أم محمد الظن
2011-04-13, 01:19 AM
[2]تابع ثناء شيوخه عليه
فلا زلنا مع ترجمة الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- بمناسبة أننا سنشرح جزءًا من كتابه الصحيح ألا وهو كتاب الرقاق، وقد اخترت لهذا الشرح اسمًا على عادة العلماء الأوائل أنهم كانوا يختارون اسمًا لشروحهم، وقد سميته "فك الوثاق بشرح كتاب الرقاق". وذكرت شيئًا من ترجمة الإمام في المرة الماضية وثناء شيوخه عليه، و أستكمل اليوم إن شاء الله ذكر بعض ثناء الشيوخ عليه لأنني كما قلت في المرة الماضية ثناء الشيخ على التلميذ شيء عظيم لأن الشيخ لاسيما في هذه الأزمان لا يحتاج أن يجامل تلميذه، وبثناء الشيوخ على التلميذ يحظى التلميذ بمكانته، وقد كان الإمام -رحمة الله عليه- محل إجماع من أهل العلم، ما أعلم أحدًا غمز الإمام البخاري -رحمه الله- إلا ما يكون بسبب داء المعاصرة، والمعاصرة حرمان كما يقول أهل العلم ولربما ذكرنا شيئًا من هذا في موطنه إن شاء الله تعالى.
يستكمل الشيخ _ حفظه الله_ بعض ثناء شيوخ الإمام البخاري عليه.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: و هو أبو جعفر وهو تلميذ البخاري وهو الذي كان يكتب ما يمليه عليه الإمام من تصانيفه لاسيما الجامع الصحيح.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعت محمد بن إسماعيل -أي البخاري -رحمه الله- يقول: لما دخلت البصرة صرتُ إلى بُندار،( وبُندار) كما ذكرت في المرة الماضية اسمه محمد بن بشار وبُندار لقب له، والبُندار (هو الميزان )لأنه جمع علم شيوخ بلده ثم رحل بعد ذلك إلى طلب العلم.
يقول البخاري: أنه لما دخل البصرة ووافى مجلس بُندار و هو محمد بن بشار، قال فلما وقع بصره عليّ، قال: من أين الفتى؟. لم يكن بُندارٌ يعرف البخاري ولم يلقه قبل ذلك. فقال: من أين الفتي؟، قال: فقلت له من أهل بخارى، فقال لي: كيف تركت أبا عبد الله؟. يسأله عن البخاري, أي يسأل البخاري عن البخاري لأنه لم يلتق بالبخاري قبل ذلك. قال البخاري: فأمسكت -أي لم أعرفه بنفسي، لم أقل له أنا البخاري_ فقال له التلاميذ في الحلقة يرحمك الله هذا أبو عبد الله أي هذا هو البخاري الذي تسأل عنه. قال: فقام وأخذ بيدي وعانقني وقال مرحبًا بمن أفتخر به منذ سنين. وهذا كما قلت إنما سمع فقط عن البخاري فكيف لو جالسه وناظره ورأى ما عنده من العلم.
قال محمد بن بشار أيضًا -بُندار: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زُرعة الرازي( بالري) والدارمي عبد الله بن عبد الرحمن (بسمرقند،) ومحمد بن إسماعيل البخاري (ببخارى) ومسلم (بنيسابور)، مسلم و هو الإمام مسلم بن الحجاج -رحمة الله عليه.
البخاري كان يذهب لشيخ اسمه عبد الله بن منير يقول: خرج رجل من أصحاب عبد الله بن منير إلي بُخَاريَ في حاجة له، فلما رجع قال له بن منير: لقيت أبا عبد الله؟ قال لا، فطرده من مجلسه وقال ما فيك خير إذ قدمت بخارى ولم تصل إلى أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وكان الحقيقة عبد الله بن منير يقول: محمد بن إسماعيل أستاذي برغم أنه هو شيخ الإمام البخاري -رحمه الله تعالى.
وكان ابن صاعد يسمي البخاري الكبش النطاح. لأن البخاري لم يكن يثبت له أحد في المناظرة، إذا حصل نوع من المناظرة في الحديث سواء كان في الحفظ أو في علل الأحاديث أو في أسماء الرواة أو كناهم ,ما كان أحد يثبت للبخاري أبدًا، فشبهه ابن صاعد بالكبش النطاح.
قال ابن أبي حاتم الوراق: سُئٍلَ عبد الله بن عبد الرحمن و هو الإمام الدارمي، الإمام الدارمي أحد شيوخ الإمام البخاري. لما مات الدرامي وبلغ نعيه البخاري .
بكي البخاري وأنشد قائلاً
إن عشت تُفجعُ بالأحبة كُلِهِم
وفناءُ نفسِكَ لا أبَ لكَ أفجعُ.
( إن عشت تُفجعُ بالأحبة كُلِهِم )أي أن الإنسان طويل العمر عنده مشكلة ، أنه يودع كل يوم حبيبًا، إذا أنه من آخرهم حياتًا، فدائمًا إذا دفن رجلاً يحبه يحزن عليه حتى يذهب بعضه ثم يدفن رجلاً يحبه ثم يدفن رجلاً يحبه، فهو قد عاين الأحباب جميعًا إذ طال عمره.
(وفناءُ نفسِكَ لا أبَ لكَ أفجعُ) أي فناء نفسك أفجع، أو ينبغي أن تتفجع عليها أكثر من تفجعك على من تحب.
سُئِلَ الإمام الدارمي -رحمه الله- وله كتاب اسمه السُنن، سُنن الدارمي مشهور- عن حديث محمد بن كعب (لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه عليه) وهذا الحديث لا يصح، وقيل له محمد يزعم أن هذا صحيح أي إلى محمد بن كعب، أي ليس مرفوعًا إلى النبي -ﷺ، الكلام هنا منسوب إلى محمد بن كعب، وإلا فالحديث المرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال هذا الكلام لا يصح إذ تفرد بروايته الديلمي، ومفاريد الديلمي عادة إما مكذوبة إما منكرة وإما ضعيفة. فقيل له أن محمدًا -أي البخاري- يزعم أن هذا صحيح، فقال: محمد أبصر مني، هذا كلام شيخه عنه، لأن همه النظر في الحديث أما أنا فمشغول مريض، ثم قال: محمد أكيس خلق الله، إنه عقل عن الله ما أمره به ونهى عنه في كتابه وعلى لسان نبيه -ﷺ. إذا قرأ محمد القرآن شغل قلبه وبصره وسمعه وتفكر في أمثاله وعرف حلاله وحرامه.
والإمام الدارمي أيضًا طلب كتاب البخاري في الأدب المفرد: البخاري له كثيرة، سنذكر شيئًا من مصنفاته في موطنها، من هذه الكتب كتاب اسمه الأدب المفرد،.
سبب تسمية الأدب المفرد بهذا الاسم.
وسُميَ الأدب المفرد بهذا الاسم:لأن البخاري في صحيحه أفرد كتابًا سماه كتاب الأدب، فحتى لا يختلط على الناس في العزو تقول أخرج البخاري في الأدب، هل الأدب الذي في الصحيح أو الأدب الذي أفرده عن الجامع الصحيح من أجل ذلك سماه كتاب الأدب المفرد.
طلب الدارمي -رحمه الله- كتاب الأدب للإمام البخاري -رحمه الله- فأراد أن ينظر فيه وينظر كيف صنف البخاري كتابه هذا وحبسه عنده ثلاثة أشهر، فلما قال القائل فلما أخذ مني الكتاب هل وجدت فيه حشوًا أو حديثًا ضعيفًا؟ فقال ابن إسماعيل لا يقرأ على الناس إلا الحديث الصحيح، وهل يُنكَرُ على محمد!.
كلام شيوخ البخاري -رحمه الله- كلام كثير في هذا، وطبعًا إذا كان هذا كلام شيوخه فكيف بأقرانه؟ فكيف بتلاميذه,؟.
مثل الإمام مسلم بن الحجاج -رحمه الله- صاحب الصحيح: لما سأل البخاري عن علة حديث، وذكرها له البخاري، قال له دعني أقبل قدميك يا أستاذ الأستاذين وطبيب الحديث في علله، أشهد أنه لا يبغضك إلا حاسد. هذا كلام الإمام مسلم -رحمه الله- مع شيخه الإمام البخاري.
ابن خُزيمة و يعتبر من تلاميذ البخاري ومن أقرانه في نفس الوقت مثل مسلم يقول: [ما أعلم تحت أديم السماء أحدًا أعلم بالحديث وأحفظ من محمد بن إسماعيل البخاري.] هذا فضلاً أو ناهيك عن تلاميذه الآخرين مثل الإمام الترمذي الذي تخرج به.
ورع الإمام البخاري -رحمه الله- وعبادته وفضله:
كان -الإمام البخاري_ يقول:[ إني لأرجو أن ألقى الله -تبارك وتعالى- ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا.]
الإمام الذهبي -رحمه الله- علق على كلام البخاري:قال صدق: فمن نظر إلى كلامه في الرواة علم ذلك. لأن البخاري -رحمه الله- كان يستخدم الكلام اللطيف، حتى في الجرح -جرح الرواة، يقول مثلاً في الراوي" فيه نظر"لا يقول "كذاب "مثلاً،" مغفل" أو ما يشبه هذه العبارات التي تشعر بالقوة، في الجرح، أن يقول ليس بثقة -لا- كان قليلاً ما يستخدم هذه العبارات، كانت عباراته على أية حال عبارات رقيقة، أقوى عبارة استخدمها البخاري أن يقول البخاري "منكر الحديث" فكان يقول أرجو أن ألقى الله -عز وجل- وأنه لا يحاسبني أني اغتبت أحدًا.
إشكال وإيضاحه:
هل الكلام في رواة الحديث يعد من الغيبة المحرمة؟
يوجد راوي سيء الحفظ، حفظه ليس مضبوطاً، يمكن يدخل الكلام في بعضه، يدخل الأحاديث في بعضها،الحديث المكذوب يجعله صحيحًا أو يجعل كلام الناس فينسبه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- مثلما,حدث لثابت بن موسى الزاهد
ضرب الشيخ_ حفظه الله _ مثلاً لراويٍ سيء الحفظ(ثابت بن موسى الزاهد)
كان ثابت بن موسى الزاهد، رجلاً مغفلاً سيء الحفظ، في ذات مرة من المرات وكان متعبدًا وشغلته العبادة عن حفظ الحديث لأن حفظ الحديث يحتاج إلى مداومة النظر ويحتاج إلى نهمة الطالب وهذا تثبيت الحفظ كما قال البخاري -رحمه الله- فانشغل ثابت بن موسى بهذه العبادة ولم يضبط الحديث، ذات يوم من الأيام ثابت بن موسى الزاهد دخل مسجدًا من المساجد وكان أحد المحدثين واسمه شَرِيك بن عبد الله النَخعي كان يحدث الطلبة بحديث، فقال لهم حدثنا الأعمش عن أبي سفيان -أبو سفيان طلحة بن نافع- عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: وبعد كلمة قال:دخل ثابت بن موسى الزاهد من باب المسجد ، فخاطبه شَرِيك( بيتبسط معه) فقال له "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار"، يمزح معه يريد أن يقول له أنت وجهك منور وأنت طول الليل أكيد تصلي ، فظن ثابت أن هذا هو الحديث، أن هذا "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار" هو كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام- فخرج من المسجد وجعل يقول حدثنا شريك قال حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال:قال رسول الله ﷺ "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار."
هل قال: النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام؟
لا لم يقله الذي قال هذا هو شريك، كان يمزح معه، لكنه لم يضبط المسألة لأنه كان سيء الحفظ فجعل كلام شريك من كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام.
الذي يترتب علي ترك كل راوٍ سيء الحفظ لسوء حفظه.
فلو تركنا كل راو سيء الحفظ نتركه لسوء حفظه إذاً لضاعت الشريعة كلها، فما كان العلماء يقبلون أي خبر من أي راوٍ من الرواة إلا إذا كان حافظًا ضابطًا وإلا ستضيع السنة كلها،.
الدور الذي قام به علماء الحديث حيال حفظ السنة.
1-قام علماء الحديث ونظروا في الرواة الذين نقلوا إلينا الأحاديث وسألوا عن كل راو أهل بلده وأهل العلم، فقيل فلان كذاب أو ثقة أو سيء الحفظ أو ساقط العدالة فكان علماء الحديث يكتبون هذا الكلام ودونوه في كتب. 2- ترتيب كل الرواة الذين رووا الأحاديث على حروف الهجاء، من بدأ اسمه بحرف الألف، من يبدأ أسمهم بحرف الباء، حرف التاء... إلى آخر الثمانية وعشرين حرف.
3-ويذكرون أقوال أهل العلم في كل راو. بذلوا مجهودًا خارقًا حتى يحفظوا سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
فبعض الناس قال: كونك تقول الراوي سيء الحفظ تكون قد اغتبت هذا الراوي، وبدأ يظهر حزب من الأحزاب مضاد لعلماء الجرح والتعديل الذين يقولون في الرواة سيء الحفظ أو مغفل إلى آخر عبارات الجرح.
قال أحد الشعراء الذي كان يقف لابن معين و لعلماء الجرح والتعديل:
أرى الخيرَ في الدنيا يقلُ كثيرُهُ
وينقُصُ نقصًا والحديثَ يزيدُ.
فلو كان خيرًا كان كالخيرِكُلِهِ
ولكن شيطانَ الحديثِ مَرِيدُ.
ولابن معينٍ في الرواةِ مقالةٌ
سيُسألُ عنها والمليكُ شهيدُ
فإن تكُ حقًا فهي في الأصلِ غِيبةٌ
وإن تكُ زورًا فالقِصاصُ شَدِيدُ
يشير بآخر هذا الكلام إلى حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام-( لما سُئِلَ فقيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قال أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) وبهته من البهتان_ أي الكذب_إذاً معني الحديث هذا أن كل علماء الجرح والتعديل دخلوا في باب الغيبة، لأنه العالم قال أن فلان هذا سيء الحفظ وهو كان فعلاً سيء الحفظ، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال (فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته).
كيف نخرج من هذه المسألة؟
لأن هناك أحاديث للنبي -عليه الصلاة والسلام- وصف بعض الناس بما فيه وكان قدحًا كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت( استأذن رجل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال بئس أخو العشيرة، أو قال بئس رجل العشيرة، فلما دخل الرجل ألان النبي ﷺ له الكلام وأجلسه)ثم بعد انصراف الرجل, استشكلت عائشة هذا. (قال بئس أخو العشيرة) أي ذمة وسبه فلما دخل عليه ألان له الكلام، كيف يحدث هذا فحدث عندها استشكال فسألت رسول الله ﷺ قالت: يا رسول الله قلت ما قلت وصنعت ما صنعت -قلت فيه كلامًا شديدًا وصنعت فيه معروفًا واستعملت اللطف وحسن الخلق معه.
فقال( يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يُتقى لفحشه)
إذا عندنا حديثان ظاهرهما التعارض. (..ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته)، الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال (بئس أخو العشيرة) أليس هذا حق؟ نعم حق. فهذا على مقتضى الكلام الأول يعتبر غيبه! قال: لا. كيف ذلك إذاً وفق لنا بين الأحاديث، وهل هناك تعارض بين الحديثين؟لا.
الأوجه التي تجوز فيها الغيبة.
بعض العلماء وهو الإمام محمد بن عوجان المالكي وهو أحد تلاميذ الحافظ بن حجر العسقلاني صاغ الأوجه التي تجوز فيها الغيبة في بيتين من الشعر رائقين
"القدحُ ليس بغِيبةٍ في ستةٍ. أي إذا ذكرت أخاك بما يكره لا يكون غيبة محرمة في ستة أشياء . يقول
القدحُ ليس بغِيبةٍ في ستةٍ
متظلمٍ ومُعَرِفٍ ومُحَذِرِ
ومُجَاهِرٍ فسقًا ومستفتيٍ
ومن طلب الإعانَةَ في إزالةِ مُنكَرِ"
جرح الرواة أن تقول هذا فيه كذا وهذا صفته كذا يدخل تحت قوله (ومُعَرِفٍ) أن أعرف هذا الراوي بأنه سيء الحفظ أو أنه ليس أهلاً للرواية، هذا ليس بغيبة، لأنه ضرب من النصيحة،.
إنما الغيبة ما قصدت به هضم حق المجروح، وأنك تُنزل منه.:
مثل ما حدث من عائشة -رضي الله عنها- (دخلت صفية أو زينب على النبي ﷺ فقالت عائشة للنبي ﷺ حسبك منها أنها قصيرة، فقال -عليه الصلاة والسلام لها- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) _أي لغيرت طعمه_ولما استطاع الناس أن ينتفعوا به. فهذا وصف، لكن عائشة -رضي الله عنها- قصدت أن تنتقص بهذا الوصف صفية أو زينب؛.
بخلاف ما إذا قال عالم الحديث أن هذا كذاب أو أن هذا سيء الحفظ أو أن هذا مختلط، الذي دفعه إلى ذلك هو صيانة حديث رسول الله ﷺ أن يدخل منه ما ليس فيه،.
فجرح الرواة لا يعد من الغيبة المحرمة بإجماع أهل العلم،.
لم يختلف أحد من أهل العلم الذين يرجع إلى قولهم في أن هذا إنما هو داخل في باب النصيحة وليس داخلاً في باب الغيبة المحرمة.
لكن الإمام البخاري -رحمه الله- كان يستخدم العبارات اللطيفة في مثل هذا ولا يستخدم العبارات القوية مثلما يستخدمها بقية الأئمة من شيوخه ومن أقرانه.
يقول محمد ابن أبي حاتم الوراق عن البخاري: ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغيبة تضر بأهلها. أي أن يقصد تنقيص المغتاب، لكن الكلام في رواة الحديث كما قلنا ليس من هذا الضرب.
قال أبو جعفر الوراق: وكان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاثة عشرة ركعة وكان لا يوقظني في كل ما يقوم فقلت أراك تحمل نفسك شيئًا كثيرًا في هذا ولم توقظني، قال أنت رجل شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك.
قال غُنجار: وغُنجار هذا له كتاب اسمه تاريخ بخارى، ذكر فيه ترجمة للإمام البخاري -رحمه الله- قال:" كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء آذاني".
الإمام البخاري كعادته كان يستعمل الحديث في العبادة.: لم يكن مجرد رجل يجمع الأحاديث وكان منفصلاً عنها -لا- وهذا كان ديدن علماء الحديث الذين جعل الله _سبحانه وتعالي_ لهم لسان صدق في الأمة، كانوا يتدينون بالحديث.
الإمام أحمد بن حنبل كان كلما كان يروي خبر من الأخبار كان ينفذه. حتى جاء على الحديث أن أبا طيبة الحجام حجم النبي ﷺ فدعي أحمد بن حنبل بالحجام فحجمه فأعطاه أجره حتى يتأسى بالنبي ﷺ مع أنه لم يكن له حاجة للحجامة.
فكان الإمام البخاري -رحمه الله- يستعمل الأخبار التي كان يرويها، في حياته، وهذه بركة العلم.
كما قال مجاهد بن جبر -رحمه الله-" ليس العلم بكثرة المسائل ولكن العلم الخشية" أي أن هذا العلم ينبغي أن يحملك على أن تخشى الله -تبارك وتعالى.
فلا زلنا مع ترجمة الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- بمناسبة أننا سنشرح جزءًا من كتابه الصحيح ألا وهو كتاب الرقاق، وقد اخترت لهذا الشرح اسمًا على عادة العلماء الأوائل أنهم كانوا يختارون اسمًا لشروحهم، وقد سميته "فك الوثاق بشرح كتاب الرقاق". وذكرت شيئًا من ترجمة الإمام في المرة الماضية وثناء شيوخه عليه، و أستكمل اليوم إن شاء الله ذكر بعض ثناء الشيوخ عليه لأنني كما قلت في المرة الماضية ثناء الشيخ على التلميذ شيء عظيم لأن الشيخ لاسيما في هذه الأزمان لا يحتاج أن يجامل تلميذه، وبثناء الشيوخ على التلميذ يحظى التلميذ بمكانته، وقد كان الإمام -رحمة الله عليه- محل إجماع من أهل العلم، ما أعلم أحدًا غمز الإمام البخاري -رحمه الله- إلا ما يكون بسبب داء المعاصرة، والمعاصرة حرمان كما يقول أهل العلم ولربما ذكرنا شيئًا من هذا في موطنه إن شاء الله تعالى.
يستكمل الشيخ _ حفظه الله_ بعض ثناء شيوخ الإمام البخاري عليه.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: و هو أبو جعفر وهو تلميذ البخاري وهو الذي كان يكتب ما يمليه عليه الإمام من تصانيفه لاسيما الجامع الصحيح.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعت محمد بن إسماعيل -أي البخاري -رحمه الله- يقول: لما دخلت البصرة صرتُ إلى بُندار،( وبُندار) كما ذكرت في المرة الماضية اسمه محمد بن بشار وبُندار لقب له، والبُندار (هو الميزان )لأنه جمع علم شيوخ بلده ثم رحل بعد ذلك إلى طلب العلم.
يقول البخاري: أنه لما دخل البصرة ووافى مجلس بُندار و هو محمد بن بشار، قال فلما وقع بصره عليّ، قال: من أين الفتى؟. لم يكن بُندارٌ يعرف البخاري ولم يلقه قبل ذلك. فقال: من أين الفتي؟، قال: فقلت له من أهل بخارى، فقال لي: كيف تركت أبا عبد الله؟. يسأله عن البخاري, أي يسأل البخاري عن البخاري لأنه لم يلتق بالبخاري قبل ذلك. قال البخاري: فأمسكت -أي لم أعرفه بنفسي، لم أقل له أنا البخاري_ فقال له التلاميذ في الحلقة يرحمك الله هذا أبو عبد الله أي هذا هو البخاري الذي تسأل عنه. قال: فقام وأخذ بيدي وعانقني وقال مرحبًا بمن أفتخر به منذ سنين. وهذا كما قلت إنما سمع فقط عن البخاري فكيف لو جالسه وناظره ورأى ما عنده من العلم.
قال محمد بن بشار أيضًا -بُندار: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زُرعة الرازي( بالري) والدارمي عبد الله بن عبد الرحمن (بسمرقند،) ومحمد بن إسماعيل البخاري (ببخارى) ومسلم (بنيسابور)، مسلم و هو الإمام مسلم بن الحجاج -رحمة الله عليه.
البخاري كان يذهب لشيخ اسمه عبد الله بن منير يقول: خرج رجل من أصحاب عبد الله بن منير إلي بُخَاريَ في حاجة له، فلما رجع قال له بن منير: لقيت أبا عبد الله؟ قال لا، فطرده من مجلسه وقال ما فيك خير إذ قدمت بخارى ولم تصل إلى أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وكان الحقيقة عبد الله بن منير يقول: محمد بن إسماعيل أستاذي برغم أنه هو شيخ الإمام البخاري -رحمه الله تعالى.
وكان ابن صاعد يسمي البخاري الكبش النطاح. لأن البخاري لم يكن يثبت له أحد في المناظرة، إذا حصل نوع من المناظرة في الحديث سواء كان في الحفظ أو في علل الأحاديث أو في أسماء الرواة أو كناهم ,ما كان أحد يثبت للبخاري أبدًا، فشبهه ابن صاعد بالكبش النطاح.
قال ابن أبي حاتم الوراق: سُئٍلَ عبد الله بن عبد الرحمن و هو الإمام الدارمي، الإمام الدارمي أحد شيوخ الإمام البخاري. لما مات الدرامي وبلغ نعيه البخاري .
بكي البخاري وأنشد قائلاً
إن عشت تُفجعُ بالأحبة كُلِهِم
وفناءُ نفسِكَ لا أبَ لكَ أفجعُ.
( إن عشت تُفجعُ بالأحبة كُلِهِم )أي أن الإنسان طويل العمر عنده مشكلة ، أنه يودع كل يوم حبيبًا، إذا أنه من آخرهم حياتًا، فدائمًا إذا دفن رجلاً يحبه يحزن عليه حتى يذهب بعضه ثم يدفن رجلاً يحبه ثم يدفن رجلاً يحبه، فهو قد عاين الأحباب جميعًا إذ طال عمره.
(وفناءُ نفسِكَ لا أبَ لكَ أفجعُ) أي فناء نفسك أفجع، أو ينبغي أن تتفجع عليها أكثر من تفجعك على من تحب.
سُئِلَ الإمام الدارمي -رحمه الله- وله كتاب اسمه السُنن، سُنن الدارمي مشهور- عن حديث محمد بن كعب (لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه عليه) وهذا الحديث لا يصح، وقيل له محمد يزعم أن هذا صحيح أي إلى محمد بن كعب، أي ليس مرفوعًا إلى النبي -ﷺ، الكلام هنا منسوب إلى محمد بن كعب، وإلا فالحديث المرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال هذا الكلام لا يصح إذ تفرد بروايته الديلمي، ومفاريد الديلمي عادة إما مكذوبة إما منكرة وإما ضعيفة. فقيل له أن محمدًا -أي البخاري- يزعم أن هذا صحيح، فقال: محمد أبصر مني، هذا كلام شيخه عنه، لأن همه النظر في الحديث أما أنا فمشغول مريض، ثم قال: محمد أكيس خلق الله، إنه عقل عن الله ما أمره به ونهى عنه في كتابه وعلى لسان نبيه -ﷺ. إذا قرأ محمد القرآن شغل قلبه وبصره وسمعه وتفكر في أمثاله وعرف حلاله وحرامه.
والإمام الدارمي أيضًا طلب كتاب البخاري في الأدب المفرد: البخاري له كثيرة، سنذكر شيئًا من مصنفاته في موطنها، من هذه الكتب كتاب اسمه الأدب المفرد،.
سبب تسمية الأدب المفرد بهذا الاسم.
وسُميَ الأدب المفرد بهذا الاسم:لأن البخاري في صحيحه أفرد كتابًا سماه كتاب الأدب، فحتى لا يختلط على الناس في العزو تقول أخرج البخاري في الأدب، هل الأدب الذي في الصحيح أو الأدب الذي أفرده عن الجامع الصحيح من أجل ذلك سماه كتاب الأدب المفرد.
طلب الدارمي -رحمه الله- كتاب الأدب للإمام البخاري -رحمه الله- فأراد أن ينظر فيه وينظر كيف صنف البخاري كتابه هذا وحبسه عنده ثلاثة أشهر، فلما قال القائل فلما أخذ مني الكتاب هل وجدت فيه حشوًا أو حديثًا ضعيفًا؟ فقال ابن إسماعيل لا يقرأ على الناس إلا الحديث الصحيح، وهل يُنكَرُ على محمد!.
كلام شيوخ البخاري -رحمه الله- كلام كثير في هذا، وطبعًا إذا كان هذا كلام شيوخه فكيف بأقرانه؟ فكيف بتلاميذه,؟.
مثل الإمام مسلم بن الحجاج -رحمه الله- صاحب الصحيح: لما سأل البخاري عن علة حديث، وذكرها له البخاري، قال له دعني أقبل قدميك يا أستاذ الأستاذين وطبيب الحديث في علله، أشهد أنه لا يبغضك إلا حاسد. هذا كلام الإمام مسلم -رحمه الله- مع شيخه الإمام البخاري.
ابن خُزيمة و يعتبر من تلاميذ البخاري ومن أقرانه في نفس الوقت مثل مسلم يقول: [ما أعلم تحت أديم السماء أحدًا أعلم بالحديث وأحفظ من محمد بن إسماعيل البخاري.] هذا فضلاً أو ناهيك عن تلاميذه الآخرين مثل الإمام الترمذي الذي تخرج به.
ورع الإمام البخاري -رحمه الله- وعبادته وفضله:
كان -الإمام البخاري_ يقول:[ إني لأرجو أن ألقى الله -تبارك وتعالى- ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا.]
الإمام الذهبي -رحمه الله- علق على كلام البخاري:قال صدق: فمن نظر إلى كلامه في الرواة علم ذلك. لأن البخاري -رحمه الله- كان يستخدم الكلام اللطيف، حتى في الجرح -جرح الرواة، يقول مثلاً في الراوي" فيه نظر"لا يقول "كذاب "مثلاً،" مغفل" أو ما يشبه هذه العبارات التي تشعر بالقوة، في الجرح، أن يقول ليس بثقة -لا- كان قليلاً ما يستخدم هذه العبارات، كانت عباراته على أية حال عبارات رقيقة، أقوى عبارة استخدمها البخاري أن يقول البخاري "منكر الحديث" فكان يقول أرجو أن ألقى الله -عز وجل- وأنه لا يحاسبني أني اغتبت أحدًا.
إشكال وإيضاحه:
هل الكلام في رواة الحديث يعد من الغيبة المحرمة؟
يوجد راوي سيء الحفظ، حفظه ليس مضبوطاً، يمكن يدخل الكلام في بعضه، يدخل الأحاديث في بعضها،الحديث المكذوب يجعله صحيحًا أو يجعل كلام الناس فينسبه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- مثلما,حدث لثابت بن موسى الزاهد
ضرب الشيخ_ حفظه الله _ مثلاً لراويٍ سيء الحفظ(ثابت بن موسى الزاهد)
كان ثابت بن موسى الزاهد، رجلاً مغفلاً سيء الحفظ، في ذات مرة من المرات وكان متعبدًا وشغلته العبادة عن حفظ الحديث لأن حفظ الحديث يحتاج إلى مداومة النظر ويحتاج إلى نهمة الطالب وهذا تثبيت الحفظ كما قال البخاري -رحمه الله- فانشغل ثابت بن موسى بهذه العبادة ولم يضبط الحديث، ذات يوم من الأيام ثابت بن موسى الزاهد دخل مسجدًا من المساجد وكان أحد المحدثين واسمه شَرِيك بن عبد الله النَخعي كان يحدث الطلبة بحديث، فقال لهم حدثنا الأعمش عن أبي سفيان -أبو سفيان طلحة بن نافع- عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: وبعد كلمة قال:دخل ثابت بن موسى الزاهد من باب المسجد ، فخاطبه شَرِيك( بيتبسط معه) فقال له "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار"، يمزح معه يريد أن يقول له أنت وجهك منور وأنت طول الليل أكيد تصلي ، فظن ثابت أن هذا هو الحديث، أن هذا "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار" هو كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام- فخرج من المسجد وجعل يقول حدثنا شريك قال حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال:قال رسول الله ﷺ "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار."
هل قال: النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام؟
لا لم يقله الذي قال هذا هو شريك، كان يمزح معه، لكنه لم يضبط المسألة لأنه كان سيء الحفظ فجعل كلام شريك من كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام.
الذي يترتب علي ترك كل راوٍ سيء الحفظ لسوء حفظه.
فلو تركنا كل راو سيء الحفظ نتركه لسوء حفظه إذاً لضاعت الشريعة كلها، فما كان العلماء يقبلون أي خبر من أي راوٍ من الرواة إلا إذا كان حافظًا ضابطًا وإلا ستضيع السنة كلها،.
الدور الذي قام به علماء الحديث حيال حفظ السنة.
1-قام علماء الحديث ونظروا في الرواة الذين نقلوا إلينا الأحاديث وسألوا عن كل راو أهل بلده وأهل العلم، فقيل فلان كذاب أو ثقة أو سيء الحفظ أو ساقط العدالة فكان علماء الحديث يكتبون هذا الكلام ودونوه في كتب. 2- ترتيب كل الرواة الذين رووا الأحاديث على حروف الهجاء، من بدأ اسمه بحرف الألف، من يبدأ أسمهم بحرف الباء، حرف التاء... إلى آخر الثمانية وعشرين حرف.
3-ويذكرون أقوال أهل العلم في كل راو. بذلوا مجهودًا خارقًا حتى يحفظوا سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
فبعض الناس قال: كونك تقول الراوي سيء الحفظ تكون قد اغتبت هذا الراوي، وبدأ يظهر حزب من الأحزاب مضاد لعلماء الجرح والتعديل الذين يقولون في الرواة سيء الحفظ أو مغفل إلى آخر عبارات الجرح.
قال أحد الشعراء الذي كان يقف لابن معين و لعلماء الجرح والتعديل:
أرى الخيرَ في الدنيا يقلُ كثيرُهُ
وينقُصُ نقصًا والحديثَ يزيدُ.
فلو كان خيرًا كان كالخيرِكُلِهِ
ولكن شيطانَ الحديثِ مَرِيدُ.
ولابن معينٍ في الرواةِ مقالةٌ
سيُسألُ عنها والمليكُ شهيدُ
فإن تكُ حقًا فهي في الأصلِ غِيبةٌ
وإن تكُ زورًا فالقِصاصُ شَدِيدُ
يشير بآخر هذا الكلام إلى حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام-( لما سُئِلَ فقيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قال أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) وبهته من البهتان_ أي الكذب_إذاً معني الحديث هذا أن كل علماء الجرح والتعديل دخلوا في باب الغيبة، لأنه العالم قال أن فلان هذا سيء الحفظ وهو كان فعلاً سيء الحفظ، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال (فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته).
كيف نخرج من هذه المسألة؟
لأن هناك أحاديث للنبي -عليه الصلاة والسلام- وصف بعض الناس بما فيه وكان قدحًا كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت( استأذن رجل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال بئس أخو العشيرة، أو قال بئس رجل العشيرة، فلما دخل الرجل ألان النبي ﷺ له الكلام وأجلسه)ثم بعد انصراف الرجل, استشكلت عائشة هذا. (قال بئس أخو العشيرة) أي ذمة وسبه فلما دخل عليه ألان له الكلام، كيف يحدث هذا فحدث عندها استشكال فسألت رسول الله ﷺ قالت: يا رسول الله قلت ما قلت وصنعت ما صنعت -قلت فيه كلامًا شديدًا وصنعت فيه معروفًا واستعملت اللطف وحسن الخلق معه.
فقال( يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يُتقى لفحشه)
إذا عندنا حديثان ظاهرهما التعارض. (..ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته)، الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال (بئس أخو العشيرة) أليس هذا حق؟ نعم حق. فهذا على مقتضى الكلام الأول يعتبر غيبه! قال: لا. كيف ذلك إذاً وفق لنا بين الأحاديث، وهل هناك تعارض بين الحديثين؟لا.
الأوجه التي تجوز فيها الغيبة.
بعض العلماء وهو الإمام محمد بن عوجان المالكي وهو أحد تلاميذ الحافظ بن حجر العسقلاني صاغ الأوجه التي تجوز فيها الغيبة في بيتين من الشعر رائقين
"القدحُ ليس بغِيبةٍ في ستةٍ. أي إذا ذكرت أخاك بما يكره لا يكون غيبة محرمة في ستة أشياء . يقول
القدحُ ليس بغِيبةٍ في ستةٍ
متظلمٍ ومُعَرِفٍ ومُحَذِرِ
ومُجَاهِرٍ فسقًا ومستفتيٍ
ومن طلب الإعانَةَ في إزالةِ مُنكَرِ"
جرح الرواة أن تقول هذا فيه كذا وهذا صفته كذا يدخل تحت قوله (ومُعَرِفٍ) أن أعرف هذا الراوي بأنه سيء الحفظ أو أنه ليس أهلاً للرواية، هذا ليس بغيبة، لأنه ضرب من النصيحة،.
إنما الغيبة ما قصدت به هضم حق المجروح، وأنك تُنزل منه.:
مثل ما حدث من عائشة -رضي الله عنها- (دخلت صفية أو زينب على النبي ﷺ فقالت عائشة للنبي ﷺ حسبك منها أنها قصيرة، فقال -عليه الصلاة والسلام لها- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) _أي لغيرت طعمه_ولما استطاع الناس أن ينتفعوا به. فهذا وصف، لكن عائشة -رضي الله عنها- قصدت أن تنتقص بهذا الوصف صفية أو زينب؛.
بخلاف ما إذا قال عالم الحديث أن هذا كذاب أو أن هذا سيء الحفظ أو أن هذا مختلط، الذي دفعه إلى ذلك هو صيانة حديث رسول الله ﷺ أن يدخل منه ما ليس فيه،.
فجرح الرواة لا يعد من الغيبة المحرمة بإجماع أهل العلم،.
لم يختلف أحد من أهل العلم الذين يرجع إلى قولهم في أن هذا إنما هو داخل في باب النصيحة وليس داخلاً في باب الغيبة المحرمة.
لكن الإمام البخاري -رحمه الله- كان يستخدم العبارات اللطيفة في مثل هذا ولا يستخدم العبارات القوية مثلما يستخدمها بقية الأئمة من شيوخه ومن أقرانه.
يقول محمد ابن أبي حاتم الوراق عن البخاري: ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغيبة تضر بأهلها. أي أن يقصد تنقيص المغتاب، لكن الكلام في رواة الحديث كما قلنا ليس من هذا الضرب.
قال أبو جعفر الوراق: وكان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاثة عشرة ركعة وكان لا يوقظني في كل ما يقوم فقلت أراك تحمل نفسك شيئًا كثيرًا في هذا ولم توقظني، قال أنت رجل شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك.
قال غُنجار: وغُنجار هذا له كتاب اسمه تاريخ بخارى، ذكر فيه ترجمة للإمام البخاري -رحمه الله- قال:" كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء آذاني".
الإمام البخاري كعادته كان يستعمل الحديث في العبادة.: لم يكن مجرد رجل يجمع الأحاديث وكان منفصلاً عنها -لا- وهذا كان ديدن علماء الحديث الذين جعل الله _سبحانه وتعالي_ لهم لسان صدق في الأمة، كانوا يتدينون بالحديث.
الإمام أحمد بن حنبل كان كلما كان يروي خبر من الأخبار كان ينفذه. حتى جاء على الحديث أن أبا طيبة الحجام حجم النبي ﷺ فدعي أحمد بن حنبل بالحجام فحجمه فأعطاه أجره حتى يتأسى بالنبي ﷺ مع أنه لم يكن له حاجة للحجامة.
فكان الإمام البخاري -رحمه الله- يستعمل الأخبار التي كان يرويها، في حياته، وهذه بركة العلم.
كما قال مجاهد بن جبر -رحمه الله-" ليس العلم بكثرة المسائل ولكن العلم الخشية" أي أن هذا العلم ينبغي أن يحملك على أن تخشى الله -تبارك وتعالى.