المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل هذا هو قول الجهمية؟



أبو إسحاق الشمالي
2012-01-05, 07:36 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد وقفت على كلام لاحد الظاهرية (المعاصرين) يقول

من زعم أن الكيف معلوم فقد كذب أو أخطأ، ومن زعم أن المعنى معلوم فقد كذب أيضاً أو أخطا ، لأنه واقع لا محالة في تفسير اليد هنا على ما تعرف العرب، وهذا المعنى لا يجوز أن ننسبه إلى الله تعالى، ومن قال المعنى معلوم وسكت فهو لا يعرف المعنى أصلاً
.وما علم أحد أن المعنى يعرف إلا من اللغة أو النص، ولا يعرف أحد لغة تحكي وتفسر شيئاً لم يره أهلها قط، ومن زعم أن هذا المعنى معروف من لغة العرب فقد تقوّل على الله ما لم يعلم.

وله مقال يقول فيه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإن من أولويات ما يتناوله طالب العلم بالدرس والبحث والتعلم ما تعلق بمسائل الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، فإن المسائل الاعتقادية وما يترتب عليها قد تدخل الإنسان في هذا الدين، فتعطيه ما لأهل الإسلام من حقوق وواجبات في الدنيا والآخرة، وقد تخرجه منه، فتوجب عليه ما لغير المسلمين في الدنيا والآخرة، فمن هذا الباب جاءت أهمية مسائل الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، فكتب العلماء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم في هذه المسائل الكتب الكثيرة.

وقد جاء الإسلام بالسماحة واليسر، وخاطب الله جل وعز فطرة الإنسان ودفعها للتفكر في خلق السماء والأرض وكل مخلوق يعاينه الإنسان، وأقام جل وعز الحجة على البشرية كلها بقواعد سهلة متفق على أنها حق إذا أنصف الإنسان نفسه وعقله.

إلا أن البشر ليسوا سواء في قبول الحق متى ما ظهر لهم، فمنهم من يقبله، ومنهم من يرده وينكره، فلذلك نشأت الديانات والمذاهب والطوائف الكثيرة، فمنهم الملحد الجاحد الذي ينكر وجود الخالق جل وعز، ومنهم المؤمن الذي آمن بما جاء موافقاً لتلك الفطرة التي خلقه الله تعالى عليها.

ومن المؤمنين أيضاً من وافق أهل الإلحاد والجحد ببعض ما يعتقدونه، ومنهم من خالفهم، إذ كل طائفة ومذهب وفرقة من المسلمين قد تلبست ببعض أهواء أهل الإلحاد سواء من قرب أو من بعد، نسأل الله أن يختم حياتنا على الدين الحق.

وقد نشأت الكثير من الطوائف والمذاهب في التاريخ الإسلامي، وتفرعت من تلك الطوائف طوائف أخرى تخالف الطائفة الأم، وتعددت الأقوال والآراء في باب الاعتقاد حتى صار الله جل وعز يختلف عند كل طائفة، بل وكأن كل طائفة تعبد غير إله الطائفة الأخرى.

وأدى هذا الاختلاف والاضطراب إلى أن نسبت بعض هذه الطوائف لله جل وعز ما لا يمكن قبوله عقلاً وشرعاً، أو سلبته ما لا يجوز أن يسلب منه عقلاً وشرعاً، وكل في غَيِّه يزيد أو ينقص حتى ظن المطلع على أقوالهم أنهم لا يعبدون الله جل وعز، وإنما يعبدون غيره، فكل فرقة بربها المزعوم فرحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن الله جل وعز قد أوضح ما يجب اعتقاده على الأمة، فكان القرآن هو المصدر الرئيس في بيان ما يجب اعتقاده، وكذلك كانت السنة الصحيحة، وأرشد إلى فهم النصوص الشرعية من لغة العرب التي تعي بشكل واضح أن ما لا يرى لا يقدر ويقاس بما يرى، وأن خالق الكون ليس هو المخلوق، وغير ذلك من أسس للفهم في لغة العرب دلت عليها نصوص القرآن والسنة الصحيحة.

فلماذا يقع الاختلاف في مسائل الاعتقاد رغم أن مصادر إثباتها أو نفيها محدودة بالقرآن والسنة الصحيحة ؟ فهذا سؤال يخطر في ذهن الكثير من طلبة العلم ممن اطلع على هذه المذاهب الاعتقادية الكثيرة، وما هي أسباب الاختلاف والتنازع في مسائل الاعتقاد ؟ ولعل الجواب يكون بما يلي:

1- عدم الاكتفاء بمصادر إثبات العقيدة الصحيحة.
فلم تكتف تلك المذاهب الاعتقادية بما ورد في القرآن العزيز، أو السنة الصحيحة، فأثبتوا اعتقادات لم تأت بالقرآن ولا السنة الصحيحة، وكم من مسألة في باب الاعتقاد ذكرت وأيدها قوم ورفضها غيرهم وأصلها حديث لا يصح، فكيف يَتَدَيَّن المسلم بمثل هذه الروايات ودين الله جل وعز هو الدين الحق والعدل والحجة والبرهان الذي لا شك في شيء منه ألبتة ؟! .

ولو تتبعت كل قول عند فئة أو فرقة تكلمت في مسائل الاعتقاد فإنك سترى عدم الاكتفاء بالقرآن والسنة الصحيحة، وستراهم إما ممن أدخل الأحاديث الضعيفة في فهم هذه المسائل، وإما أنه أدخل العقل فيما لا يملك العقل الدخول فيه، وإما أنه عَمَل بالدلالات الظنية من هذه النصوص الثابتة، وأسقط الدلالة المتيقنة.

2- تقديس العقل وإعطائه مكانة لا يستحقها.
فإن الكثير من هذه المذاهب لم تتجن على الاعتقاد الصحيح إلا بما ادعته للعقل من مكانة وتقديس، حتى جعلت العقل حاكماً وحكماً على مصادر إثبات العقيدة الصحيحة التي هي القرآن والسنة الصحيحة، فما وافق الحكم العقلي من نصوص القرآن والسنة فهو مقبول، وما خالف من هذه النصوص لتلك الأحكام العقلية فهو مردود.

فلو تأملت في هذه المذاهب الباطلة كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية والمفوضة والمرجئة وأدعياء اتباع السلف والصوفية والرافضة وغيرهم من مذاهب قدست في بعض مسائلها أو كل مسائلها العقل حتى جعلته الحاكم في دين الله سترى ما ذكرته لك عياناً.

فوظيفة العقل هي التمييز والفهم فقط، وليس من وظيفة العقل إنشاء أحكام شرعية - اعتقادية أو عملية - ليست في نصوص القرآن والسنة الصحيحة بيقين، وكذلك فإن أحكام العقل ليست كلها بمنزلة واحدة، فمنها أحكام صحيحة، ومنها أحكام باطلة.

فالأحكام العقلية الصحيحة هي ما كان منها متعلقاً بالمحسوس الذي يمكن للعقل أن يحكم بناء عليه، أو ما كان راجعاً للمحسوس والبديهي - الفطري - ؛ لأن أحكام العقل الصحيحة لا تكون صحيحة إلا إن اسْتُعْمِلَ العقل وأدواته لما خُلِقَ من أجله، وهو الحكم على المدرك المحسوس، كالمشاهد، والمسموع، وغير ذلك مما يكون راجعاً إلى أدوات الحس السليمة ( النظر، السمع، الشم، الذوق، اللمس ).

أما الأحكام العقلية الباطلة فهي ما كان منها متعلقاً بالغيبيات التي لا تخضع لإدراك العقل أصلاً، فالكواكب التي تدور حولنا يمكن أن نرى بعضها بالعين المجردة، ومنها ما نراه بالعين وبمساعدة آلة تزيد في قوة حاسة البصر، وتبني عقولنا الأحكام الصحيحة على صحة حاسة البصر وقوتها، ولا تستطيع أن تبني الأحكام العقلية وتصدقها إن كانت عن أمر يتعلق بالسمع، فليس للعقل أن يقول: لكوكب زحل صوت كذا وكذا، وأن ترتبه من كذا وكذا، وأن تكوينه من كذا وكذا، فكل هذه الأحكام لم يستطع الحس أن يدركها، فلا يمكن للعقل أن يبني أية أحكام في هذا الباب حتى يدركها الحس، أو يأتي بها نص قرآن أو سنة صحيحة.

بل من المذاهب هذه وحتى التي تدعي اتباع السلف في مسائل الاعتقاد وقعوا بنحو ما وقع فيه غيرهم، إذ أنهم قاسوا الخالق جل وعز على المخلوق، فالخالق إذا لم يذكر مسألة من مسائلهم في نصوص الشرع، أو ذكرها مجملة، فإنهم يتأولونها على معنى ظني غير قطعي، ويلزمون الناس بهذا المعنى بدعوى وجوب اعتقاده بناء عن قياس عقلي قبيح.

فما دام الخالق قد قال: { كل شيء هالك إلا وجهه } فهو جل وعز من جملة الأشياء، والأشياء التي يعاينها العقل هي ذوات، ولهذه الذوات صفات، فيبدأ حكم القياس العقلي والتدخل العقلي السافر حين يقول: ( الله ذات وصفات ) رغم أن النص لم يقل هذا أصلاً، ولكنهم زعموا كما وقع من بعضهم في مناقشتي معه: ( أن علبة المنديل ذات ولها صفات، فالله تعالى ذات وله صفات، فعلبة المنديل والله تعالى كلها تقع تحت اسم " الشيء " ) وهذا من أقبح القياس العقلي وهم أول من ينكر على الجهمية والمعتزلة القياس العقلي، وما يطلق عليه قياس الغائب على الشاهد !

إذن: ينبغي أن نعي بأن العقل له دور ووظيفة محددة، فليس العقل آلة خارقة تصل إلى أبعد مما تدركه بأداة الحس، فالعقل لا يمكن أن يَبْني الأحكام إلا من خلال أدوات الحس، فإن كان الشيء خارجاً عن إدراك الحس جملة وتفصيلاً: فليس من حق العقل إحداث أحكام فيه ألبتة، فمن أحدث حكماً عقلياً من غير اعتماد على الحس فهو ينقش على الماء، ومن هذا الباب ادعت المذاهب الباطلة التي ذكرتها آنفاً ما لا يثبت لا بالعقل ولا بالشرع.

فإن قال تعالى: { وهو السميع البصير } فهو سميع بصير، يسمع ويرى كما قال تعالى، لكن هل يعنينا أن نقول: هو يسمع بصفة السمع ؟ ويبصر بصفة البصر ؟ إن الذي لا يدري ما هو معنى هذا السؤال يسارع فيقول: نعم، هو يسمع بصفة السمع، ويبصر بصفة البصر !

ولم يقل هذا القائل تلك المقولة اعتماداً على نصوص الشريعة، وإنما قاله لأنه شاهد كل من يسمع من حوله، وكل من يبصر من حوله أنه لا يسمع إلا بصفة محمولة في ذاته مكنته من السماع، وكذلك بصفة محمولة في ذاته مكنته من البصر، فإن قيل له: فلان يسمع ولا آلة للسمع عنده فلن يصدق هذه الدعوى، إذ أدرك عقله بالمشاهدة أن كل سامع رآه أو علمه فإنه لا يسمع إلا بتلك الآلة، فوجب أن يكون الله تعالى كذلك ! وهو تعالى يقول: { ليس كمثله شيء } .

ومن هنا دخل عليهم الفساد والبطلان، فقاسوا الله تعالى على خلقه، وكان يكفيهم أن يقولوا: هو سميع بصير كيف شاء ومتى شاء، فالمهم في المسألة أن نتيقن بأنه جل وعز يسمع ويبصر، لكن كيف يسمع وكيف يبصر فهذا يدخلنا فيما يحذر منه أدعياء السلفية أنفسهم، وهو قولهم بأن الكيف مجهول.

وحاول هؤلاء الرد على الجهمية والمعتزلة وغيرهم من طوائف مبتدعة، فظنوا بإثباتهم هذه الزيادات التي لم يأت بها نص شرعي هو من باب الدفاع عن دين الله تعالى، رغم أن كل طائفة منهم لا تدري ما معنى لفظة ( صفة ) إذا نسبت لله تعالى، إذ لم يروها، ولم يحكي القرآن ذلك، ولا وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ولا ذكره بالمعنى الذي يحاول إثباته هؤلاء كلهم.

وقد نقل الإمام ابن حزم عن الإمام الشافعي، والإمام عبد العزيز الكناني، والإمام داود بن علي الظاهري أنهم يقولون: الله تعالى سميع ولا نقول بسمع، بصير ولا نقول ببصر ؛ لأن الله تعالى لم يقل ذلك، وقال ابن حزم: وبهذا نقول، أي هو موافق لهم فيما قالوا.

والإمام عبد العزيز الكناني صاحب كتاب الحيدة الذي سجل فيه مناظرته مع الجهمية وغيرهم، وذكر سؤالهم عن كونه تعالى هو العليم أو السميع فهل يقال: عليم بصفة العلم، أو سميع بصفة السمع - لا تحضرني العبارة وهي موجودة في كتابه الحيدة - فقال: لا أقول ذلك ؛ لأن الله لم يقله.

فزعم بعض العلماء ومنهم بعض الظاهرية أيضاً: أن نسبة الكتاب للكناني فيها شك ! وأن نقل الإمام ابن حزم لا ندري أصحيح هو أم باطل ؟ رغم أن بعض هؤلاء كان يصف نقل ابن حزم بأنه نقل دقيق، وأنه لا ينقل عن العلماء ما لم يصح عنه، إلا أنه في هذه المسألة التي عارضت ما يعتقده اضطر أن يشكك في نقل ابن حزم، ونقل ابن حزم لم يشكك فيه عالم قبل هؤلاء، سواء كان معاصراً لابن حزم أو جاء من بعده، وسواء كان من المشرق أو من المغرب.

وأيضاً: فإن فكل فرقة أبطلت أسماء الله تعالى فهي فرقة نظرت إلى هذه الأسماء فوجدت لها معاني عربية، وأن الأسماء تدل على ذوات وصفات في لغة العرب بالنسبة للمخلوق، فخشيت من إثباتها كما تدعي لأنها تؤدي إلى المشابهة بالمخلوق، فأبطلوا أسماء الله تعالى كلها، فقالوا هذه ليست أسماء الله تعالى.

وحاول بعض أهل الرأي أن يُدْخِل الإمام ابن حزم رحمه الله تحت هذه الفرقة الضالة التي أبطلت أسماء الله تعالى ؛ لأنه رأى ابن حزم يقول: ( أسماء الله تعالى كلها سواء، لا تدل إلا على الله جل وعز ) فدل ذلك عند هذا المدعي أن ابن حزم من الجهمية ؛ لأنه يبطل أسماء الله تعالى.

إلا أن ابن حزم رحمه الله لم يقل بما وصفه هذا المدعي، وبل وما ادعاه على الإمام ابن حزم باطل مردود عنده أيضاً، فقد نص في كتابه الفصل على هذه الفقرة وهو يناقش الجهمية وغيرهم ويقول ما معناه - ارجع للفصل للوقوف على العبارة كما هي فإني أنقل بالمعنى - : ( أن الأسماء كلها لا تدل إلا على الله جل وعز، أي المسمى هو واحد، لفظ الله، والسميع، والبصير، والقدير، لا تدل إلا على واحد فقط، وهو الله جل وعز ) ثم أثبت في مكان آخر من كتابه أن هذه الأسماء تدل على معاني، وذكر أن الإجماع قائم من الأمة على جواز الدعاء بهذه المعاني - أي ليس الدعاء مقتصراً على الأسماء المنصوصة فقط، بل يشمل معانيها أيضاً - فلو كانت هذه المعاني عند ابن حزم ليست لله تعالى رغم تنوعها أخذاً من تلك الأسماء، لما جاز عنده أن نخاطب الله تعالى بها في الدعاء.

وقد غر بعضهم ما ادعاه الشيخ ابن تيمية والشيخ ابن عبد الهادي وتابعهم عليه والشيخ الألباني من أن أسماء الله تعالى كلها بمعنى واحد عند ابن حزم، وأنه لا يفرق بين قدير وعليم وسميع وغير ذلك، وهذا ما غر الكثير من طلبة العلم حتى راجعوا كتب ابن حزم فأيقنوا أن ما ادعاه هؤلاء هو ادعاء باطل لا يصح عن ابن حزم ألبتة.

فعندما لا يفرق ابن حزم بين الأسماء ويقول بأنها راجعة لمسمى واحد وهو الله تعالى، فهو يقول: لا فرق بين عليم وقدير وخالق وسميع، فكلها أسماء لا تدل إلا على الله تعالى، لكنه يميز فيما ذكره من معاني هذه الأسماء وما أجازه منها، وذلك بَيْنَ أن تنادي الله تعالى ليغفر لك فتتعلق بالرحيم الغفور، وبين أن تناديه جل وعز ليقضي دينك بالغني مثلاً، فمن لم يكمل قراءة ما كتبه هذه الإمام فسيظن ما قاله الشيخ ابن تيمية والشيخ ابن عبد الهادي والشيخ الألباني صحيحاً، وكم من طالب علم راجع كتب ابن حزم فوجد الوهم هذا، وعلم خطأ هؤلاء فيما حكوه عن الإمام ابن حزم، فعلى طالب العلم إن أراد التحقق من هذا أن يراجع الفصل، والدرة فيما يجب اعتقاده، والمحلى، ويتخلص من تقليد العلماء في كل قول ومسألة.

فواجب علينا أن نسمي الله جل وعز بالأسماء التي ذكرها في القرآن والسنة الصحيحة، وأن نعتقد أنها أسماء الله تعالى ولا تدل إلا عليه جل وعز، ولا تدل على غيره، فهو واحد وله الأسماء الحسنى، فواجب على الأمة أن تؤمن بها وتدعوه بهذه الأسماء سبحانه وتعالى، ومن أبطلها وأنكرها فقد أنكر متيقناً من القرآن، فإن كان جاهلاً: فواجب تعليمه، وإن كان عالماً وأقيمت عليه الحجة: فهو كافر بلا شك ؛ لأنه يكذب آية من الله تعالى ويردها بعقله الضعيف.

ومنكم من يتذكر المناظرة التي جرت بيني وبين بعض الأخوة في الدارة قبل مدة، ولعلكم تذكرون حين سألته عن معنى ( الصفة ) إذا نسبت لله تعالى، وإذا نسبت للمخلوق، فضرب الأخماس بالأسداس، ولم يعرف كيف يجيب عن ذلك إجابة عالم بما يقول، بل أجاب بجواب يدري من قرأه أنه لا هو ولا غيره ممن يقلد قوله يستطيع أن يوضح للأمة كلها بعالمها وجاهلها معنى هذه الكلمة التي تنسب لله تعالى.

فالخلق يعرف معنى لفظة ( صفة ) إن نسبت للإنسان أو المخلوق بشكل عام، فإن قيل له: صفة الإنسان أنه يقبل الحياة والموات مثلاً، فإنه يدرك ذلك، إذ لم ير الإنسان مذ خلق إلا وهو يحيا ويموت، وأن صفة الحياة بالنسبة للإنسان هي بهذا المعنى لا بمعنى آخر، وأن الحياة ليست ذاتاً، وإنما هي صفة محمولة في ذات الإنسان، وأن الموات أو الموت هي صفة محمولة في ذات الإنسان أيضاً، ولا تتحقق إلا بانقضاء أجل الإنسان في الدنيا.

وأن هذه الصفة مخلوقة لم تكن، أي ليست أزلية، وأن من هذه الصفات ما هو ذاتي لا يُتَصَوَّر المخلوق بدونه، ومنها ما هو عرضي قد يكون في البعض ولا يكون في البعض الآخر، وغير ذلك مما يترتب على معنى لفظة ( صفة ) إذا نسبت للمخلوق.

ألا يكفي هؤلاء الذين أسرفوا في مسائل الاعتقاد وأشغلوا الدنيا باللغو الذي لا يلزم الأمة أن يقولوا كما ذكرت: الله تعالى سميع بصير، وهو يسمع ويبصر، وأن يثبتوا ما أثبته الله تعالى، وأن ينفوا عنه ما نفاه ؟ ألا يمكن أن يقول هؤلاء: لله تعالى اليد، وله العين، وغير ذلك مما أثبته القرآن، لماذا احتاجوا لكلمة ( صفة ) قبل كل ما أثبته الله تعالى ونُسِبَ إليه، فما يدريهم أن اليد هذه تسمى صفة عند الله تعالى، أو أن القبض بتلك اليد يجوز أن نطلق عليه صفة بحسب مفهومنا للصفة ؟ إذ البشر لا يعرفون غير تلك المعاني المخلوقة.

وقد يتحذلق بعضهم فيقول: نقول صفة ليست كمثلها شيء ؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء !

وهو بهذا يظن أنه تخلص من الاعتراض والنقد، وهذا قد يكون من وهم القائل، أو من ضعفه العلمي، إذ هذه الجملة لا تقال إلا بما أثبته الله تعالى، وليس لما لم يثبته النص القرآني، فنحن نقول: سميع وليس كمثله شيء، أي أنه جل وعز يسمع وسمعه لا يشبهه سمع ألبتة، ولا نقول: صفة سمعه لا يشبهها صفة سمع ألبتة !

فلو جاء القرآن فقال تعالى: أنا أسمع بصفة السمع، وأبصر بصفة البصر، ونص على كل ذلك بأنه صفة، فحينها وجب أن نقول: يسمع بصفة السمع، وصفة السمع ليس كمثلها شيء لننفي المماثلة والمشابهة، فإن لم يقل القرآن ذلك: فلا يجوز لأحد أن يقوله، ويكتفي المسلم بما نص عليه القرآن أو نصت عليه السنة الصحيحة فقط، ويسقط الأقيسة العقلية التي أدخلها على خالق العقل سبحانه وتعالى.

ولذلك لو سألت أدعياء السلفية: هل من قال: ( أثبت ما أثبته الله تعالى، وأنفي ما نفاه، وأخبر عنه بما أخبر هو تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقول يسمع، ويبصر، ويقدر، ويريد، ويفعل، ويخلق، ويصور، وله يد، وعين، وغير ذلك مما ثبت في القرآن أو السنة إن كان معلوماً عندي، وأثبت كل ذلك لما أثبته وإن كنت أجهل دليله، فأصدق بكل ما قال وأؤمن به بيقين لا شك فيه )

فإن أدعياء السلفية لن يقولوا: ( هذا خطأ، أو ضلال، أو بدعة، أو فسق، أو إثم، أو أنه القائل بهذا سيحاسب يوم القيامة على تقصيره في حق ربه ) فليس لهم إلا أن يقولوا: ( قد خلص من المعاتبة والمحاسبة، وليس بمخطئ ولا ضال ولا مبتدع، ولا فاسق ولا آثم ) ومن تجرأ فادعى الخطأ والضلال فهو لجهله بقول من يقلدهم وقول غيرهم.

وقد لامني بعض طلبة العلم بأني في تلك المناظرة قد ركزت كثيراً على معنى لفظة ( صفة ) بالنسبة للخالق، وبالنسبة للمخلوق، فذكرت لهم بأن هذه المسألة هي أصل الاختلاف، فأردت للمناظر أن يعي أنه يتكلم عن شيء لا هو ولا من قلدهم أو اتبعهم قادر على أن يأتي بتوضيح له، فإن لم يكن عندهم تعريف للفظة ( صفة ) بالنسبة للخالق، وأنهم لم يتمكنوا من تعريف خصمهم أو مخالفهم بالمعنى الذي يريدون نسبته لله جل وعز، فكيف يدافع عن شيء لم يثبت بالنص الشرعي، ولا يدري ما هو أصلاً، فهذا يعني أنه يؤمن ويعتقد بأشياء لا وجود لها لا بالنصوص الشرعية ولا في الواقع ولا في الخيال أيضاً، فإن كان هذا أصل المسألة وهو باطل، فما بني عليه مثله في البطلان.

نعم، قد يأتي النص بوجوب الإيمان بكثير من القضايا والمسائل الاعتقادية الغيبة، وينص عليها بالاسم، فواجب على كل مسلم أن يعتقد أنها حق، ولكن لا يجوز للمسلم هذا أن يدعي على تلك المسائل ما ليس بالنص الذي أوجب الإيمان بها، فالواجب هو الإيمان بها كما هي، وأن تفسير تلك الأشياء يكون بتلاوة النصوص الواردة في المسألة كما كان يقول سلف الأمة، وأن من حد الله جل وعز أو ما تعلق به فقد فارق المذهب الحق، فالله تعالى غير محدود، وما تعلق به تعالى ونسب إليه لا يحد أيضاً، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فإن كانوا من المتبعين له فليلزموا قوله في منع الحد هذا.

والحد ما هو إلا تعريف الشيء، فنحن إن لم نعرف الشيء طلبنا حده، وحده هو الذي يوضح لنا ذاته وصفاته المحمولة في الذات، وهذا الحد هو للمخلوق الضعيف، فلا يجوز أن يحد الله تعالى ولا ما نسب إليه.

فالكثير من أدعياء السلفية لا يدري معنى الحد ولا كيف يستخرجه أهل العلم، ولو علم ذلك لفهم ما أعني الآن، فإن الحد لا يقع إلا للمخلوق ؛ لأن الحد يقوم على إدخال الشيء تحت جنس ما، ثم نوع ما، ثم يميزه العالم بفصل ما أو بصفة مميزة فيه لا تفارقه.

فالله تعالى لا يدخل تحت جنس أصلاً، ولا نوع، ولا يقال عما نسب إليه بأنه فصل أصلاً ؛ لأن هذه المصطلحات إنما وضعت للمخلوق فقط، فكل ما يمكن إدراكه بالعقل وأدوات الحس فيمكن أن نطلق عليه مثل هذه المصطلحات، ولذلك نص ابن حزم رحمه الله في كتابه التقريب بأن الله تعالى لا يدخل تحت الجنس ولا غير ذلك، وأنه غير محدود، ولا يجوز أن يدعي أحد جواز ذلك، إلا أن محقق الكتاب وهو الأستاذ عبد الحق التركماني لم يفهم هذه المسألة، ولا فهم معنى كلام ابن حزم بعدم جواز الحد لله تعالى، فلذلك تجد كل اعتراض للأستاذ التركماني على ابن حزم في باب الجنس والنوع والفصل والعرض العام والعرض الخاص متعلق بالله تعالى، وأنه أدخل على ابن حزم ما تعلق بالله جل وعز، رغم أن الإمام ابن حزم منع قول من يدخل الله جل وعز تحت الحد، فهذا مثال على تقويل الإمام ما لم يقل، وانتقاده من غير فهم لعبارته.

وقد قال بعض الجاهلين - بهذا الباب رغم أنه يتكلم فيه دائماً - : إن أردت إبطال ما يقوله أهل الظاهر ممن يأخذ باليقين في العقيدة والفقه فاسألهم عن معنى الحي إذا نسب لله تعالى أو سمي به، فمالذي يراد به، وأن هذا سيكشف ضعف قولهم وبطلانه !

ولا أدري ما الذي يجعل قولي أو قول من قال بمثل ما قلت من الأقوال الباطلة الضعيفة إن كان الله تعالى قد تكفل ببيان ذلك، فأي بيان ومعنى يطلب هؤلاء من إنسان مثلي بعد ذلك ؟ ألم يقل الله جل وعز: { الحي الذي لا يموت } فهل رأى هذا القائل بعينيه، أو سمع بإذنيه هذا البيان والمعنى الذي لا يشكل على جاهل أو عالم ؟! نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله الإنصاف وإن كنا نخالف غيرنا، فلعل الله جل وعز يرزقنا الحق لعلمه بإنصافنا.

فهذا وأمثاله إن سألتهم ما معنى سميع ؟ فسيقول لك: معناه معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة !
فإن قلت له: ما هو المعلوم ؟ وأين هو معلوم ؟ ألستم تعلمون المعنى في عقولكم أو في نصوصكم الشرعية ؟ أو في كلام بعض الصحابة رضي الله عنهم ؟ أو في كلام إجماع الصحابة كلهم ؟ فما هو هذا المعنى ؟ فيبهت هؤلاء ولن تجد منهم إلا بالطعن والشتم والإخراج عن دائرة الإسلام !

فكيف يكون الأمر من الواجبات وأن الأمة ملزمة به وأن تعرف المعنى المعلوم لتؤمن بالعقيدة الصحيحة على مذهبهم، ثم يكون السؤال عن هذا المعنى الواجب معرفته بدعة وضلالة ؟! أليس هذا من التناقض الفاسد ؟! ألا يحق لأهل الباطل من الجهمية والعتزلة حينها أن يسخروا من هؤلاء ؟! اللهم نعم، وكما يقال بالعامية : ( فخار يكسر بعضه ) فلا هؤلاء ولا أولئك على الحق، فالأوائل قدسوا العقول حتى جعلوا القرآن والسنة الصحيحة خاضعة لحكم العقل، وغيرهم قدسوا أقوال الرجال وأخذوا بجانب من العقل أيضاً، فقاسوا الله تعالى على خلقه، فأردوا النجاة من باطل الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم من طوائف حَكَّمَت العقل الضعيف في دين الله تعالى، فوقعوا بما وقع فيه أهل الباطل بلا فرق وإن اختلفت التسمية.

فدين الله تعالى واضح لا خفاء فيه، يفهمه العامي والعالم، ويغيب عن العامي بعض الدين كما يغيب عن العالم بلا فرق، والواجب عليهم هو إثبات ما أثبته الله تعالى، وليس الواجب عليهم إثبات ما أثبته القياس العقلي من غير دليل نصي متيقن، فلو ألتزم هؤلاء بما ذكرت لما اختلفت الأمة في مسألة واحدة من مسائل الاعتقاد التي يختلفون فيها الآن كما اختلفوا فيها في القرون السابقة.

فما أجمل ما قاله أهل العلم ومنهم الإمام داود الظاهري في الثناء على دين العجائز وعقائدهم، وليس ذلك لضعف في معرفة الحق، وإنما دين العجائز قائم على يقين الفطرة والنص فقط، وأنهم لم يلجوا في القياس العقلي الذي حكم على الله تعالى بغير برهان متيقن.

فأنصح نفسي وأهل الإسلام جميعاً أن يأخذوا بالنصوص الشرعية الصحيحة، وأن يلتزموا الدلالة المتيقنة، ويعطوا العقل حدوده التي هيي التمييز والفهم، وأن يبتعدوا عن الظن والرأي في دين الله تعالى عامة، وهذا هو السبيل للخلاص من هذه المفاسد، وهذا هو مذهب السلف الصالح الذي ذهبوا إلى ربهم ولم يتكلموا عن هذا الضلال والفساد، فكن على مذهب السلف الصالح، ولا تلتفت للمفسدين، فهذا آخر ما أقول، والحمد لله رب العالمين.


و ايضا

لم أرَ أعجب ممن يدعى السلفية والدفاع عن عقائد السلف ثم ينقض دعواه بثمن بخس دراهم معدودة أو دفاع عن مذهب
نسمع ونقرأ تخرص الكثيرين من هؤلاء الأدعياء وبهتانهم لإمام أهل الحديث أبي محمد بن حزم وزعمهم بأنه جهمى وخالف السلف في عقيدتهم !!!! بينما هو أفضل من حكى وقرر عقيدة السلف

عدنان البخاري
2012-01-05, 09:45 AM
سبق بيان هذا في هذا المجلس عدة مرات في مواضيع مختلفة فانظرها تجدها. هؤلاء جهلة بالتفريق بين المعنى والكيف.

عدنان البخاري
2012-01-05, 06:45 PM
انظر هذا مثلا:
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=48234

أبو إسحاق الشمالي
2012-01-06, 06:16 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا
راجعت هذا الرابط ايضا : http://majles.alukah.net/showthread.php?t=67712&page=2
للاسف يبدو ان الاخوة الظاهرية لهم هفوات خطيرة والاسلم تجنب دروسهم وقاية من الشبهات