القارئ المليجي
2011-06-19, 04:44 PM
المقدمة
الحمد لله الذي تكفل بحفظ كتابِهِ الكريم، فاصطفى له من العباد وارثين، وأنزله على سبعة أحرف؛ تيسيرًا على المؤمنين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آلِه وصحبه والتابعين، ومن تبعهم على الهدى إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فإن الله تعالى قد تكفَّل بحفظ كتابه الكريم؛ كما قال- سبحانه- في مُحكم آية: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وخص به ممن شاء من عباده؛ كما قال- تعالى- ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 32].
مِن أجل ذلك أقام الله لهذا القرآن المجيد أئمة ثقات، بذلوا أنفسهم في تصحيح حُرُوفه وإتقانه، وتلقوه من النبي- صلَّى الله عليه وسلم- حرفًا حرفًا، لَم يهملوا منه حركة ولا سكونًا، ولا إثباتًا ولا حذفًا، وبلغوه من بعدهم كما تلَقوه مِن فِي رسول الله- صلَّى الله عليه وسلم.
ثم تجرَّد للأخذ عن هؤلاء قومٌ أسهروا ليلهم في ضبط قراءة القرآن الكريم، وأتعبوا نهارهم في نقلها، حتى صاروا أئمة يُقتدى بهم، ولم يختلف عليهم اثنان في صحة روايتهم ودرايتهم.
ولِتَصَدِّيهم للقِراءة نُسِبَتْ إليهم، فثبتتْ قراءاتهم بالتواتُر، واشتهرتْ في الأمصار، وتلَقَّتْها الأمة بالقَبُول، ومع ذلك فإنه قد نُقل عن طائفة من علماء الأمة- على اختلاف مشاربهم- طعنٌ أو نقد أو تخطئة لبعض تلك القراءات، ولكلٍّ منهم وجْهته وعلّته في ذلك النقد والطعن.
ومن القراءات التي وُجِّه إليها الطعنُ والنقد قراءةُ الإمام حمزة، وهي إحدى قراءات القرآن الكريم السبعة الثابتة المنقولة بالتواتر، المنسوبة إلى ناقِلها الإمامِ المقرئ العابد الزاهد حمزة بن حبيب الزيات- رحمه الله- أحد القراء السبعة المشهورين.
ولا يخفى أن الطعن في قراءة منَ القِراءات المتواتِرة المشهورة المستفيضة في الأمة والمتلَقَّاة لديها بالقبول مِن قبَل علماء الأمة، يفتح بابًا لأعداء الدِّين للطعن في القرآن الكريم؛ بدعْوى أن علماء الإسلام أنفسهم قد طعنوا في شيءٍ منه، فتجلية تلك المطاعن والرد عليها تقطع الطريق على من يريد التسلُّح بها للنَّيْل مِن الدِّين القويم ووحيه المُبين.
ولذا قصدتُ في هذا البحث أن أُبَيِّن كل ما انتقد على الإمام حمزة مِن قراءات؛ إسهامًا في الذَّبِّ عن قراءة هذا الإمام العابد الزاهد، وتجلية لما حمل بعض السلف على نقد شيء من قراءته، وردًّا للمطاعن التي لا تمثل لمعارضة قراءةٍ متواتِرة من وحي الله تعالى، وبيانًا لوَجْه تلك القراءة وحُجيتها، سواء في أصول قراءته العامة، أو في فرش الحروف.
وإنما اخترتُ قراءة الإمام حَمْزة تحديدًا؛ لأنها أكثر قراءة طُعن فيها مِن بين القراءات العشر جميعها.
حتى إن بعض طلَبة العلم في هذا الزمان قد يقع في نُفُوسهم شيء من الوحشة نحو قراءة حمزة، وقد يُصَرِّحون بذلك، مع يقينهم بأن قراءات الأئمة العشرة - ومنهم الإمام حمزة - هي القراءات المتواترة التي تعتبر قرآنًا، وما عداها لا تثبت قرآنيتُه.
ولعل ذلك لما وقفوا عليه مما نقلٍ من كراهة بعض السلف لقراءة حمزة، دون أن يعرفوا علة ذلك ودوافعه.
وقد اطَّلَعتُ أثناء كتابة هذا البحث وبعد انتهائي منه على عددٍ من الكُتُب والرسائل في هذا الموضوع، وهي مختلفة في عرْضِها له، وهي كما يلي:
1- دفع الغمزة عن قراءة حمزة:
وهو بحث تخرج بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، للأخ الباحث: غازي بن بنيدر العمري، وقد أجاد فيه كثيرًا؛ إلا أنه لم يَتَعَرَّض للقراءات الفرشيَّة التي انتقدت على الإمام حمزة.
2- رد الكلام والشبُهات عن قراءة من المتواترات في الرد على الطعن في قراءة الإمام حمزة الكوفي؛ للشيخ: السيد بن أحمد عبد الرحيم، وقد تناول فيه ردودًا إجماليَّة على من طعن في قراءة حمزة، ونقل نصوصًا كثيرة من كلام الأئمة في ذلك، وذكر بعض الأبواب التي طعن فيها من قراءته.
3- رسالة في الرد على منَع قراءة حمزة والكسائي؛ للشيخ علي بن محمد توفيق النحاس، وهي كما يظهر من عنوانها ليستْ خاصة بقراءة حمزة، وإنما في قراءة حمزة والكسائي، وهي رسالة مخْتَصَرة، تَحَدَّثَ فيها الشيخ عن ثلاثة أمور، هي:
1- السبب في كراهية قراءة حمزة.
2- قراءة حمزة والكسائي جمعتا شُرُوط القراءة الصحيحة.
3- رد الأسباب التي مِنْ أجْلِها كُرهت قراءة حمزة والكسائي.
4- قراءات الإمام حمزة والانتصار لها؛ للأستاذ الدكتور سامي عبدالفتاح هلال، وقد جَعَلَهُ في ثلاثة مباحث رئيسة؛ المبحث الأول: في التعريف بالإمام حمزة، والمبحث الثاني: في قراءات الإمام حمزة التي انفرد بها من أول القرآن إلى آخره، ثم التي وافقه فيه أحد القُرَّاء الثلاثة المتممين للعشرة، ثم ذكر المواضع التي وقع فيها التلحين من قراءته إجمالاً، ثم ذكر أقوال العلماء في الدِّفاع عن القُرَّاء السبعة وقراءاتهم، وذكر أسباب اختلاف القُرَّاء والنُّحاة.
والمبحث الثالث: في دراسة القراءات التي وقَع الطعنُ حوْلها من بعض العلماء ومناقشة طعونهم- التي هي صُلب موضوع البحث- وقد تناوَلَ ستة مواضع من المواضع الفرشيَّة المنتَقَدة من قراءة حمزة.
ويُلاحظ على هذا البحث- مع جودته وإسهابة- ثلاثة أمور؛ هي:
أ- توسعه كثيرًا في عدة مباحث قبل ذكر القراءات المنتَقدة على الإمام حمزة والدفاع عنها، كترجمة حمزة وذكر شيوخه وتلاميذه ورواته وطُرُق قراءته وأقوال العلماء في فضْلِه ومكانته.
ب- أنه لَم يتناول أي باب من أبواب أصول قراءة حمزة التي طُعن فيها.
ت- أنه أدرج ضمن المواضع الستة التي ذكرها مما طعن فيه من قراءة حمزة موضعًا ليس خاصًّا بقراءة حمزة، وأغفل موضعًا انفرد حمزة بقراءته وطُعن فيه.
5- قراءة حمزة ورد ما اعترض به عليها؛ لعبدالله بن صالح بن محمد العبيد، وقد أوْرَدَ فيه بعد الترجمة للإمام حمزة أربعة اعتِراضات على قراءة حمزة؛ هي:
1- الكلام على حمزة نفسه.
2- الكلام على قراءته عامَّة، وفي الأصول خاصة.
3- الكلام على بعض قراءته في فرش الحروف، ومثَّل لها بمثالٍ واحد فقط، وهو قراءة ﴿ وَالْأَرْحَامِ ﴾ بالخَفْض.
4- أن في قراءة حمزة وغيره ما ليس بمتواتر، ثم أجاب عن هذه الاعتراضات، باختصار.
ويُلاحظ أنَّ أغلب المؤَلَّفات في الدِّفاع عن قراءة حمزة تُعنى برَدِّ الطعن في الإمام حمزة ذاته، أو في قراءته إجمالاً، وما نقل عن بعض السلف من كراهة قراءته، أو كراهة الصلاة بها، وقليل منها ما تناول الرَّد على الطعن في بعض أُصُول قراءته أو في مواضع مُعَينة من فرْشِ الحروف من قراءته.
ولذلك فإنِّي قصدتُ في هذا البحث إلى جَمع المواضع المنتَقَدة من قراءة حمزة؛ في أبواب الأصول، وفي فرش الحروف، ورد المطاعِن عنها، مع الاختصارِ في المقَدّمات؛ كترجمة ومكانة قراءته.
خطَّة البحث:
سِرْتُ في هذا البحْث وفْق الخطَّة التالية:
المقدِّمة: وبيَّنْتُ فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وخطة البحث، ومنهجي فيه.
الفصل الأول: ترجمة الإمام حمزة ومكانة قراءته، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ترجمة الإمام حمزة، وثناء العلماء عليه.
المبحث الثاني: مكانة قراءته وثناء العلماء عليها.
الفصل الثاني: رد الانتقادات على قراءة الإمام حمزة، وبيان وجه قراءته، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الرد على ما انتقد عليه في أصول قراءته العامة.
المبحث الثاني: الرد على ما انتقد عليه في بعض الكلمات الفرشيَّة.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم نتائج البحث.
وأخيرًا ثبت المصادر والمراجع.
منهجي في البحث:
• لَم أَتَوَسَّع في ترجمة الإمام حمزة- رحمه الله- لشُهرتها، ورغبة في الاختصار.
• عند ذكر الانتقادات الواردة في أصول قراءته أو في الكلمات الفرشية، أصدِّر ببيان كيفية قراءته في تلك الأبواب أو الكلمات الفرشيَّة.
• ثُم أذْكُر الطعن الموَجَّه إليها، ومَن ورد عنه ذلك الطعن، ووَجْه الطعن فيها.
• ثُم أَرُدُّ على ذلك الطعن، وأُوَضِّح وجه قراءة حمزة في كلِّ موضع منها.
• عَزَوْتُ الآيات الواردة بين قوسَيْن معكوفين في صُلب البحث تخفيفًا من الحواشي.
• خرجتُ الأحاديث المذكورة من مصادرها من كُتُب السُّنَّة، فإن كان في الصحيحَيْن أو أحدهما، فإنِّي أكتفي بتخريجه منهما، وإن كان في غيرهما، فإنِّي أنقُل حكم بعض أئمة الحديث في الحكم عليه.
• استشهدتُ بأقوال الأئمة في الرَّدِّ على ما انتقد من قراءة حمزة مع تَوْثِيقها من مصادرها.
هذا، وأسأل الله تعالى أن يجعلَه عمَلاً سديدًا ومُتَقَبَّلاً، وأسأله- سبحانه- أن يجعَلَنا مِن حَمَلة كتابه العالين به، المُدافعين عن عُلُومه، وأن يستعملَنا في طاعته.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحْبه وسلِّم.
الفصل الأول: ترجمة الإمام حمزة، ومكانة قراءته:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ترجمة الإمام حمزة، وثناء العلماء عليه:
أ- ترجمته[1]:
اسمه ونسبه وكنيته ولقبه:
حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزَّيَّات، الكوفي التميمي مولاهم، وأصله فارسي، وقيل: من صميمهم.
يُكَنَّى بأبي عمارة، ويُلَقَّب بـ(الزيات)، نسبة إلى بيع الزيت وجلبه ونقله من بلد إلى بلد[2]، وقد كان حمزة يُتاجر في الزيت.
مولده:
ولد سنة ثمانين، وأدرك الصحابة بالسن، فيحتمل أن يكون رأى بعضَهم.
نشأته وحياته وطلبه للعلم:
نشأ حمزة في الكوفة التي كانت مأوى العلماء من القُرَّاء والمحدثين والفقهاء، وقد نَزَلَها خلْقٌ من الصحابة، ثُمَّ كان بها جمع منَ التابعين؛ كعلقمة، ومسروق، والشعبي، والنَّخَعي، والأعمش، وأصحابهم[3].
وعنهم أخذ حمزة القرآن والفرائض، ولا غرو؛ فهو تلميذ تلاميذ ابن مسعود وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما - وأحكمالقراءة وله خمس عشرة سنة، وأَمَّ الناس مائة؛ أي: وعمره عشرون سنة، وتصدَّر للإقراء مدة، وقرأ عليه خلْقٌ كثير.
وكان يعيش على التجارة، فكان يجلب الزيت من العراق إلى حلوان[4]، ويجلب من حلوان الجوز والجبن إلى الكوفة، فيمكث سنة في الكوفة وسنة بحلوان.
شيوخه:
أَخَذَ الإمام حمزة عن عددٍ كبيرٍ العلماء، ومِنْ أشهرهم:
أ- في القراءة:
1- جعفر الصادق بن محمد بن علي بن أبي طالب (ت 148 هـ).
2- حمران بن أعين أبو حمزة الكوفي (ت حدود 130 هـ).
3- سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكوفي (ت 148 هـ).
4- عاصم بن أبي النجود الكوفي (ت 127 هـ)
5- عمرو بن عبدالله بن علي أبو إسحاق السبيعي الكوفي (ت 132 هـ).
6- محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى أبو عبدالرحمن الأنصاري الكوفي (ت 148 هـ).
ب- في الحديث:
1- حبيب بن أبي ثابت أبو يحيى القرشي (ت 119 هـ).
2- الحكم بن عتيبة أبو محمد الكوفي (ت 115 هـ).
3- طلحة بن مصرف الكفوي (ت 112 هـ).
4- عدي بن ثابت الأنصاري (ت 116 هـ).
5- عمرو بن مرة أبو عبدالله المرادي (ت 116 هـ).
6- منصور بن المعتمر الكوفي (ت 133 هـ).
تلاميذه:
قرأ على الإمام حمزة وأخذ عنه خَلْقٌ كثير جدًّا، حتى ذكر ابن الجزري خمسة وخمسين مِمن قرأ عليه[5]، وحدَّث عنه جَمْعٌ كبير، ومِنْ أشْهَر تلاميذه:
أ) في القراءة:
1- حماد بن سلمة بن دينار البصري (ت 167 هـ).
2- سفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ).
3- سليم بن عيسى (ت 188 هـ) وهو أضبط أصحابه.
4- علي بن حمزة الكسائي (ت 189 هـ)، أحد القُرَّاء السبعة، وهو مِن أَجَلِّ أصحابه.
5- يحيى بن زياد الفراء (ت 207 هـ).
ب) في الحديث:
1- سفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ).
2- سلام بن سليم أبو الأحوص الكوفي (ت 179 هـ).
3- شريك بن عبدالله النخَعي (ت 177 هـ).
4- عبدالله بن صالح العجلي الكوفي (ت حدود 220 هـ).
5- يحيى بن آدم سليمان أبو زكريا الصلحي (ت 203 هـ).
آثاره:
• على الرغم من اشتغال حمزة بالإقراء وكثرة من قرأ عليه، فإنَّه قد ألَّف عدَّة مؤَلَّفات، وإن كان لا يدرى عن مآلها شيء،وهل هي ضمن ما فُقِد مِنْ تُراث الأمة العظيم؟ أو إنها لا تزال موجودة في إحدى البلدان؟ وتلك المؤلفات هي:
1- كتاب أسباع القرآن.
2- كتاب العدد.
3- كتاب الفرائض.
4- كتاب قراءة حمزة.
5- كتاب متشابه القرآن.
6- كتاب مقطوع القرآن وموْصُوله.
وفاته:
اختلفتِ المصادرُ في تاريخ وفاته، فجاء في بعضها أنه تُوُفِّي سنة أربع وخمسين ومائة، وفي بعضها أنه توُفِّي سنة ست وخمسين ومائة، وفي بعضها أنه توفِّي سنة ثمان وخمسين ومائة.
والذي يُرَجِّحه المحققون؛ كالذهبي، وابن الجزري، أنَّه توفي سنة ست وخمسين ومائة، ووصفا غير ذلك بالوهم.
مكانته وثناء العُلماء عليه:
كثُرَتْ أقوال الأئمة العلماء في الثناء على حمزة وتوْثيقه، ومِن تلك الأقوال ما يلي:
• قال الإمام أحمد: "حمزة الزيات ثِقَة في الحديث..." [6].
• ولما سأل الدارمي يحيى بن معين عن حمزة قائلاً: فحمزة ما حاله؟
قال ابن معين: "ثقة"[7].
• وقال الأعمش: "هذا حبْر القرآن"[8].
• وقال محمد بن فضيل: "ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة" [9].
• وقال أبو بكر بن مجاهد: "وكان حمزة متَّبعًا لآثار مَن أدرك من أئمة القراءة، عالمًا بالقراءة ومذاهبها"[10].
• وقال أبو القاسم الهذلي: "المقدم في عصره، الواحد في وقته... لا تكاد فضائله تُحصَى"[11].
• وقال الأندرابي: "وكان رجلاً صالحًا خيرًا فاضلاً قارئًا عالمًا، متَّبعًا آثار من قبله من الأئمة، معروفًا بالزُّهد، والصلاح، والورَع، والعفة، وكثرة العبادة، عالمًا بالفرائض، حسن اللفظ في التلاوة"[12].
• وقال ياقوت الحمَوي: "وكان إمامًا حجة ثبتًا رضيًّا، قيِّمًا بكتاب الله، بصيرًا بالفرائض، خبيرًا بالعربيَّة، حافظًا للحديث، عابدًا زاهدًا، خاشعًا قانتًا لله، ورعًا عديم النظير"[13]، ونحو ذلك؛ قاله الذهبي وابن الجزري[14].
• وقال السخاوي: "فكان حينئذٍ إمامَ عصْره بالكوفة وغيرها، وقُدوة أهل زمانه في القراءة؛ لِفَضْلِه وشرَف أخلاقه، واستقامة طرائِقه، وورعه وزُهده"[15].
• وقال أبو شامة: "ولَم يوصفْ أحَدٌ منَ السبعة القُرَّاء بما وصف به حمزة من الزهد والتحرُّز عن أخْذ الأَجْر على القرآن"[16].
المبحث الثاني: مكانة قراءته، وثناء العلماء عليها:
أ- مكانة قراءته:
اشتهرتْ قراءة الإمام حمزة وانتشرتْ في بعض الأمصار انتشارًا واسعًا، حتى إنَّ بعض هذه الأقطار لا يكاد أهلُها يعرفون غير قراءة حمزة.
وما هذا الانتشار إلا لأنَّ هذه القراءة تلَقَّتْها الأمةُ بالقَبول، ورضيها القُرَّاءُ والعلماء العُدُول، مما يدلُّ على أن ما نقل حمزة ثابتٌ متواترٌ؛ ولذا وجد من رجع عن ذلك، ومدح قراءة حمزة وأثنى عليها، بل منهم مَن قرأ بها.
وقد كانتْ قراءة حمزة هي الغالبة والشائعة عند أهْل القيروان، حتى قدم محمد بن عمر بن خيرون المعافري الأندلسي (ت 306 هـ) بقراءة نافِع إليها، فاجتمع عليه الناسُ، ورحل إليه القُرَّاء من الآفاق[17].
وفي الكوفة صار مُعظم أهلِها إلى قراءة حمزة، كما ذكر أبو عُبيد في "كتاب القِراءات"، ونقله عنه السَّخاوي في "جمال القُرَّاء"[18]، وأبو شامة في "المرْشد الوجيز"[19].
قال ابن مجاهد: "حدَّثني علي بن الحسين الطيالسي، قال: سمعتُ محمد بن الهيثم المقرئ يقول: أدركتُ الكوفة ومسجدها الغالب عليه قراءة حمزة، ولا أعلمني أدركتُ حلقة من حِلَق المسجد الجامع يقرؤون قراءة عاصم"[20].
وقد سبق ذكر بعض تلاميذ حمزة الذين أخذوا عنه القراءة، وقامُوا بالإقراء من بعده، وأكثرهم مِنْ أهل الكوفة، فمنهم مَن بقي فيها، وهم الأكثر، ولذلك انتشرتْ قراءته في الكوفة أكثر من غيرها، ومنهم مَنْ رَحَل إلى البلدان الأخرى؛ كالبصرة، والحجاز، ومصر، والشام.
قال الخطيب البغدادي: "أخبرني إبراهيم بن مخلد المعدل، حدَّثنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل- إملاء- حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا عبدالله بن الزبير الحميدي، قال: سمعتُ سفيان بن عيينة يقول: شيئان ما ضننتُ أنهما يجاوزان قنطرة الكوفة، وقد بلغا الآفاق، قراءة حمزة، ورأي أبي حنيفة"[21].
ب- ثناءُ العُلماء عليها:
وقد أثنى على قراءة حمزة جلَّة من العلماء من شيوخه فمن بعدهم؛ منهم شيخه المقرئ المحدث سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ)، فقد نقل الهذلي عنه قوله: "إن أردتُم أعلم مني بالقرآن فهذا الشاب، وكان إذا حضر قال الأعمش: هذا أعلمكم بكتاب الله"[22]؛ يعني: حمزة.
وكان الأعمش إذا رأى حمزة مُقبلاً قال: هذا حبْرُ القُرآن، وذكر حمزة عنده فقال: ذاك تُفَّاحة القُرَّاء، وسيد القُرَّاء[23].
وقال الإمام أبو حنيفة (ت 150 هـ) لحمزة: "شيئان غلبتنا عليهما، لسنا نُنازعك فيهما: القرآن والفرائض"[24].
وقال الإمام الحافظ أبو عبدالله سفيان بن سعيد الثَّوري (ت 161 هـ) الذي عرض على حمزة أربع مرات: "ما قرأ حمزة حرْفًا إلا بِأَثر"[25].
وقال الحافظ أبو عبدالله، شريك بن عبدالله النخَعي (ت 177 هـ) حين سُئل عن الهمز: "هذا حمزة يهمز، ما علمتُ بالكوفة أقرأ ولا أفضل منه"، وقال: "ومَن مِثْل حمزة؟"، وقرأ شريك فهمز، فقيل له: أتهمز وقريش لا تهمز؟ فقال: هذا سيدنا حمزة يهمز، أفلا أهمز أنا؟"[26].
وقال الإمام أبو صالح شعيب بن حرب المدائني البغدادي (ت 196 هـ): "كنتُ ألوم من يقرأ بقراءة حمزة حتى دخلتُ فقرأت عليه"، فكان يقول بعد ذلك لأصحاب الحديث: "تسألونني عن الحديث ولا تسألونني عن الدر؟ فقيل له: وما الدر؟ فقال: قراءة حمزة"[27].
الفصل الثاني: رد الانْتِقادات على قراءة الإمام حمزة، وبيان وجه قراءته.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الرَّد على ما انتقد عليه في أُصُول قراءته العامَّة.
1- باب الإمالة[28]:
وهي مِن أكثر ما انتقد على الإمام حمزة، وكرهها بعض السلف، وممن نقل عن كراهتها الإمام أحمد؛ حيث قال- وقد ذكرت له قراءة حمزة -: "أنا أكرهها، قيل له: وما تكرهه منها؟ قال: هذا الإدغام والإضجاع الشديد؛ مثل: ﴿ خاب ﴾ [طه 61]، و﴿ طاب ﴾ [النساء 3]، و﴿ حاق ﴾ [هود 8]"[29].
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: "قال أبي: أكره من قراءة حمزة الهمز الشديد والإضجاع"[30].
وقال حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280 هـ): "سمعتُ أحمد يكره الإمالة مثل: ﴿ وَالضُّحَى ﴾، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ [الشمس: 1]، وقال: أكره الخفض الشديد والإدغام"[31].
وقال ابن قدامة- مُعَلِّلاً كراهة الإمام أحمد لقراءة حمزة -: "لما فيها من الكسر والإدغام والتَّكَلُّف وزيادة المد"[32].
ونقل الذهبي عن يعقوب بن شيبة قوله: "سمعتُ علي بن المديني وجعل يذم قراءة حمزة، وقال: إنما أنزل القرآن بلغة قريش، وهي التفخيم"[33].
ومما احتجوا به لكراهة الإمالة حديث: "أنزل القرآن بالتفخيم"[34].
الرَّدُّ على ذلك، وبيان وَجْه القراءة:
قَبْل الشَّرُوع في بيان وجْه الإمالة، والرد على مَن انتقدها، أُذَكِّر بما سبق من أنَّ قراءة حمزة مُتواتِرة، قد تلَقَّتْها الأمةُ بالقَبول، وأن حمزة- رحمه الله- لَم يقرأْ حرفًا مِنْ كتاب الله إلا بأثرٍ، كما نَصَّ على ذلك شيخه سليمان بن مهران الأعمش، وتلميذه سفيان الثوري- رحمها الله- وهذا أمرٌ يردّ به إجمالاً على ما انتقد عليه في هذا الباب وغيره من الأبواب وفي جميع ما انتقد عليه.
ويرد هنا خصوصًا بأنَّ الإمالة لغة من لغات العرب، نزَل القرآن بها، وهي منَ الأحرُف السبعة، التي نُقلَتْ بالتواتر.
قال السخاوي: "والإمالة والتفخيم لُغتان، وبجميع ذلك نزَل القرآن، وليس بعض القراءة بذلك أوْلَى مِنْ بعْض، ولَم يزل نقل ذلك متواترًا من زمان رسول الله- صلَّى الله عليه وسلم- حتى وصل إلينا"[35].
ثُمَّ إنَّ الإمالة قد قرأ بها أكثر القراء[36] دون انتقاد على أحد منهم، قال الهذلي: "ولو كانت الإمالة مُحدثة لكان اعتراضُ النحويين عليها أكثر، كيف وما مِن أحد من القراء إلا ورُويَتْ عنه الإمالة، قلَّتْ أو كثُرتْ، ولم يعفها أحد منهم"[37].
وقال أيضا: "... والجملة بعد التطويل أن مَن قال: إن الله لَم ينزل القرآن بالإمالة، أخطأ وأعظم الفِرية على الله، وظن بالصحابة خِلاف ما هُم عليه من الورَع والتُّقى، وكيف يظن بهم ذلك، ولم يتركوا فِعْلاً مِنْ أفْعال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلم- لا قولاً ولا حركة إلا نقلوه وبيَّنُوه"[38].
وعلى هذا، فإنَّ كراهة مَن كره الإمالة في قراءة حمزة تحمل على ما سمعوه مِن مُبالغة ناقلي قراءة حمزة عنه، لا لما سمعوه من قراءته مباشرة، كما قال ابن الجزري: "وأما ما ذكر عن عبدالله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة، فإنَّ ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلاً عن حمزة، وما آفةُ الأخبار إلا رُواتها"[39].
فالإمام أحمد- رحمه الله- لَم يُعاصِرْ حمزة؛ بل وُلد بعد وفاته، فهو إنما كره ما سمعه من قراءة من بعد ممن ينتسب إلى القراءة بقراءة حمزة، وظن أنَّ حمزة يقرأ كذلك، ولَم تَكُنْ قراءته كذلك.
ومما يدلُّ على أن كراهتهم إنَّما هي لمبالغة النقلة قول علي بن عبدالصمد الطيالسي البغدادي (ت 289 هـ): "سألت أحمد بن حنبل عن الصلاة خلف مَن يقرأ بقراءة حمزة، فقال: أكرهه، قلت: يا أبا عبدالله إذا لم يدغم ولم يكسر؟ قال: إذا لم يدغم ولم يضجع فلا بأس به"[40].
وأمَّا الاستدلال بحديث: ((أنزل القرآن بالتفخيم)) وهو في المستدرك، قال الحاكم: صحيح، وقال الذهبي في التلخيص معقبا على تصحيحه: "قلت: لا والله، العوفي مُجمَع على ضعفه، وبكار ليس بعمدة، والحديث واهٍ مُنكر"[41].
فإنه مع ضعْفِه قد وجَّهه العلماء بوُجُوه أقوى وأظهر في المراد بالحديث[42]، منها: أنَّ المراد بالتفخيم تحريك أوساط الكلم بالضم والكسر، في المواضع المختلف فيها دون إسكانها؛ لأنه أشبع لها وأفخم، ويدل لذلك لفظ الحديث كاملاً، وهو: ((أنزل القرآن بالتفخيم؛ ﴿ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾ [آل عمران: 49]، و﴿ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴾ [المرسلات: 6]، و﴿ الصَّدَفَيْنِ ﴾ [الكهف: 96]، و﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وأشباه هذا في القرآن))[43].
وقال البيهقي في الجامع: "قال الحليمي- رحمه الله -: ومعنى هذا- والله أعلم- أن يقرأ على قراءة الرجال ولا خضع الصوت به، فيكون مثل كلام النساء، ولا يدخل في هذا كراهية الإمالة التي اختار بعض القراء.
وقد يجوز أن يكونَ القرآنُ نزل بالتفخيم، ورخص مع ذلك في إمالة ما يحسن إمالته على لسان جبريل- عليه السلام"[44].
ثم قال البيهقي: "وعلى هذا- إنْ صحَّ هذا الإسناد- فيجوز أن يكون نزول هذه الألفاظ كما رُوِي في هذا الخبر، ووردت الرُّخصة على لسان جبريل- عليه السلام- في قراءة بعضِها على ما ذهب إليه بعضُ القُرَّاء"[45].
وأمَّا ما ورد من القرآن نزل بلغة قريش، فقد أجاب عنه العلماء؛ قال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر: "ومعناه عندي في الأغلب- والله أعلم- لأنَّ غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات، مِن تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز"[46].
وقال أبو شامة موجهًا قول عثمان- رضي الله عنه -: "إنَّ القرآن نزَل بلُغة قريش": "قلت: أشار عثمان- رضي الله عنه- إلى أول نزوله، ثم إنَّ الله تعالى سهله على الناس، فجوز لهم أن يقرؤوه على لُغاتهم على ما سبق تقريره؛ لأنَّ الكلَّ لُغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربي مبين.
وأمَّا مَن أراد من غير العرب حفظه، فالمختار له أن يقرأه على لسان قُريش، وهذا- إن شاء الله تعالى- هو الذي كتب فيه عمر إلى ابن مسعود- رضي الله عنه -: "أقْرِئ الناس بلغة قريش"؛ لأنَّ جميع لغات العرب بالنسبة إلى غير العربي مستوية في التعَسُّر عليه، فإذًا لا بُدَّ من واحدة منها، فلغة النبي- صلَّى الله عليه وسلم- أوْلى له، وإن أُقْرِئ بغيرها مِن لُغات العرب فجائز، فيما لَم يخالف خط المصحف، وأمَّا العربي المجبول على لغة فلا يكلف لغة قريش، لتعسُّرها عليه، وقد أباح الله تعالى القراءة على لُغته، والله أعلم"[47].
2- باب الإدغام [48]:
وقد ورد عن بعض السلف كراهته مقرونا بالإمالة، كالمنقول آنفًا عن الإمام أحمد من قوله: "أنا أكرهها، قيل له: وما تكرهه منها؟ قال: هذا الإدغام والإضجاع الشديد"[49].
وقول حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280 هـ): "سمعتُ أحمد يكره الإمالة؛ مثل: ﴿ وَالضُّحَى ﴾، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾، وقال: أكره الخفْض الشديد والإدغام"[50].
وقول ابن قدامة- مُعلِّلاً كراهة الإمام أحمد القراءة حمزة -: "لما فيها منَ الكسْر والإدغام والتكَلُّف وزيادة المد"[51].
وزاد صاحب "الشرح الكبير": "ولأنها تَتَضَمَّن الإدغام الفاحش، وفيه إذهاب حُرُوف كثيرة من كتاب الله تعالى، ينقص بإدغام كل حرف عشر حسنات"[52].
الرَّد على ذلك، وبيان وجْه القراءة:
يُرَد على ذلك بأنَّ الإدغام أيضًا لُغة من لغات العرب، نزَل القرآن به، وهو من الأحْرُف السبعة التي نُقِلَتْ بالتواتُر.
وليس الإدغام خاصًّا بقراءة حمزة، بل يشترك جميع القراء في وُجُود الإدغام في قراءتِهم مع تفاوُتهم فيه قلَّة وكثرة، فالإدغامُ الصغير- وهو ما يكون الحرفُ الأول من المدغمَيْن ساكنًا- يشترك فيه عدد من القراء؛ نحو: ﴿ قَدْ جَعَلَ ﴾[مريم: 24]، و﴿ إِذْ تَبَرَّأَ ﴾ [البقرة: 166]، و﴿ هَلْ تَعْلَمُ ﴾ [مريم: 65]، و﴿ أَنْبَتَتْ سَبْعَ ﴾ [البقرة: 261]، وكذلك إدغام بعض الحروف التي قربت مخارجها؛ نحو: ﴿ يَغْلِبْ فَسَوْفَ ﴾ [النساء: 74]، و﴿ يُعَذِّبُ مَنْ ﴾ [المائدة: 40]، و﴿ ارْكَبْ مَعَنَا ﴾ [هود: 42]، و﴿ يُرِدْ ثَوَابَ ﴾ [آل عمران: 145]، و﴿ اتَّخَذْتُمُ ﴾ [البقرة: 51][53].
فكثيرٌ مِن مواضع الإدغام يشترك مع حمزة فيه عددٌ من القراء؛ بل إنَّ بعض تلك المواضع يدغمها بعض القُراء، ولا يدغمها حمزة.
فإذا كان الإدغامُ الوارد في قراءة حمزة مرْويًّا عن كثيرٍ منَ القُراء العشرة، وليس خاصًّا بحمزة وحده، فكيف ينتقد عليه وحده دونهم؟!
بل إن من أبواب الإدغام ما انفرد به أحد القراء دون غيره؛ كأبي عمرو البصري، في باب الإدغام الكبير[54]، ولم ينكر ذلك عليه رغم تفرُّده، فكيف يقبل ذلك منه، وينتقد على حمزة رغم مُوَافقته لغيره من القُرَّاء فيه؟!
وأيضًا فإنَّ كثيرًا مِن مواضِع الإدغام اتَّفق على إدغامِها القُراءُ العشرة جميعًا؛ نحو: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ ﴾ [البقرة: 256]، و﴿ قَالَتْ طَائِفَةٌ ﴾ [الأحزاب: 13]، و﴿ يُدْرِكْكُمُ ﴾ [النساء: 78].
فما ورد من كراهة بعض الأئمة للإدغام في قراءة حمزة يُقال فيه ما قيل في الإمالة من أنه من سوء صنيع الناقل الذي سمعه الإمام أحمد يقرأ بقراءة حمزة.
أو أن الإمام أحمد إنما كره ذلك؛ لظَنِّه أنه لَم يَكُن بأثر واتِّباعٍ للغة العرب، ويدل له ما نقله القاضي ابن أبي يعلى في ترجمة الطيب بن إسماعيل المقرئ أنه سأل الإمام أحمد فقال: "قلت له ما تكره من قراءة حمزة؟ قال: الكسر والإدغام، فقلت له: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ أين الألف واللام؟ فقال: إن كان هكذا فلا بأس"[55].
فلما مثل له بالإدغام الذي لا ينكره أحدٌ لِوُجُوبه في كلِّ القراءات والرِّوايات، قال: إن كان إدغام حمزة على هذه الشاكلة ونحوها مما تُجيزُه العربية وثبتت القراءة به، فلا بأس.
3- باب المد[56]:
وقد ورد انتقادُ المد في قراءة حمزة في قول ابن قدامه المذْكور آنفا- مُعَللاً كراهة الإمام أحمد لقراءة حمزة -: "لما فيها من الكسر والإدغام والتكَلُّف وزيادة المد"[57].
وورد انتقاد حمزة في مَدِّ التبرئة في لا النافية للجنس خاصة، عن مُلَّا علي القاري؛ حيث قال في شرحه على المقدمة الجزرية: "وكذا ما جاء من مد المبالغة للنفي في نحو: ﴿ لا رَيْبَ ﴾ [البقرة: 2] التي للتبرئة عن حمزة؛ فإنه لا يصحُّ من طريق الشاطبية وعامَّة أهل القراءة، بل هي رواية شاذَّة عند أهل الدِّراية"[58].
الرد على ذلك، وبيان وَجْه القراءة:
ويُرد على من انتقد حمزة في المد عمومًا بأنَّ إشباع المد (بمقدار ست حركات) لَم ينفرد به حمزة؛ بل هو مروي عن غيره منَ القُرَّاء، حيث أجْمع القُرَّاء على الإشباع في المد اللازم بأنواعه، وفي مدِّ السكون العارض وقفًا في أحد وجوهه الثلاثة[59].
كما أنَّ عددًا من القُراء والرواة قد وافَقوا حمزة في إشباع المد في ما يشبع فيه من المد المتَّصل والمنفصل[60].
فكيف ينتقد على حمزة ويكره المد في قراءته دون غيره مِمن وافَقه في ذلك.
بل إنَّ ورْشًا انفرد بإشباع بعض أنواع المد دون غيرهن؛ كالحال في مد البدل، في أحد الوجوه عنه، ومد اللين الواقع بعده هَمْزة في أحد الوجهَيْن عنه، فأكثر ورود المد المشبع إنما هو في رواية ورش، فكيف يقبل منه دون نقْد أو كراهة، وينتقد ويكره في قراءة حَمزة.
وأمَّا انتقاد مُلا علي القاري لِمَدِّ التبرئة ووصفه له بالشذوذ، فهو مردود بأنَّ هذه قراءة صحيحة متواترة، جاءتْ عن الإمام حمزة في أحد الوجهَيْن عنه من طريق طيبة النشر، وعدم وُرُودها من طريق الشاطبية لا يمنع وُرُودها وصحتها من طريق غيرها كالنشر وطيبته، وكم مِنْ قراءاتٍ صحَّتْ وتواترتْ عن الأئمة السبعة من غير طريق الشاطبية، وتلقَّتْها الأُمة بالقَبُول، ولَم تقلل مِنْ شأنها.
وقد أجاب الشيخ المرصفي عن قول القاري فقال: "والذي يظهر أن مُلا علي القاري لم يقرأ بما جاء في كتاب النشر، ولو قرأ القرآن الكريم بما جاء فيه ما رَدَّ المد للتعظيم لأصحاب القصر في المنفصل، ولا حكم بشذوذ قراءة حمزة بمد التبرئة، وكأنه كان يرى- رحمه الله- أنَّ كل قراءة جاءتْ عن الأئمة السبعة من غير طريق الشاطبية، فهي قراءةٌ شاذة، وهذا عجيبٌ من عالم كبير كالقاري!"[61].
وبهذا يَتَبَيَّن أنَّ ما علل به ابنُ قُدامة- لكراهة الإمام أحمد لقراءة حمزة من الزيادة في المد- مُنصرف إلى ما سمعه الإمام أحمد يقرأ بقراءة حمزة مبالغًا في مُدُودها، ويدلُّ لذلك نهي حمزة نفسه عن المبالغة في المد.
قال عبدالله بن صالح العجلي: "قرأ أخ لي أكبر منِّي على حمزة، فجعل يمد، فقال له حمزة: لا تفعل، أمَا علِمْتَ أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط، وما كان فوق البياض فهو برص، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة"[62].
وقال السخاوي: "وقد عاب قوم قراءة حمزة- رحمه الله- وإنما كان يأخذ المبتدئين بالتأنِّي والترتيل، وينهاهم مع ذلك عن تجاوُز الحد"[63].
وقال محمد بن الهيثم النخعي: "صلَّيتُ خلْف حمزة- رحمه الله- فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد...."[64].
4- باب الهمز:
والذي نقل عن السلف انتقاده وكراهته من قراءة حمزة في باب الهمز أمران في حالَيْن مختلِفَيْن:
الأول: تحقيق الهمز وتبْيينه، قال أبو بكر بن الخلاَّل: "أخبرنا أحمد بن يزيد الوَرَّاق، قال: سمعتُ أحمد بن حنبل يُسأل عن الهمز الشديد، فقال: لا يُعجبني الهمز الشديد"، وبالسند نفسه قال: "سمعتُ أحمد بن حنبل يُسأل عن الهمز في القرآن، فقال: تعجبني القراءة السهلة"[65].
وسُئل الإمام أحمد عن الهمز في القراءة، فقال: "الكوفيون أصحاب همز، وقريش لا تهمز"[66].
والثاني: تخفيف الهمز في حالة الوقف بأنواع من التغيير؛ كالإبدال، والنقل، والحذف، قال ابن حجر: "قرأتُ بخط الذهبي- معللا لمن كره قراءة حمزة- يريد ما فيها من المد المفرط والسكت وتغيير الهمز في الوقف..."[67].
الرد على ذلك، وبيان وجْه القِراءة:
يُرَدُّ على الأول بأن حمزة لَم ينفردْ بتحقيق الهمز؛ بل هو من الكوفيين الذين يُحَقِّقون الهمز في أحوال عديدة[68]، فليس حمزة أكثر القُرَّاء تحقيقًا للهمز، ولا أشدهم تبيينًا له؛ بل إنَّ حمزة كان يُنكر المبالَغة في الهمز، فقد نقل السخاوي أنَّ رجُلاً قال لحمزة: "يا أبا عمارة، رأيت رجلاً من أصحابك في الزياتين همز حتى انقطع زره! فقال: لَم آمرهم بهذا كله"[69].
وغاية ما نقل عنه في تحقيق الهمز أنه كان يفعل ذلك حالة تعليم الطلاب؛ لتَدْرِيبهم على إتقان الهمز؛ لصعوبته.
ومما يدل على ذلك ما نقله السخاوي عن سفيان الثوري- رحمه الله- أنه وقف على حمزة فقال: "يا أبا عمارة، ما هذا الهمز والقطع الشديد؟ فقال: يا أبا عبدالله هذه رياضة المتَعَلِّم، قال: صدقت"[70].
فبين حمزة- رحمه الله- وجهته في صنيعه مع تلاميذه، وأن ذلك التحقيق والتدقيق إنما هو ترْويض للمتعلمين وتدريب لهم، حتى إذا ما أتقنوا لَم يحتاجوا لذلك.
ولذا لَمَّا أجابه بقوله: هذا رياضة المتَعَلِّم، لَم يبق في نفسه إنكار أو نقد أو كراهة، بل قال: صدقْتَ.
ومما يؤيد ذلك قول محمد بن الهيثم النخغي: "صليتُ خلْف حمزة- رحمه الله- فكان لا يمدُّ في الصلاة ذلك المد الشديد، ولا يهمز الهمز الشديد"[71].
وقول سليم بن عيسى- أجل أصحاب حمزة وأضبطهم -: "قال حمزة: ترْك الهمز في المحاريب من الأستاذيَّة"[72].
ويرد على الثاني- وهو تخفيف حمزة للهمز في حال الوقف- بأنه أيضًا مما لَم ينفرد به، بل ورد عن غير واحد من القراء تخفيفه بأنواع من التخفيف، ومن ذلك ما ورد عن هشام أيضًا في حال الوقف على الهمز المتطرِّف[73]، وكنقل ورش لحركة الهمزة وحذفها، وكإبدال الهمز الساكن لورش والسوسي وأبي جعفر، وكالحذف، وكالحذف لأبي جعفر، ونحو ذلك[74].
قال ابن الجزري: "ولَما كان الهمزُ أثقل الحروف نطقًا، وأبعدها مخرجًا، تنوَّع العربُ في تخفيفه بأنواع التخفيف؛ كالنقل، والبدل، وبين بين، والإدغام، وغير ذلك، وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفًا، ولذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش وغيره، وكأبي جعفر مِنْ أكثر رواياته، ولا سيما رواية العمري عن أصحابه عنه، فإنه لَم يكدْ يحقق همزة وصلاً، وكابن محيص قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده، وكأبي عمرو فإن مادة قراءته عن أهل الحجاز، وكذلك عاصم من رواية الأعشى عن أبي بكر، من حيث إنَّ روايته ترجع إلى ابن مسعود"[75].
5- باب السكت[76] على الساكن قبل الهمْز:
وهو من الأبواب التي اشتهرت بها قراءة حمزة، حيث يسكت على الساكن الآخر الصحيح الواقع قبل الهمز في نحو: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ [البقرة: 62]، و﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾ [المؤمنون: 1]، ويسكت على الياء الساكنة من لفظ ﴿ شَيْءٍ ﴾ [البقرة: 20] كيف وقعتْ؛ مرفوعة، أو منصوبة، أو مجرورة، ويسكت على (أل) التعريف حيث وقعتْ نحو: ﴿ الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 11]، و﴿ الْإِنْسَانُ ﴾ [النساء: 28]، ونحو ذلك[77].
ولعل ما نُقل مِن كراهة بعض السلَف للهمز الشديد عند حمزة يصدُق على النُّطق بالهمز بعد السكت على الساكن قبله؛ إذ بالسكت يتحقَّق النُّطق بالهمز وعد تحقيقه.
ومن أقوالهم الواضحة في انتقاد السكت واستنكاره نقل السخاوي السالف عن الثوري- رحمه الله- أنه قال: "يا أبا عمارة، ما هذا الهمز والمد والقطع الشديد؟ فقال: يا أبا عبدالله هذه رياضة المتَعَلِّم، قال: صدَقْت"[78].
الرَّد على ذلك، وبيان وجْه القراءة:
ويرد على ذلك بمعرفة علَّة السكت على الساكن قبل الهمز، فقد ذكر العلماء أنَّ علة ذلك هي الاستعانة على إخراج الهمز وتحقيقه بالاستراحة قبله، لبُعد مخرجه وصعوبة النطق به[79].
ثم إن السكت وارد في قراءة غير حمزة، ومن ذلك سكتات حفص الأربع[80] التي انفرد بها من بين سائر الرواة، فلم تروَ عن أحد غيره، ومع ذلك لَم يَرِد انتقادها والطعن فيها عن أحدٍ أبدًا.
وهو أيضًا وارد عند جميع القراء في موضع واحد من القرآن، وهو قوله تعالى: ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28، 29]، في أحد الوجهَيْن عنهم وصلاً[81].
[يتبـع]
الحمد لله الذي تكفل بحفظ كتابِهِ الكريم، فاصطفى له من العباد وارثين، وأنزله على سبعة أحرف؛ تيسيرًا على المؤمنين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آلِه وصحبه والتابعين، ومن تبعهم على الهدى إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فإن الله تعالى قد تكفَّل بحفظ كتابه الكريم؛ كما قال- سبحانه- في مُحكم آية: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وخص به ممن شاء من عباده؛ كما قال- تعالى- ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 32].
مِن أجل ذلك أقام الله لهذا القرآن المجيد أئمة ثقات، بذلوا أنفسهم في تصحيح حُرُوفه وإتقانه، وتلقوه من النبي- صلَّى الله عليه وسلم- حرفًا حرفًا، لَم يهملوا منه حركة ولا سكونًا، ولا إثباتًا ولا حذفًا، وبلغوه من بعدهم كما تلَقوه مِن فِي رسول الله- صلَّى الله عليه وسلم.
ثم تجرَّد للأخذ عن هؤلاء قومٌ أسهروا ليلهم في ضبط قراءة القرآن الكريم، وأتعبوا نهارهم في نقلها، حتى صاروا أئمة يُقتدى بهم، ولم يختلف عليهم اثنان في صحة روايتهم ودرايتهم.
ولِتَصَدِّيهم للقِراءة نُسِبَتْ إليهم، فثبتتْ قراءاتهم بالتواتُر، واشتهرتْ في الأمصار، وتلَقَّتْها الأمة بالقَبُول، ومع ذلك فإنه قد نُقل عن طائفة من علماء الأمة- على اختلاف مشاربهم- طعنٌ أو نقد أو تخطئة لبعض تلك القراءات، ولكلٍّ منهم وجْهته وعلّته في ذلك النقد والطعن.
ومن القراءات التي وُجِّه إليها الطعنُ والنقد قراءةُ الإمام حمزة، وهي إحدى قراءات القرآن الكريم السبعة الثابتة المنقولة بالتواتر، المنسوبة إلى ناقِلها الإمامِ المقرئ العابد الزاهد حمزة بن حبيب الزيات- رحمه الله- أحد القراء السبعة المشهورين.
ولا يخفى أن الطعن في قراءة منَ القِراءات المتواتِرة المشهورة المستفيضة في الأمة والمتلَقَّاة لديها بالقبول مِن قبَل علماء الأمة، يفتح بابًا لأعداء الدِّين للطعن في القرآن الكريم؛ بدعْوى أن علماء الإسلام أنفسهم قد طعنوا في شيءٍ منه، فتجلية تلك المطاعن والرد عليها تقطع الطريق على من يريد التسلُّح بها للنَّيْل مِن الدِّين القويم ووحيه المُبين.
ولذا قصدتُ في هذا البحث أن أُبَيِّن كل ما انتقد على الإمام حمزة مِن قراءات؛ إسهامًا في الذَّبِّ عن قراءة هذا الإمام العابد الزاهد، وتجلية لما حمل بعض السلف على نقد شيء من قراءته، وردًّا للمطاعن التي لا تمثل لمعارضة قراءةٍ متواتِرة من وحي الله تعالى، وبيانًا لوَجْه تلك القراءة وحُجيتها، سواء في أصول قراءته العامة، أو في فرش الحروف.
وإنما اخترتُ قراءة الإمام حَمْزة تحديدًا؛ لأنها أكثر قراءة طُعن فيها مِن بين القراءات العشر جميعها.
حتى إن بعض طلَبة العلم في هذا الزمان قد يقع في نُفُوسهم شيء من الوحشة نحو قراءة حمزة، وقد يُصَرِّحون بذلك، مع يقينهم بأن قراءات الأئمة العشرة - ومنهم الإمام حمزة - هي القراءات المتواترة التي تعتبر قرآنًا، وما عداها لا تثبت قرآنيتُه.
ولعل ذلك لما وقفوا عليه مما نقلٍ من كراهة بعض السلف لقراءة حمزة، دون أن يعرفوا علة ذلك ودوافعه.
وقد اطَّلَعتُ أثناء كتابة هذا البحث وبعد انتهائي منه على عددٍ من الكُتُب والرسائل في هذا الموضوع، وهي مختلفة في عرْضِها له، وهي كما يلي:
1- دفع الغمزة عن قراءة حمزة:
وهو بحث تخرج بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، للأخ الباحث: غازي بن بنيدر العمري، وقد أجاد فيه كثيرًا؛ إلا أنه لم يَتَعَرَّض للقراءات الفرشيَّة التي انتقدت على الإمام حمزة.
2- رد الكلام والشبُهات عن قراءة من المتواترات في الرد على الطعن في قراءة الإمام حمزة الكوفي؛ للشيخ: السيد بن أحمد عبد الرحيم، وقد تناول فيه ردودًا إجماليَّة على من طعن في قراءة حمزة، ونقل نصوصًا كثيرة من كلام الأئمة في ذلك، وذكر بعض الأبواب التي طعن فيها من قراءته.
3- رسالة في الرد على منَع قراءة حمزة والكسائي؛ للشيخ علي بن محمد توفيق النحاس، وهي كما يظهر من عنوانها ليستْ خاصة بقراءة حمزة، وإنما في قراءة حمزة والكسائي، وهي رسالة مخْتَصَرة، تَحَدَّثَ فيها الشيخ عن ثلاثة أمور، هي:
1- السبب في كراهية قراءة حمزة.
2- قراءة حمزة والكسائي جمعتا شُرُوط القراءة الصحيحة.
3- رد الأسباب التي مِنْ أجْلِها كُرهت قراءة حمزة والكسائي.
4- قراءات الإمام حمزة والانتصار لها؛ للأستاذ الدكتور سامي عبدالفتاح هلال، وقد جَعَلَهُ في ثلاثة مباحث رئيسة؛ المبحث الأول: في التعريف بالإمام حمزة، والمبحث الثاني: في قراءات الإمام حمزة التي انفرد بها من أول القرآن إلى آخره، ثم التي وافقه فيه أحد القُرَّاء الثلاثة المتممين للعشرة، ثم ذكر المواضع التي وقع فيها التلحين من قراءته إجمالاً، ثم ذكر أقوال العلماء في الدِّفاع عن القُرَّاء السبعة وقراءاتهم، وذكر أسباب اختلاف القُرَّاء والنُّحاة.
والمبحث الثالث: في دراسة القراءات التي وقَع الطعنُ حوْلها من بعض العلماء ومناقشة طعونهم- التي هي صُلب موضوع البحث- وقد تناوَلَ ستة مواضع من المواضع الفرشيَّة المنتَقَدة من قراءة حمزة.
ويُلاحظ على هذا البحث- مع جودته وإسهابة- ثلاثة أمور؛ هي:
أ- توسعه كثيرًا في عدة مباحث قبل ذكر القراءات المنتَقدة على الإمام حمزة والدفاع عنها، كترجمة حمزة وذكر شيوخه وتلاميذه ورواته وطُرُق قراءته وأقوال العلماء في فضْلِه ومكانته.
ب- أنه لَم يتناول أي باب من أبواب أصول قراءة حمزة التي طُعن فيها.
ت- أنه أدرج ضمن المواضع الستة التي ذكرها مما طعن فيه من قراءة حمزة موضعًا ليس خاصًّا بقراءة حمزة، وأغفل موضعًا انفرد حمزة بقراءته وطُعن فيه.
5- قراءة حمزة ورد ما اعترض به عليها؛ لعبدالله بن صالح بن محمد العبيد، وقد أوْرَدَ فيه بعد الترجمة للإمام حمزة أربعة اعتِراضات على قراءة حمزة؛ هي:
1- الكلام على حمزة نفسه.
2- الكلام على قراءته عامَّة، وفي الأصول خاصة.
3- الكلام على بعض قراءته في فرش الحروف، ومثَّل لها بمثالٍ واحد فقط، وهو قراءة ﴿ وَالْأَرْحَامِ ﴾ بالخَفْض.
4- أن في قراءة حمزة وغيره ما ليس بمتواتر، ثم أجاب عن هذه الاعتراضات، باختصار.
ويُلاحظ أنَّ أغلب المؤَلَّفات في الدِّفاع عن قراءة حمزة تُعنى برَدِّ الطعن في الإمام حمزة ذاته، أو في قراءته إجمالاً، وما نقل عن بعض السلف من كراهة قراءته، أو كراهة الصلاة بها، وقليل منها ما تناول الرَّد على الطعن في بعض أُصُول قراءته أو في مواضع مُعَينة من فرْشِ الحروف من قراءته.
ولذلك فإنِّي قصدتُ في هذا البحث إلى جَمع المواضع المنتَقَدة من قراءة حمزة؛ في أبواب الأصول، وفي فرش الحروف، ورد المطاعِن عنها، مع الاختصارِ في المقَدّمات؛ كترجمة ومكانة قراءته.
خطَّة البحث:
سِرْتُ في هذا البحْث وفْق الخطَّة التالية:
المقدِّمة: وبيَّنْتُ فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وخطة البحث، ومنهجي فيه.
الفصل الأول: ترجمة الإمام حمزة ومكانة قراءته، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ترجمة الإمام حمزة، وثناء العلماء عليه.
المبحث الثاني: مكانة قراءته وثناء العلماء عليها.
الفصل الثاني: رد الانتقادات على قراءة الإمام حمزة، وبيان وجه قراءته، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الرد على ما انتقد عليه في أصول قراءته العامة.
المبحث الثاني: الرد على ما انتقد عليه في بعض الكلمات الفرشيَّة.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم نتائج البحث.
وأخيرًا ثبت المصادر والمراجع.
منهجي في البحث:
• لَم أَتَوَسَّع في ترجمة الإمام حمزة- رحمه الله- لشُهرتها، ورغبة في الاختصار.
• عند ذكر الانتقادات الواردة في أصول قراءته أو في الكلمات الفرشية، أصدِّر ببيان كيفية قراءته في تلك الأبواب أو الكلمات الفرشيَّة.
• ثُم أذْكُر الطعن الموَجَّه إليها، ومَن ورد عنه ذلك الطعن، ووَجْه الطعن فيها.
• ثُم أَرُدُّ على ذلك الطعن، وأُوَضِّح وجه قراءة حمزة في كلِّ موضع منها.
• عَزَوْتُ الآيات الواردة بين قوسَيْن معكوفين في صُلب البحث تخفيفًا من الحواشي.
• خرجتُ الأحاديث المذكورة من مصادرها من كُتُب السُّنَّة، فإن كان في الصحيحَيْن أو أحدهما، فإنِّي أكتفي بتخريجه منهما، وإن كان في غيرهما، فإنِّي أنقُل حكم بعض أئمة الحديث في الحكم عليه.
• استشهدتُ بأقوال الأئمة في الرَّدِّ على ما انتقد من قراءة حمزة مع تَوْثِيقها من مصادرها.
هذا، وأسأل الله تعالى أن يجعلَه عمَلاً سديدًا ومُتَقَبَّلاً، وأسأله- سبحانه- أن يجعَلَنا مِن حَمَلة كتابه العالين به، المُدافعين عن عُلُومه، وأن يستعملَنا في طاعته.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحْبه وسلِّم.
الفصل الأول: ترجمة الإمام حمزة، ومكانة قراءته:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ترجمة الإمام حمزة، وثناء العلماء عليه:
أ- ترجمته[1]:
اسمه ونسبه وكنيته ولقبه:
حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزَّيَّات، الكوفي التميمي مولاهم، وأصله فارسي، وقيل: من صميمهم.
يُكَنَّى بأبي عمارة، ويُلَقَّب بـ(الزيات)، نسبة إلى بيع الزيت وجلبه ونقله من بلد إلى بلد[2]، وقد كان حمزة يُتاجر في الزيت.
مولده:
ولد سنة ثمانين، وأدرك الصحابة بالسن، فيحتمل أن يكون رأى بعضَهم.
نشأته وحياته وطلبه للعلم:
نشأ حمزة في الكوفة التي كانت مأوى العلماء من القُرَّاء والمحدثين والفقهاء، وقد نَزَلَها خلْقٌ من الصحابة، ثُمَّ كان بها جمع منَ التابعين؛ كعلقمة، ومسروق، والشعبي، والنَّخَعي، والأعمش، وأصحابهم[3].
وعنهم أخذ حمزة القرآن والفرائض، ولا غرو؛ فهو تلميذ تلاميذ ابن مسعود وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما - وأحكمالقراءة وله خمس عشرة سنة، وأَمَّ الناس مائة؛ أي: وعمره عشرون سنة، وتصدَّر للإقراء مدة، وقرأ عليه خلْقٌ كثير.
وكان يعيش على التجارة، فكان يجلب الزيت من العراق إلى حلوان[4]، ويجلب من حلوان الجوز والجبن إلى الكوفة، فيمكث سنة في الكوفة وسنة بحلوان.
شيوخه:
أَخَذَ الإمام حمزة عن عددٍ كبيرٍ العلماء، ومِنْ أشهرهم:
أ- في القراءة:
1- جعفر الصادق بن محمد بن علي بن أبي طالب (ت 148 هـ).
2- حمران بن أعين أبو حمزة الكوفي (ت حدود 130 هـ).
3- سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكوفي (ت 148 هـ).
4- عاصم بن أبي النجود الكوفي (ت 127 هـ)
5- عمرو بن عبدالله بن علي أبو إسحاق السبيعي الكوفي (ت 132 هـ).
6- محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى أبو عبدالرحمن الأنصاري الكوفي (ت 148 هـ).
ب- في الحديث:
1- حبيب بن أبي ثابت أبو يحيى القرشي (ت 119 هـ).
2- الحكم بن عتيبة أبو محمد الكوفي (ت 115 هـ).
3- طلحة بن مصرف الكفوي (ت 112 هـ).
4- عدي بن ثابت الأنصاري (ت 116 هـ).
5- عمرو بن مرة أبو عبدالله المرادي (ت 116 هـ).
6- منصور بن المعتمر الكوفي (ت 133 هـ).
تلاميذه:
قرأ على الإمام حمزة وأخذ عنه خَلْقٌ كثير جدًّا، حتى ذكر ابن الجزري خمسة وخمسين مِمن قرأ عليه[5]، وحدَّث عنه جَمْعٌ كبير، ومِنْ أشْهَر تلاميذه:
أ) في القراءة:
1- حماد بن سلمة بن دينار البصري (ت 167 هـ).
2- سفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ).
3- سليم بن عيسى (ت 188 هـ) وهو أضبط أصحابه.
4- علي بن حمزة الكسائي (ت 189 هـ)، أحد القُرَّاء السبعة، وهو مِن أَجَلِّ أصحابه.
5- يحيى بن زياد الفراء (ت 207 هـ).
ب) في الحديث:
1- سفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ).
2- سلام بن سليم أبو الأحوص الكوفي (ت 179 هـ).
3- شريك بن عبدالله النخَعي (ت 177 هـ).
4- عبدالله بن صالح العجلي الكوفي (ت حدود 220 هـ).
5- يحيى بن آدم سليمان أبو زكريا الصلحي (ت 203 هـ).
آثاره:
• على الرغم من اشتغال حمزة بالإقراء وكثرة من قرأ عليه، فإنَّه قد ألَّف عدَّة مؤَلَّفات، وإن كان لا يدرى عن مآلها شيء،وهل هي ضمن ما فُقِد مِنْ تُراث الأمة العظيم؟ أو إنها لا تزال موجودة في إحدى البلدان؟ وتلك المؤلفات هي:
1- كتاب أسباع القرآن.
2- كتاب العدد.
3- كتاب الفرائض.
4- كتاب قراءة حمزة.
5- كتاب متشابه القرآن.
6- كتاب مقطوع القرآن وموْصُوله.
وفاته:
اختلفتِ المصادرُ في تاريخ وفاته، فجاء في بعضها أنه تُوُفِّي سنة أربع وخمسين ومائة، وفي بعضها أنه توُفِّي سنة ست وخمسين ومائة، وفي بعضها أنه توفِّي سنة ثمان وخمسين ومائة.
والذي يُرَجِّحه المحققون؛ كالذهبي، وابن الجزري، أنَّه توفي سنة ست وخمسين ومائة، ووصفا غير ذلك بالوهم.
مكانته وثناء العُلماء عليه:
كثُرَتْ أقوال الأئمة العلماء في الثناء على حمزة وتوْثيقه، ومِن تلك الأقوال ما يلي:
• قال الإمام أحمد: "حمزة الزيات ثِقَة في الحديث..." [6].
• ولما سأل الدارمي يحيى بن معين عن حمزة قائلاً: فحمزة ما حاله؟
قال ابن معين: "ثقة"[7].
• وقال الأعمش: "هذا حبْر القرآن"[8].
• وقال محمد بن فضيل: "ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة" [9].
• وقال أبو بكر بن مجاهد: "وكان حمزة متَّبعًا لآثار مَن أدرك من أئمة القراءة، عالمًا بالقراءة ومذاهبها"[10].
• وقال أبو القاسم الهذلي: "المقدم في عصره، الواحد في وقته... لا تكاد فضائله تُحصَى"[11].
• وقال الأندرابي: "وكان رجلاً صالحًا خيرًا فاضلاً قارئًا عالمًا، متَّبعًا آثار من قبله من الأئمة، معروفًا بالزُّهد، والصلاح، والورَع، والعفة، وكثرة العبادة، عالمًا بالفرائض، حسن اللفظ في التلاوة"[12].
• وقال ياقوت الحمَوي: "وكان إمامًا حجة ثبتًا رضيًّا، قيِّمًا بكتاب الله، بصيرًا بالفرائض، خبيرًا بالعربيَّة، حافظًا للحديث، عابدًا زاهدًا، خاشعًا قانتًا لله، ورعًا عديم النظير"[13]، ونحو ذلك؛ قاله الذهبي وابن الجزري[14].
• وقال السخاوي: "فكان حينئذٍ إمامَ عصْره بالكوفة وغيرها، وقُدوة أهل زمانه في القراءة؛ لِفَضْلِه وشرَف أخلاقه، واستقامة طرائِقه، وورعه وزُهده"[15].
• وقال أبو شامة: "ولَم يوصفْ أحَدٌ منَ السبعة القُرَّاء بما وصف به حمزة من الزهد والتحرُّز عن أخْذ الأَجْر على القرآن"[16].
المبحث الثاني: مكانة قراءته، وثناء العلماء عليها:
أ- مكانة قراءته:
اشتهرتْ قراءة الإمام حمزة وانتشرتْ في بعض الأمصار انتشارًا واسعًا، حتى إنَّ بعض هذه الأقطار لا يكاد أهلُها يعرفون غير قراءة حمزة.
وما هذا الانتشار إلا لأنَّ هذه القراءة تلَقَّتْها الأمةُ بالقَبول، ورضيها القُرَّاءُ والعلماء العُدُول، مما يدلُّ على أن ما نقل حمزة ثابتٌ متواترٌ؛ ولذا وجد من رجع عن ذلك، ومدح قراءة حمزة وأثنى عليها، بل منهم مَن قرأ بها.
وقد كانتْ قراءة حمزة هي الغالبة والشائعة عند أهْل القيروان، حتى قدم محمد بن عمر بن خيرون المعافري الأندلسي (ت 306 هـ) بقراءة نافِع إليها، فاجتمع عليه الناسُ، ورحل إليه القُرَّاء من الآفاق[17].
وفي الكوفة صار مُعظم أهلِها إلى قراءة حمزة، كما ذكر أبو عُبيد في "كتاب القِراءات"، ونقله عنه السَّخاوي في "جمال القُرَّاء"[18]، وأبو شامة في "المرْشد الوجيز"[19].
قال ابن مجاهد: "حدَّثني علي بن الحسين الطيالسي، قال: سمعتُ محمد بن الهيثم المقرئ يقول: أدركتُ الكوفة ومسجدها الغالب عليه قراءة حمزة، ولا أعلمني أدركتُ حلقة من حِلَق المسجد الجامع يقرؤون قراءة عاصم"[20].
وقد سبق ذكر بعض تلاميذ حمزة الذين أخذوا عنه القراءة، وقامُوا بالإقراء من بعده، وأكثرهم مِنْ أهل الكوفة، فمنهم مَن بقي فيها، وهم الأكثر، ولذلك انتشرتْ قراءته في الكوفة أكثر من غيرها، ومنهم مَنْ رَحَل إلى البلدان الأخرى؛ كالبصرة، والحجاز، ومصر، والشام.
قال الخطيب البغدادي: "أخبرني إبراهيم بن مخلد المعدل، حدَّثنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل- إملاء- حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا عبدالله بن الزبير الحميدي، قال: سمعتُ سفيان بن عيينة يقول: شيئان ما ضننتُ أنهما يجاوزان قنطرة الكوفة، وقد بلغا الآفاق، قراءة حمزة، ورأي أبي حنيفة"[21].
ب- ثناءُ العُلماء عليها:
وقد أثنى على قراءة حمزة جلَّة من العلماء من شيوخه فمن بعدهم؛ منهم شيخه المقرئ المحدث سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ)، فقد نقل الهذلي عنه قوله: "إن أردتُم أعلم مني بالقرآن فهذا الشاب، وكان إذا حضر قال الأعمش: هذا أعلمكم بكتاب الله"[22]؛ يعني: حمزة.
وكان الأعمش إذا رأى حمزة مُقبلاً قال: هذا حبْرُ القُرآن، وذكر حمزة عنده فقال: ذاك تُفَّاحة القُرَّاء، وسيد القُرَّاء[23].
وقال الإمام أبو حنيفة (ت 150 هـ) لحمزة: "شيئان غلبتنا عليهما، لسنا نُنازعك فيهما: القرآن والفرائض"[24].
وقال الإمام الحافظ أبو عبدالله سفيان بن سعيد الثَّوري (ت 161 هـ) الذي عرض على حمزة أربع مرات: "ما قرأ حمزة حرْفًا إلا بِأَثر"[25].
وقال الحافظ أبو عبدالله، شريك بن عبدالله النخَعي (ت 177 هـ) حين سُئل عن الهمز: "هذا حمزة يهمز، ما علمتُ بالكوفة أقرأ ولا أفضل منه"، وقال: "ومَن مِثْل حمزة؟"، وقرأ شريك فهمز، فقيل له: أتهمز وقريش لا تهمز؟ فقال: هذا سيدنا حمزة يهمز، أفلا أهمز أنا؟"[26].
وقال الإمام أبو صالح شعيب بن حرب المدائني البغدادي (ت 196 هـ): "كنتُ ألوم من يقرأ بقراءة حمزة حتى دخلتُ فقرأت عليه"، فكان يقول بعد ذلك لأصحاب الحديث: "تسألونني عن الحديث ولا تسألونني عن الدر؟ فقيل له: وما الدر؟ فقال: قراءة حمزة"[27].
الفصل الثاني: رد الانْتِقادات على قراءة الإمام حمزة، وبيان وجه قراءته.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الرَّد على ما انتقد عليه في أُصُول قراءته العامَّة.
1- باب الإمالة[28]:
وهي مِن أكثر ما انتقد على الإمام حمزة، وكرهها بعض السلف، وممن نقل عن كراهتها الإمام أحمد؛ حيث قال- وقد ذكرت له قراءة حمزة -: "أنا أكرهها، قيل له: وما تكرهه منها؟ قال: هذا الإدغام والإضجاع الشديد؛ مثل: ﴿ خاب ﴾ [طه 61]، و﴿ طاب ﴾ [النساء 3]، و﴿ حاق ﴾ [هود 8]"[29].
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: "قال أبي: أكره من قراءة حمزة الهمز الشديد والإضجاع"[30].
وقال حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280 هـ): "سمعتُ أحمد يكره الإمالة مثل: ﴿ وَالضُّحَى ﴾، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ [الشمس: 1]، وقال: أكره الخفض الشديد والإدغام"[31].
وقال ابن قدامة- مُعَلِّلاً كراهة الإمام أحمد لقراءة حمزة -: "لما فيها من الكسر والإدغام والتَّكَلُّف وزيادة المد"[32].
ونقل الذهبي عن يعقوب بن شيبة قوله: "سمعتُ علي بن المديني وجعل يذم قراءة حمزة، وقال: إنما أنزل القرآن بلغة قريش، وهي التفخيم"[33].
ومما احتجوا به لكراهة الإمالة حديث: "أنزل القرآن بالتفخيم"[34].
الرَّدُّ على ذلك، وبيان وَجْه القراءة:
قَبْل الشَّرُوع في بيان وجْه الإمالة، والرد على مَن انتقدها، أُذَكِّر بما سبق من أنَّ قراءة حمزة مُتواتِرة، قد تلَقَّتْها الأمةُ بالقَبول، وأن حمزة- رحمه الله- لَم يقرأْ حرفًا مِنْ كتاب الله إلا بأثرٍ، كما نَصَّ على ذلك شيخه سليمان بن مهران الأعمش، وتلميذه سفيان الثوري- رحمها الله- وهذا أمرٌ يردّ به إجمالاً على ما انتقد عليه في هذا الباب وغيره من الأبواب وفي جميع ما انتقد عليه.
ويرد هنا خصوصًا بأنَّ الإمالة لغة من لغات العرب، نزَل القرآن بها، وهي منَ الأحرُف السبعة، التي نُقلَتْ بالتواتر.
قال السخاوي: "والإمالة والتفخيم لُغتان، وبجميع ذلك نزَل القرآن، وليس بعض القراءة بذلك أوْلَى مِنْ بعْض، ولَم يزل نقل ذلك متواترًا من زمان رسول الله- صلَّى الله عليه وسلم- حتى وصل إلينا"[35].
ثُمَّ إنَّ الإمالة قد قرأ بها أكثر القراء[36] دون انتقاد على أحد منهم، قال الهذلي: "ولو كانت الإمالة مُحدثة لكان اعتراضُ النحويين عليها أكثر، كيف وما مِن أحد من القراء إلا ورُويَتْ عنه الإمالة، قلَّتْ أو كثُرتْ، ولم يعفها أحد منهم"[37].
وقال أيضا: "... والجملة بعد التطويل أن مَن قال: إن الله لَم ينزل القرآن بالإمالة، أخطأ وأعظم الفِرية على الله، وظن بالصحابة خِلاف ما هُم عليه من الورَع والتُّقى، وكيف يظن بهم ذلك، ولم يتركوا فِعْلاً مِنْ أفْعال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلم- لا قولاً ولا حركة إلا نقلوه وبيَّنُوه"[38].
وعلى هذا، فإنَّ كراهة مَن كره الإمالة في قراءة حمزة تحمل على ما سمعوه مِن مُبالغة ناقلي قراءة حمزة عنه، لا لما سمعوه من قراءته مباشرة، كما قال ابن الجزري: "وأما ما ذكر عن عبدالله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة، فإنَّ ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلاً عن حمزة، وما آفةُ الأخبار إلا رُواتها"[39].
فالإمام أحمد- رحمه الله- لَم يُعاصِرْ حمزة؛ بل وُلد بعد وفاته، فهو إنما كره ما سمعه من قراءة من بعد ممن ينتسب إلى القراءة بقراءة حمزة، وظن أنَّ حمزة يقرأ كذلك، ولَم تَكُنْ قراءته كذلك.
ومما يدلُّ على أن كراهتهم إنَّما هي لمبالغة النقلة قول علي بن عبدالصمد الطيالسي البغدادي (ت 289 هـ): "سألت أحمد بن حنبل عن الصلاة خلف مَن يقرأ بقراءة حمزة، فقال: أكرهه، قلت: يا أبا عبدالله إذا لم يدغم ولم يكسر؟ قال: إذا لم يدغم ولم يضجع فلا بأس به"[40].
وأمَّا الاستدلال بحديث: ((أنزل القرآن بالتفخيم)) وهو في المستدرك، قال الحاكم: صحيح، وقال الذهبي في التلخيص معقبا على تصحيحه: "قلت: لا والله، العوفي مُجمَع على ضعفه، وبكار ليس بعمدة، والحديث واهٍ مُنكر"[41].
فإنه مع ضعْفِه قد وجَّهه العلماء بوُجُوه أقوى وأظهر في المراد بالحديث[42]، منها: أنَّ المراد بالتفخيم تحريك أوساط الكلم بالضم والكسر، في المواضع المختلف فيها دون إسكانها؛ لأنه أشبع لها وأفخم، ويدل لذلك لفظ الحديث كاملاً، وهو: ((أنزل القرآن بالتفخيم؛ ﴿ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾ [آل عمران: 49]، و﴿ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴾ [المرسلات: 6]، و﴿ الصَّدَفَيْنِ ﴾ [الكهف: 96]، و﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وأشباه هذا في القرآن))[43].
وقال البيهقي في الجامع: "قال الحليمي- رحمه الله -: ومعنى هذا- والله أعلم- أن يقرأ على قراءة الرجال ولا خضع الصوت به، فيكون مثل كلام النساء، ولا يدخل في هذا كراهية الإمالة التي اختار بعض القراء.
وقد يجوز أن يكونَ القرآنُ نزل بالتفخيم، ورخص مع ذلك في إمالة ما يحسن إمالته على لسان جبريل- عليه السلام"[44].
ثم قال البيهقي: "وعلى هذا- إنْ صحَّ هذا الإسناد- فيجوز أن يكون نزول هذه الألفاظ كما رُوِي في هذا الخبر، ووردت الرُّخصة على لسان جبريل- عليه السلام- في قراءة بعضِها على ما ذهب إليه بعضُ القُرَّاء"[45].
وأمَّا ما ورد من القرآن نزل بلغة قريش، فقد أجاب عنه العلماء؛ قال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر: "ومعناه عندي في الأغلب- والله أعلم- لأنَّ غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات، مِن تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز"[46].
وقال أبو شامة موجهًا قول عثمان- رضي الله عنه -: "إنَّ القرآن نزَل بلُغة قريش": "قلت: أشار عثمان- رضي الله عنه- إلى أول نزوله، ثم إنَّ الله تعالى سهله على الناس، فجوز لهم أن يقرؤوه على لُغاتهم على ما سبق تقريره؛ لأنَّ الكلَّ لُغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربي مبين.
وأمَّا مَن أراد من غير العرب حفظه، فالمختار له أن يقرأه على لسان قُريش، وهذا- إن شاء الله تعالى- هو الذي كتب فيه عمر إلى ابن مسعود- رضي الله عنه -: "أقْرِئ الناس بلغة قريش"؛ لأنَّ جميع لغات العرب بالنسبة إلى غير العربي مستوية في التعَسُّر عليه، فإذًا لا بُدَّ من واحدة منها، فلغة النبي- صلَّى الله عليه وسلم- أوْلى له، وإن أُقْرِئ بغيرها مِن لُغات العرب فجائز، فيما لَم يخالف خط المصحف، وأمَّا العربي المجبول على لغة فلا يكلف لغة قريش، لتعسُّرها عليه، وقد أباح الله تعالى القراءة على لُغته، والله أعلم"[47].
2- باب الإدغام [48]:
وقد ورد عن بعض السلف كراهته مقرونا بالإمالة، كالمنقول آنفًا عن الإمام أحمد من قوله: "أنا أكرهها، قيل له: وما تكرهه منها؟ قال: هذا الإدغام والإضجاع الشديد"[49].
وقول حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280 هـ): "سمعتُ أحمد يكره الإمالة؛ مثل: ﴿ وَالضُّحَى ﴾، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾، وقال: أكره الخفْض الشديد والإدغام"[50].
وقول ابن قدامة- مُعلِّلاً كراهة الإمام أحمد القراءة حمزة -: "لما فيها منَ الكسْر والإدغام والتكَلُّف وزيادة المد"[51].
وزاد صاحب "الشرح الكبير": "ولأنها تَتَضَمَّن الإدغام الفاحش، وفيه إذهاب حُرُوف كثيرة من كتاب الله تعالى، ينقص بإدغام كل حرف عشر حسنات"[52].
الرَّد على ذلك، وبيان وجْه القراءة:
يُرَد على ذلك بأنَّ الإدغام أيضًا لُغة من لغات العرب، نزَل القرآن به، وهو من الأحْرُف السبعة التي نُقِلَتْ بالتواتُر.
وليس الإدغام خاصًّا بقراءة حمزة، بل يشترك جميع القراء في وُجُود الإدغام في قراءتِهم مع تفاوُتهم فيه قلَّة وكثرة، فالإدغامُ الصغير- وهو ما يكون الحرفُ الأول من المدغمَيْن ساكنًا- يشترك فيه عدد من القراء؛ نحو: ﴿ قَدْ جَعَلَ ﴾[مريم: 24]، و﴿ إِذْ تَبَرَّأَ ﴾ [البقرة: 166]، و﴿ هَلْ تَعْلَمُ ﴾ [مريم: 65]، و﴿ أَنْبَتَتْ سَبْعَ ﴾ [البقرة: 261]، وكذلك إدغام بعض الحروف التي قربت مخارجها؛ نحو: ﴿ يَغْلِبْ فَسَوْفَ ﴾ [النساء: 74]، و﴿ يُعَذِّبُ مَنْ ﴾ [المائدة: 40]، و﴿ ارْكَبْ مَعَنَا ﴾ [هود: 42]، و﴿ يُرِدْ ثَوَابَ ﴾ [آل عمران: 145]، و﴿ اتَّخَذْتُمُ ﴾ [البقرة: 51][53].
فكثيرٌ مِن مواضع الإدغام يشترك مع حمزة فيه عددٌ من القراء؛ بل إنَّ بعض تلك المواضع يدغمها بعض القُراء، ولا يدغمها حمزة.
فإذا كان الإدغامُ الوارد في قراءة حمزة مرْويًّا عن كثيرٍ منَ القُراء العشرة، وليس خاصًّا بحمزة وحده، فكيف ينتقد عليه وحده دونهم؟!
بل إن من أبواب الإدغام ما انفرد به أحد القراء دون غيره؛ كأبي عمرو البصري، في باب الإدغام الكبير[54]، ولم ينكر ذلك عليه رغم تفرُّده، فكيف يقبل ذلك منه، وينتقد على حمزة رغم مُوَافقته لغيره من القُرَّاء فيه؟!
وأيضًا فإنَّ كثيرًا مِن مواضِع الإدغام اتَّفق على إدغامِها القُراءُ العشرة جميعًا؛ نحو: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ ﴾ [البقرة: 256]، و﴿ قَالَتْ طَائِفَةٌ ﴾ [الأحزاب: 13]، و﴿ يُدْرِكْكُمُ ﴾ [النساء: 78].
فما ورد من كراهة بعض الأئمة للإدغام في قراءة حمزة يُقال فيه ما قيل في الإمالة من أنه من سوء صنيع الناقل الذي سمعه الإمام أحمد يقرأ بقراءة حمزة.
أو أن الإمام أحمد إنما كره ذلك؛ لظَنِّه أنه لَم يَكُن بأثر واتِّباعٍ للغة العرب، ويدل له ما نقله القاضي ابن أبي يعلى في ترجمة الطيب بن إسماعيل المقرئ أنه سأل الإمام أحمد فقال: "قلت له ما تكره من قراءة حمزة؟ قال: الكسر والإدغام، فقلت له: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ أين الألف واللام؟ فقال: إن كان هكذا فلا بأس"[55].
فلما مثل له بالإدغام الذي لا ينكره أحدٌ لِوُجُوبه في كلِّ القراءات والرِّوايات، قال: إن كان إدغام حمزة على هذه الشاكلة ونحوها مما تُجيزُه العربية وثبتت القراءة به، فلا بأس.
3- باب المد[56]:
وقد ورد انتقادُ المد في قراءة حمزة في قول ابن قدامه المذْكور آنفا- مُعَللاً كراهة الإمام أحمد لقراءة حمزة -: "لما فيها من الكسر والإدغام والتكَلُّف وزيادة المد"[57].
وورد انتقاد حمزة في مَدِّ التبرئة في لا النافية للجنس خاصة، عن مُلَّا علي القاري؛ حيث قال في شرحه على المقدمة الجزرية: "وكذا ما جاء من مد المبالغة للنفي في نحو: ﴿ لا رَيْبَ ﴾ [البقرة: 2] التي للتبرئة عن حمزة؛ فإنه لا يصحُّ من طريق الشاطبية وعامَّة أهل القراءة، بل هي رواية شاذَّة عند أهل الدِّراية"[58].
الرد على ذلك، وبيان وَجْه القراءة:
ويُرد على من انتقد حمزة في المد عمومًا بأنَّ إشباع المد (بمقدار ست حركات) لَم ينفرد به حمزة؛ بل هو مروي عن غيره منَ القُرَّاء، حيث أجْمع القُرَّاء على الإشباع في المد اللازم بأنواعه، وفي مدِّ السكون العارض وقفًا في أحد وجوهه الثلاثة[59].
كما أنَّ عددًا من القُراء والرواة قد وافَقوا حمزة في إشباع المد في ما يشبع فيه من المد المتَّصل والمنفصل[60].
فكيف ينتقد على حمزة ويكره المد في قراءته دون غيره مِمن وافَقه في ذلك.
بل إنَّ ورْشًا انفرد بإشباع بعض أنواع المد دون غيرهن؛ كالحال في مد البدل، في أحد الوجوه عنه، ومد اللين الواقع بعده هَمْزة في أحد الوجهَيْن عنه، فأكثر ورود المد المشبع إنما هو في رواية ورش، فكيف يقبل منه دون نقْد أو كراهة، وينتقد ويكره في قراءة حَمزة.
وأمَّا انتقاد مُلا علي القاري لِمَدِّ التبرئة ووصفه له بالشذوذ، فهو مردود بأنَّ هذه قراءة صحيحة متواترة، جاءتْ عن الإمام حمزة في أحد الوجهَيْن عنه من طريق طيبة النشر، وعدم وُرُودها من طريق الشاطبية لا يمنع وُرُودها وصحتها من طريق غيرها كالنشر وطيبته، وكم مِنْ قراءاتٍ صحَّتْ وتواترتْ عن الأئمة السبعة من غير طريق الشاطبية، وتلقَّتْها الأُمة بالقَبُول، ولَم تقلل مِنْ شأنها.
وقد أجاب الشيخ المرصفي عن قول القاري فقال: "والذي يظهر أن مُلا علي القاري لم يقرأ بما جاء في كتاب النشر، ولو قرأ القرآن الكريم بما جاء فيه ما رَدَّ المد للتعظيم لأصحاب القصر في المنفصل، ولا حكم بشذوذ قراءة حمزة بمد التبرئة، وكأنه كان يرى- رحمه الله- أنَّ كل قراءة جاءتْ عن الأئمة السبعة من غير طريق الشاطبية، فهي قراءةٌ شاذة، وهذا عجيبٌ من عالم كبير كالقاري!"[61].
وبهذا يَتَبَيَّن أنَّ ما علل به ابنُ قُدامة- لكراهة الإمام أحمد لقراءة حمزة من الزيادة في المد- مُنصرف إلى ما سمعه الإمام أحمد يقرأ بقراءة حمزة مبالغًا في مُدُودها، ويدلُّ لذلك نهي حمزة نفسه عن المبالغة في المد.
قال عبدالله بن صالح العجلي: "قرأ أخ لي أكبر منِّي على حمزة، فجعل يمد، فقال له حمزة: لا تفعل، أمَا علِمْتَ أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط، وما كان فوق البياض فهو برص، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة"[62].
وقال السخاوي: "وقد عاب قوم قراءة حمزة- رحمه الله- وإنما كان يأخذ المبتدئين بالتأنِّي والترتيل، وينهاهم مع ذلك عن تجاوُز الحد"[63].
وقال محمد بن الهيثم النخعي: "صلَّيتُ خلْف حمزة- رحمه الله- فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد...."[64].
4- باب الهمز:
والذي نقل عن السلف انتقاده وكراهته من قراءة حمزة في باب الهمز أمران في حالَيْن مختلِفَيْن:
الأول: تحقيق الهمز وتبْيينه، قال أبو بكر بن الخلاَّل: "أخبرنا أحمد بن يزيد الوَرَّاق، قال: سمعتُ أحمد بن حنبل يُسأل عن الهمز الشديد، فقال: لا يُعجبني الهمز الشديد"، وبالسند نفسه قال: "سمعتُ أحمد بن حنبل يُسأل عن الهمز في القرآن، فقال: تعجبني القراءة السهلة"[65].
وسُئل الإمام أحمد عن الهمز في القراءة، فقال: "الكوفيون أصحاب همز، وقريش لا تهمز"[66].
والثاني: تخفيف الهمز في حالة الوقف بأنواع من التغيير؛ كالإبدال، والنقل، والحذف، قال ابن حجر: "قرأتُ بخط الذهبي- معللا لمن كره قراءة حمزة- يريد ما فيها من المد المفرط والسكت وتغيير الهمز في الوقف..."[67].
الرد على ذلك، وبيان وجْه القِراءة:
يُرَدُّ على الأول بأن حمزة لَم ينفردْ بتحقيق الهمز؛ بل هو من الكوفيين الذين يُحَقِّقون الهمز في أحوال عديدة[68]، فليس حمزة أكثر القُرَّاء تحقيقًا للهمز، ولا أشدهم تبيينًا له؛ بل إنَّ حمزة كان يُنكر المبالَغة في الهمز، فقد نقل السخاوي أنَّ رجُلاً قال لحمزة: "يا أبا عمارة، رأيت رجلاً من أصحابك في الزياتين همز حتى انقطع زره! فقال: لَم آمرهم بهذا كله"[69].
وغاية ما نقل عنه في تحقيق الهمز أنه كان يفعل ذلك حالة تعليم الطلاب؛ لتَدْرِيبهم على إتقان الهمز؛ لصعوبته.
ومما يدل على ذلك ما نقله السخاوي عن سفيان الثوري- رحمه الله- أنه وقف على حمزة فقال: "يا أبا عمارة، ما هذا الهمز والقطع الشديد؟ فقال: يا أبا عبدالله هذه رياضة المتَعَلِّم، قال: صدقت"[70].
فبين حمزة- رحمه الله- وجهته في صنيعه مع تلاميذه، وأن ذلك التحقيق والتدقيق إنما هو ترْويض للمتعلمين وتدريب لهم، حتى إذا ما أتقنوا لَم يحتاجوا لذلك.
ولذا لَمَّا أجابه بقوله: هذا رياضة المتَعَلِّم، لَم يبق في نفسه إنكار أو نقد أو كراهة، بل قال: صدقْتَ.
ومما يؤيد ذلك قول محمد بن الهيثم النخغي: "صليتُ خلْف حمزة- رحمه الله- فكان لا يمدُّ في الصلاة ذلك المد الشديد، ولا يهمز الهمز الشديد"[71].
وقول سليم بن عيسى- أجل أصحاب حمزة وأضبطهم -: "قال حمزة: ترْك الهمز في المحاريب من الأستاذيَّة"[72].
ويرد على الثاني- وهو تخفيف حمزة للهمز في حال الوقف- بأنه أيضًا مما لَم ينفرد به، بل ورد عن غير واحد من القراء تخفيفه بأنواع من التخفيف، ومن ذلك ما ورد عن هشام أيضًا في حال الوقف على الهمز المتطرِّف[73]، وكنقل ورش لحركة الهمزة وحذفها، وكإبدال الهمز الساكن لورش والسوسي وأبي جعفر، وكالحذف، وكالحذف لأبي جعفر، ونحو ذلك[74].
قال ابن الجزري: "ولَما كان الهمزُ أثقل الحروف نطقًا، وأبعدها مخرجًا، تنوَّع العربُ في تخفيفه بأنواع التخفيف؛ كالنقل، والبدل، وبين بين، والإدغام، وغير ذلك، وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفًا، ولذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش وغيره، وكأبي جعفر مِنْ أكثر رواياته، ولا سيما رواية العمري عن أصحابه عنه، فإنه لَم يكدْ يحقق همزة وصلاً، وكابن محيص قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده، وكأبي عمرو فإن مادة قراءته عن أهل الحجاز، وكذلك عاصم من رواية الأعشى عن أبي بكر، من حيث إنَّ روايته ترجع إلى ابن مسعود"[75].
5- باب السكت[76] على الساكن قبل الهمْز:
وهو من الأبواب التي اشتهرت بها قراءة حمزة، حيث يسكت على الساكن الآخر الصحيح الواقع قبل الهمز في نحو: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ [البقرة: 62]، و﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾ [المؤمنون: 1]، ويسكت على الياء الساكنة من لفظ ﴿ شَيْءٍ ﴾ [البقرة: 20] كيف وقعتْ؛ مرفوعة، أو منصوبة، أو مجرورة، ويسكت على (أل) التعريف حيث وقعتْ نحو: ﴿ الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 11]، و﴿ الْإِنْسَانُ ﴾ [النساء: 28]، ونحو ذلك[77].
ولعل ما نُقل مِن كراهة بعض السلَف للهمز الشديد عند حمزة يصدُق على النُّطق بالهمز بعد السكت على الساكن قبله؛ إذ بالسكت يتحقَّق النُّطق بالهمز وعد تحقيقه.
ومن أقوالهم الواضحة في انتقاد السكت واستنكاره نقل السخاوي السالف عن الثوري- رحمه الله- أنه قال: "يا أبا عمارة، ما هذا الهمز والمد والقطع الشديد؟ فقال: يا أبا عبدالله هذه رياضة المتَعَلِّم، قال: صدَقْت"[78].
الرَّد على ذلك، وبيان وجْه القراءة:
ويرد على ذلك بمعرفة علَّة السكت على الساكن قبل الهمز، فقد ذكر العلماء أنَّ علة ذلك هي الاستعانة على إخراج الهمز وتحقيقه بالاستراحة قبله، لبُعد مخرجه وصعوبة النطق به[79].
ثم إن السكت وارد في قراءة غير حمزة، ومن ذلك سكتات حفص الأربع[80] التي انفرد بها من بين سائر الرواة، فلم تروَ عن أحد غيره، ومع ذلك لَم يَرِد انتقادها والطعن فيها عن أحدٍ أبدًا.
وهو أيضًا وارد عند جميع القراء في موضع واحد من القرآن، وهو قوله تعالى: ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28، 29]، في أحد الوجهَيْن عنهم وصلاً[81].
[يتبـع]