للحاج أن يرمي ليلًا.
وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ومذهب الحنفية، ورواية عند المالكية، وأحد القولين عند الشافعية، وبه أفتى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله، حينما اشتد الزحام على الجمرات.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: (لا حرج). قال: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: (لا حرج).
وله أن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقول طاوس، وعطاء في إحدى الروايتين عنه، ومحمد الباقر، وهو رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، وإليه ذهب ابن عقيل، وابن الجوزي من الحنابلة، والرافعي من الشافعية، ومن المعاصرين: الشيخ عبد الله آل محمود، والشيخ مصطفى الزرقاء، وشيخنا الشيخ صالح البليهي وطائفة من أهل العلم، وقواه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهم الله تعالى.
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا بالليل، وأي ساعة من النهار شاءوا.
قال ابن قدامة في الكافي: وكل ذي عذر من مرضٍ أو خوفٍ على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم.
وبما رواه البخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: (اذبح ولا حرج). فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: (ارم ولا حرج). فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج).
ومن أدلتهم: عدم وجود دليل صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، ولا من القياس.
وأما رمي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الزوال، فهو بمثابة وقوفه بعرفة بعد الزوال إلى الغروب، ومن المعلوم أن الوقوف لا ينتهي بذلك الحد، بل الليل كله وقت وقوف أيضًا.
ولو كان الرمي قبل الزوال منهيًّا عنه لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا صريحًا حينما أجاب السائل الذي سأله عن رميه بعدما أمسى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومن الأدلة: قوله تعالى: "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ"[البقرة:203]، والرمي من الذكر، كما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله. فجعل اليوم كله محلًا للذكر، ومنه الرمي.
وهذا يشبه أن يكون كالنص في المسألة عند التأمل، وبه استدل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى وغيره.
وكذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما في رواية البخاري وغيره لمن سأله عن وقت الرمي: إذا رَمى إمامُكَ فَارْمِ.
ولو كان المتعين عنده الرمي بعد الزوال لبيّنه للسائل.
وله أن يؤخر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير، لحديث عاصم بن عدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل فى البيتوتة خارجين عن منًى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر.
فيجوز لمن كان في معنى الرعاة ممن هو مشغول أيام الرمي بعمل لا يفرغ معه للرمي، أو كان منزله بعيدًا عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها؛ أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق). والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء، وأيام التشريق كاليوم الواحد.
وهذا قول الشافعية والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو المعتمد عندهم، واختاره الشنقيطي رحمهم الله.
وهكذا التأخير لتجنب الزحام والمشقة والاقتتال، فهو من أعظم المقاصد الفاضلة المعتبرة.
وحياة الناس أولى بالرعاية من حياة الحيوان، كما في حال الرعاة.
وحفظ الأرواح من المقاصد الخمسة المجمع على اعتبارها في الشريعة.