الآيات البينات والجواب رانَ على قلوبهم فأقفلت فلا تسمع وأوصدت فلا تنتفع ولو أنها تدبرت لفهمت كلام ربها فاهتدت بهدى باريها ويقول تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) والاختلاف الكثير تجده في الكتب غير كتاب الله عز وجل أما كتابه ( فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) من قرأه بارك الله في عمره و بارك في ولده و بارك في ماله و من أعرض عنه محق الله عمره و أزال هيبته و أفنى كابره وصاغره و جعل معيشته ضنكا و حشر يوم القيامة أعمى
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينادي الناس جميعاً لقراءة القرآن والتلذذ بتلاوته و إلا يهجروه فيقول صلى الله عليه وسلم "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" يأتيك القرآن يوم القيامة فيشفع لك عند من أنزله وعند من تكلم به في يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة فيدخلك الجنة بإذن الله تعالي ويقول صلى الله عليه وسلم "يؤتى بالقرآن وبأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحجان عن صاحبهما يوم القيامة" متفق عليه
"أقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة" يعني السحرة رواه [مسلم] . إن في سورة البقرة آية الكرسي من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظا ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يفاضل بين الناس : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" علامة الصدق والإيمان كثرة قراءة القرآن وعلامة القبول تدبر القرآن ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" قال [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه لأحد ولاته على <مكة> وقد ترك <مكة> ولقيه في الطريق : كيف تركت <مكة> وأتيتني قال : وليت عليها فلاناً يا أمير المؤمنين قال و من هو ذا قال مولى لنا وعبد من عبيدنا قال [عمر] ثكلتك أمك تولى على <مكة> مولى قال يا أمير المؤمنين إنه حافظ لكتاب الله عالم بالفرائض فدمعت عينا عمر وقال صدق رسول الله "إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" يرفع الله به من اتبعوه وتدبروه ويضع من أعرضوا عنه فلم يقرءوه ولم يتدبروه ولم يعملوا به
والعجيب أن تسمع من بعض هذه الأمة من يقول لأخيه وهو يحاوره والله ما قرأت القرآن ستة أشهر لا إله إلا الله أي قلب يعيش وهو لم يمر بكتاب الله ستة أشهر ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ) يقول الله عز وجل على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا )