خالد سعد النجار
2012-01-17, 11:32 PM
كان يحرث أرضه بجوار الشجرة العتيقة التي طالما جلس تحتها يستريح من عناء العمل ومن لهيب الشمس الحارقة، وبينما يجوب بمحراثه في أرجاء الحقل إذ قطع المحراث أحد جذور هذه الشجرة الضارب في الأرض، ليكتشف صاحبنا الجذر وقد أصيب بمرض فطري خطير، أعاد ذاكرته إلى الوراء وحرك في نفسه ذكريات أليمة .. إنه هو نفس المرض الذي أصاب شجر القرية -بل والناحية كلها- منذ عقود مضت، وأفنى منه الكثير.
صرخ صاحبنا قائلا: يا إلهي، عاد الوباء من جديد! رحماك ربي، أستغفرك وأتوب إليك ... ولم يكد يتمالك نفسه حتى ركض في الحقول المجاورة يهتف بالفلاحين وينشر هذا الخبر المشئوم .. هرع الكل إلى الشجرة المنكوبة، ونظروا إليها بأسى، وخاطراتهم تدور بها أحداث قاسية قديمة لا يحبون مجرد التفكير فيها فضلا عن الحديث عنها، ولكن ماذا عساهم أن يصنعوا، وهم يعرفون جيدا أن هذا المرض لو وصل إلى ساق هذه الشجرة سيدمرها، وينتشر منها غبار يحمل جرثومة المرض إلى باق الشجر بالناحية، ليأتي هذا المرض الفظيع على الأخضر واليابس، فالشجر هو رئة القرية التي بفضله ينعم أهلها بعبق الهواء النقي والظل الوافر والثمر الطيب.
لم يجد هؤلاء البسطاء حيلة أمامهم إلا الذهاب جميعا إلى مسئول الجمعية الزراعية بالقرية كي يواجه الأمر، وفي الطريق إلى الجمعية الزراعية كانت أحاديث النفس تراود كل فرد منهم، فالكل يعلم يقينا أن مسئول الجمعية لن يتحرك فيد أنملة، خشية أن يجر على نفسه صخب هو في غنى عنه، فضلا عن أنه يمكن أن يلقي بنفسه تحت طائلة المسائلة حول برنامج الوقاية الخاص بأمراض النبات، والذي كان لا يطبق بالفعل إلا على أوراق وسجلات الجمعية فقط.
كانت الجمعية الزراعية جميلة المنظر، لها واجهة رخامية خلابة، وباب واحد فقط، لكن كل أبناء القرية يعلمون أن لها في الحقيقة ألف باب خلفي يقصده المنتفعون والوصوليون وأصحاب النفوذ الذين على استعداد لأن يدفعوا في الخفاء من أجل الحصول على خدمات خاصة!، ورغم كل هذا تجمعوا أمامها ليرفعوا الأمر للمختص مغالطين أنفسهم، يحدوهم الأمل في استجابة ولو ضئيلة، خاصة وأن الموضوع عام يمس الكل وليس بفردي يتعلق بالبعض، لكن رئيس الجمعية رفض مقابلتهم ـ كما كان متوقعا ـ فقد كان مشغولا بتسوية الاختلاسات الأخيرة من حصة مبيدات الآفات الزراعية.
وفي المساء كان الحديث عن هذه المشكلة مستحوذا على كل مجلس، وقرر الجميع بعد طول مناقشة الذهاب لعضو البرلمان عن دائرتهم الانتخابية ليطلعوه على الأمر كي يثير المشكلة في البرلمان ومع كبار المسئولين، وبالفعل استجاب العضو المصون لطلباتهم، وفي أول جلسة للبرلمان وقف النائب المغوار يعرض القضية بكل جرأة وطلاقة في أسلوب خطابي رنان، فلقد كان سيادته مفوها بليغا لا لخطورة الموقف ولكن لأن عدسات التلفاز كانت تعرض وقائع الجلسة، وكانت هذه فرصة سانحة له ليراه كل أبناء الدائرة وهو ينافح عنهم، مما يدعم موقفه ويزيد من شعبيته في دائرته الانتخابية التي كان موعد الانتخابات القادمة فيها على الأبواب.
وكالعادة وبعد أن أنهى العضو الموقر بيانه، قام معالي وزير الزراعة دون أدني روية، ولا حتى استفسار من معاونيه عن حقيقة القضية ... قام سيادته ليلقي خطبة حماسية عن أعداء النجاح، والمتخصصين في إثارة القلاقل والفتن دائما دون سبب يذكر، ثم انهالت أرقامه الفلكية على الحاضرين حول المليارات التي أنفقت في خطة الوزارة الحالية لمكافحة الآفات، وعدد الخبراء الأجانب الذين أحضروا للحيلولة دون ظهور المرض، وعدد المؤتمرات التي عقدت بهذا الصدد، وعدد ورش العمل التي تم فيها تدريب رجال الوزارة الأكفاء لهذا الأمر بالذات، وأختتم جنابه الحديث بطمأنة نواب الأمة بأن الحديث عن وجود هذا الوباء بالبلاد محض افتراء، وأن التدابير الوقائية التي اتخذتها الوزارة تحول دون ظهوره لعقود قادمة، بل لا نخطئ لو اعتبرنا بلادنا الحبيبة خالية من هذا الوباء تماما .... كل هذا وأبناء القرية البسطاء يطالعون بيان الوزير المبجل على شاشات التلفاز والدهشة على وجوههم، وكأن الذي يتحدث وزير الزراعة الياباني أو الاسترالي أو النرويجي وليس وزير زراعة بلدنا الحبيبة.
حاول الجميع تناسي المأساة ولسان حالهم يقول: لقد فعلنا ما بوسعنا، وحسبنا أننا أخلينا ساحتنا أمام الله وأمام ضمائرنا .. مر الوقت بطيئا، وانتشر المرض سريعا، وقضى على كل شجر القرية، وكانت استجابة المسئولين بالزراعة عبارة عن بيان قصير مفاده أنه رصدت بعض الحالات الفردية لهذا المرض وهي تحت السيطرة، ولم يستمر الأمر كثيرا حتى قضى المرض على كل شجر القرى المجاورة، وهنا تحركت كل القطاعات، فوزير الزراعة تصوره الكاميرات وهو يتجول في القرى المنكوبة، والطائرات تقذف بالمبيدات التي استوردتها الدولة خصيصا لتدارك الأمر، والصحف الموالية تشيد بالمجهودات الضخمة التي تبذلها كافة الجهات المسئولة، هذا خلاف المؤتمرات والتصريحات والندوات حول طبيعة الآفة، وتاريخ انتشارها، وخبرة الدول الأخرى في التعامل معها.
كل هذا والجميع يعرف جيدا أن الأمر قد خرج عن نطاق السيطرة، وفات أوان عمل أي شيء، وكما هو متوقع دائما .. انتهى الأمر بإقالة مفاجأة لوزير الزراعة، وخروج الوزير الجديد على الملأ، معترفا بخطورة الموقف، واعتذاره بأنه لا يمكنه فعل شيء، وأنه تسلم الوزارة وهي تعاني من أزمات قاتلة، وبالتالي ليس بوسعه إلا أن يعلن أنه ينبغي طي صفحات الماضي الأليم، ولنبدأ من جديد صفحة ملئها الأمل، وهكذا دفع الشعب البريء ثمن خطأ لا دخل له فيه!!
تلك هي مشكلة أمتنا العربية قاطبة التي طالما بدأت من جديد مع كل وزير جديد ومع كل مسئول جديد ومع كل مفكر جديد، وتمر السنوات ولا شيء يتغير سوى إقالة هذا المسئول وتولى آخر ليعلن أنه سيبدأ عهد جديد، وعلى عكس المسئول السابق الذي قال: أن الطريق الأمثل من هنا. يقول الجديد: بل الطريق الأفضل من هناك، وفي الوقت الذي تجاوزت فيه العديد من الدول خطة الإصلاح وهي الآن تجني ثمرته، ما زالت أمتنا العربية تتحدث عن عزمها على تبنيها سياسة الإصلاح، وتدور الإشكالية .. هل ينبغي أن يكون الإصلاح من الداخل أم من الخارج؟
وكم سمعنا عن: مبادرة تفعيل دور المثقفين في الحياة النيابية، وسياسة خلق كوادر شابة لتتولى زمام الأمور بكفاءة في المستقبل، وبرامج النهوض بالمرأة، وبرامج محو الأمية، ومنظومة محاربة عمل الأطفال، ومقاومة ظاهرة طفل الشوارع، وشعار مكافحة البطالة والعنوسة وسوء التغذية وغلاء الأسعار والفساد الإداري .. ليجد المواطن نفسه في خضم مبادرات وسياسات وبرامج وأطروحات لا تنتهي، وزوبعة تمضي وتحل بعدها زوبعة أخرى، ويبقى الوضع العملي كما هو عليه حيث لا يتحرك ساكنا، فمتى نبدأ سياسة البناء الفعلية؟ ليس من جديد، ولكن من حيث انتهى الآخرون في رحلة البناء؟!
د/ خالد سعد النجارalnaggar66@hotmail .com
صرخ صاحبنا قائلا: يا إلهي، عاد الوباء من جديد! رحماك ربي، أستغفرك وأتوب إليك ... ولم يكد يتمالك نفسه حتى ركض في الحقول المجاورة يهتف بالفلاحين وينشر هذا الخبر المشئوم .. هرع الكل إلى الشجرة المنكوبة، ونظروا إليها بأسى، وخاطراتهم تدور بها أحداث قاسية قديمة لا يحبون مجرد التفكير فيها فضلا عن الحديث عنها، ولكن ماذا عساهم أن يصنعوا، وهم يعرفون جيدا أن هذا المرض لو وصل إلى ساق هذه الشجرة سيدمرها، وينتشر منها غبار يحمل جرثومة المرض إلى باق الشجر بالناحية، ليأتي هذا المرض الفظيع على الأخضر واليابس، فالشجر هو رئة القرية التي بفضله ينعم أهلها بعبق الهواء النقي والظل الوافر والثمر الطيب.
لم يجد هؤلاء البسطاء حيلة أمامهم إلا الذهاب جميعا إلى مسئول الجمعية الزراعية بالقرية كي يواجه الأمر، وفي الطريق إلى الجمعية الزراعية كانت أحاديث النفس تراود كل فرد منهم، فالكل يعلم يقينا أن مسئول الجمعية لن يتحرك فيد أنملة، خشية أن يجر على نفسه صخب هو في غنى عنه، فضلا عن أنه يمكن أن يلقي بنفسه تحت طائلة المسائلة حول برنامج الوقاية الخاص بأمراض النبات، والذي كان لا يطبق بالفعل إلا على أوراق وسجلات الجمعية فقط.
كانت الجمعية الزراعية جميلة المنظر، لها واجهة رخامية خلابة، وباب واحد فقط، لكن كل أبناء القرية يعلمون أن لها في الحقيقة ألف باب خلفي يقصده المنتفعون والوصوليون وأصحاب النفوذ الذين على استعداد لأن يدفعوا في الخفاء من أجل الحصول على خدمات خاصة!، ورغم كل هذا تجمعوا أمامها ليرفعوا الأمر للمختص مغالطين أنفسهم، يحدوهم الأمل في استجابة ولو ضئيلة، خاصة وأن الموضوع عام يمس الكل وليس بفردي يتعلق بالبعض، لكن رئيس الجمعية رفض مقابلتهم ـ كما كان متوقعا ـ فقد كان مشغولا بتسوية الاختلاسات الأخيرة من حصة مبيدات الآفات الزراعية.
وفي المساء كان الحديث عن هذه المشكلة مستحوذا على كل مجلس، وقرر الجميع بعد طول مناقشة الذهاب لعضو البرلمان عن دائرتهم الانتخابية ليطلعوه على الأمر كي يثير المشكلة في البرلمان ومع كبار المسئولين، وبالفعل استجاب العضو المصون لطلباتهم، وفي أول جلسة للبرلمان وقف النائب المغوار يعرض القضية بكل جرأة وطلاقة في أسلوب خطابي رنان، فلقد كان سيادته مفوها بليغا لا لخطورة الموقف ولكن لأن عدسات التلفاز كانت تعرض وقائع الجلسة، وكانت هذه فرصة سانحة له ليراه كل أبناء الدائرة وهو ينافح عنهم، مما يدعم موقفه ويزيد من شعبيته في دائرته الانتخابية التي كان موعد الانتخابات القادمة فيها على الأبواب.
وكالعادة وبعد أن أنهى العضو الموقر بيانه، قام معالي وزير الزراعة دون أدني روية، ولا حتى استفسار من معاونيه عن حقيقة القضية ... قام سيادته ليلقي خطبة حماسية عن أعداء النجاح، والمتخصصين في إثارة القلاقل والفتن دائما دون سبب يذكر، ثم انهالت أرقامه الفلكية على الحاضرين حول المليارات التي أنفقت في خطة الوزارة الحالية لمكافحة الآفات، وعدد الخبراء الأجانب الذين أحضروا للحيلولة دون ظهور المرض، وعدد المؤتمرات التي عقدت بهذا الصدد، وعدد ورش العمل التي تم فيها تدريب رجال الوزارة الأكفاء لهذا الأمر بالذات، وأختتم جنابه الحديث بطمأنة نواب الأمة بأن الحديث عن وجود هذا الوباء بالبلاد محض افتراء، وأن التدابير الوقائية التي اتخذتها الوزارة تحول دون ظهوره لعقود قادمة، بل لا نخطئ لو اعتبرنا بلادنا الحبيبة خالية من هذا الوباء تماما .... كل هذا وأبناء القرية البسطاء يطالعون بيان الوزير المبجل على شاشات التلفاز والدهشة على وجوههم، وكأن الذي يتحدث وزير الزراعة الياباني أو الاسترالي أو النرويجي وليس وزير زراعة بلدنا الحبيبة.
حاول الجميع تناسي المأساة ولسان حالهم يقول: لقد فعلنا ما بوسعنا، وحسبنا أننا أخلينا ساحتنا أمام الله وأمام ضمائرنا .. مر الوقت بطيئا، وانتشر المرض سريعا، وقضى على كل شجر القرية، وكانت استجابة المسئولين بالزراعة عبارة عن بيان قصير مفاده أنه رصدت بعض الحالات الفردية لهذا المرض وهي تحت السيطرة، ولم يستمر الأمر كثيرا حتى قضى المرض على كل شجر القرى المجاورة، وهنا تحركت كل القطاعات، فوزير الزراعة تصوره الكاميرات وهو يتجول في القرى المنكوبة، والطائرات تقذف بالمبيدات التي استوردتها الدولة خصيصا لتدارك الأمر، والصحف الموالية تشيد بالمجهودات الضخمة التي تبذلها كافة الجهات المسئولة، هذا خلاف المؤتمرات والتصريحات والندوات حول طبيعة الآفة، وتاريخ انتشارها، وخبرة الدول الأخرى في التعامل معها.
كل هذا والجميع يعرف جيدا أن الأمر قد خرج عن نطاق السيطرة، وفات أوان عمل أي شيء، وكما هو متوقع دائما .. انتهى الأمر بإقالة مفاجأة لوزير الزراعة، وخروج الوزير الجديد على الملأ، معترفا بخطورة الموقف، واعتذاره بأنه لا يمكنه فعل شيء، وأنه تسلم الوزارة وهي تعاني من أزمات قاتلة، وبالتالي ليس بوسعه إلا أن يعلن أنه ينبغي طي صفحات الماضي الأليم، ولنبدأ من جديد صفحة ملئها الأمل، وهكذا دفع الشعب البريء ثمن خطأ لا دخل له فيه!!
تلك هي مشكلة أمتنا العربية قاطبة التي طالما بدأت من جديد مع كل وزير جديد ومع كل مسئول جديد ومع كل مفكر جديد، وتمر السنوات ولا شيء يتغير سوى إقالة هذا المسئول وتولى آخر ليعلن أنه سيبدأ عهد جديد، وعلى عكس المسئول السابق الذي قال: أن الطريق الأمثل من هنا. يقول الجديد: بل الطريق الأفضل من هناك، وفي الوقت الذي تجاوزت فيه العديد من الدول خطة الإصلاح وهي الآن تجني ثمرته، ما زالت أمتنا العربية تتحدث عن عزمها على تبنيها سياسة الإصلاح، وتدور الإشكالية .. هل ينبغي أن يكون الإصلاح من الداخل أم من الخارج؟
وكم سمعنا عن: مبادرة تفعيل دور المثقفين في الحياة النيابية، وسياسة خلق كوادر شابة لتتولى زمام الأمور بكفاءة في المستقبل، وبرامج النهوض بالمرأة، وبرامج محو الأمية، ومنظومة محاربة عمل الأطفال، ومقاومة ظاهرة طفل الشوارع، وشعار مكافحة البطالة والعنوسة وسوء التغذية وغلاء الأسعار والفساد الإداري .. ليجد المواطن نفسه في خضم مبادرات وسياسات وبرامج وأطروحات لا تنتهي، وزوبعة تمضي وتحل بعدها زوبعة أخرى، ويبقى الوضع العملي كما هو عليه حيث لا يتحرك ساكنا، فمتى نبدأ سياسة البناء الفعلية؟ ليس من جديد، ولكن من حيث انتهى الآخرون في رحلة البناء؟!
د/ خالد سعد النجارalnaggar66@hotmail .com