أم محمد الظن
2011-04-11, 01:48 PM
فك الوثاق بشرح كتاب الرقاق
الدرس الرابع والخمسون
للشيخ أبي إسحاق الحويني
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمدٍ r وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
****
فقد عدنا إليكم بحمد اللهI ونسأل الله U أن يكون عودًا حميدًا علي وعليكم ، ونواصل ما كنا بصدده منذ فترة طويلة من الإنقطاع نواصل شرح كتاب الرقاق ، والذي اصطلحت علي تسمية شرحي عليه بـ ( فك الوثاق في شرح كتاب الرقاق ) من صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله تعالي - .
وحتى أصل ما ذكرته قديمًا بما سأذكره أُذكِّر بما ذكرته قديمًا في عُجالة سريعة حتى أستطيع أن أجمع المحاور كلها
المراد بكتاب الرِقاق: هو جمع رقيقة ، والمقصود به الأحاديث التي ترقق القلب ولأن العقل في القلب كان القرآن المكي يخاطب قلوب الناس بالتوحيد ، وذكر آلاء اللهI ، وذكر القيامة ، والمعاد ، والحساب وكذلك الأحاديث التي ذكرها النبي r في هذا الصدد كثيرة ووفيرة بحمد الله تعالي وكلها تعني بهذه المضغة التي وصفها النبي r بقوله:« ألا إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » ، وكما ذكرت لكم إن العقل في القلب قال تعالي:﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾(الحج:46) مكان العقل والدليل علي ذلك:فليس العقل في الرأس كما يذهب إليه بعض أهل العلم ، بل الصحيح أن العقل في القلب والآية نص في هذا :﴿ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ ، وليست القلوب التي في الرؤوس ، وقال الله U:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ (ق:37) والمقصود من هذا جميعًا هو تزكية النفس عن طريق تزكية هذا القلب .
الإمام البخاري صنف كتابًا أودعه من جملة صحيحه أي كتاب الرقاق ليس كتابًا منفصلًا عن الصحيح مثل كتاب الأدب المفرد ، البخاري - رحمه الله - له عدة كتب منها كتاب الأدب المفرد ، إنما سماه المفرد حتى يفرده عن كتاب الأدب الذي وضعه في صحيحه ، أنتم تعلمون أن صحيح البخاري كما ذكرت لكم قبل ذلك يتألف من عدة كتب بدءً من كتاب بدء الوحي وانتهاءً بكتاب التوحيد ، ما بين هذين الكتابين عدة كتب مثل كتاب الإيمان ، وكتاب العلم ، وكتاب الطهارة ، وكتاب الغسل وكتاب الحيض ، وكتاب الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والفرائض والجهاد والاعتصام بالكتاب والسنة ، والطلاق ، والنكاح إلي آخر ما هو مذكور في هذا الكتاب ، صحيح البخاري مقسم إلي كتب ، فمن جملة الكتب التي هي في صحيح البخاري كتاب الأدب .
فحتى لا يلتبس كتاب الأدب إذا قيل أخرجه البخاري في أدب الصحيح مع الكتاب الذي صنفه منفصلًا عن الصحيح ولم يشترط فيه ما اشترطه في صحيحه سماه كتاب الأدب المفرد ، فلذلك نحن إذا أردنا أن نعزو حديثًا إلي البخاري في الأدب المفرد لا يجوز عند أهل التخريج من المحدثين أن تقول أخرجه البخاري في الأدب وتسكت لإحتمال أن تقصد الأدب الذي في صحيحه ، بل لابد أن تقول أخرجه البخاري في الأدب المفرد وإذا أردت أن تذكر أو تعزو حديثًا لكتاب الأدب الذي في الصحيح تقول رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه ، لماذا ؟ حتى لا يلتبس بكتاب الأدب المفرد الذي صنفه الإمام البخاري .
فكتاب الرقاق ليس كتابًا منفصلًا: إنما هو كتاب من جملة صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري- رحمه الله - ، وكتاب البخاري مُعجب مُطرب ، وأنا رحلتي مع هذا الكتاب تجاوزت ربع قرن ، وكل يوم أكتشف جانبًا من جوانب عظمة هذا الكتاب .
سبب اختفاء الشيخ حفظه الله في الفترة الماضية: في الفترة التي اختفيت فيها منذ رجوعي من ألمانيا كنت مشغولًا بتصنيف كتابين يتعلقان بصحيح البخاري والحمد لله انتهيت من أحدهما والآخر علي وشك التمام الكتاب الأول أنا سميته:( مجمة الفؤاد بما اتفق عليه الشيخان في المتن والإسناد ) ، والكتاب هذا قصدت منه تحرير شيء قلت في نفسي لو ثبت لكان البخاري هذا سماء وهو كذلك ، لكن لارتقي أكثر من ذلك ، ما موضوع الكتاب الذي يبين شموخ كتاب البخاري ويمثل شموخ مصنفه أيضًا - رحمة الله عليه - ؟ الذي هو حقيق بقول القائل:
يَدع الجواب فلا يُراجع هيبةً
والسائلون نواكس الأذقَان
وهذا الكلام قيل في مالك
عز الوقار وعز سلطان التُّقي
فهو المهيبُ وليس ذا سلطانِ
وهو أيضًا حقيق بقول القائل:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ
فأنت كما نُثني وفوق الذي نُثني
وإن جرت الألفاظ يومًا بِمدحَةٍ
لغيرك إنسانًا فأنت الذي نعني
وهو الإمام البخاري حقيق بهذا .
مميزات البخاري ومسلم: يقول العلماء، كتاب البخاري يفضل كتاب مسلم بكذا وكذا ، وكتاب مسلم يفضل كتاب البخاري بكذا وكذا فكان من جملة تفضيل ما فضلوا به كتاب مسلم علي البخاري
قالوا: إن مسلمًا يراعي الألفاظ ، وكتب صحيحه في حياة شيوخه بخلاف البخاري قال: ( رُبَّ حديث سمعته بمصر كتبته بالشام ، ورب حديثٍ سمعته بالشام كتبته في الحجاز) وهكذا أي هناك تباعد بين سماع البخاري وما بين كتابته للحديث ، ففضلوا مسلمًا علي البخاري بأن مسلم يحافظ علي الألفاظ ، فأنا أردت أن أعرف حقيقة هذه القضية ، وهل هي كما قالوا فعلًا أم لا ؟ .
فجمعت الأحاديث التي رواها الشيخان معًا عن شيخٍ واحدٍ بإسناد واحد ، فإذا رأيت الألفاظ اتفقت مع بُعدِ كتابة البخاري للحديث بالنسبة لسماعه منه ، وعناية مسلم بالألفاظ يكون البخاري هذا لا نظير له ، لأنه مع هذا البعد ما بين التحمل وما بين الكتابة ويأتي بالألفاظ علي وجهها كما جاء بها مسلم،كنت حريصًا علي تحرير هذه القضية وجملة ما اتفق عليه الشيخان مائتان وخمسون حديثًا ، ورتبته علي مشايخ البخاري ، باب من اسمه أحمد ، باب من اسمه إبراهيم أي مشايخه الذين يبدءون بحرف الألف وحرف الباء وحرف التاء إلي آخره وانتهيت من هذا الكتاب بحمد الله تعالي ووجدت أن البخاري وافق مسلمًا في غالب ما رواه بألفاظه . الكتاب الثاني أسميته ( كسوة العاري بذكر علة الحذف عند البخاري ) .
البخاري ممكن يروي الحديث فيحذف منه جملة، لماذا يحذفها البخاري ؟ هل لأنها معللة ؟ هل هي خطأ مثلًا ؟ ما هي الأسباب التي جعلت البخاري يحذف جملة من الحديث فلا يذكر هذه الجملة في صحيحه ؟
أنا جمعت كما قلت كثيرًا من مادة الكتاب وبعض إخواني أتحفني ببعض مادة هذا الكتاب وأنا في سبيل إنهاء هذا الكتاب أيضًا ، و تبين لي قدر الإمام البخاري أكثر وأكثر ، كل ما الإنسان يتعمق في كتاب البخاري كلما يظفر بكثير من الفوائد ويعرف عظمة هذا الكتاب وأن الذين يتهجمون عليه صم بكم عمي فهم لا يعقلون ، ليس معنى هذا أن البخاري كتابه وحي السماء وأنه ليس عليه انتقادات ، أبدًا ، البخاري عليه انتقادات قديمة معروفة عند أهل العلم لكن لا يقدر قدرها إلا أهل العلم فقط إنما العوام الذين يمشون مشية الأنعام كما يقول اللاكنوي فهؤلاء ليس لهم أن يدخلوا في هذا الكتاب أبدًا حسبهم أن ينظروا إليه فقط ، أو أن يقرؤه إن استطاعوا أن يقرؤوا المتن والإسناد قراءةً صحيحه ، لكن يدخل ويعترض على أحكام الصنعة فهذا مما يسيء المرء به إلى نفسه .
كتاب الرقاق من أواخر الكتب الموجودة في صحيح البخاري ، والإمام كما ذكرت لكم قبل ذلك وأذكر ذلك تذكيرًا حتى أستطيع أن أصل ما مضى بما سأذكره إن شاء الله تعالى فيما بعد ، فأنا ألخص في ما مضى في ربع ساعة أو ثلث ساعة وذلك حسب ما ييسر اللهI .
ملخص ما مضي من كتاب الرقاق:رتب الإمام البخاري كتاب الرقاق رتب أبوابه ترتيبًا رائعًا دقيقًا، شرحت خمسة أبواب من الكتاب الإمام البخاري بدأ كتابه:
بالباب الأول: قال: (باب ما جاء في الرقاق وألا عيش إلا عيش الآخرة)، وأورد فيه حديث بن عباسy أن النبيr قال:« نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ » ، فكانت بداية رائعة للإمام البخاري لأنه ذكر بدأ برأس المال لأن الدنيا سوق وهي تجارة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾(الصف:10- 11) .
إذًا الدنيا تجارة:،ولا يمكن لتاجرٍ أن يدخل السوق وأن يتاجر إلا إذا كان معه رأس مال ورأس المال هذا قد يكون رأس مال عرب أموال سائلة حقيقية ، وقد يكون رأس مال في رأسه هو يدخل سمسار يفعل صفقات يرتب ما بين هذا وذاك ويخرج بمكسب في النهاية ، لكن لابد أن يكون معه رأس المال ، ما هو رأس مال الإنسان الذي خلقه الله U في الدنيا ليعيش فترة محدودة قدرها الله I ثم يكون منقلبه في النهاية إلي ربه كما قال تعالي:﴿ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ (المائدة:18) ؟
رأس مال الإنسان في الدنيا: هو مدة بقاءه علي هذه الأرض وهو العمر فبدأ الإمام البخاري بكلام النبي r:« نعمتان مغبون فيهما » ، والغبن: هو الخسارة ، والأصل أنك من مسألة الغبن تشتري بالغالي وتبيع بالرخيص فتخسر مرتين خسرت مرة عندما اشتريت بالغالي وخسرت المرة الأخرى عندما بعت بثمن أقل هذا الغبن وهو الخسارة :« نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس » أي كثير من الناس يخسر في هذه الصفقة « الصحة والفراغ »
طالما إن المسألة في النهاية معلومة والإنسان سيموت ثم يلقي ربه I فأتي بحديث أنس وبحديث سهل بن سعد ألساعدي أن النبيr قال:« اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة » ، وكان النبي r يقول هذا وهم يحفرون الخندق ، وكان الصحابة يبادلونه فيقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا
علي الجهاد ما بقينا أبدا
فلا عيش إلا عيش الآخرة، لماذا أورد الإمام البخاري هذا الحديث؟ حتى لا يظن ظان أن هؤلاء الصحابة أضاعوا أعمارهم ،لأنهم كانوا يخرجون من غزوة إلي غزوة، فحياتهم كانت كلها في الغزوات وفي الجهاد ونادرًا ما كانوا يستطيعون إصلاح أموالهم كما في غزوة تبوك مثلًا ، نفر النبي r في غزوة تبوك والظلال والثمار نضجت ، ولذلك لم يكن مع الناس مال وسمي الجيش آنذاك جيش العسرة إشارة إلي قلة المال،ولم يكن هناك ظهر حتى يركب الناس عليه وقصة البكائين معروفة الذين أرادوا ذهبوا إلي النبي r وطلبوا أن يحملهم النبي r قال:﴿ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾(التوبة:92)
فحياة الصحابة كلها كانت في الغزو: فلم يتفرغوا كما يقول الناس ليعيشوا حياتهم ، اليوم كثير من الناس لابد أن يكون لديه برنامج سنوي أو شهري أو أسبوعي فسحة ، ويسافر في الخارج أو يذهب إلي شواطئ أو يسافر إلي أي مكان لكي يقول أنا أروح عن نفسي ، لماذا ؟ لأن الحياة هكذا نحن نكسب ونتعب لكي نسعد بهذا المال ، الصحابة الذين قضوا حياتهم في الجهاد وفي ضرب الرقاب وترك الأموال وهذا الكلام ، هل أضاعوا رأس المال ، هل أضاعوا عمرهم فعلًا ؟ .
الإمام البخاري أراد أن يبين أنهم ما ضيعوا حياتهم حتى قال: (باب ما جاء في الفراغ وألا عيش إلا عيش الآخرة،) وأورد هذين الحديثين في الباب الأول مع حديث ابن عباس « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ » .
الباب الثاني: الذي عقده الإمام البخاري- رحمه الله- قال: (باب مثل الدنيا في الآخرة )، وأورد الإمام البخاري فيه حديث سهل بن سعد الساعدى أن النبي r قال:« موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » ،
لما أورد الإمام البخاري هذا التبويب وهذا الحديث بعد الباب الأول ؟ ليبين أن هؤلاء لم يضيعوا أعمارهم ، وأن هؤلاء الذين جاهدوا لأنه أورد الحديث:« ولغدوة في سبيل الله أو روحة » .
الغدو والرواح: في طرفي النهار بكرة وعشية :« في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » ، يريد أن يقول: أن ما فاته من الدنيا لا يعتبر شيئًا ما فاته في الحقيقة شيء يذكر إذا دخلوا الجنة ، لماذا ؟ لأن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، والسوط عبارة عن عصا ،ممكن يكون طولها متر،اثنين متر ، لكن عرض العصا لا يكاد يذكر ممكن يكون سنتيمتر واحد أو اثنين سنتيمتر ، فلو اثنين سنتيمتر في متر ونصف أو في مترين وأنت وضعتهم علي الأرض لا تشكل شيئًا مذكورًا أنت لا تستطيع أن تضع قدمك علي العصا حتى لأنها ليست موضعًا لقدم ، هذا إذا ظفرت بموضع سوطٍ في الجنة فخير لك من الدنيا وما فيها الشاهد إشارة بأنك إذا دخلت الجنة حتى لو كان لك فيها موضع سوطٍ فهذا خير من الدنيا وما فيها ، ليس في هذا العصر فقط، لأنك في الأعصار التي مضت لا تملكها ، والأعصار التي تأتي قد لا تملكها قد تكون من أهل القبور فأنت نتكلم عن هذا العصر ، كم تساوي الدنيا الآن ؟ نحن لو أتينا في أي مكان في العالم وقلنا المتر في هذه الأرض كم يساوي ؟ هناك متر بمائة ألف ومتر بمليون ومتر بعشرة مليون ومتر بخمسين مليون وستين مليون ومائة مليون ، في المتر المربع الواحد ، في بقعة من بقاع الأرض قد يساوي هذا المبلغ الذي أذكره ، فتصور لو أنك أردت أن تحسب الكرة الأرضية كلها بما لها من مسطح وبما فيها من مباني .
أنظر الأرض البور التي هي فراغ المتر فيها كم يساوي فكيف إذا بنيت عليها برج أو بنيت عليها مبنى فكم يكون ثمن المبني وكم يكون ثمن التشطيب؟ ، وغير ذلك ستدخل تحت رقم أنا ما أستطيع أن أذكر رقمًا ، إذا أردت أن تحسب الدنيا كلها ما تستطيع أن تأتي برقم على الحقيقة ، فلو الدنيا كلها جميعًا أنت تملكها وكان لك موضع سوط في الجنة هو خير لك من كل هذا الذي تملكه ، فكيف تضحي بالجنة بشيء أنت لا تملكه ؟ ، لو فرضنا أنك تملكه فالسوط خير منها ، فكيف وأنت لا تملكه ، لا تملك هذا الشيء الذي هو الدنيا كلها .
فلما يقول الإمام البخاري يقول: (باب مثل الدنيا في الآخرة،) يقول أنك لن تضيع عمرك عندما رابط من النبيr أو رابط في الجهاد ولم تضيع عمرك لأن العيش على الحقيقة إنما هو عيش الآخرة .
ثم بدأ الإمام البخاري يذكر بعض الآفات التي تعرض للمرء في الدنيا فتصرفه عن حظه في الآخرة ، بين رأس المال وبين لك حقيقة الدنيا وأنها لا تساوي شيئًا في الآخرة ، وأريد أن أصل إلى هذه الجنة التي موضع السوط فيها خير من الدنيا التي لا أملكها فماذا أفعل ؟ عقد:
الدرس الرابع والخمسون
للشيخ أبي إسحاق الحويني
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمدٍ r وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
****
فقد عدنا إليكم بحمد اللهI ونسأل الله U أن يكون عودًا حميدًا علي وعليكم ، ونواصل ما كنا بصدده منذ فترة طويلة من الإنقطاع نواصل شرح كتاب الرقاق ، والذي اصطلحت علي تسمية شرحي عليه بـ ( فك الوثاق في شرح كتاب الرقاق ) من صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله تعالي - .
وحتى أصل ما ذكرته قديمًا بما سأذكره أُذكِّر بما ذكرته قديمًا في عُجالة سريعة حتى أستطيع أن أجمع المحاور كلها
المراد بكتاب الرِقاق: هو جمع رقيقة ، والمقصود به الأحاديث التي ترقق القلب ولأن العقل في القلب كان القرآن المكي يخاطب قلوب الناس بالتوحيد ، وذكر آلاء اللهI ، وذكر القيامة ، والمعاد ، والحساب وكذلك الأحاديث التي ذكرها النبي r في هذا الصدد كثيرة ووفيرة بحمد الله تعالي وكلها تعني بهذه المضغة التي وصفها النبي r بقوله:« ألا إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » ، وكما ذكرت لكم إن العقل في القلب قال تعالي:﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾(الحج:46) مكان العقل والدليل علي ذلك:فليس العقل في الرأس كما يذهب إليه بعض أهل العلم ، بل الصحيح أن العقل في القلب والآية نص في هذا :﴿ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ ، وليست القلوب التي في الرؤوس ، وقال الله U:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ (ق:37) والمقصود من هذا جميعًا هو تزكية النفس عن طريق تزكية هذا القلب .
الإمام البخاري صنف كتابًا أودعه من جملة صحيحه أي كتاب الرقاق ليس كتابًا منفصلًا عن الصحيح مثل كتاب الأدب المفرد ، البخاري - رحمه الله - له عدة كتب منها كتاب الأدب المفرد ، إنما سماه المفرد حتى يفرده عن كتاب الأدب الذي وضعه في صحيحه ، أنتم تعلمون أن صحيح البخاري كما ذكرت لكم قبل ذلك يتألف من عدة كتب بدءً من كتاب بدء الوحي وانتهاءً بكتاب التوحيد ، ما بين هذين الكتابين عدة كتب مثل كتاب الإيمان ، وكتاب العلم ، وكتاب الطهارة ، وكتاب الغسل وكتاب الحيض ، وكتاب الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والفرائض والجهاد والاعتصام بالكتاب والسنة ، والطلاق ، والنكاح إلي آخر ما هو مذكور في هذا الكتاب ، صحيح البخاري مقسم إلي كتب ، فمن جملة الكتب التي هي في صحيح البخاري كتاب الأدب .
فحتى لا يلتبس كتاب الأدب إذا قيل أخرجه البخاري في أدب الصحيح مع الكتاب الذي صنفه منفصلًا عن الصحيح ولم يشترط فيه ما اشترطه في صحيحه سماه كتاب الأدب المفرد ، فلذلك نحن إذا أردنا أن نعزو حديثًا إلي البخاري في الأدب المفرد لا يجوز عند أهل التخريج من المحدثين أن تقول أخرجه البخاري في الأدب وتسكت لإحتمال أن تقصد الأدب الذي في صحيحه ، بل لابد أن تقول أخرجه البخاري في الأدب المفرد وإذا أردت أن تذكر أو تعزو حديثًا لكتاب الأدب الذي في الصحيح تقول رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه ، لماذا ؟ حتى لا يلتبس بكتاب الأدب المفرد الذي صنفه الإمام البخاري .
فكتاب الرقاق ليس كتابًا منفصلًا: إنما هو كتاب من جملة صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري- رحمه الله - ، وكتاب البخاري مُعجب مُطرب ، وأنا رحلتي مع هذا الكتاب تجاوزت ربع قرن ، وكل يوم أكتشف جانبًا من جوانب عظمة هذا الكتاب .
سبب اختفاء الشيخ حفظه الله في الفترة الماضية: في الفترة التي اختفيت فيها منذ رجوعي من ألمانيا كنت مشغولًا بتصنيف كتابين يتعلقان بصحيح البخاري والحمد لله انتهيت من أحدهما والآخر علي وشك التمام الكتاب الأول أنا سميته:( مجمة الفؤاد بما اتفق عليه الشيخان في المتن والإسناد ) ، والكتاب هذا قصدت منه تحرير شيء قلت في نفسي لو ثبت لكان البخاري هذا سماء وهو كذلك ، لكن لارتقي أكثر من ذلك ، ما موضوع الكتاب الذي يبين شموخ كتاب البخاري ويمثل شموخ مصنفه أيضًا - رحمة الله عليه - ؟ الذي هو حقيق بقول القائل:
يَدع الجواب فلا يُراجع هيبةً
والسائلون نواكس الأذقَان
وهذا الكلام قيل في مالك
عز الوقار وعز سلطان التُّقي
فهو المهيبُ وليس ذا سلطانِ
وهو أيضًا حقيق بقول القائل:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ
فأنت كما نُثني وفوق الذي نُثني
وإن جرت الألفاظ يومًا بِمدحَةٍ
لغيرك إنسانًا فأنت الذي نعني
وهو الإمام البخاري حقيق بهذا .
مميزات البخاري ومسلم: يقول العلماء، كتاب البخاري يفضل كتاب مسلم بكذا وكذا ، وكتاب مسلم يفضل كتاب البخاري بكذا وكذا فكان من جملة تفضيل ما فضلوا به كتاب مسلم علي البخاري
قالوا: إن مسلمًا يراعي الألفاظ ، وكتب صحيحه في حياة شيوخه بخلاف البخاري قال: ( رُبَّ حديث سمعته بمصر كتبته بالشام ، ورب حديثٍ سمعته بالشام كتبته في الحجاز) وهكذا أي هناك تباعد بين سماع البخاري وما بين كتابته للحديث ، ففضلوا مسلمًا علي البخاري بأن مسلم يحافظ علي الألفاظ ، فأنا أردت أن أعرف حقيقة هذه القضية ، وهل هي كما قالوا فعلًا أم لا ؟ .
فجمعت الأحاديث التي رواها الشيخان معًا عن شيخٍ واحدٍ بإسناد واحد ، فإذا رأيت الألفاظ اتفقت مع بُعدِ كتابة البخاري للحديث بالنسبة لسماعه منه ، وعناية مسلم بالألفاظ يكون البخاري هذا لا نظير له ، لأنه مع هذا البعد ما بين التحمل وما بين الكتابة ويأتي بالألفاظ علي وجهها كما جاء بها مسلم،كنت حريصًا علي تحرير هذه القضية وجملة ما اتفق عليه الشيخان مائتان وخمسون حديثًا ، ورتبته علي مشايخ البخاري ، باب من اسمه أحمد ، باب من اسمه إبراهيم أي مشايخه الذين يبدءون بحرف الألف وحرف الباء وحرف التاء إلي آخره وانتهيت من هذا الكتاب بحمد الله تعالي ووجدت أن البخاري وافق مسلمًا في غالب ما رواه بألفاظه . الكتاب الثاني أسميته ( كسوة العاري بذكر علة الحذف عند البخاري ) .
البخاري ممكن يروي الحديث فيحذف منه جملة، لماذا يحذفها البخاري ؟ هل لأنها معللة ؟ هل هي خطأ مثلًا ؟ ما هي الأسباب التي جعلت البخاري يحذف جملة من الحديث فلا يذكر هذه الجملة في صحيحه ؟
أنا جمعت كما قلت كثيرًا من مادة الكتاب وبعض إخواني أتحفني ببعض مادة هذا الكتاب وأنا في سبيل إنهاء هذا الكتاب أيضًا ، و تبين لي قدر الإمام البخاري أكثر وأكثر ، كل ما الإنسان يتعمق في كتاب البخاري كلما يظفر بكثير من الفوائد ويعرف عظمة هذا الكتاب وأن الذين يتهجمون عليه صم بكم عمي فهم لا يعقلون ، ليس معنى هذا أن البخاري كتابه وحي السماء وأنه ليس عليه انتقادات ، أبدًا ، البخاري عليه انتقادات قديمة معروفة عند أهل العلم لكن لا يقدر قدرها إلا أهل العلم فقط إنما العوام الذين يمشون مشية الأنعام كما يقول اللاكنوي فهؤلاء ليس لهم أن يدخلوا في هذا الكتاب أبدًا حسبهم أن ينظروا إليه فقط ، أو أن يقرؤه إن استطاعوا أن يقرؤوا المتن والإسناد قراءةً صحيحه ، لكن يدخل ويعترض على أحكام الصنعة فهذا مما يسيء المرء به إلى نفسه .
كتاب الرقاق من أواخر الكتب الموجودة في صحيح البخاري ، والإمام كما ذكرت لكم قبل ذلك وأذكر ذلك تذكيرًا حتى أستطيع أن أصل ما مضى بما سأذكره إن شاء الله تعالى فيما بعد ، فأنا ألخص في ما مضى في ربع ساعة أو ثلث ساعة وذلك حسب ما ييسر اللهI .
ملخص ما مضي من كتاب الرقاق:رتب الإمام البخاري كتاب الرقاق رتب أبوابه ترتيبًا رائعًا دقيقًا، شرحت خمسة أبواب من الكتاب الإمام البخاري بدأ كتابه:
بالباب الأول: قال: (باب ما جاء في الرقاق وألا عيش إلا عيش الآخرة)، وأورد فيه حديث بن عباسy أن النبيr قال:« نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ » ، فكانت بداية رائعة للإمام البخاري لأنه ذكر بدأ برأس المال لأن الدنيا سوق وهي تجارة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾(الصف:10- 11) .
إذًا الدنيا تجارة:،ولا يمكن لتاجرٍ أن يدخل السوق وأن يتاجر إلا إذا كان معه رأس مال ورأس المال هذا قد يكون رأس مال عرب أموال سائلة حقيقية ، وقد يكون رأس مال في رأسه هو يدخل سمسار يفعل صفقات يرتب ما بين هذا وذاك ويخرج بمكسب في النهاية ، لكن لابد أن يكون معه رأس المال ، ما هو رأس مال الإنسان الذي خلقه الله U في الدنيا ليعيش فترة محدودة قدرها الله I ثم يكون منقلبه في النهاية إلي ربه كما قال تعالي:﴿ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ (المائدة:18) ؟
رأس مال الإنسان في الدنيا: هو مدة بقاءه علي هذه الأرض وهو العمر فبدأ الإمام البخاري بكلام النبي r:« نعمتان مغبون فيهما » ، والغبن: هو الخسارة ، والأصل أنك من مسألة الغبن تشتري بالغالي وتبيع بالرخيص فتخسر مرتين خسرت مرة عندما اشتريت بالغالي وخسرت المرة الأخرى عندما بعت بثمن أقل هذا الغبن وهو الخسارة :« نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس » أي كثير من الناس يخسر في هذه الصفقة « الصحة والفراغ »
طالما إن المسألة في النهاية معلومة والإنسان سيموت ثم يلقي ربه I فأتي بحديث أنس وبحديث سهل بن سعد ألساعدي أن النبيr قال:« اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة » ، وكان النبي r يقول هذا وهم يحفرون الخندق ، وكان الصحابة يبادلونه فيقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا
علي الجهاد ما بقينا أبدا
فلا عيش إلا عيش الآخرة، لماذا أورد الإمام البخاري هذا الحديث؟ حتى لا يظن ظان أن هؤلاء الصحابة أضاعوا أعمارهم ،لأنهم كانوا يخرجون من غزوة إلي غزوة، فحياتهم كانت كلها في الغزوات وفي الجهاد ونادرًا ما كانوا يستطيعون إصلاح أموالهم كما في غزوة تبوك مثلًا ، نفر النبي r في غزوة تبوك والظلال والثمار نضجت ، ولذلك لم يكن مع الناس مال وسمي الجيش آنذاك جيش العسرة إشارة إلي قلة المال،ولم يكن هناك ظهر حتى يركب الناس عليه وقصة البكائين معروفة الذين أرادوا ذهبوا إلي النبي r وطلبوا أن يحملهم النبي r قال:﴿ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾(التوبة:92)
فحياة الصحابة كلها كانت في الغزو: فلم يتفرغوا كما يقول الناس ليعيشوا حياتهم ، اليوم كثير من الناس لابد أن يكون لديه برنامج سنوي أو شهري أو أسبوعي فسحة ، ويسافر في الخارج أو يذهب إلي شواطئ أو يسافر إلي أي مكان لكي يقول أنا أروح عن نفسي ، لماذا ؟ لأن الحياة هكذا نحن نكسب ونتعب لكي نسعد بهذا المال ، الصحابة الذين قضوا حياتهم في الجهاد وفي ضرب الرقاب وترك الأموال وهذا الكلام ، هل أضاعوا رأس المال ، هل أضاعوا عمرهم فعلًا ؟ .
الإمام البخاري أراد أن يبين أنهم ما ضيعوا حياتهم حتى قال: (باب ما جاء في الفراغ وألا عيش إلا عيش الآخرة،) وأورد هذين الحديثين في الباب الأول مع حديث ابن عباس « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ » .
الباب الثاني: الذي عقده الإمام البخاري- رحمه الله- قال: (باب مثل الدنيا في الآخرة )، وأورد الإمام البخاري فيه حديث سهل بن سعد الساعدى أن النبي r قال:« موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » ،
لما أورد الإمام البخاري هذا التبويب وهذا الحديث بعد الباب الأول ؟ ليبين أن هؤلاء لم يضيعوا أعمارهم ، وأن هؤلاء الذين جاهدوا لأنه أورد الحديث:« ولغدوة في سبيل الله أو روحة » .
الغدو والرواح: في طرفي النهار بكرة وعشية :« في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » ، يريد أن يقول: أن ما فاته من الدنيا لا يعتبر شيئًا ما فاته في الحقيقة شيء يذكر إذا دخلوا الجنة ، لماذا ؟ لأن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، والسوط عبارة عن عصا ،ممكن يكون طولها متر،اثنين متر ، لكن عرض العصا لا يكاد يذكر ممكن يكون سنتيمتر واحد أو اثنين سنتيمتر ، فلو اثنين سنتيمتر في متر ونصف أو في مترين وأنت وضعتهم علي الأرض لا تشكل شيئًا مذكورًا أنت لا تستطيع أن تضع قدمك علي العصا حتى لأنها ليست موضعًا لقدم ، هذا إذا ظفرت بموضع سوطٍ في الجنة فخير لك من الدنيا وما فيها الشاهد إشارة بأنك إذا دخلت الجنة حتى لو كان لك فيها موضع سوطٍ فهذا خير من الدنيا وما فيها ، ليس في هذا العصر فقط، لأنك في الأعصار التي مضت لا تملكها ، والأعصار التي تأتي قد لا تملكها قد تكون من أهل القبور فأنت نتكلم عن هذا العصر ، كم تساوي الدنيا الآن ؟ نحن لو أتينا في أي مكان في العالم وقلنا المتر في هذه الأرض كم يساوي ؟ هناك متر بمائة ألف ومتر بمليون ومتر بعشرة مليون ومتر بخمسين مليون وستين مليون ومائة مليون ، في المتر المربع الواحد ، في بقعة من بقاع الأرض قد يساوي هذا المبلغ الذي أذكره ، فتصور لو أنك أردت أن تحسب الكرة الأرضية كلها بما لها من مسطح وبما فيها من مباني .
أنظر الأرض البور التي هي فراغ المتر فيها كم يساوي فكيف إذا بنيت عليها برج أو بنيت عليها مبنى فكم يكون ثمن المبني وكم يكون ثمن التشطيب؟ ، وغير ذلك ستدخل تحت رقم أنا ما أستطيع أن أذكر رقمًا ، إذا أردت أن تحسب الدنيا كلها ما تستطيع أن تأتي برقم على الحقيقة ، فلو الدنيا كلها جميعًا أنت تملكها وكان لك موضع سوط في الجنة هو خير لك من كل هذا الذي تملكه ، فكيف تضحي بالجنة بشيء أنت لا تملكه ؟ ، لو فرضنا أنك تملكه فالسوط خير منها ، فكيف وأنت لا تملكه ، لا تملك هذا الشيء الذي هو الدنيا كلها .
فلما يقول الإمام البخاري يقول: (باب مثل الدنيا في الآخرة،) يقول أنك لن تضيع عمرك عندما رابط من النبيr أو رابط في الجهاد ولم تضيع عمرك لأن العيش على الحقيقة إنما هو عيش الآخرة .
ثم بدأ الإمام البخاري يذكر بعض الآفات التي تعرض للمرء في الدنيا فتصرفه عن حظه في الآخرة ، بين رأس المال وبين لك حقيقة الدنيا وأنها لا تساوي شيئًا في الآخرة ، وأريد أن أصل إلى هذه الجنة التي موضع السوط فيها خير من الدنيا التي لا أملكها فماذا أفعل ؟ عقد: