تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : هل ليس هناك شىء اقرب الي الله عز وجل من شىء؟؟



ابو حيان التوحيدى
2011-10-26, 09:25 PM
هل يجوز ان نقول ليس هناك شىء اقرب الي الله عز وجل من شىء؟؟

أبو الفداء
2011-10-28, 02:12 PM
الحمد لله وحده.
إن أراد المتكلم بالقرب المعنى الحقيقي، فلا شك أنه لا يجوز ذلك القول، لأن الله عال فوق سمائه مستو على عرشه، فالعرش أقرب إليه مما دونه، وما كان في السماء العليا تحت العرش فهو - بضرورة العقل ومقتضى المعنى اللغوي - أقرب إليه مما دون ذلك في السماء الدنيا، وهذا أقرب إليه مما في الأرض، وهذا اعتقاد أهل السنة كما تجده في مظانه. ولا يجوز أن نقول: نثبت لله علوا حقيقيا ولكن لا نثبت للأشياء قربا وبعدا عنه سبحانه! كيف يصح في العقل أن نثبت لله علوا على المعنى الحقيقي، ثم ننفي أن تتفاوت الأشياء من تحته في المعنى الحقيقي للقرب والبعد عنه (علو ودنوا)؟ هذا لا يصح!
أما إن أراد المعنى المجازي كما في قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) ونحوه، فإن كان المراد بالقرب: تقرب العبد إلى الله بالقربات من الذكر والعبادة والدعاء ونحوه، وتقرب الرب إليه بالرحمة والمغفرة والاستجابة، فهذا يقع فيه التفاضل بين الناس، ويقع فيه التفاضل في الإنسان الواحد بين حال وأخرى، فيصح على هذا الوجه أن يقال هذا أقرب إلى الله وهذا أبعد عنه.
وإن كان المراد بالقرب: إحاطة العلم وأنه سبحانه قريب بسمعه وبصره وبملائكته الموكلين بحفظ الأعمال، كما هو تفسير القرب في قوله تعالى ((أقرب إليه من حبل الوريد))، فهذا لا يصح أن يقال فيه هذا القول المسؤول عنه، لأن علم الله كامل سابغ لا يتفاوت، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس هو بشيء مما خلق أعلم منه بشيء آخر، سبحانه وتعالى. تفاضل العلم في المقدار بين معلوم ومعلوم عند الموصوف بالعلم، إنما يصح وقوعه في المخلوقين لكونهم بالأصل جهلاء، يأتيهم العلم اكتسابا، فيتفاضل علمهم بالمعلومات بقدر ما يفتح الله لهم من ذلك، ولكن ليس هذا هو الشأن في حق الله خالق كل شيء. فعلى هذا المعنى للقرب فلا شيء "يبعد" عن الله سبحانه وإنما هو قريب من كل شيء، بل هو أقرب إلى الشيء من نفسه، والله أعلى وأعلم.

وليد بن محمد الجزائري
2011-10-29, 12:21 AM
ما معنى قول الدارمي
ثُمَّ أَكَّدَ الْمُعَارِضُ دَعْوَاهُ فِي أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِقِيَاسٍ ضَلَّ بِهِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل.
فَقَالَ: أَلا ترى أَن مَنْ صَعَدَ الْجَبَلَ لَا يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ؟
فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُعَارِضِ الْمُدَّعِي مَا لَا عِلْمَ لَهُ: مَنْ أَنْبَأَكَ أَنَّ رَأْسَ الْجَبَلِ لَيْسَ بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَسْفَلِهِ؟؛ لِأَنَّهُ مَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ رَأْسَ الْجَبَلِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَأَنَّ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ أَقْرَبُ إِلَى عَرْشِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السَّادِسَةِ، وَالسَّادِسَةَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَامِسَةِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ. كَذَلِكَ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: "رَأْسُ الْمَنَارَةِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَسْفَلِهِ وَصَدَقَ ابْنُ الْمُبَارَكِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ إِلَى السَّمَاءِ أَقْرَبُ كَانَ إِلَى اللَّهِ أَقْرَبَ. وَقُرْبُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ أَقْصَاهُم وأدناهم وَاحِد لَا يَبْعُدُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَبَعْضُ الْخَلْقِ أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ عَلَى نَحْوِ مَا فَسَّرْنَا مِنْ أَمْرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قُرْبُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ اللَّهِ، فَحَمَلَةُ الْعَرْشِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ ، وَالْعَرْشُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقُرْبُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ هَذَا مَعْقُولٌ مَفْهُومٌ إِلَّا عِنْدَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ أَنَّ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَهًا وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَه ُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ كَمَا ادعيت الْجَهْمِيَّةُ مَا كَانَ لِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} مَعْنًى، إِذْ كُلُّ الْخَلْقِ عِنْدَهُ وَمَعَهُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، وَمُطِيعُهُمْ وَعَاصِيهِمْ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ لَا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَا يَسْجُدُ لَهُ.

أبو الفداء
2011-10-29, 08:11 AM
بارك الله فيكم. الذي يظهر من كلام الدارمي رحمه الله أنه يبين، في سياق إثباته معنى البعد والقرب النسبي للمخلوقات من ذات الله تعالى على الحقيقة، أن الله قريب منها جميعا وإن كانت تتفاوت تفاوتا نسبيا في قربها وبعدها عن ذاته جل وعلا. فقوله رحمه الله: "وَقُرْبُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ أَقْصَاهُم وأدناهم وَاحِد لَا يَبْعُدُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ" يراد منه التسوية في معنى قرب ذات الله من عموم المخلوقات، إذ إن أحجامها والمسافات الفاصلة بينها (من أدناها في الأرض إلى أعلاها في السماء) ضئيلة في علم الله تعالى لا تكاد تذكر، فليس شيء منها ببعيد عنه أصلا مهما بعُد، مع كون بعضها أقرب إليه من بعض بالضرورة، والله أعلم.

أبو الفداء
2011-10-29, 09:07 AM
هنا فصل من مجموع الفتاوى أنقله بتمامه للفائدة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

فَصْلٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ " عُلُوِّ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ قُرْبِهِ ": مِنْ دَاعِيهِ وَعَابِدِيهِ.

فَنَقُولُ: قَدْ وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّة ِ فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِي الْقُرْآنِ أَلْفُ دَلِيلٍ أَوْ أَزْيَدُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ دَلِيلٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأَنَّ مَعْنَى " عِنْدَهُ " فِي قُدْرَتِهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة لَكَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ؛ كَمَا أَنَّ الِاسْتِوَاءَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِيلَاءَ لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ دَائِمًا. وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَارَةً كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَتَارَةً لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلُوُّ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ مَعَ الْعَقْلِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَمِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ أَيْضًا بِالْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبِ.
وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّتَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. فَالْأُولَى كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَالثَّانِيَةُ كَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا " الْقُرْبُ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} . وَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} وَقَدْ افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ " أَرْبَعُ فِرَقٍ ". " فالْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ لَا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ بَلْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوِّلٌ أَوْ مُفَوِّضٌ. وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصِ: كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّة ِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إلَّا الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: إنَّ الْجَهْمِيَّة خَارِجُونَ عَنْ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. " وَقِسْمٌ ثَانٍ " يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُ النجارية وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة - عُبَّادُهُمْ وَصُوفِيَّتُهُم ْ وَعَوَامُّهُمْ - يَقُولُونَ: إنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ " أَهْلُ الْوَحْدَةِ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَمَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ؛ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ " الْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبِ "؛ وَيَتَأَوَّلُون َ نُصُوصَ " الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ ". وَكُلُّ نَصٍّ يَحْتَجُّونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ أَكْثَرُهَا خَاصَّةً بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَفِي النُّصُوصِ مَا يُبَيِّنُ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ وَالْمُسَبِّحُ غَيْرُ الْمُسَبَّحِ ثُمَّ قَالَ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وَفِي الصَّحِيحِ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ؛} فَإِذَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ كَانَ هُنَاكَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ آخِرًا كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ أَشْيَاءُ نُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ. وَلِهَذَا قَالَ " ابْنُ عَرَبِيٍّ ": مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " الْعَلِيُّ " عَلَى مَنْ يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَلَى مَاذَا يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا يَكُونُ إلَّا هُوَ؛ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْخَرَّازُ: وَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ وَلِسَانٌ مِنْ أَلْسِنَتِهِ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَضْدَادِ؛ فَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ وَمَا ثَمَّ مَنْ تَرَاهُ غَيْرُهُ وَمَا ثَمَّ مَنْ بَطَنَ عَنْهُ سِوَاهُ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى " أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ ".
" وَالْمَعِيَّةُ " لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَة ِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْبِ؛ فَإِنَّ عِنْدَ الْحُلُولِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ كَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ وَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ وَجَهْلٌ بِالْقُرْآنِ. " وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ " مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وَهَذِهِ لَا أَصْرِفُ وَاحِدًا مِنْهَا عَنْ ظَاهِرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهُمْ الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيَّ ةِ " وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ السالمية وَالصُّوفِيَّةِ . وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَابْنِ برجان وَغَيْرِهِمَا مَعَ مَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِهِمَا مِنْ التَّنَاقُضِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ - الَّذِي صَنَّفَ " مَثَالِبَ ابْنِ أَبِي بِشْرٍ " وَرَدَّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ - هُوَ مِنْ السالمية وَكَذَلِكَ ذَكَرَ " الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ ": أَنَّ جَمَاعَةً أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي طَالِبٍ كَلَامَهُ فِي الصِّفَاتِ.
وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهَا مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَتَّبِعْ شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ؛ بَلْ خَالَفَهَا كُلَّهَا. وَالثَّانِي تَرَكَ النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ الْمُحْكَمَةَ الْمُبَيَّنَةَ وَتَعَلَّقَ بِنُصُوصِ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَأَمَّا هَذَا الصِّنْفُ فَيَقُولُ: أَنَا اتَّبَعَتْ النُّصُوصَ كُلَّهَا لَكِنَّهُ غالط أَيْضًا. فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَلِلْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَيَقُولُونَ: نَصِيبُ الْعَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ الْعَارِفِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ الْعَارِفِ نَصِيبُهُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِيمَانُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِالْحُلُولِ الْخَالِصِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ " الصُّوفِيَّةِ " حَتَّى صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فِي تَوْحِيدِهِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُلُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا. سُئِلَ " الْجُنَيْد " عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَحِّدِ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ وَالْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ فَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالشِّيعَةِ فِي أَئِمَّتِهَا؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّ ةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكْمِلُوا مَعْرِفَةَ الْحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّ ةِ.

وَأَمَّا " الْقِسْمُ الرَّابِعُ " فَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ مِنْهُ بَائِنُونَ وَهُوَ أَيْضًا مَعَ الْعِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْكِفَايَةِ وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ فَفِي آيَةِ النَّجْوَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ فِي وَطَنِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُخْتَلِطَةً بِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَيْ (مَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ) لَا أَنَّ ذَاتَهمْ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُمْ مُصَاحِبُونَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَمُوَالَاتِهِم ْ فَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا وَعِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعِيَّةِ؛ كَمَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: زَوْجِي طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد: فَهَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهَا: أَنْ تُعَرِّفَ لَوَازِمَ ذَلِكَ وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ وَالْكَرَمُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَقُرْبُ الْبَيْتِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَضْيَافِ.
وَفِي الْقُرْآنِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ إثْبَاتُ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؛ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ هَلْ ذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ شَرٌّ فَيُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَيُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَاتِ. وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَالْمُرَادُ التَّخْوِيفُ بِتَوَابِعِ السَّيِّئَاتِ وَلَوَازِمِهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ . وَهَكَذَا كَثِيرًا مَا يَصِفُ الرَّبُّ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَبِالْأَعْمَال ِ: تَحْذِيرًا وَتَخْوِيفًا وَتَرْغِيبًا لِلنُّفُوسِ فِي الْخَيْرِ. وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْكِتَابِ فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ مُرَادٌ مِنْهُ وَقَدْ أُرِيدُ أَيْضًا لَازِمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَقَدْ أُرِيدُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِالْمُطَابَقَة ِ وَبِالِالْتِزَا مِ؛ فَلَيْسَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي اللَّازِمِ فَقَطْ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُهُ الْمَلْزُومُ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ. وَأَمَّا لَفْظُ " الْقُرْبِ " فَقَدْ ذَكَرَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؛ فَالْأَوَّلُ إنَّمَا جَاءَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ: {أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} وَ {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} و {عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . فَالْقُرْآنُ هُنَا حِينَ يَسْمَعُهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْبَيَانُ هُنَا بَيَانُهُ لِمَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَخَلَفِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلِ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ. {نَتْلُوا} و {نَقُصُّ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} فَهَذِهِ الصِّيغَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَإِذَا فَعَلَ أَعْوَانُهُ فِعْلًا بِأَمْرِهِ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنَا: كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ: نَحْنُ فَتَحْنَا هَذَا الْبَلَدَ وَهَزَمْنَا هَذَا الْجَيْشَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ بِأَعْوَانِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَهُوَ مَعَ هَذَا خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ؛ وَلَيْسَ هُوَ كَالْمَلِكِ الَّذِي يَفْعَلُ أَعْوَانُهُ بِقُدْرَةِ وَحَرَكَةٍ يَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْهُ فَكَانَ قَوْلُهُ لِمَا فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ : نَحْنُ فَعَلْنَا أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُلُوكِ. وَهَذَا اللَّفْظُ هُوَ مِنْ " الْمُتَشَابِهِ " الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ النَّصَارَى احْتَجُّوا بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّثْلِيثِ لَمَّا وَجَدُوا فِي الْقُرْآنِ {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ حَيْثُ تَرَكُوا الْمُحْكَمَ مِنْ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَتَمَسَّكُوا بِالْمُتَشَابِه ِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ الَّذِي مَعَهُ نَظِيرُهُ: وَاَلَّذِي مَعَهُ أَعْوَانُهُ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ وَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ فِتْنَةُ الْقُلُوبِ بِتَوَهُّمِ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ.
فَمَنْ قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ قَالَ: - إنَّ تَأْوِيلَهُ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ إنَّا وَنَحْنُ - هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يُدَبِّرُ بِهِمْ أَمْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَأُولَئِكَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ صِفَتَهُمْ غَيْرُهُ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ يَفْعَلُونَ إلَّا هُوَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} وَكُلٌّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ عَلِمَ حَالَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ؛ فَلَا يَعْلَمُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا جَمِيعَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ قَالَ: " التَّأْوِيلُ " هُوَ التَّفْسِيرُ وَهُوَ إعْلَامُ النَّاسِ بِالْخِطَابِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَمَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ مَعَانِيهِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ: (نَحْنُ) إنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَلَائِكَتِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا أَسْمَاءَهُمْ وَلَا صِفَاتِهِمْ وَحَقَائِقَ ذَوَاتِهِمْ؛ لَيْسَ الرَّاسِخُونَ كَالْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ (إنَّا) و (نَحْنُ) ؛ بَلْ يَقُولُونَ: أَلْفَاظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَهَا أَوْ يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةً مُتَعَدِّدَةً أَوْ وَاحِدًا لَا أَعْوَانَ لَهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} فَإِنَّهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ الَّذِينَ مُقَدَّمُهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} هُوَ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ لَهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ قَرَأَهُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَهُوَ مُكَلِّمٌ لِمُحَمَّدِ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ وَإِرْسَالِهِ إلَيْهِ وَهَذَا ثَابِتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} وَإِنْبَاءُ اللَّهِ لَهُمْ إنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ إلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} فَهُوَ أُنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرُبُ مِنْ ذَاتِ الْمُحْتَضِرِ؛ وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ يَعْلَمُونَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْعَبْدِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : اُكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا قَالَ: اُكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ} إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَالْمَلَائِكَة ُ يَعْلَمُونَ مَا يَهُمُّ بِهِ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَ " الْهَمُّ " إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ لَهُ بِمَا يَهْوَاهُ فَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. فَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَقُرْبُ عِلْمِ اللَّهِ مِنْهُ وَهُوَ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِهِ؛ فَذَاتُهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَا نِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَقَوْلُهُ إذْ ظَرْفٌ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ {أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} حِينَ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَا نِ مَا يَقُولُ {عَنِ الْيَمِينِ} قَعِيدٌ {وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ثُمَّ قَالَ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أَيْ شَاهِدٌ لَا يَغِيبُ. فَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَوْلُهُ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} و {هُوَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} فَهَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْعِبَادِ فِي كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وَالْمُرَادُ الْقُرْبُ مِنْ الدَّاعِي فِي سُجُودِهِ كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَقَمِنَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ} فَأَمَرَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ مَعَ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَقَدْ أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: {إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِاللَّيْلِ صَلَاةً قَرَأَ فِيهَا بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ نَحْوَ قِرَاءَتِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} وَذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ غَايَةُ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ مِنْ الْعَبْدِ وَغَايَةُ تَسْفِيلِهِ وَتَوَاضُعِهِ: بِأَشْرَفِ شَيْءٍ فِيهِ لِلَّهِ - وَهُوَ وَجْهُهُ - بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى التُّرَابِ فَنَاسَبَ فِي غَايَةِ سُفُولِهِ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ بِأَنَّهُ الْأَعْلَى، وَالْأَعْلَى أَبْلَغُ مِنْ الْعَلِيِّ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ؛ هُوَ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ نَصِيبٌ.
وَكَذَلِكَ فِي " الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ " لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ: كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْصُلُ لَهُ الْعُلُوُّ بِالْإِيمَانِ؛ لَا بِإِرَادَتِهِ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ غَايَةَ سُفُولِ الْعَبْدِ وَخُضُوعِهِ سَبَّحَ اسْمَ رَبِّهِ الْأَعْلَى فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَعْلَى وَالْعَبْدُ الْأَسْفَلُ كَمَا أَنَّهُ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ الْعَبْدُ وَهُوَ الْغَنِيُّ وَالْعَبْدُ الْفَقِيرُ وَلَيْسَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ إلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ فَكُلَّمَا كَمَّلَهَا قَرُبَ الْعَبْدُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَرٌّ جَوَادٌ مُحْسِنٌ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُنَاسِبُهُ فَكُلَّمَا عَظُمَ فَقْرُهُ إلَيْهِ كَانَ أَغْنَى؛ وَكُلَّمَا عَظُمَ ذُلُّهُ لَهُ كَانَ أَعَزَّ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ - لِمَا فِيهَا مِنْ أَهْوَائِهَا الْمُتَنَوِّعَة ِ وَتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهَا - تَبْعُدُ عَنْ اللَّهِ حَتَّى تَصِيرَ مَلْعُونَةً بَعِيدَةً مِنْ الرَّحْمَةِ. " وَاللَّعْنَةُ " هِيَ الْبُعْدُ؛ وَمِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِهَا إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ؛ وَالسُّجُودُ فِيهِ غَايَةُ سُفُولِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَفِي الصَّحِيحِ: {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ} وَقَالَ لإبليس {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} وَقَالَ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} فَهَذَا وَصْفٌ لَهَا ثَابِتٌ. لَكِنْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِيَ غَيْرَهَا جُوهِدَ وَقَالَ: {مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . و " كَلِمَةُ اللَّهِ " هِيَ خَبَرُهُ وَأَمْرُهُ: فَيَكُونُ أَمْرُهُ مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَخَبَرُهُ مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ وَقَالَ: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} " وَالدِّينُ " هُوَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالذُّلُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ: أَيْ ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ. كَمَا قِيلَ:
هُوَ دَانَ أذكر هو الدِّيـ ... ـنَ دِرَاكًا بِغَزْوَةِ وَصِيَالٍ
ثُمَّ دَانَتْ بَعْدُ الرَّبَابُ وَكَانَتْ ... كَعَذَابِ عُقُوبَةُ الْأَقْوَالِ
فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالذُّلُّ لَهُ تُحَقِّقُ أَنَّهُ أَعْلَى فِي نُفُوسِ الْعِبَادِ عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ الْأَعْلَى فِي ذَاتِهِ كَمَا تَصِيرُ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا فِي نُفُوسِهِمْ كَمَا هِيَ الْعُلْيَا فِي نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ يُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَبْدِ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: {يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك؟ أيفرك أَنْ يُقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إلَهٍ إلَّا اللَّهَ؟ يَا عَدِيُّ مَا يفرك؟ أيفرك أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنْ اللَّهِ؟} وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ أَكْبَرَ بِمَعْنَى كَبِيرٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ؛ لَا لِغَيْرِهِ بِأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ لَهُ وَالذُّلُّ وَهُوَ حَقِيقَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا سِوَى هَذَا لَا يُقْبَلُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُطَاعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَلَا إسْلَامَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الَّتِي لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَهُوَ " الْأُمَّةُ " الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " هُوَ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ " الْإِمَامُ " كَمَا فِي قَوْلِهِ {إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا} وَهُوَ " الْقَانِتُ " وَالْقُنُوتُ دَوَامُ الطَّاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ دَائِمًا وَالْحَنِيفُ الْمُسْتَقِيمُ إلَى رَبِّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} فَقُرْبُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِقُرْبِ الْآخَرِ مِنْهُ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قُرْبُ الثَّانِي هُوَ اللَّازِمَ مِنْ قُرْبِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا قُرْبٌ بِنَفْسِهِ فَالْأَوَّلُ كَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْهُ قَرُبَ الْآخَرُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ وَالثَّانِي كَقُرْبِ الْإِنْسَانِ إلَى مَنْ يَتَقَرَّبُ هُوَ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ فَتَقَرُّبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ وَتَقْرِيبُهُ لَهُ نَطَقَتْ بِهِ نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } {وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ} الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ} . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَقَالَاتِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي " جَوَابِ الْأَسْئِلَةِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْفُتْيَا الحموية " فَهَذَا قُرْبُ الرَّبِّ نَفْسِهِ إلَى عَبْدِهِ وَهُوَ مِثْلُ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ} الْحَدِيثَ فَهَذَا الْقُرْبُ كُلُّهُ خَاصٌّ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ قُرْبُ ذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إلَى الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ فَجَعَلُوهُ عَامًّا مُطْلَقًا كَمَا جَعَلَ إخْوَانُهُمْ " الِاتِّحَادِيَّ ةُ " ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {كُنْت سَمْعَهُ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ} وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} .
وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِذَا فَصَلَ تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَالدَّاعِي وَالسَّاجِدُ يُوَجِّهُ رُوحَهُ إلَى اللَّهِ وَالرُّوحُ لَهَا عُرُوجٌ يُنَاسِبُهَا فَتَقْرُبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا رَيْبٍ بِحَسَبِ تَخَلُّصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ فَيَكُونُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا قَرِيبًا قُرْبًا يَلْزَمُ مَنْ قُرْبِهَا وَيَكُونُ مِنْهُ قُرْبٌ آخَرُ كَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَفِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَإِلَى مَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا وَفِي الزُّهْدِ لِأَحْمَدَ عَنْ عِمْرَانَ الْقَصِيرِ {أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَبْغِيكَ؟ قَالَ: ابْغِنِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ إنِّي أَدْنُو مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بَاعًا لَوْلَا ذَلِكَ لَانْهَدَمُوا} فَقَدْ يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ: {قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ} إلَى آخِرِهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ نَعْتُهُ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ مَا يَلْزَمُ مِنْ قُرْبِ الدَّاعِي وَالسَّاجِدِ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ هُوَ لِمَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ لَيْلَتئِذٍ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالتَّوْبَةِ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الدُّنُوُّ إلَيْهِمْ.
فَإِنَّهُ يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ لَمْ يَحْصُلْ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُرْبِهِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَقَرُّبِهِمْ إلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ. وَالنَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَجُّهِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَقَوْلِهِ: {هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ} .
ثُمَّ إنَّ هَذَا النُّزُولَ هَلْ هُوَ كَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مُعَلَّقٌ بِأَفْعَالِ؟ فَإِنَّ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا النُّزُولُ كَمَا أَنَّ دُنُوَّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ؛ إذْ لَيْسَ لَهَا وُقُوفٌ مَشْرُوعٌ وَلَا مُبَاهَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا أَنَّ تَفْتِيحَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ النَّارِ وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانِ - إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُومُونَهُ لَا الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً. وَكَذَلِكَ اطِّلَاعُهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِكَ أَمْ هُوَ عَامٌّ؟ فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا " الْقُرْبِ " مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فِي نُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَوْلِهِ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ: كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ يَظُنُّ خُلُوَّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا وَزَيَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَضَعَّفَ مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد فِي رِسَالَةِ مُسَدَّدٍ وَقَالَ: إنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى أَحْمَد وَتَكَلَّمَ عَلَى رَاوِيهَا البردعي أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَالَ: إنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد. " وَطَائِفَةٌ " تَقِفُ لَا تَقُولُ: يَخْلُو وَلَا: لَا يَخْلُو وَتُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي. وَأَمَّا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَنْفَرِجُ ثُمَّ تَلْتَحِمُ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ؛ وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الرِّجَالِ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ نُزُولَهُ: لَا بِخُلُوِّ وَلَا بِغَيْرِ خُلُوٍّ وَقَالَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ لِبَعْضِ الْمُثْبِتِينَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ مَنْ يَنْزِلُ؟ أَنْتَ لَيْسَ عِنْدَك هُنَاكَ أَحَدٌ؛ أَثْبَتَ أَنَّهُ هُنَاكَ ثُمَّ قُلْ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه بِحَضْرَةِ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ. وَالصَّوَابُ قَوْلُ السَّلَفِ: أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَرُوحُ الْعَبْدِ فِي بَدَنِهِ لَا تَزَالُ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى أَنْ يَمُوتَ وَوَقْتُ النَّوْمِ تَعْرُجُ وَقَدْ تَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ وَكَذَلِكَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَرُوحُهُ فِي بَدَنِهِ وَأَحْكَامُ الْأَرْوَاحِ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ الْأَبْدَانِ؛ فَكَيْفَ بِالْمَلَائِكَة ِ؟ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ . وَاللَّيْلُ يَخْتَلِفُ فَيَكُونُ - ثُلْثُهُ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ثُلْثُهُ بِالْمَغْرِبِ وَنُزُولُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ وَإِلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَكَذَلِكَ قُرْبُهُ مِنْ الدَّاعِي الْمُتَقَرِّبِ إلَيْهِ وَالسَّاجِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ حَيْثُ كَانَ وَأَيْنَ كَانَ وَالرَّجُلَانِ يَسْجُدَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ قُرْبٌ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الْآخَرُ. وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِيهَا الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَاَلَّذِي بَلَّغَهَا بَلَاغًا مُبِينًا هُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ وَأَنْصَحُهُمْ لِخَلْقِهِ وَأَحْسَنُهُمْ بَيَانًا؛ وَأَعْظَمُهُمْ بَلَاغًا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقُولَ: مِثْلَ مَا عَلِمَهُ الرَّسُولُ، وَقَالَهُ. وَكُلُّ مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِبَصِيرَةٍ فِي قَلْبِهِ تَكُونُ مَعَهُ مَعْرِفَةٌ بِهَذَا؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وَقَالَ فِي ضِدِّهِمْ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وقَوْله تَعَالَى {الظَّاهِرُ} ضُمِّنَ مَعْنَى الْعَالِي كَمَا قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَيُقَالُ: ظَهَرَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَظَاهِرُ الثَّوْبِ أَعْلَاهُ بِخِلَافِ بِطَانَتِهِ. وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ الْبَيْتِ أَعْلَاهُ وَظَاهِرُ الْقَوْلِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ وَبَانَ وَظَاهِرُ الْإِنْسَانِ خِلَافُ بَاطِنِهِ فَكُلَّمَا عَلَا الشَّيْءُ ظَهَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ} فَأَثْبَتَ الظُّهُورَ وَجَعَلَ مُوجِبَ الظُّهُورِ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَقُلْ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْيَنَ مِنْك وَلَا أَعْرَفَ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ فَسَّرَ (الظَّاهِرَ) بِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ الْبَاطِنِ بِالْحِجَابِ كَمَا فِي كَلَامِ أَبِي الْفَرَجِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَقَالَ: {أَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ} فِيهِمَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبُطُونُ وَالظُّهُورُ لِمَنْ يَظْهَرُ وَيُبْطِنُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَعْنَى التَّجَلِّي وَالْخَفَاءِ وَمَعْنًى آخَرُ كَالْعُلُوِّ فِي الظُّهُورِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي الْإِحَاطَةِ لَكِنْ إنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْجِهَةِ الْعَالِيَةِ عَلَيْنَا فَهُوَ يُظْهِرُ عِلْمًا بِالْقُلُوبِ وَقَصْدًا لَهُ وَمُعَايَنَةً إذَا رُئِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ بَادٍ عَالٍ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَبْطُنُ فَلَا يُقْصَدُ مِنْهَا وَلَا يُشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَدْنَى مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ فَلَا شَيْءَ دُونَهُ سُبْحَانَهُ.

ابو حيان التوحيدى
2011-10-30, 11:44 PM
وإن كان المراد بالقرب: إحاطة العلم وأنه سبحانه قريب بسمعه وبصره وبملائكته الموكلين بحفظ الأعمال، كما هو تفسير القرب في قوله تعالى ((أقرب إليه من حبل الوريد))، فهذا لا يصح أن يقال فيه هذا القول المسؤول عنه، لأن علم الله كامل سابغ لا يتفاوت، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس هو بشيء مما خلق أعلم منه بشيء آخر، سبحانه وتعالى. تفاضل العلم في المقدار بين معلوم ومعلوم عند الموصوف بالعلم، إنما يصح وقوعه في المخلوقين لكونهم بالأصل جهلاء، يأتيهم العلم اكتسابا، فيتفاضل علمهم بالمعلومات بقدر ما يفتح الله لهم من ذلك، ولكن ليس هذا هو الشأن في حق الله خالق كل شيء. فعلى هذا المعنى للقرب فلا شيء "يبعد" عن الله سبحانه وإنما هو قريب من كل شيء، بل هو أقرب إلى الشيء من نفسه، والله أعلى وأعلم.

ما قولك فى عالم من علماء المسلمين ومن ائمة السلف قال ليس هناك شىء اقرب الى الله من شىء كما قال تعالى ونحن اقرب اليه من حبل الوريد؟؟
لان علو الله عز وجل عنده ليس علو انتقال ومكان بل علو قهر وسلطان

أبو الفداء
2011-10-31, 02:46 AM
لان علو الله عز وجل عنده ليس علو انتقال ومكان بل علو قهر وسلطان
هذا خلاف ما عليه السلف، بارك الله فيك.
من تأول العلو والاستواء على العرش على هذا النحو، فقد خالف ما عليه أئمة السلف كما تجد بيان ذلك في مظانه. علو الله علو حقيقي يليق بذاته تبارك وتعالى (ولا نقول علو انتقال وعلو مكان وأمثال هذه التراكيب الكلامية التي يستلزم منها أصحابها ما لا يلزمنا في شيء!).. وقد بُسط الكلام في هذه المسألة في مواضع كثيرة في هذا المجلس، فراجعها إن شئت، والله يوفقنا وإياك للرشاد.

ابو حيان التوحيدى
2011-10-31, 03:07 AM
هذا خلاف ما عليه السلف، بارك الله فيك.
من تأول العلو والاستواء على العرش على هذا النحو، فقد خالف ما عليه أئمة السلف كما تجد بيان ذلك في مظانه. علو الله علو حقيقي يليق بذاته تبارك وتعالى (ولا نقول علو انتقال وعلو مكان وأمثال هذه التراكيب الكلامية التي يستلزم منها أصحابها ما لا يلزمنا في شيء!).. وقد بُسط الكلام في هذه المسألة في مواضع كثيرة في هذا المجلس، فراجعها إن شئت، والله يوفقنا وإياك للرشاد.
امين يارب العالمين
وفيك بارك الله اخى
ولكن تدبر ما قاله الامام الطبرى فى تفسيره
{ هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (javascript:Open_Menu()) }
قال:
وهو الباطن جميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال:
{ وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْل الوَرِيدِ }
وقال فى تفسير قوله تعالى
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (javascript:Open_Menu()) }

والعجب مـمن أنكر الـمعنى الـمفهوم من كلام العرب فـي تأويـل قول الله: { ثُمَّ اسْتَوَى إلـى السَّماءِ } الذي هو بـمعنى العلوّ والارتفـاع هربـاً عند نفسه من أن يـلزمه بزعمه إذا تأوله بـمعناه الـمفوهم كذلك أن يكون إنـما علا وارتفع بعد أن كان تـحتها، إلـى أن تأوله بـالـمـجهول من تأويـله الـمستنكر، ثم لـم ينـج مـما هرب منه. فـيقال له: زعمت أن تأويـل قوله: { اسْتَوَى } أقْبَلَ، أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إلـيها؟ فإن زعم أن ذلك لـيس بإقبـال فعل ولكنه إقبـال تدبـير، قـيـل له: فكذلك فقل: علا علـيها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بـما لـيس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال فـي ذلك قولاً لقول أهل الـحقّ فـيه مخالفـاً، وفـيـما بـينا منه ما يشرف بذي الفهم علـى ما فـيه له الكفـاية إنه شاء الله تعالـى.

أبو الفداء
2011-10-31, 03:50 PM
أخي الفاضل،
/// أولا: الإمام الطبري رحمه الله إمام جليل من أئمة أهل السنة، لكنه معروف بتأثره بالمتكلمين ومخالفته للسلف في بعض مسائل هذا الباب.
يقول في تفسير قوله تعالى ((الرحمن على العرش استوى)):

وَاَلَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن وَغَيْره أَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشه بِغَيْرِ حَدّ وَلَا كَيْفَ كَمَا يَكُون اِسْتِوَاء الْمَخْلُوقِي
فهو يختار موافقة الأشعري رحمه الله في ذلك.
/// ثانيا: لا يخفى ما في هذا النقل الذي نقلته عنه سلوكه مسلك الأشاعرة - إجمالا - في التهرب من لوازم لا تلزم من يثبت المعنى على حقيقته وظاهره دون تأويل. تأمل كيف سوى رحمه الله بين قولهم إن تفسير الاستواء بأن الله علا وارتفع يلزم منه أنه كان تحت السماء من قبل، وقولهم إن تفسير ((استوى إلى السماء)) بأنه "أقبل" يستلزم أن يكون مدبرا من قبل فأقبل! والحق أنه لا يلزم في حق الله تعالى من تفسير فعل الاستواء على أن معناه علوه فوق العرش واستقراره عليه، أنه كان قبل ذلك تحته!
ثم على التسليم بأنه سبحانه كان قبل استوائه إلى السماء غير قاصد إليها أو غير مشتغل بخلقها (مع كونه سبحانه لا يشغله فعل عن فعل)، فما الإشكال في ذلك؟ أين وجه النقيصة في ذلك المعنى وأين مشابهة المخلوقين؟ وكيف يكون هذا مساويا لدعوى المتكلمين لزوم أن يكون تحت السماء ثم علا فوقها من تفسير الاستواء بالعلو؟
الصحيح - بارك الله فيك - أن الاستواء إذا جاء غير متعدٍّ بإلى، كان المراد منه العلو فوق العرش والاستقرار عليه (على الحقيقة، على ما يليق بذاته سبحانه)، وإذا جاء متعديا بإلى، كان المراد منه القصد إلى الشيء، وهذا ظاهر لسان العرب وهو قول أهل السنة، ولا يلزم من ذلك شيء من النقائص في حق الله تعالى أو مما فيه مماثلة للمخلوقين.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذا الموضع:

أَيْ قَصَدَ إِلَى السَّمَاء وَالِاسْتِوَاء هَاهُنَا مُضَمَّن مَعْنَى الْقَصْد وَالْإِقْبَال لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإِلَى
ويقول القرطبي رحمه الله:

وَقَالَ الْفَرَّاء فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ " ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ " قَالَ : الِاسْتِوَاء فِي كَلَام الْعَرَب عَلَى وَجْهَيْنِ , أَحَدهمَا : أَنْ يَسْتَوِي الرَّجُل وَيَنْتَهِي شَبَابه وَقُوَّته , أَوْ يَسْتَوِي عَنْ اِعْوِجَاج . فَهَذَانِ وَجْهَانِ . وَوَجْه ثَالِث أَنْ تَقُول : كَانَ فُلَان مُقْبِلًا عَلَى فُلَان ثُمَّ اِسْتَوَى عَلَيَّ وَإِلَيَّ يُشَاتِمنِي . عَلَى مَعْنَى أَقْبَلَ إِلَيَّ وَعَلَيَّ . فَهَذَا مَعْنَى قَوْله : " ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء " وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس : ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء صَعِدَ . وَهَذَا كَقَوْلِك : كَانَ قَاعِدًا فَاسْتَوَى قَائِمًا , وَكَانَ قَائِمًا فَاسْتَوَى قَاعِدًا , وَكُلّ ذَلِكَ فِي كَلَام الْعَرَب جَائِز . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن : قَوْله : " اِسْتَوَى " بِمَعْنَى أَقْبَلَ صَحِيح , لِأَنَّ الْإِقْبَال هُوَ الْقَصْد إِلَى خَلْق السَّمَاء , وَالْقَصْد هُوَ الْإِرَادَة , وَذَلِكَ جَائِز فِي صِفَات اللَّه تَعَالَى . وَلَفْظَة " ثُمَّ " تَتَعَلَّق بِالْخَلْقِ لَا بِالْإِرَادَةِ . وَأَمَّا مَا حَكَى عَنْ اِبْن عَبَّاس فَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ تَفْسِير الْكَلْبِيّ , وَالْكَلْبِيّ ضَعِيف . وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة وَابْن كَيْسَان فِي قَوْله " ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء " : قَصَدَ إِلَيْهَا , أَيْ بِخَلْقِهِ وَاخْتِرَاعه , فَهَذَا قَوْل . وَقِيلَ : عَلَى دُون تَكْيِيف وَلَا تَحْدِيد , وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ

ابو حيان التوحيدى
2011-10-31, 06:12 PM
أخي الفاضل،
/// أولا: الإمام الطبري رحمه الله إمام جليل من أئمة أهل السنة، لكنه معروف بتأثره بالمتكلمين ومخالفته للسلف في بعض مسائل هذا الباب.
يقول في تفسير قوله تعالى ((الرحمن على العرش استوى)):

فهو يختار موافقة الأشعري رحمه الله في ذلك.
/// ثانيا: لا يخفى ما في هذا النقل الذي نقلته عنه سلوكه مسلك الأشاعرة - إجمالا - في التهرب من لوازم لا تلزم من يثبت المعنى على حقيقته وظاهره دون تأويل. تأمل كيف سوى رحمه الله بين قولهم إن تفسير الاستواء بأن الله علا وارتفع يلزم منه أنه كان تحت السماء من قبل، وقولهم إن تفسير ((استوى إلى السماء)) بأنه "أقبل" يستلزم أن يكون مدبرا من قبل فأقبل! والحق أنه لا يلزم في حق الله تعالى من تفسير فعل الاستواء على أن معناه علوه فوق العرش واستقراره عليه، أنه كان قبل ذلك تحته!
:
وما وجه اعتراضك اخى الافضل على كلام الامام الطبرى الذى وافق فيه الامام الاشعرى فى مسالة الاستواء
ثم لم افهم معنى قولك واستقراره عليه
هل عقيدتك ان الله مستقر على العرش ؟؟؟

أبو الفداء
2011-10-31, 07:32 PM
بارك الله فيكم، ظننت أني بينت وجه الاعتراض بما فيه الكفاية في كلامي الآنف.
فإن كنت أخي الفاضل أشعريا تريد المناظرة لا السؤال، فلا حاجة بي إلى فتح مناظرة جديدة في ذلك النزاع بيننا وبين الأشاعرة، والمنتدى قد سبق فيه من مثل ذلك الكثير كما ذكرت لك من قبل، فأرجو الإعفاء من هذا يرحمك الله.

ناصر بن منصور
2011-10-31, 07:35 PM
أخي الفاضل،
/// أولا: الإمام الطبري رحمه الله إمام جليل من أئمة أهل السنة، لكنه معروف بتأثره بالمتكلمين ومخالفته للسلف في بعض مسائل هذا الباب.
يقول في تفسير قوله تعالى ((الرحمن على العرش استوى)):

فهو يختار موافقة الأشعري رحمه الله في ذلك.
/// ثانيا: لا يخفى ما في هذا النقل الذي نقلته عنه سلوكه مسلك الأشاعرة - إجمالا - في التهرب من لوازم لا تلزم من يثبت المعنى على حقيقته وظاهره دون تأويل. تأمل كيف سوى رحمه الله بين قولهم إن تفسير الاستواء بأن الله علا وارتفع يلزم منه أنه كان تحت السماء من قبل، وقولهم إن تفسير ((استوى إلى السماء)) بأنه "أقبل" يستلزم أن يكون مدبرا من قبل فأقبل! والحق أنه لا يلزم في حق الله تعالى من تفسير فعل الاستواء على أن معناه علوه فوق العرش واستقراره عليه، أنه كان قبل ذلك تحته!

شيخنا الفاضل .....
أحسن الله إليك وزادك فقهاً وعلماً ....
الكلام الذي عبرت عنه بسلوك مذهب الأشعري .. ليس كلام الطبري بل هو حكاية كلام الخصم من باب التنزل والإلزام لمن فر من اثبات المعنى اللغوي المعروف وليس التقرير ....
ومذهب الطبري في اثبات علو الخالق بذاته على العرش قرره في تفسيره في عدة مواضع ..

أبو الفداء
2011-10-31, 08:05 PM
جزاكم الله خيرا أخي الكريم، الذي عنيته بسلوك مذهب الأشعري أنه يقول "استواء من غير حد ولا كيف"، كما نسبه هو نفسه إلى الأشعري رحمه الله، فالذي حكاه من كلام الخصم وإلزامه لم ينته منه إلا إلى سلوك مذهب الأشعري فيما يبدو لي أنه تعطيل للصفة، إذ ينفي الحد والكيف مع ظنه أنه بذلك يثبت المعنى اللغوي الصحيح للاستواء (وهذا خلاف مذهب السلف). فهو في الحقيقة يهرب من التأويل إلى التعطيل وليس إلى إثبات المعنى اللغوي الصحيح كما يقول، رحمه الله.
فإن كنت قد وقفت على نص له يوافق فيه طريقة السلف في أصل معنى الاستواء، وفي قوله تعالى ((ثم استوى إلى السماء))، فأتحفنا به بارك الله فيك، ولك مني دعاء بظهر الغيب.

ناصر بن منصور
2011-10-31, 09:16 PM
جزاكم الله خيرا أخي الكريم، الذي عنيته بسلوك مذهب الأشعري أنه يقول "استواء من غير حد ولا كيف"، كما نسبه هو نفسه إلى الأشعري رحمه الله، فالذي حكاه من كلام الخصم وإلزامه لم ينته منه إلا إلى سلوك مذهب الأشعري فيما يبدو لي أنه تعطيل للصفة، إذ ينفي الحد والكيف مع ظنه أنه بذلك يثبت المعنى اللغوي الصحيح للاستواء (وهذا خلاف مذهب السلف). فهو في الحقيقة يهرب من التأويل إلى التعطيل وليس إلى إثبات المعنى اللغوي الصحيح كما يقول، رحمه الله.
فإن كنت قد وقفت على نص له يوافق فيه طريقة السلف في أصل معنى الاستواء، وفي قوله تعالى ((ثم استوى إلى السماء))، فأتحفنا به بارك الله فيك، ولك مني دعاء بظهر الغيب.

يقول الطبري ــ رحمه الله ــ عند تفسير قوله تعالى : (( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم (http://islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=4766&idto=4766&bk_no=50&ID=4825#docu)))
... وعني بقوله : ( هو رابعهم (http://islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=4766&idto=4766&bk_no=50&ID=4825#docu)) بمعنى : أنه مشاهدهم بعلمه ، وهو على عرشه . كما حدثني عبد الله بن أبي زياد قال : ثني نصر بن ميمون المضروب قال : ثنا بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن الضحاك في قوله : ( ما يكون من نجوى ثلاثة (http://islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=4766&idto=4766&bk_no=50&ID=4825#docu)) . . . إلى قوله : ( هو معهم ) قال : هو فوق العرش وعلمه معهم ( أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم (http://islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=4766&idto=4766&bk_no=50&ID=4825#docu)) .
وهناك نصوص أخرى لولا ضيق الوقت والأنشغال لنقلت بعضها ولكن هذا اصرحها في نظري واوضحها ..

أبو الفداء
2011-10-31, 10:24 PM
جزاكم الله خيرا. كلام ابن جرير الذي تفضلت بنقله صحيح منضبط لا غبار عليه، ولكنه رحمه الله قد صرح بموافقته للأشعري في نفي الحد والكيف عن معنى الاستواء لكونه يراه من التشبيه! ونفي الحد لازمه إما الحلول (لاختلاط الخالق بالمخلوق) أو العدم (كقولهم لا داخل العالم ولا خارجه)، ونفي الكيف - على طريقة الأشعري رحمه الله - نفي لحقيقة المعنى، لأن الكيف إنما هو صفة الصفة، أي صفة الاستواء وحقيقته وتفصيله، فمن نفاه فقد عطل الصفة، لأن ما لا صفة له لا حقيقة له! وليس نفي الأشعري للكيف كما نُقل عن بعض أئمة السلف من نفي الكيف، لأن طريقة السلف إثبات الكيف مع تفويض العلم به لله، وليس نفيه بالكلية واستلازم مشابهة المخلوقات من إثباته!
فلولا هذا التصريح من الطبري رحمه الله لكان كلامه الذي تفضلت بنقله كافيا لتحرير مذهبه ونسبته إلى طريقة السلف في الاستواء، ولكنه لا يكفي، والله أعلم.

ناصر بن منصور
2011-11-01, 12:32 AM
جزاكم الله خيرا. كلام ابن جرير الذي تفضلت بنقله صحيح منضبط لا غبار عليه، ولكنه رحمه الله قد صرح بموافقته للأشعري في نفي الحد والكيف عن معنى الاستواء لكونه يراه من التشبيه!
..............................
فلولا هذا التصريح من الطبري رحمه الله لكان كلامه الذي تفضلت بنقله كافيا لتحرير مذهبه ونسبته إلى طريقة السلف في الاستواء، ولكنه لا يكفي، والله أعلم.
ياشيخ ..... أحسن الله إليك وبارك في علمك ..
القول الذي تصر عى نسبته للطبري ــ رحمه الله ــــــــ لا اعرفه ولم أوفق لمعرفة موضعه في تفسيره ولكن أطلعت عليه من كلام القرطبي ــــــ رحمه الله ـــــــ عند تفسير سورة طه ... فيبدو أن هناك خلط في المسألة ......
فقول الطبري .. كما قررت أنت هنا صحيح منضبط لاغبار عليه ... فعليك به ...

ابو حيان التوحيدى
2011-11-01, 01:09 AM
جزاكم الله خيرا. كلام ابن جرير الذي تفضلت بنقله صحيح منضبط لا غبار عليه، ولكنه رحمه الله قد صرح بموافقته للأشعري في نفي الحد والكيف عن معنى الاستواء لكونه يراه من التشبيه! ونفي الحد لازمه إما الحلول (لاختلاط الخالق بالمخلوق) أو العدم (كقولهم لا داخل العالم ولا خارجه)، ونفي الكيف - على طريقة الأشعري رحمه الله - نفي لحقيقة المعنى، لأن الكيف إنما هو صفة الصفة، أي صفة الاستواء وحقيقته وتفصيله، فمن نفاه فقد عطل الصفة، لأن ما لا صفة له لا حقيقة له! وليس نفي الأشعري للكيف كما نُقل عن بعض أئمة السلف من نفي الكيف، لأن طريقة السلف إثبات الكيف مع تفويض العلم به لله، وليس نفيه بالكلية واستلازم مشابهة المخلوقات من إثباته!
فلولا هذا التصريح من الطبري رحمه الله لكان كلامه الذي تفضلت بنقله كافيا لتحرير مذهبه ونسبته إلى طريقة السلف في الاستواء، ولكنه لا يكفي، والله أعلم.
اخى الفاضل الامام احمد ابن حنبل نفسه ينفى الحد والكيفية
ووالله الذى لا اله الا هو هذا ليس كلامى بل كلام امام السادة الحنابلة فى زمانه الامام ابن قدامة وهو من هو
قال فى لمعة الاعتقاد
قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله ينزل إلى سماء الدنيا » ، أو « إن الله يرى في القيامة » ، وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها ، ونصدق بها بلا كيف ، ولا معنى، ولا نرد شيئا منها ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] ، ونقول كما قال ، ونصفه بما وصف به نفسه ، لا نتعدى ذلك ، ولا يبلغه وصف الواصفين ، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ، ولا نتعدى القرآن والحديث ، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت القرآن

أبو الفداء
2011-11-01, 01:21 AM
جزاك الله خيرا أخي الكريم (ناصر بن منصور) وكتب أجرك، لست "أصر" على نسبة قول باطل إلى إمام من أئمة المسلمين، ونعوذ بالله من التشوف إلى ذلك!
راجعت الآن تفسير القرطبي وتفسير الطبري، فوجدت أنه قد اختلط علي النقل، فنسبت هذا القول إلى الطبري:

وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا كَيْفٍ كَمَا يَكُونُ اسْتِوَاءُ الْمَخْلُوقِينَ .
والصواب أنه من كلام القرطبي رحمه الله في تفسير سورة طه، وليس من كلام الطبري، رحمهما الله.
فإذا كان الأمر كذلك، ولم نقف على نسبة الطبري إلى مذهب الأشعري في الاستواء إلا في كلام القرطبي، ولم يكن في كلام الطبري ما يشهد لذلك، تحقق لدينا براءة الطبري رحمه الله من ذلك القول، والحمد لله رب العالمين.
وعلى هذا يكون وجه الإلزام في كلامه في سورة البقرة أن الذي يفسر الاستواء بالعلو الحقيقي، يلزمه أن يفسر الإقبال بأنه إقبال فعل لا إقبال إرادة وتدبير، فإما أن يتأول الجميع أو يثبت المعنى الظاهر في الجميع، وهو إذن إلزام جيد منه رحمه الله.
شكر الله لك حسن المراجعة أيها الفاضل وجزاك عني خيرا.

أبو الفداء
2011-11-01, 01:45 AM
أخي الفاضل أبا حيان، سبق أن قلت لك:

وليس نفي الأشعري للكيف كما نُقل عن بعض أئمة السلف من نفي الكيف، لأن طريقة السلف إثبات الكيف مع تفويض العلم به لله، وليس نفيه بالكلية واستلازم مشابهة المخلوقات من إثباته!
وكما ذكرتُ لك من قبل: هذا المجلس مشحون بردود الإخوة على نقولات الأشاعرة، وعلى الكلام في نسبتهم أئمة السنة إلى قولهم، فلا داعي لإعادة فتح هذا الباب ههنا يرحمك الله.

ابو حيان التوحيدى
2011-11-01, 02:14 AM
أخي الفاضل أبا حيان، سبق أن قلت لك:

وكما ذكرتُ لك من قبل: هذا المجلس مشحون بردود الإخوة على نقولات الأشاعرة، وعلى الكلام في نسبتهم أئمة السنة إلى قولهم، فلا داعي لإعادة فتح هذا الباب ههنا يرحمك الله.
عذرا اخى الفاضل على اضاعتى لوقتك فى الرد
ولكن احب ان الفت نظر حضراتكم تعقيبا على قولكم نسبتهم اى الاشاعرة ائمة السنة الى قولهم
ان مانقلت انا عن عقيدة الامام احمد بلا كيف ولا معنى هو كلام امام من ائمة الحنابلة ابن قدامة وليس كلام الاشاعرة
وما نقلت عن الامام الطبرى ان علو الله علو قهر وليس مكان وانتقال من تفسير الامام الطبرى نفسه وليس من كلام الاشاعرة
وفى النهاية
تقبل تحياتى


والسلام عليكم

يوسف التازي
2016-06-09, 06:39 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

محمدعبداللطيف
2016-06-09, 08:07 PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أنا لا ندرك كيفية ذات الله سبحانه، فكذلك لا ندرك كيفية صفاته، وبناء على ذلك، فلا يصح أن يقال إن إثبات صفة النزول يستلزم إثبات الحلول أو الاتحاد، لأن ذلك اللازم إنما يرد على ذواتنا نحن وما نحوها من ذوات المخلوقات، أما ذات الله العلية: فلا تشبه ذواتنا ولا ذوات أي من مخلوقاته، وكذلك صفاته لا تشبه صفات خلقه، فنزوله إنما هو نزول يليق بجلاله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {الشورى:11}.
وحيث إن عقولنا لا تدرك كيفية ذاته، فعلينا أن نقطع الطمع كذلك في إدراك كيفية صفاته ونزوله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات، فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة، لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه، وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيه، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟. اهـ.
وكذلك الكلام في نزوله مع عدم خلو العرش منه ينبني على ما سبق، فحيث قد أثبتنا له نزولا يليق بجلاله ولا يشابه نزول المخلوقين، فلا يرد علينا استلزام ذلك لخلو العرش منه، وإن كان لازما لصفات المخلوقين، فإنه هو غير لازم بالضرورة لجميع المخلوقات، وننقل لك كلاما نفيسا لشيخ الإسلام وقد ضرب فيه أمثلة لتقريب ذلك، فقال: والصواب: قول السلف: أنه ينزل ولا يخلو منه العرش، وروح العبد في بدنه لا تزال ليلا ونهارا إلى أن يموت، ووقت النوم تعرج وقد تسجد تحت العرش وهي لم تفارق جسده، وكذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، وروحه في بدنه، وأحكام الأرواح مخالف لأحكام الأبدان، فكيف بالملائكة؟ فكيف برب العالمين؟ والليل يختلف: فيكون ثلث الليل بالمشرق قبل ثلثه بالمغرب ونزوله الذي أخبر به رسوله إلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم وإلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم، لا يشغله شأن عن شأن، وكذلك سبحانه لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، بل هو سبحانه يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم لا يشغله هذا عن هذا، وقد قيل لابن عباس: كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم كلهم في ساعة واحدة، والله سبحانه في الدنيا يسمع دعاء الداعين ويجيب السائلين مع اختلاف اللغات وفنون الحاجات، والواحد منا قد يكون له قوة سمع يسمع كلام عدد كثير من المتكلمين، كما أن بعض المقرئين يسمع قراءة عدة، لكن لا يكون إلا عددا قليلا قريبا منه، ويجد في نفسه قربا ودنوا وميلا إلى بعض الناس الحاضرين والغائبين دون بعض، ويجد تفاوت ذلك الدنو والقرب، والرب تعالى واسع عليم، وسع سمعه الأصوات كلها وعطاؤه الحاجات كلها، ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان: إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى، وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثيرين من الناس، من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا. اهـ.
.--[مركز الفتوى]-------------------------------------------------------------------------------------------------------فليس معنى نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا أن الله سبحانه يحل فيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، قال شيخ الإسلام: وَالرَّبُّ رَبٌّ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ، لَيْسَ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ: وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ يَعْتَقِدُ حُلُولَ الرَّبِّ تَعَالَى بِهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا اتِّحَادَهُ بِهِ. انتهى.
ونزوله تعالى إلى السماء الدنيا إنما هو نزول حقيقي يليق بجلاله سبحانه، ولا يعرف كيفيته إلا هو عز وجل، ولا ينافي استواءه على العرش، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب السلف والأئمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش لا يكون تحت المخلوقات ولا تكون المخلوقات محيطة به قط، بل هو العلي الأعلى: العلي في دنوه، القريب في علوه، ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات، ولكن طائفة من الناس قد يقولون: إنه ينزل ويكون العرش فوقه ويقولون: إنه في جوف السماء وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه، وهؤلاء ضلال جهال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول، كما أن النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول، فالحلولية والمعطلة متقابلان. انتهى.[مركز الفتوى]

محمدعبداللطيف
2016-06-09, 09:37 PM
قال الشيخ علوي السقاف في كتاب صفات الله عزوجل:

"اعلم أنَّ أهل السنة والجماعة من السلف وأهل الحديث يعتقدون أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قريب من عباده حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته ، وهو مستوٍ على عرشه ، بائنٌ من خلقه ، وأنه يتقرَّب إليهم حقيقة ، ويدنو منهم حقيقة ، ولكنهم لا يفسرون كلَّ قربٍ وَرَدَ لفظه في القرآن أو السنة بالقرب الحقيقي ؛ فقد يكون القرب قرب الملائكة ، وذلك حسب سياق اللفظ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/466) : ((وأما دنوه وتقربه من بعض عباده ؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ، ومجيئه يوم القيامة ، ونزوله ، واستواءه على العرش ، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث ، والنقل عنهم بذلك متواتر)).اهـ.
ويقول في موضعٍ آخر من ((الفتاوي)) (6/14) : ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه ، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة ، وينظر في النص الوارد ، فإن دل على هذا ؛ حُمل عليه ، وإن دل على هذا ؛ حُمل عليه ، وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء)). اهـ.

محمدعبداللطيف
2016-06-09, 09:43 PM
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ((الفتاوى)) (6/14)"
"المسألة الثانية في ـ قربه ـ الذي هو من لوازم ذاته‏:‏ مثل العلم والقدرة فلا ريب أنه قريب بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه لم يزل بهم عالما ولم يزل عليهم قادرا هذا مذهب جميع أهل السنة وعامة الطوائف إلا من ينكر علمه القديم من القدرية والرافضة ونحوهم أو ينكر قدرته على الشيء قبل كونه من الرافضة والمعتزلة وغيرهم‏.‏ ـ وأما قربه بنفسه من مخلوقاته ـ قربا لازما في وقت دون وقت؛ ولا يختص به شيء‏:‏ فهذا فيه للناس قولان‏.‏ فمن يقول هو بذاته في كل مكان يقول بهذا ومن لا يقول بهذا لهم أيضا فيه قولان‏.‏ أحدهما إثبات هذا القرب وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية وغيرهم يقولون‏:‏ هو فوق العرش ويثبتون هذا القرب‏.‏ وقوم يثبتون هذا القرب؛ دون كونه على العرش‏.‏ وإذا كان قرب عباده منه نفسه وقربه منهم ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه بل يبقى هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد فإن دل على هذا حمل عليه وإن دل على هذا حمل عليه وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء‏.‏ وإن كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِد‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا‏}-----------تابع

محمدعبداللطيف
2016-06-09, 09:51 PM
‏---فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة ودلالة نص عليها يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ - حيث ورد - دالا على الصفة وظاهرا فيها‏.‏ ثم يقول النافي‏:‏ وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا‏.‏ وقد يقول بعض المثبتة‏:‏ دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك؛ بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى - إضافة صفة - من آيات الصفات‏.‏ كقوله تعالى‏:‏‏{‏فَر َّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ من الآية56‏]‏‏.‏
وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة وهذا من أكبر الغلط فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه‏.‏ وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية وهذا موجود في أمر المخلوقين يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات‏.‏ وأنا أذكر لهذا مثالين نافعين، أحدهما صفة الوجه فإنه لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث والمتكلمة الصفاتية‏:‏ من الكلابية والأشعرية والكرامية وكان نفيها مذهب الجهمية‏:‏ من المعتزلة وغيرهم ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنها ليست صفة فكذلك غيرها‏.‏ مثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة حتى عدها ـ أولئك ـ كابن خزيمة مما يقرر إثبات الصفة وجعل ـ النافية ـ تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع‏.‏ ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود وكنت قد قلت‏:‏ أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئا مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب ـ الأسماء والصفات ـ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه‏}‏ فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد قبلة الله فقال أحد كبرائهم - في المجلس الثاني - قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل فوقع في قلبي ما أعد فقلت‏:‏ لعلك قد ذكرت ما روي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه‏}‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ المراد بها قبلة الله فقال‏:‏ قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف‏.‏ ولم يكن هذا السؤال يرد علي؛ فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه ولا أثبتها لكن طلبوها من حيث الجملة وكلامي كان مقيدا كما في الأجوبة فلم أر إحقاقهم في هذا المقام بل قلت هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا ولا تندرج في عموم قول من يقول‏:‏ لا تؤول آيات الصفات‏.‏ قال‏:‏ أليس فيها ذكر الوجه فلما قلت‏:‏ المراد بها قبلة الله‏.‏ قال‏:‏ أليست هذه من آيات الصفات ‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ ليست من موارد النزاع فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه - هنا - القبلة فإن ‏[‏الوجه‏]‏ هو الجهة في لغة العرب يقال‏:‏ قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا ‏[‏الوجه‏]‏ أي‏:‏ إلى هذه الجهة وهذا كثير مشهور فالوجه هو الجهة‏.‏ وهو الوجه‏:‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏ أي متوليها فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ كلتا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان وكلاهما في شأن القبلة والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين‏:‏ أنا نوليه‏:‏ نستقبله‏.‏ قلت‏:‏ والسياق يدل عليه لأنه قال‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ‏}‏ وأين من الظروف وتولوا أي تستقبلوا‏.‏ فالمعنى‏:‏ أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏} ‏ وهي الجهات كلها كما في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏‏.‏ فأخبر أن الجهات له فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة الله وقبلة الله‏.‏ ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله ولكن يقول‏:‏ هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه‏)‏ وكما في قوله‏:‏ ‏(‏لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلا عليه فإذا انصرف صرف وجهه عنه‏)‏؛ ويقول‏:‏ إن الآية دلت على المعنيين‏.‏ فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه‏.‏ والغرض أنه إذا قيل‏:‏ ـ فثم قبلة الله ـ لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه؛ الذي ينكره منكرو تأويل آيات الصفات؛ ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة فإن هذا المعنى صحيح في نفسه والآية دالة عليه وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر ويبقى دلالة قولهم‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ اللّه‏}‏ ‏[‏البقرة 115‏]‏على فثم قبلة الله هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد ‏؟‏ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله ‏؟‏ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها‏.‏ والمثال الثاني‏:‏ لفظة ‏[‏الأمر‏]‏ فإن الله تعالى لما أخبر بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس 82‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر‏}‏ ‏[‏الأعراف 54‏]‏ واستدل طوائف من السلف على أن الأمر غير مخلوق بل هو كلامه وصفة من صفاته بهذه الآية وغيرها صار كثير من الناس يطرد ذلك في لفظ الأمر حيث ورد فيجعله صفة طردا للدلالة ويجعل دلالته على غير الصفة نقضا لها وليس الأمر كذلك؛ فبينت في بعض رسائلي‏:‏ أن الأمر وغيره من الصفات يطلق على الصفة تارة وعلى متعلقها أخرى؛ ـ فالرحمة ـ صفة لله ويسمى ما خلق رحمة والقدرة من صفات الله تعالى ويسمى ـ المقدور ـ قدرة ويسمى تعلقها ـ بالمقدور ـ قدرة والخلق من صفات الله تعالى ويسمى خلقا والعلم من صفات الله ويسمى المعلوم أو المتعلق علما؛ فتارة يراد الصفة وتارة يراد متعلقها وتارة يراد نفس التعلق‏.‏ و ـ الأمر ـ مصدر فالمأمور به يسمى أمرا ومن هذا الباب سمي عيسى - صلى الله عليه وسلم - كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة وكائن بالكلمة وهذا هو الجواب عن سؤال الجهمية لما قالوا‏:‏ عيسى كلمة الله فهو مخلوق والقرآن إذا كان كلام الله لم يكن إلا مخلوقا؛ فإن عيسى ليس هو نفس كلمة الله وإنما سمي بذلك لأنه خلق بالكلمة على خلاف سنة المخلوقين فخرقت فيه العادة وقيل له‏:‏ كن فكان‏.‏ والقرآن نفس كلام الله‏.‏ فمن تدبر ما ورد في ـ باب أسماء الله تعالى وصفاته ـ وإن دلالة ذلك في بعض المواضع على ذات الله‏.‏ أو بعض صفات ذاته لا يوجب أن يكون ذلك هو مدلول اللفظ حيث ورد حتى يكون ذلك طردا للمثبت ونقضا للنافي؛ بل ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرآن والدلالات فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما مطلقا ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه فهو نافع في كل علم خبري أو إنشائي وفي كل استدلال أو معارضة‏:‏ من الكتاب والسنة وفي سائر أدلة الخلق‏.‏ فإذا كان العبد لا يمتنع أن يتقرب من ربه وأن يقرب منه ربه بأحد المعنيين المتقدمين أو بكليهما؛ لم يمتنع حمل النص على ذلك إذا كان دالا عليه فإن لم يكن دالا عليه لم يجز حمله وإن احتمل هذا المعنى وهذا المعنى وقف‏.‏ فجواز إرادة المعنى في الجملة غير كونه هو المراد بكل نص‏.‏ وأما قربه اللازم من عباده‏:‏ بعلمه وقدرته وتدبيره فقد تقدم‏.‏ وتقدم ذكر الخلاف في قربه بنفسه قربا لازما وعرف المتفق عليه والمختلف فيه‏:‏ من قربه العارض واللازم؛ فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق 16‏]‏ من الناس طوائف عندهم لا يحتاج إلى تأويل ومنهم من يحوجها إلى التأويل‏.‏ ثم أقول هذه الآية لا تخلو إما أن يراد بها قربه سبحانه؛ أو قرب ملائكته؛ كما قد اختلف الناس في ذلك فإن أريد بها قرب الملائكة فقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَا نِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق 17‏]‏؛ فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه‏.‏ ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى‏}‏ ففسر ذلك بالقرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان وبأي معنى فسر؛ فإن علمه وقدرته عام التعلق وكذلك نفسه سبحانه لا يختص بهذا الوقت وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف 80‏]‏ ومنه قوله في أول السورة‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ‏}‏ ‏[‏ق 4‏]‏‏.‏ وعلى هذا فالقرب لا مجاز فيه‏.‏ وإنما الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ‏}‏ حيث عبر بها عن ملائكته ورسله أو عبر بها عن نفسه أو عن ملائكته ولكن قرب كل بحسبه‏.‏ فقرب الملائكة منه تلك الساعة وقرب الله تعالى منه مطلق؛ كالوجه الثاني إذا أريد به الله تعالى أي‏:‏ نحن أقرب إليه من حبل الوريد؛ فيرجع هذا إلى القرب الذاتي اللازم‏.‏ وفيه القولان‏.‏ أحدهما‏:‏ إثبات ذلك وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية‏.‏ والثاني‏:‏ أن القرب هنا بعلمه؛ لأنه قد قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏؛ فذكر لفظ العلم هنا دل على القرب بالعلم‏.‏ ومثل هذه الآية حديث أبي موسى‏:‏ ‏(‏إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏؛ فالآية لا تحتاج إلى تأويل القرب في حق الله تعالى إلا على هذا القول وحينئذ فالسياق دل عليه ومما دل عليه السياق هو ظاهر الخطاب؛ فلا يكون من موارد النزاع‏.‏ وقد تقدم أنا لا نذم كل ما يسمى تأويلا مما فيه كفاية وإنما نذم تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة الكتاب والسنة والقول في القرآن بالرأي‏.‏ وتحقيق الجواب هو أن يقال‏:‏ إما أن يكون قربه بنفسه القرب اللازم ممكنا أو لا يكون‏.‏ فإن كان ممكنا لم تحتج الآية إلى تأويل وإن لم يكن ممكنا حملت الآية على ما دل عليه سياقها وهو قربه بعلمه‏.‏ وعلى هذا القول فإما أن يكون هذا هو ظاهر الخطاب الذي دل عليه السياق أو لا يكون‏.‏ فإن كان هو ظاهر الخطاب فلا كلام؛ إذ لا تأويل حينئذ‏.‏ وإن لم يكن ظاهر الخطاب؛ فإنما حمل على ذلك لأن الله تعالى قد بين في غير موضع من كتابه أنه على العرش وأنه فوق فكان ما ذكره في كتابه في غير موضع أنه فوق العرش مع ما قرنه بهذه الآية من العلم دليلا على أنه أراد قرب العلم؛ إذ مقتضى تلك الآيات ينافي ظاهر هذه الآية على هذا التقدير والصريح يقضي على الظاهر ويبين معناه‏.‏ ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة وإن سمي تأويلا وصرفا عن الظاهر فذلك لدلالة القرآن عليه ولموافقة السنة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن؛ ليس تفسيرا له بالرأي‏.‏ والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين كما تقدم‏.‏ وللإمام أحمد - رحمه الله تعالى - رسالة في هذا النوع وهو ذكر الآيات التي يقال‏:‏ بينها معارضة وبيان الجمع بينها وإن كان فيه مخالفة لما يظهر من إحدى الآيتين أو حمل إحداهما على المجاز‏.‏ وكلامه في هذا أكثر من كلام غيره من الأئمة المشهورين؛ فإن كلام غيره أكثر ما يوجد في المسائل العملية وأما المسائل العلمية فقليل‏.‏ وكلام الإمام أحمد كثير في المسائل العلمية والعملية لقيام الدليل من القرآن والسنة على ذلك ومن قال‏:‏ إن مذهبه نفي ذلك فقد افترى عليه والله أعلم‏.‏ والكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان‏}‏ ‏[‏البقرة 186‏]‏ مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا؛ إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏ فمن حمله على قرب نفسه قربا لازما أو عارضا فلا كلام ومن قال‏:‏ المراد كونه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم وما يتبع ذلك‏.‏ قال‏:‏ دل عليه السياق فلا يكون خلاف الظاهر‏.‏ أو يقول‏:‏ دل عليه ما في القرآن والسنة من النصوص التي تدل على أنه فوق العرش فيكون تفسير القرآن وتأويله بالكتاب والسنة وهذا لا محذور فيه‏.‏ واعلم أن من الناس من سلك هذا المسلك في نفس ـ المعية ـ ويقول‏:‏ إنه محمول على ما دل عليه السياق‏.‏ وإن كان خلاف ظاهر الإطلاق أو محمول على خلاف الظاهر لدلالة الآيات أن الله فوق العرش ويجعل بعض القرآن يفسر بعضا لكن نحن بينا أنه ليس في ظاهر المعية ما يوجب ذلك؛ لأنا وجدنا جميع استعمالات ـ مع ـ في الكتاب والسنة لا توجب اتصالا واختلاطا فلم يكن بنا حاجة إلى أن نجعل ظاهره الملاصقة ثم نصرفه‏.‏ فأما لفظ ‏[‏القرب‏]‏ فهو مثل لفظ ‏[‏الدنو‏]‏ وضد القرب البعد فاللفظ ظاهر في اللغة‏.‏ فإما أن يحمل عليه وإما أن يحمل على ما يقال إنه الظاهر الذي دل عليه السياق أو على خلاف الظاهر لدلالة بقية النصوص‏.‏ وقد روى الطبراني وغيره‏:‏ أن ‏(‏ناسا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان‏}‏‏)‏‏. ‏ وصلى الله على محمد"‏.‏

محمدعبداللطيف
2016-06-09, 09:58 PM
أبو حيان التوحيدي ترجمته في السير للإمام الذهبي الجزء 17:

- أبو حيان التوحيدي -هو أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الادبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية. قال ابن بابي في كتاب " الخريدة والفريدة ": كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لامور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل، ولقد وقف سيدنا الوزير الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدغله ويخفيه من سوء الاعتقاد، فطلبه

ليقتله، فهرب، والتجأ إلى أعدائه، ونفق عليهم تزخرفه وإفكه، ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته، وما يبطنه من الالحاد، ويرومه في الاسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح، فطلبه الوزير المهلبي، فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله، ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية