.يوسف القاسم 2/12/1428
11/12/2007

منابع الفكر التكفيري



الأمن والغذاء هما شريان الحياة, ولهذا حين أمر الله تعالى المؤمنين بالعبادة في قوله:(فليعبدوا رب هذا البيت) ذكّرهم بما امتن عليهم بقوله:(الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) ودولة لا تنعم بالأمن والاستقرار, فإنها تعيش في قلق دائم, وفي انزعاج مستمر, والغريب حقاً أن يسعى بعض أبناء جلدتنا لزعزعة الأمن في بلادنا! ومع هذا لم تزل قواتنا الأمنية تحقق نجاحات متتابعة بأسلوب مثير للإعجاب في تمشيط معاقل الفئة الضالة (وهي التسمية الشرعية لهذه الفئة) والمدهش حقاً أن الجهات المسئولة تقوم بهذا الإنجاز بصمت, في الوقت الذي لم تصمت فيه بعض الأفواه عن استغلال هذه الأحداث لتصفية بعض الحسابات الفكرية, مع هذا الفكر أو ذاك!! ولم يحملهم حسهم الوطني إلا على لغة الهمز واللمز, وتجيير تلك الأفكار التكفيرية للنيل من مناهجنا الدراسية, ومن المراكز الصيفية, ومن حلقات تحفيظ القرآن الكريم!! وفي تقديري أن هذا التجيير غير مقبول ولا منطقي بكل المقاييس, والوقائع تقاس بأشباهها كما عند علماء أصول الفقه, بل وعند عقلاء العالم, وهنا أقول: لنأخذ مثالاً بسيطاً لدولة مجاورة, عانت من التنظيمات المتطرفة سنوات عديدة, وهي مصر, فقد أثقل كاهلها بالعديد من عمليات الاغتيال, وتفجير المنشآت, واستهداف الآمنين, ولا يخفى على مطلع أن مصر لم تكن تحفل بالمراكز الصيفية, ولا بحلقات تحفيظ القرآن الكريم, ولا بالدروس والمحاضرات في المساجد..الخ, بل كان كثير من هذه البرامج الدينية والعلمية المختلفة, من الأنشطة المحظورة إبان تلك الحقبة المشحونة بالتنظيمات المتطرفة! ومع هذا فقد عانى أهل مصر ما عانوا, إذاً فهل يليق ببعض مثقفينا أن يعلقوا هذا التنظيم الضال على شماعة البرامج الدينية؟
إنه لا يخفى على مطلع أن الإرهاب ليس له مذهب, ولا دين, وإلا فماذا نقول عن تفجير أو إحراق بعض العناصر اليهودية أو النصرانية أو الوثنية أو غيرها لبعض المراكز التجارية أو المعابد الدينية...الخ, في البلاد الشرقية أو الغربية التي يتوارى فيها الدين تحت هيمنة الفجور, وفوضى العري, كتفجير مركز التجارة الدولية بنيويورك عام 1993م, وتفجير المبنى الفدرالي بأوكلاهوما- والذي اتهم فيه الإسلاميون بعملية التفجير, ثم ظهر المجرم الحقيقي, وأنه نصراني متطرف أمريكي- وكحادث الحريق الذي نفذته عناصر يهودية متطرفة في المسجد الأقصى, وكحادث غاز السارين السام في أنفاق مترو طوكيو، والذي ساهمت في تنفيذه جماعة (أوم شينريكيو) اليابانية، والذي أدى إلى وفاة واختناق الكثيرين، وكحوادث القتل والتمثيل الذي نفذته عناصر كثيرة من الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك، وتطرف وإرهاب السيخ والهندوس ضد مسلمي الهند وكشمير، وتطرف وإرهاب الشيوعيين ضد كل من يظهر المخالفة أو يبيتها في ولايات الاتحاد السوفيتي في عصر الشيوعية الحمراء!! كل هذا يدل على أنه لا هوية للإرهاب, والتطرف الصهيوني اليوم في فلسطين المحتلة, خير شاهد على الصور الإرهابية البشعة التي تمارسها عصابة يهودية, وبرعاية غربية!! ومن هنا فإنه يجب علينا أن ننظر في أسباب وجود هذه الفئة الضالة بيننا, وبشكل منصف ومحايد, بعيداً عن تصفية الحسابات.
وإذا أردنا أن نسلط الضوء على أخطر هذه الأسباب, فهو فيما جاء في تقرير رسمي- نشر في الجريدة الاقتصادية قبل أيام- بأن عدد المواقع الإلكترونية التي تنشر الفكر (التكفيري) أكثر من سبعة عشر ألف موقعاً!! كلها تصدّر الفكر التكفيري من أقصى الدنيا إلى أقصاها, فتتسلل إلى كل بيت, وتطرق كل باب, ويقع في شراكها من لا يرد يد لامس! ولا ريب أنه يقف وراء هذه المواقع التي تبث هذا الفكر السام, ويمولها, من لا يريد الخير لشبابنا, وهنا نتساءل: من هم هؤلاء؟؟
إنهم بكل بساطة من لا يريد الخير لشبابنا وبلادنا!
ومن هنا فإنه يجب أن تجند الطاقات الفكرية المعتدلة لمقارعة هذا الفكر الضال, وهذا مما يحسب للجهات المسئولة التي أعطت هذا الموضوع جانباً من الرعاية والاهتمام, ولذا أصبحنا نسمع عن تراجع أعداد كبيرة من أصحاب هذا الفكر الضال, وفي تقديري أن من لديه وطنية حقيقية يفرح بهذا الإنجاز, ويسعد به, أما من لا يؤمن إلا بلغة السلاح, وصوت الذخيرة, فهذا من وجهة نظري تطرف فكري يحتاج هو الآخر إلى معالجة!
إن المحاضن التربوية يجب أن تلعب دوراً مهماً في هذا المجال, بدءاً بالبيت والأسرة والمسجد, ومروراً بوسائل الإعلام المحلية والفضائية, وبالشخصيات العلمية والثقافية النزيهة والمؤثرة, ووصولاً إلى المحاضن التعليمية والتربوية؛ فمحيط الأسرة له أثره الكبير في تربية الابن, وتوجيهه الوجهة التربوية السليمة, لاسيما إذا كانت الأسرة مستقرة, وأجواؤها مطمئنة, يملؤها الجو العاطفي, والحنان الأبوي, وحضن الأم الدافئ, ويمثلها القدوة الحسنة في الأب والأم, وحينئذ يستقر الابن, وتطمئن نفسه, وتهدأ جوارحه, ويملأ البيت جوانحه بالأنس والسرور والسعادة, ولا يفتش خارج المنزل أو تحت كواليس الانترنت عن صديق يسد فراغاً عاطفياً في نفسه, ولا ينقب عن صاحب يلمم جراحاته, ويكفكف دموعه وآهاته. ومن المعلوم أن الولد الذي يُربى بالقسوة والعنف, ويعيش في بيت يكتنفه الغلظة والجفاء, لا ينشأ إلا عاقًّا, ينتظر الفرصة للانتقام من مجتمعه, أو من مربيه.
أما وسائل الإعلام المختلفة, فقد دخلت كل بيت, وملأت كل زاوية, وتسللت إلى كل قلب, وتوظيفها في مقارعة الفكر المتطرف بكل صراحة وموضوعية-بعيداً عن التجريح والإسفاف- له دوره الكبير والفعال أيضاً.
أما الشخصيات العلمية والثقافية, فعليهم واجب آخر, بما يحملونه من علم, وثقافة, سواء باللسان أو بالقلم, كل بما يستطيع, والعلماء وطلاب العلم والمثقفون الشرفاء ممن عرفوا بالصدق والنزاهة والوطنية هم أجدر بالقيام بهذا الدور الهام؛ لأنه من أبسط الحقوق الذي يفرضه الواجب الديني, ويمليه الحس الوطني, ولئلا يوظف هذا الموضوع من قبل من يتشدق بالوطنية لأغراض وأهواء داخلية, أو أجندة خارجية, فيساوم على الوطنية, أو يجيد اختطافها متى سنحت له الفرصة بذلك.
أما المحاضن التعليمية والتربوية, الحكومية منها والأهلية, على المستوى الجامعي وما دونه, هذه أيضاً عليها دور هام جداً, وذلك من خلال تدريس المواد الشرعية والتربوية التي تغرس في نفوس الطلاب بعض المعاني الإسلامية الوسطية السامية, والتي تحث المسلم على فعل المعروف, بدأ بحقوق المسلم على أخيه المسلم, سواء كان أماً أو أباً أو زوجاً أو قريباً, وسواء الراعي والرعية, ومروراً بحق الإنسان, أياً كان مسلماً أو غير مسلم, بإماطة الأذى عن الطريق, وإعانة الضعيف, والإحسان إلى الجار والفقير...الخ, وانتهاء بحق الحيوان, وعرض نماذجه الحية في الإسلام, كما في سقي الكلب الذي أدخل البغي الجنة, وحبس القط الذي أدخل المرأة النار, فغرس هذه المعاني السامية التي تحث على فعل المعروف بالمسلم والإنسان والحيوان, والمعاني الأخرى التي تمنع من المنكر وتحذر منه, كالنصوص الشرعية التي جاءت بتحريم قتل النفس المعصومة, وإثم ترويع الآمنين, ونحو ذلك مما حذر منه الإسلام, غرس هذه المعاني له أثره الكبير والعميق, لاسيما إذا كان التعليم على أيد مؤهلة, تحمل هم الدين, وتكرس معنى الوسطية, وتشعر بعمق الانتماء لهذا الوطن.