ابو عبد الله الباجي
2011-06-08, 08:34 PM
السلف في اللغة تعني ما تقدمك من الزمان وما مضى وسلف الرجل أبواه أو آباؤه المتقدمون، في القرآن الكريم {..وَأَنْ تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَينِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفْ..}[النساء:23] أي ما مضى، {..فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ..}[البقرة:275] هذا المعنى في دلالة اللغة أي أن كل ما سبقك وتقدمك في الزمان ومضى فهو سلف وما يعقبه فهو خلف. وفي الاصطلاح أصبح مفهوم السلف الصالح المعرف بأل العهدية يطلق على أهل القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير والإيمان وهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين لأن هذا الجيل يعتبر هو الجيل المؤسس الذي أقام الدين على منهاج النبوة ومزج بين العلم النافع والعمل الصالح فنالوا بهذه الخيرية هذه المكانة التي بوأتهم فهو سلف صالح. ولهذه المسألة مزية انطلقت من مؤشرات شرعية فالنبي صلى الله عليه وسلم قال "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ثم ورد في القرآن الكريم في الثناء على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام {وَالْسَّابِقُو َ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنهُ..}[التوبة:100] فتحقق الرضى لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وشرط فيمن جاء بعدهم أن يتبعم بإحسان، وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" والأمنة جمع أمين، إما أن يكون بمعنى أنهم أمناء على هذا الدين بلاغا وبيانا ونشرا وهداية أو أنهم مؤتمنون عليه وأنهم أمان لهذه الأمة من ظهور الأهواء فإذا سلكت الأمة سبيلهم أمنت وإذا انحرفت وتنكبت طريقهم وقعت في مضلات الأهواء والفتن، هؤلاء هم الصحابة ثم أخذ عن جيل الصحابة التابعون وأخذ عنهم تابعو التابعين، كالأئمة الأربعة وكسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي والليث بن سعد والمبارك وأضراب هؤلاء من أئمة الهدى سلكوا ذات السبيل وانتهجوا هذا المنهج فكانوا أيضا على منوالهم، فليست العبرة فقط بأن هذه الخيرية انقطعت، صحيح أن هذه الخيرية هي خيرية ذكرت لأهل هؤلاء القرون ولكن كل من تلبث بهذا المنهج واستقام عليه فإن الله تعالى يقول {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِيْنَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ}[الواقعة:39، 40]..
هذه الأفضلية هي أفضلية لكل فرد في القرون الثلاثة أم أنها أفضلية لمجموعهم؟ والصواب أنها أفضلية لمجموعهم وأما بالنسبة للأفراد فقد يأتي فرد يكون فيه من الخيرية ما لمثل هؤلاء أو أكثر عدا المتقدمين من أهل الفضل والسبق في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
انبنت هذه الأفضلية أولا على نصوص -ذكرت بعضها- التي وردت في شأن الصحابة في فضلهم وسبقهم وعلمهم وجهادهم، هؤلاء شهدوا عصر التنزيل، الوحي تلقوه عن نبيهم عن جبريل عن رب العالمين غضا طريا كما يقول ابن القيم سندا صحيحا عاليا، وملكوا تلك السليقة التي فهموا بها هذا الوحي الذي تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وأيضا حصلوا على هذا البلاغ النبوي كفاحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وتقريرا وتأسوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم تربية وقدوة ونموذجا فجمعوا كمال العلم والعمل معا لأنهم أخذوا هذا عن نبيهم عليه الصلاة والسلام وأقاموا منهاج الدين من بعد ذلك في حياتهم ترجمة عملية لما أخذوه عن هدي القرآن وما تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وأشادوا الحياة على منهاج النبوة الراشد فاكتسبوا هذه الخيرية التي تأست بها الأجيال من بعد.
وهنالك فرق بين الانتماء إلى هذا المنهج الواسع الرحب الفياض وبين سلفيات حركية أو مذهبية أو حزبية ا تسمت بهذا الاسم وانتسبت إلى السلف الصالح في جزئية من الجزئيات، فهذه السلفيات أنواع تتعدد ولا تنحصر في جانب واحد، منها سلفيات أخذت جانبا معينا تمثل في بعض قضايا العقيدة بعضهم تمثل في تلك المجابهات التي حصلت بين سلفنا الصالح وبين فرق ومذاهب ضلت وانحرفت عن جادة الطريق وهنالك سلفيات جمدت على كل ما قاله الأقدمون باعتبار أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان وهنالك سلفيات إحيائية أخذت المنهج ولكنها بذات المنهج استطاعت أن تعالج قضايا عصرها وقضايا زمانها، فعلينا أن نفرق بين الانتماء إلى السلف كمنهج واسع رحب وبين سلفيات نشأت حملت هذا العنوان أخذت من السلف بعضا وتركت جانبا آخر.
إن السلف الصالح ليس رؤية فقهية واحدة ولا اجتهادا فكريا معينا، السلف الصالح منهج رحب، هم التقوا على الأصول وعلى الكليات وعلى الثوابت وعلى القطعيات وعلى المحكمات وما دون ذلك اختلفوا في الفروع، في فروع العقيدة، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ خلاف وقع بين الصحابة أنفسهم، كذلك في مصادر الاستدلال وقع اختلاف في المصادر الفرعية، الاستصحاب، الاستحسان، براءة الأصل، وقع اختلاف في فروع الفقه وما أكثر هذا الاختلاف، وقعوا في علوم التزكية في بعض تطبيقاتها. إذاً حينما نقول الانتماء إلى السلف الصالح نحن نقول انتماء إلى منهج تنوعت فيه الآراء تعددت فيه الأفكار اختلفت فيه بعض المسائل، هذا الانتماء فيه رخص ابن عباس فيه عزائم ابن عمر فيه فقه أبي حنيفة فيه أثرية ابن حنبل فيه مقاصدية الشاطبي فيه ظاهرية ابن حزم فيه رقائق الإمام الجنيد فيه اجتهاد أبي حامد الغزالي وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم. فلا ينبغي أن نجعل لاجتهادات بعض الأئمة أو بعض الأشخاص من الأقدمين عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح ثم نطرح بقية الرؤى وتنوع الأفكار يعتبر خارج إطار هذه السلفية، هذا لون من الحزبية السلفية الضيقة الذي ضيق ما كان واسعا عند سلفنا الصالح، ولذلك كانوا يقولون "إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة" فاعتبروا أن الاختلاف في الفروع مظهر من مظاهر الرحمة وهذا من التوسعة التي جاءت بها شريعة الإسلام.
منهج السلف الصالح أصابته عند كثير من هذه التيارات ضبابية، هنالك سلفية جهادية تبنت خطا في مجال التكفير أو التفجير أو غير ذلك، هنالك سلفية إحيائية اجتهادية زاوجت بين المقاصد والنصوص بين الأصل وبين العصر، هنالك سلفية اعتبرت نفسها امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ركزت على محاربة الشرك الشعائري وما رأته من الاختلال في قضايا البدع، هنالك سلفية أرادت أن تزاوج بين هذا وذاك، إذاً هنالك سلفية ما تسمى اليوم بالسلفية العلمية هنالك السلفية الجهادية هنالك السلفية الإحيائية هنالك السلفية التي تمثل امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عادت هنالك سلفيات ولذلك أصبح من الضروري أن نحرر مفهوم الانتماء إلى السلف الصالح تحريرا يعطيه السعة والشمول والغنى حتى نقوم بإخراجه من هذه الدوائر الضيقة التي حصرته في هذه الأبواب. فهنالك من جعل مجرد اختيارات الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وما رآه الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقط هذه المحطات الأربعة هي عنوان للانتماء إلى السلف الصالح..
هؤلاء أعلام هدى ولكن ليسوا وحدهم الذين يعبرون فقط عن منهج السلف الصالح، فهذا خلل في هذا المفهوم بني على أن القضايا التي أثيرت في تلك العصور من محاربة الشرك من مواجهة البدع من الحديث عن الفرق هو فقط العنوان لقضية السلف والسلفية ولكن هذه جزئيات لا ينبغي أن تكون وحدها عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح، السلف الصالح اجتهدوا وجاهدوا، أقاموا الدين وعمروا الدنيا فانطلقوا في كل زويا الأرض نشروا هذا الخير فلماذا نعتبر.. اليوم هنالك حركات إحياء إصلاحية انتمت إلى السلف الصالح في زاوية من الزوايا، في البناء التربوي الحركة السنوسية، في البعد الجهادي الحركة المهدية، هنالك الكواكبي هنالك مدرسة المنار الشيخ رشيد رضا، هنالك ابن باديس، هنالك الخطابي هنالك الفاسي هنالك البنا هنالك حركات إحيائية إصلاحية استفادت من هذا التراث في جانب من الجوانب وانتمت إلى السلف الصالح ولكنها لم تدّع الاحتكار لجانب من الجوانب على أنها هي المهيمنة أو الباسطة أو المالكة لمنهج السلف الصالح فهو أوسع من أن تحتكره فرقة أو أن تنتمي إليه طائفة وتخرج بقية المسلمين وسائر الجماعات التي ائتمت بهذا الهدي المبارك من هذه الدائرة.
فهل الموقف من السلفيةهو موقف تكريمي ام موقف تقديسي أم هو مرجعية دينية وامتثال واقتداء؟
هنالك طرفان ووسط، هنالك من وضع اجتهادات السلف الصالح في مرتبة النصوص المقدسة في وحي الكتاب والسنة فمنحها مرتبة القداسة وإن بدا فيها قصور البشر، وبالمقابل هنالك من بخس هذا الجهد وإن تجلت فيه روائع الهداية. السلف في مجموعهم يمثلون منهجا صحيحا لفهم القرآن والسنة والتعاطي معه وإنزاله على الواقع لكن ليس ثمة عصمة وقداسة لا لقول أحد من هؤلاء السلف حتى ولو كانوا الصحابة أو من دونهم ولذلك كلهم أجمعوا على أنه "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" صاحب هذا القبر يعني النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً الواجب علينا في هذه القضية هو التقدير والاحترام، لا تقديس ولا تبخيس.
التقدير والإحترام كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّا لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10] نقدر هذا التراث باعتبار أفضل ما أنتجه عقل أسلافنا الصالحين لكن لا ندعي فيه العصمة ولا ندعي له القداسة ولا نعتبر أن كلمة الختام قد انتهت عند أقوال أسلافنا بل هنالك مزيد من الإضافة مزيد من الإبداع مزيد من الاجتهاد مزيد من التجديد لهذا المنهج فهو منهج مسلم به في جملته ولكن نأخذ منه وندع في فروعه وجزئياته وتفاصيله.
لانستطيع أن نقول إن السلفية هي الفرقة الناجية، فحديث الفرقة الناجية حديث لم يرد في الصحيحين ولا في أحدهما، حديث رواه أهل السنن وهذا الحديث من العلماء من توقف فيه كابن حزم وهنالك من رد زيادة "كلها في النار إلا واحدة" وهو العلامة ابن الوزير اليماني، والذين قووا هذا الحديث إنما رجحوه بمجموع طرقه كابن تيمية وابن حجر والنووي ابن القيم ونحو ذلك، ولكن حتى على الفرض على فرض التسليم بصحة هذا الحديث فإنه لا ينبغي أن يكون عنوانا لفرقة معينة تسمت بهذا الاسم أو جعلته عنوانا لها في إطار اجتهادات قال بها بعض الأعلام في الأمة. فهنا السؤال "تفترق أمتي" أمتي، هل الأمة هنا أمة الدعوة أم أمة الإجابة؟ وبعض الفضلاء توقف أيضا في معنى أن الحديث تحدث عن افتراق في الأمة بأكثر مما افترقت عليه اليهود والنصارى لا سيما وأن موجبات الاجتماع في هذه الأمة أكثر من موجبات الاجتماع في غيرها لأنها أمة حفظت في مصدري هدايتها ورشدها وأن مصادر تلك الديانات قد أصابها التحريف والتبديل، ولكن علينا أن نفهم أن "كلها في النار" هذا اللفظ من ألفاظ الوعيد والوعيد قد يتخلف بشفاعة شفيع أو برحمة أرحم الراحمين أو ببلاء يكفر الذنوب والخطايا، هذا جانب من.. أمة محمد تشمل المقتصد والظالم لنفسه والسابق بالخيرات وهؤلاء من لدن الصحابة إلى يومنا وهم يتفاوتون في هذه المقامات فلا ينبغي أن نجعل هذا عنوانا لطائفة تسمت بهذا الاسم ونجعل سائر فرق المسلمين المنتسبة إلى السلف الصالح ومنتسبة إلى القبلة خارجة عن هذا الإطار فهذا أدى إلى مزيد من التشظي وإحداث الفرقة والمحن في واقع الأمة المسلمة.
لا ينكر أحد فسيفساء حركات الإصلاح الإسلامي في ساحة العمل الإسلامي وكلها تدعي انتماءها للسلف أو هي تنتمي إلى مدرسة السلف،وأن أبرز ملامح هذا الاتباع أولا صفاء العقيدة لأنها هي الأساس والذي يمثل المدخل الصحيح لسلامة الدين ولذلك قالوا "جماع الدين أصلان، ألا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع"، تحقيق العبودية لله وأن تكون هذه العبودية بما شرع الله، هذه واحدة. الأمر الثاني مسألة مصادر المعرفة، المزاوجة بين صحة النقل وصراحة العقل فمن الناس من انكفأ بالعقل دون النقل ومن الناس من جعل النقل لا مجال فيه لفهم العقل، إذاً صحة النقل وصراحة العقل هذان يمثلان مرتكزان. المرتكز الثالث مصادر المعرفة أيضا الكتاب المسطور والكون المنظور، فالله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتأمل آياته وهذه الآيات نوعان، آيات تنزيلية في كتاب الله المقروء وآيات كونية في صفحة الكون المنظور، لدينا كتاب مسطور وكتاب منظور فالكون هو الذي يمثل مصدر المعرفة الطبيعية والوحي هو الذي يمثل مصدر المعرفة الشرعية، فالكون والوحي مصادر المعرفة والوسائل لهذين المصدرين الحس والعقل {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئَاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمَعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ..}[النحل:78]. التلازم بين الظاهر والباطن اتباع الحق ورحمة الخلق، إحسان الظن بالمخالف، العدل والإنصاف للمخالفين كذلك، رعاية اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات وهذا ملمح مهم في منهج السلف الصالح، أيضا التأكيد على السكوت عما لا ينبني عليه عمل والتكلم فيما ينبني عليه عمل فهذا أيضا ملمح، الملمح الأخير أن السلف الصالح عاشوا قضايا عصرهم وتحديات زمانهم فليس من السلف الصالح والانتماء إليهم في شيء أن يستدعي الإنسان معارك التاريخ وأن يغفل عن معالجة قضايا العصر وإشكاليات الزمان، ثم النقطة الأخيرة وهي الموازنة بين الائتلاف والاختلاف، تعظيم الجوامع المشتركة والتراحم في قضايا الاختلاف وإعذار المختلف فيه والنأي عن تكفير أهل القبلة، كل من شهد الشهادتين واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، كل من توضأ فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا. هذه أبرز الملامح التي كان عليها سلفنا الصالح والذي ينبغي أن نحيي قاعدة التأسي بهم في شمول هذا المنهج لا في جزئيات أقوالهم أو التصدي لبعض مشكلات عصرهم التي تجاوزها الزمن وعفا عليها فـ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ..}[البقرة:134].
السؤال كيف يمكن أن نجمع بين السلفي أو بين السلفية والتجديد معا؟
كل انتماء صحيح للسلف الصالح لا بد أن يكون دعوة تجديدية وكل تجديد ينطلق من أصول الإسلام لا بد أن ينتسب إلى منهج السلف الصالح، فالسلفية ليس معناها مجرد عودة إلى الوراء، السلفية الحقة هي دعوة متجددة والتجديد الحق لا بد أن ينتمي إلى السلف الصالح لأن السلف عاشوا قضايا عصرهم ولذلك حينما نعيش قضايا عصرنا ونقدم أجوبة وحلولا لمشكلات هذا الزمن فنحن ننتمي إلى سلفنا الصالح وحينما نستعيد معارك التاريخ الجهمية، المعتزلة، المعطلة، أمثال هؤلاء ولا نعيش قضايا العصر ولا تحديات الزمن ولا نقدم حلولا لهذا العصر فبهذا المعنى لا نكون قد انتسبنا إلى السلف، فالسلفية والتجديد صنوان يكمل بعضهما بعضا، السلفية الحقة هي دعوة إلى التجديد والإحياء والإبداع والتجديد الحق ليس نقضا للثوابت ولا هدما للمسلمات وإنما هو ارتباط بالأصل واتصال بالعصر، هذه هي المعادلة التي نريد أن نحياها تماما، وكثير من الحركات الإحيائية الإصلاحية زاوجت بين كونها قدمت مشروعا حضاريا لنهضة الأمة وفي ذات الوقت انطلقت مما كان عليه سلفنا الصالح، أما الذي يفهم بأن السلفية هي الوقوف فقط عند جزئيات أقوال علمائنا وآرائهم التي بنوها على اختلاف الزمان وتطور البيئات وانتهى إلى هذا فنقول له هذا ليس من السلف في شيء لأن السلف كما اجتهدوا لعصرهم علينا أن نجتهد لعصرنا كما عاشوا لقضايا زمانهم علينا أن نعيش لقضايا زماننا بذات المنهج الواسع الذي يحتمل ضروبا من تنوع الرأي واحتمال الفكر.
وأن هناك أزمات كثيرة، أولا هناك أزمة متعلقة بوحدة الأمة، وحدة الأمة اليوم تتعرض لأخطر قضية ما يمكن أن يسمى بتجزئة المجزأ أو تقسيم المقسم أو تفتيت المفتت، إما على أساس عرقي كما يقال في دارفور عرب وأفارقة، في شمال أفريقيا عرب وبربر، في العراق عرب وأكراد وتركمان، في الخليج عرب وفرس، أو قضية مذهبية أو على قضية متعلقة بالأقليات الدينية. كيف نحافظ على وحدة الأمة التي قامت على وحدة الجوامع الخمسة، وحدة العقيدة، وحدة الشريعة، وحدة القيم، وحدة الحضارة، وحدة دار الإسلام، هذه إحدى الأولويات الكبرى، الأولوية الثانية كيف تقدم هذه الحركات الإصلاحية نموذجا للإصلاح، الإصلاح في الحكم الرشيد في مقابل الاستبداد، الإصلاح في العدالة الاجتماعية في مقابل الظلم الاجتماعي، الإصلاح في مواجهة حالة التخلف التقني والعلمي والتكنولوجي، كيف ننهض بالأمة، حالة الوهن الأخلاقي، حالة التبعية والاستلاب. هناك أمر آخر من الأولويات الاحتلال الذي جثم على صدر الأمة في مقدساتها وفي كثير من البلاد، ثم جانب آخر كيف تتحرك هذه الدعوات لتقديم مشروع نهضة لنهضة الأمة ينقلها من دائرة الوجود العادل إلى الشهود الفاعل، نهضة تقوم على العقيدة الموافقة للفطرة، على العبادة الدافعة للعمارة، على العقل المهتدي بالوحي، على العلم المرتبط بالإيمان، على الأخلاق المترقية بالإنسان، على العدل المؤيد بالإحسان، على التشريع المحقق للمصلحة، على الفن الملتزم بالقيم، على القوة المقترنة بالحق، على الخير المتوشح بالجمال، لا يوجد مشروع لنهضة الأمة شامل ومشروع إصلاح يحاول أن ينشئ علاقة تنهض بهذه الأمة في كل هذه الجوانب. قضية العولمة وإفرازاتها وتحدياتها، قضية الحداثة وما بعد الحداثة، إشكاليات ضخمة في واقع الأمة، بدل أن نستدعي معارك التاريخ التي عفا عليها الزمان على الدعاة أن يتصدوا لمشكلات العصر وواقع الزمان بعقل نقي بقلب تقي بجهد متضام، بحراك واجتهاد وإحياء حتى نستطيع أن نجيب على هذه الإشكاليات ويكون انتماؤنا انتماء إلى السلف الصالح انتماء منهج وليس انتماء مذهبية ضيقة تعمل على شتات شمل الأمة.
هذه الأفضلية هي أفضلية لكل فرد في القرون الثلاثة أم أنها أفضلية لمجموعهم؟ والصواب أنها أفضلية لمجموعهم وأما بالنسبة للأفراد فقد يأتي فرد يكون فيه من الخيرية ما لمثل هؤلاء أو أكثر عدا المتقدمين من أهل الفضل والسبق في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
انبنت هذه الأفضلية أولا على نصوص -ذكرت بعضها- التي وردت في شأن الصحابة في فضلهم وسبقهم وعلمهم وجهادهم، هؤلاء شهدوا عصر التنزيل، الوحي تلقوه عن نبيهم عن جبريل عن رب العالمين غضا طريا كما يقول ابن القيم سندا صحيحا عاليا، وملكوا تلك السليقة التي فهموا بها هذا الوحي الذي تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وأيضا حصلوا على هذا البلاغ النبوي كفاحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وتقريرا وتأسوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم تربية وقدوة ونموذجا فجمعوا كمال العلم والعمل معا لأنهم أخذوا هذا عن نبيهم عليه الصلاة والسلام وأقاموا منهاج الدين من بعد ذلك في حياتهم ترجمة عملية لما أخذوه عن هدي القرآن وما تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وأشادوا الحياة على منهاج النبوة الراشد فاكتسبوا هذه الخيرية التي تأست بها الأجيال من بعد.
وهنالك فرق بين الانتماء إلى هذا المنهج الواسع الرحب الفياض وبين سلفيات حركية أو مذهبية أو حزبية ا تسمت بهذا الاسم وانتسبت إلى السلف الصالح في جزئية من الجزئيات، فهذه السلفيات أنواع تتعدد ولا تنحصر في جانب واحد، منها سلفيات أخذت جانبا معينا تمثل في بعض قضايا العقيدة بعضهم تمثل في تلك المجابهات التي حصلت بين سلفنا الصالح وبين فرق ومذاهب ضلت وانحرفت عن جادة الطريق وهنالك سلفيات جمدت على كل ما قاله الأقدمون باعتبار أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان وهنالك سلفيات إحيائية أخذت المنهج ولكنها بذات المنهج استطاعت أن تعالج قضايا عصرها وقضايا زمانها، فعلينا أن نفرق بين الانتماء إلى السلف كمنهج واسع رحب وبين سلفيات نشأت حملت هذا العنوان أخذت من السلف بعضا وتركت جانبا آخر.
إن السلف الصالح ليس رؤية فقهية واحدة ولا اجتهادا فكريا معينا، السلف الصالح منهج رحب، هم التقوا على الأصول وعلى الكليات وعلى الثوابت وعلى القطعيات وعلى المحكمات وما دون ذلك اختلفوا في الفروع، في فروع العقيدة، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ خلاف وقع بين الصحابة أنفسهم، كذلك في مصادر الاستدلال وقع اختلاف في المصادر الفرعية، الاستصحاب، الاستحسان، براءة الأصل، وقع اختلاف في فروع الفقه وما أكثر هذا الاختلاف، وقعوا في علوم التزكية في بعض تطبيقاتها. إذاً حينما نقول الانتماء إلى السلف الصالح نحن نقول انتماء إلى منهج تنوعت فيه الآراء تعددت فيه الأفكار اختلفت فيه بعض المسائل، هذا الانتماء فيه رخص ابن عباس فيه عزائم ابن عمر فيه فقه أبي حنيفة فيه أثرية ابن حنبل فيه مقاصدية الشاطبي فيه ظاهرية ابن حزم فيه رقائق الإمام الجنيد فيه اجتهاد أبي حامد الغزالي وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم. فلا ينبغي أن نجعل لاجتهادات بعض الأئمة أو بعض الأشخاص من الأقدمين عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح ثم نطرح بقية الرؤى وتنوع الأفكار يعتبر خارج إطار هذه السلفية، هذا لون من الحزبية السلفية الضيقة الذي ضيق ما كان واسعا عند سلفنا الصالح، ولذلك كانوا يقولون "إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة" فاعتبروا أن الاختلاف في الفروع مظهر من مظاهر الرحمة وهذا من التوسعة التي جاءت بها شريعة الإسلام.
منهج السلف الصالح أصابته عند كثير من هذه التيارات ضبابية، هنالك سلفية جهادية تبنت خطا في مجال التكفير أو التفجير أو غير ذلك، هنالك سلفية إحيائية اجتهادية زاوجت بين المقاصد والنصوص بين الأصل وبين العصر، هنالك سلفية اعتبرت نفسها امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ركزت على محاربة الشرك الشعائري وما رأته من الاختلال في قضايا البدع، هنالك سلفية أرادت أن تزاوج بين هذا وذاك، إذاً هنالك سلفية ما تسمى اليوم بالسلفية العلمية هنالك السلفية الجهادية هنالك السلفية الإحيائية هنالك السلفية التي تمثل امتدادا لمدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عادت هنالك سلفيات ولذلك أصبح من الضروري أن نحرر مفهوم الانتماء إلى السلف الصالح تحريرا يعطيه السعة والشمول والغنى حتى نقوم بإخراجه من هذه الدوائر الضيقة التي حصرته في هذه الأبواب. فهنالك من جعل مجرد اختيارات الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وما رآه الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقط هذه المحطات الأربعة هي عنوان للانتماء إلى السلف الصالح..
هؤلاء أعلام هدى ولكن ليسوا وحدهم الذين يعبرون فقط عن منهج السلف الصالح، فهذا خلل في هذا المفهوم بني على أن القضايا التي أثيرت في تلك العصور من محاربة الشرك من مواجهة البدع من الحديث عن الفرق هو فقط العنوان لقضية السلف والسلفية ولكن هذه جزئيات لا ينبغي أن تكون وحدها عنوانا للانتماء إلى السلف الصالح، السلف الصالح اجتهدوا وجاهدوا، أقاموا الدين وعمروا الدنيا فانطلقوا في كل زويا الأرض نشروا هذا الخير فلماذا نعتبر.. اليوم هنالك حركات إحياء إصلاحية انتمت إلى السلف الصالح في زاوية من الزوايا، في البناء التربوي الحركة السنوسية، في البعد الجهادي الحركة المهدية، هنالك الكواكبي هنالك مدرسة المنار الشيخ رشيد رضا، هنالك ابن باديس، هنالك الخطابي هنالك الفاسي هنالك البنا هنالك حركات إحيائية إصلاحية استفادت من هذا التراث في جانب من الجوانب وانتمت إلى السلف الصالح ولكنها لم تدّع الاحتكار لجانب من الجوانب على أنها هي المهيمنة أو الباسطة أو المالكة لمنهج السلف الصالح فهو أوسع من أن تحتكره فرقة أو أن تنتمي إليه طائفة وتخرج بقية المسلمين وسائر الجماعات التي ائتمت بهذا الهدي المبارك من هذه الدائرة.
فهل الموقف من السلفيةهو موقف تكريمي ام موقف تقديسي أم هو مرجعية دينية وامتثال واقتداء؟
هنالك طرفان ووسط، هنالك من وضع اجتهادات السلف الصالح في مرتبة النصوص المقدسة في وحي الكتاب والسنة فمنحها مرتبة القداسة وإن بدا فيها قصور البشر، وبالمقابل هنالك من بخس هذا الجهد وإن تجلت فيه روائع الهداية. السلف في مجموعهم يمثلون منهجا صحيحا لفهم القرآن والسنة والتعاطي معه وإنزاله على الواقع لكن ليس ثمة عصمة وقداسة لا لقول أحد من هؤلاء السلف حتى ولو كانوا الصحابة أو من دونهم ولذلك كلهم أجمعوا على أنه "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" صاحب هذا القبر يعني النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً الواجب علينا في هذه القضية هو التقدير والاحترام، لا تقديس ولا تبخيس.
التقدير والإحترام كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّا لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10] نقدر هذا التراث باعتبار أفضل ما أنتجه عقل أسلافنا الصالحين لكن لا ندعي فيه العصمة ولا ندعي له القداسة ولا نعتبر أن كلمة الختام قد انتهت عند أقوال أسلافنا بل هنالك مزيد من الإضافة مزيد من الإبداع مزيد من الاجتهاد مزيد من التجديد لهذا المنهج فهو منهج مسلم به في جملته ولكن نأخذ منه وندع في فروعه وجزئياته وتفاصيله.
لانستطيع أن نقول إن السلفية هي الفرقة الناجية، فحديث الفرقة الناجية حديث لم يرد في الصحيحين ولا في أحدهما، حديث رواه أهل السنن وهذا الحديث من العلماء من توقف فيه كابن حزم وهنالك من رد زيادة "كلها في النار إلا واحدة" وهو العلامة ابن الوزير اليماني، والذين قووا هذا الحديث إنما رجحوه بمجموع طرقه كابن تيمية وابن حجر والنووي ابن القيم ونحو ذلك، ولكن حتى على الفرض على فرض التسليم بصحة هذا الحديث فإنه لا ينبغي أن يكون عنوانا لفرقة معينة تسمت بهذا الاسم أو جعلته عنوانا لها في إطار اجتهادات قال بها بعض الأعلام في الأمة. فهنا السؤال "تفترق أمتي" أمتي، هل الأمة هنا أمة الدعوة أم أمة الإجابة؟ وبعض الفضلاء توقف أيضا في معنى أن الحديث تحدث عن افتراق في الأمة بأكثر مما افترقت عليه اليهود والنصارى لا سيما وأن موجبات الاجتماع في هذه الأمة أكثر من موجبات الاجتماع في غيرها لأنها أمة حفظت في مصدري هدايتها ورشدها وأن مصادر تلك الديانات قد أصابها التحريف والتبديل، ولكن علينا أن نفهم أن "كلها في النار" هذا اللفظ من ألفاظ الوعيد والوعيد قد يتخلف بشفاعة شفيع أو برحمة أرحم الراحمين أو ببلاء يكفر الذنوب والخطايا، هذا جانب من.. أمة محمد تشمل المقتصد والظالم لنفسه والسابق بالخيرات وهؤلاء من لدن الصحابة إلى يومنا وهم يتفاوتون في هذه المقامات فلا ينبغي أن نجعل هذا عنوانا لطائفة تسمت بهذا الاسم ونجعل سائر فرق المسلمين المنتسبة إلى السلف الصالح ومنتسبة إلى القبلة خارجة عن هذا الإطار فهذا أدى إلى مزيد من التشظي وإحداث الفرقة والمحن في واقع الأمة المسلمة.
لا ينكر أحد فسيفساء حركات الإصلاح الإسلامي في ساحة العمل الإسلامي وكلها تدعي انتماءها للسلف أو هي تنتمي إلى مدرسة السلف،وأن أبرز ملامح هذا الاتباع أولا صفاء العقيدة لأنها هي الأساس والذي يمثل المدخل الصحيح لسلامة الدين ولذلك قالوا "جماع الدين أصلان، ألا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع"، تحقيق العبودية لله وأن تكون هذه العبودية بما شرع الله، هذه واحدة. الأمر الثاني مسألة مصادر المعرفة، المزاوجة بين صحة النقل وصراحة العقل فمن الناس من انكفأ بالعقل دون النقل ومن الناس من جعل النقل لا مجال فيه لفهم العقل، إذاً صحة النقل وصراحة العقل هذان يمثلان مرتكزان. المرتكز الثالث مصادر المعرفة أيضا الكتاب المسطور والكون المنظور، فالله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتأمل آياته وهذه الآيات نوعان، آيات تنزيلية في كتاب الله المقروء وآيات كونية في صفحة الكون المنظور، لدينا كتاب مسطور وكتاب منظور فالكون هو الذي يمثل مصدر المعرفة الطبيعية والوحي هو الذي يمثل مصدر المعرفة الشرعية، فالكون والوحي مصادر المعرفة والوسائل لهذين المصدرين الحس والعقل {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئَاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمَعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ..}[النحل:78]. التلازم بين الظاهر والباطن اتباع الحق ورحمة الخلق، إحسان الظن بالمخالف، العدل والإنصاف للمخالفين كذلك، رعاية اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات وهذا ملمح مهم في منهج السلف الصالح، أيضا التأكيد على السكوت عما لا ينبني عليه عمل والتكلم فيما ينبني عليه عمل فهذا أيضا ملمح، الملمح الأخير أن السلف الصالح عاشوا قضايا عصرهم وتحديات زمانهم فليس من السلف الصالح والانتماء إليهم في شيء أن يستدعي الإنسان معارك التاريخ وأن يغفل عن معالجة قضايا العصر وإشكاليات الزمان، ثم النقطة الأخيرة وهي الموازنة بين الائتلاف والاختلاف، تعظيم الجوامع المشتركة والتراحم في قضايا الاختلاف وإعذار المختلف فيه والنأي عن تكفير أهل القبلة، كل من شهد الشهادتين واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، كل من توضأ فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا. هذه أبرز الملامح التي كان عليها سلفنا الصالح والذي ينبغي أن نحيي قاعدة التأسي بهم في شمول هذا المنهج لا في جزئيات أقوالهم أو التصدي لبعض مشكلات عصرهم التي تجاوزها الزمن وعفا عليها فـ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ..}[البقرة:134].
السؤال كيف يمكن أن نجمع بين السلفي أو بين السلفية والتجديد معا؟
كل انتماء صحيح للسلف الصالح لا بد أن يكون دعوة تجديدية وكل تجديد ينطلق من أصول الإسلام لا بد أن ينتسب إلى منهج السلف الصالح، فالسلفية ليس معناها مجرد عودة إلى الوراء، السلفية الحقة هي دعوة متجددة والتجديد الحق لا بد أن ينتمي إلى السلف الصالح لأن السلف عاشوا قضايا عصرهم ولذلك حينما نعيش قضايا عصرنا ونقدم أجوبة وحلولا لمشكلات هذا الزمن فنحن ننتمي إلى سلفنا الصالح وحينما نستعيد معارك التاريخ الجهمية، المعتزلة، المعطلة، أمثال هؤلاء ولا نعيش قضايا العصر ولا تحديات الزمن ولا نقدم حلولا لهذا العصر فبهذا المعنى لا نكون قد انتسبنا إلى السلف، فالسلفية والتجديد صنوان يكمل بعضهما بعضا، السلفية الحقة هي دعوة إلى التجديد والإحياء والإبداع والتجديد الحق ليس نقضا للثوابت ولا هدما للمسلمات وإنما هو ارتباط بالأصل واتصال بالعصر، هذه هي المعادلة التي نريد أن نحياها تماما، وكثير من الحركات الإحيائية الإصلاحية زاوجت بين كونها قدمت مشروعا حضاريا لنهضة الأمة وفي ذات الوقت انطلقت مما كان عليه سلفنا الصالح، أما الذي يفهم بأن السلفية هي الوقوف فقط عند جزئيات أقوال علمائنا وآرائهم التي بنوها على اختلاف الزمان وتطور البيئات وانتهى إلى هذا فنقول له هذا ليس من السلف في شيء لأن السلف كما اجتهدوا لعصرهم علينا أن نجتهد لعصرنا كما عاشوا لقضايا زمانهم علينا أن نعيش لقضايا زماننا بذات المنهج الواسع الذي يحتمل ضروبا من تنوع الرأي واحتمال الفكر.
وأن هناك أزمات كثيرة، أولا هناك أزمة متعلقة بوحدة الأمة، وحدة الأمة اليوم تتعرض لأخطر قضية ما يمكن أن يسمى بتجزئة المجزأ أو تقسيم المقسم أو تفتيت المفتت، إما على أساس عرقي كما يقال في دارفور عرب وأفارقة، في شمال أفريقيا عرب وبربر، في العراق عرب وأكراد وتركمان، في الخليج عرب وفرس، أو قضية مذهبية أو على قضية متعلقة بالأقليات الدينية. كيف نحافظ على وحدة الأمة التي قامت على وحدة الجوامع الخمسة، وحدة العقيدة، وحدة الشريعة، وحدة القيم، وحدة الحضارة، وحدة دار الإسلام، هذه إحدى الأولويات الكبرى، الأولوية الثانية كيف تقدم هذه الحركات الإصلاحية نموذجا للإصلاح، الإصلاح في الحكم الرشيد في مقابل الاستبداد، الإصلاح في العدالة الاجتماعية في مقابل الظلم الاجتماعي، الإصلاح في مواجهة حالة التخلف التقني والعلمي والتكنولوجي، كيف ننهض بالأمة، حالة الوهن الأخلاقي، حالة التبعية والاستلاب. هناك أمر آخر من الأولويات الاحتلال الذي جثم على صدر الأمة في مقدساتها وفي كثير من البلاد، ثم جانب آخر كيف تتحرك هذه الدعوات لتقديم مشروع نهضة لنهضة الأمة ينقلها من دائرة الوجود العادل إلى الشهود الفاعل، نهضة تقوم على العقيدة الموافقة للفطرة، على العبادة الدافعة للعمارة، على العقل المهتدي بالوحي، على العلم المرتبط بالإيمان، على الأخلاق المترقية بالإنسان، على العدل المؤيد بالإحسان، على التشريع المحقق للمصلحة، على الفن الملتزم بالقيم، على القوة المقترنة بالحق، على الخير المتوشح بالجمال، لا يوجد مشروع لنهضة الأمة شامل ومشروع إصلاح يحاول أن ينشئ علاقة تنهض بهذه الأمة في كل هذه الجوانب. قضية العولمة وإفرازاتها وتحدياتها، قضية الحداثة وما بعد الحداثة، إشكاليات ضخمة في واقع الأمة، بدل أن نستدعي معارك التاريخ التي عفا عليها الزمان على الدعاة أن يتصدوا لمشكلات العصر وواقع الزمان بعقل نقي بقلب تقي بجهد متضام، بحراك واجتهاد وإحياء حتى نستطيع أن نجيب على هذه الإشكاليات ويكون انتماؤنا انتماء إلى السلف الصالح انتماء منهج وليس انتماء مذهبية ضيقة تعمل على شتات شمل الأمة.