المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نجيب الكيلاني.. فارس الأدب الإسلامي



احمد زكريا عبداللطيف
2011-04-02, 02:24 AM
نجيب الكيلاني.. فارس الأدب الإسلامي
http://majles.alukah.net/imgcache/2011/04/8.jpgبقلم / أحمد زكريا
يُعدُّ نجيب الكيلاني الروائي الإسلامي الأوَّل في اللغة العربية.. حيث قدَّم للمكتبة العربية عدداً كبيراً من الروايات والقصص القصيرة.. وهي غالباً محمومة بالتصوُّر الإسلامي وصادرة عنه.
ومن خلال هذا الإنتاج القصصي الغزير استطاع أن يقدِّم النموذج الإسلامي في الرواية والقصة.
المولد والنشأة
ولد عام 1931م في قرية شرشابة بمحافظة الغربية.
حفظ معظم أجزاء القرآن .. وبعد أن أنهى دراسته الثانوية التحق بكلية طب القصر العيني وتخرج فيها 1960.
عمل مديراً للتثقيف الصحي بوزارة الصحة- دولة الإمارات العربية المتحدة.
نشر أول مجموعة شعرية وهو في السنة الرابعة الثانوية، تحت عنوان: "نحو العلا" ووالى النشر بعد ذلك.
يكتب إلى جانب الشعر القصة والرواية.
دواوينه الشعرية
أغاني الغرباء 1963م.
عصر الشهداء- كيف ألقاك 1978م.
مهاجر 1986م.
مدينة الكبائر 1988م.
أغنيات الليل الطويل 1990م.
http://majles.alukah.net/imgcache/2011/04/9.jpgأعماله الإبداعية الأخرى
قصص:
عند الرحيل.. موعدنا غداً.. العالم الضيق.. رجال الله.. فارس هوازن.. حكايات طبيب.. الكابوس
روايات:
الطريق الطويل.. اليوم الموعود.. قاتل حمزة.. ليل وقضبان.. رجال وذئاب.. حكاية جاد الله.. نور الله.. مواكب الأحرار.
مؤلفاته:
إقبال الشاعر الثائر.. شوقي في ركب الخالدين.. مدخل إلى الأدب الإسلامي.. الإسلامية والمذاهب الأدبية.
الحياة الأسرية
تزوج الراحل الكبير د/ نجيب الكيلاني عام 1960م من الأديبة الإسلامية "كريمة شاهين" شقيقة الأديبة الإذاعية المصرية "نفيسة شاهين".. ورزق بثلاثة ذكور هم الدكتور جلال.. والمهندس حسام.. ومحمود المحامي.
كما رزق بأنثى واحدة هي الدكتورة عزة.
الكيلاني والإعلام
آخر إبداعاته الروائية "ملكة العنب".. "واعترافات عبد المتجلي".. "وحكاية جاد الله".. وقبل رحيله ترك ثلاثين فكرة لثلاثين رواية إسلامية، ودونها في مفكرة صغيرة عن مشكلات المجتمع المسلم.
في أيام الرحيل أبدع مسرحية "حبيبتي سراييفوا" التي لم ينتبه إليها القرّاء والنقّاد بالشكل اللائق.. وهي تعالج الأوضاع المأساوية في البوسنة والهرسك، وتقدم الأمل من خلال رسالة التبشير والتطهير التي يحملها الفن الإسلامي.
تحول الكثير من أعماله الروائية إلى أعمال فنية.. حيث فاز فيلم "ليل وقضبان" عن روايته "ليل العبيد" بالجائزة الأولى لمهرجان طشقند السينمائي عام 1964م.
كما تحولت رواية "الليل الموعود" إلى مسلسل إذاعي وتليفزيوني إنتاج مصري ليبي مشترك قدّم في شهر رمضان باسم " ياقوتة ملحمة الحب والسلام" عام 1973.
ترجم الكثير من أعماله إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والأردية والفارسية والصينية والإندونيسية والإيطالية والسويدية.
حصل على جائزة الرواية 1958م.. والقصة القصيرة وميدالية طه حسين الذهبية من نادي القصة 1959م.. والمجلس الأعلى للفنون والآداب 1960م.. وجائزة مجمع اللغة العربية 1972م.. والميدالية الذهبية من الرئيس الباكستاني 1978.
الكيلاني رائد الرواية الإسلامية
نجيب الكيلاني أحد الأسماء اللامعة في الأدب المعاصر.. يحتل مكانا ً متميزا ً في بؤرة التطور الإبداعي الإسلامي.. ومحطة بارزة في الإنتاج الروائي العربي.
فهو بتراكمه الروائي استطاع أن يحدث نقلة نوعية في الأدب الإسلامي.. ويخرجه من دائرة التنظير المجرد إلى ساحة الإبداع المتواصل.. فعرض لقضايا الفرد والمجتمع .. والصراع بين الحق والباطل من خلال الرؤية الإسلامية، وبالأسلوب الروائي الإسلامي المتميز.
إن المنظور الروائي هو عبارة عن وجهة النظر التي يعتنقها الكاتب.. ويريد أن يطرحها فيما يكتب .
وكل أديب يهدف ـ واعياً أو غير واع ـ إلى طرح نسق فكري.. يعكس موقفه الأدبي من الكون والطبيعة والإنسان .
وعلى هذا فإن وجهة النظر أو ما اصطلح على تسميته بـ (المنظور الروائي) هو (المركز) الذي تدور حوله الأحداث.. حيث أن الكاتب يشكل أحداث روايته ليصل في النهاية إلى وجهة نظر أو رؤية.. تمثل المثير الأول الذي استشاره لكي يكتب معبراً عما يعتقد.. آملاً أن تصل معتقداته إلى قرائه ، وأن يبقى لديهم بعد أن ينتهوا من قراءة الرواية (المنظور) الذي طرحه ، والقضية التي آمن بها .
في قراءتنا لتجربة نجيب الكيلاني الروائية.. نلاحظ هذا الزخم والاهتمام بالتاريخ.. منذ أن كان الكيلاني في بداية مشواره الأدبي وحتى مرحلة نضجه واستقامته .
لماذا إذن الالتفات إلى التاريخ ؟
هل هي رغبة في الهروب من أسر الواقع وإشكالاته.. أم هو حنين إلى ماض تليد يظل مفارقا ً وغريبا ً عن حاضر يغرق في الجاهلية والافتتان بثقافة غازية.. أم هي إستراتيجية واعية انطلق منها الكيلاني في سبيل كسر الحواجز بين الماضي عن الحاضر وجعلهما عنصرين يغذي كل منهما الآخر ؟
أسئلة كثيرة تتناسل حين الحديث عن اهتمام الكيلاني بالتاريخ.. وإعادة كتابته روائيا .
نجيب الكيلاني.. كسائر الرواد والمؤسسين , انطلق من خلال إحساسه بوطأة الواقع الذي يعيشه .
هذا الواقع الذي تتجاذبه تيارات شتى .. وتنمو فيه تقليعات غريبة.. فمن داعية إلى القومية الجاهلية أو إلى الفرعونية.. إلى داعية إلى الليبرالية أو الاشتراكية وغيرها.. وكلها تيارات تحاول أن تقرأ التاريخ وتعمل على بعثه وفق منظورها الأيديولوجي .
فلا عجب أن رأينا نجيب محفوظ يعيد قراءة تاريخ مصر القديم فيكتب روايات "عبث الأقدار" و" كفاح طيبة " و" رادوبيس ".
ومن قبله كرس جرجي زيدان كل جهوده الأدبية للرواية التاريخية.. فكتب: "فتاة غسان".. "عذراء قريش".. "غادة كربلاء" .. "العباسة أخت الرشيد".. "صلاح الدين ومكائد الحشاشين".. "شجرة الدر".. "الانقلاب العثماني".. "استبداد المماليك"..الخ .
ولكنه قدم تاريخ الإسلام كتاريخ للهو والتسلية والصراع على السلطة.. لأنه لا يتجه إلى التاريخ بإحساس قومي يدفعه إلى إبراز أمجاده.
وإذا كانت هذه النزعات تستلهم من التاريخ المعاني التي تدفع إلى طريق المستقبل ـ كما يُظنّ ـ فإنها تلتقي كلها في العداء للإسلام وتاريخه معتبرة إياه ماضيا ً انتهى واندثر.. ويجب على أبناء الجيل الجديد أن يمحوه من قلوبهم.. إن أرادوا اللحاق بالأمم المتطورة التي نهضت بعد نقدها وتفكيكها لموروثها القديم .
هذا البحر الزاخر بالأيديولوجيات والأفكار التغريبية هي التي حفزت نجيب الكيلاني ـ المنتمي للتيار الإسلامي ـ إلى الاهتمام بالتاريخ.. وبالتاريخ الإسلامي تحديدا ً وإعادة صياغته روائيا ً كشفا ً عن درره.. وبحثا ً عن عناصر القوة فيه.. بعد أن كادت أن تطمسها تأويلات العلمانيين.
وليس غريبا ً أن يبدأ الكيلاني في هذه المرحلة من إنتاجه الروائي " نور الله " التي تألق فيها على المستوى الفني إلى حد بعيد .. فقد صاغ حبكتها بريشة الفنان المبدع .. وهي تمثل لأعظم لحظة في التاريخ , وهي مرحلة الدعوة الإسلامية بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصراع الإسلام المستضعف مع الكفر في شتى صوره.. ثم الغلبة في النهاية للزمرة المؤمنة واقتلاعها لجذور الكفر من الأرض .
ولعله نفس التطلع الذي يستشرفه الكيلاني لصحوة الإسلام في العصر الحديث بعد تكالب الأمم عليها.
ولا شك في أن الرواية التاريخية تمثل عنده حلقة أساسية في سلسلة مشواره الطويل .. فقد وقف عند محطات كثيرة في تاريخ الإسلام.. كما تجلى في رواياته "قاتل حمزة" و "اليوم الموعود" و "موكب الأحرار" و "النداء الخالد" وغيرها.
فكيف إذن يتمثل الكيلاني التاريخ ؟.. وكيف يقيمه مادة للتشكيل الأدبي ؟
إن التاريخ من منظور الأدب هو بنية أو بطانة تحتية للأدب.. وموضوع له.. فمن وقائعه يجد الروائي العناصر المؤسسة للنص الأدبي .
فالتاريخ هنا يتحول إلى حكاية أو سرد أدبي يصوره النص الروائي.. ويختلف التاريخ في الأدب عن التاريخ عند المؤرخين.. فهؤلاء لا يعطون صورة موجهة وغائية للحوادث التي يصفونها.. لكن الأدب لا يقول التاريخ.. بل يقيم معالم له , يظهر وينشئ من الواقع عالما لا تهم فيه كرونولوجيا الحوادث بقدر ما تهم السمات الدالة.
ولهذا "فإن المزيج ـ كما يقول الكيلاني نفسه ـ الناتج من خلط الوقائع التاريخية بالقواعد القصصية.. مزيج يحتاج إلى يقظة وبراعة فنية.
فالنص الروائي هنا يصير بنية رمزية دالة.. تصوغ من التاريخ كوقائع ثابتة.. صورا ورؤى للعالم.
لذا فإن الكيلاني في الكتابة الروائية يصدر من خلال وعي تاريخي واضح.. إذ يتمثل التاريخ لا في بعده الإخباري كما رواها أصحاب السير والمصنفات .
بل يتجاوز ذلك إلى استنطاق لحظات التاريخ ـ وهو هنا التاريخ الإسلامي ـ تلك اللحظات التي تظل مضيئة ومحفورة في ذاكرة الأمة.
ومن ثم نجده يعمل على تحيين وعصرنة ذلك التاريخ, وجعله حاضراً غضاً في الذاكرة والمعاش , وفي أفق تحفيز الأمة والدفع بها إلى ابتكار خطابها المعاصر من خلال استثمار ماضيها التليد والنسج على منواله.
وإذ يشكل التاريخ علامة متميزة في التجربة الكيلانية, فإننا نجد الكيلاني, من وجهة أخرى ـ بوصفه أديبا ملتزما له قضية ـ يحتضن هموم أمته, ينسرب في واقعه ومعاشه , ليصبح الواقع المعيش سمة وموضوعا في كتابته الروائية وهذا يحيلنا مباشرة إلى البحث في إشكالية لها أهميتها, هي علاقة الرواية بالواقع .
هذه الثنائية التي تتعدد فيها الأسئلة وتتنوع, كما تتعدد الأجوبة وتتنوع تبعا لتعدد المعالجات وتعدد القراءات التي ترصد طرائق اشتغال الرواية في علائقها بالواقع.. وهي ما تحرص عليه نظرية الأدب الإسلامي عندما يلتزم الكاتب بالرؤية الإسلامية للكون والحياة والإنسان لحظة الإبداع فتنبثق تجربته الإبداعية من عمقه الذاتي الإيماني , المتسربل بالرؤية القرآنية المنحازة دوما للقيم الإيجابية في الحياة , والرواية بهذا المعنى تحمل تصورا ما للواقع أو رؤية للعالم , أي أن الروائي يصير محاورا لثقافته مجتمعه وحراكه الاجتماعي.
والسؤال المنهجي هنا:
كيف يحدد الكيلاني الواقع في خطابه الروائي ؟ هناك منظور واضح لدى الكيلاني للواقع, فهو يعي جيدا المقومات التاريخية والإيديولوجية والاجتماعية لواقعه ، ومن ثم يعمل على امتصاصها وإعادة تركيبها دلاليا وسيميائيا في كتابته الروائية؟
وهذا يشي بأن الكيلاني يتناغم مع واقعه المتوتر والمعقد, ويتحرك وفق رؤية منسجمة تمنحه فرصة تفتيت هذا الواقع وكشف خباياه داخل الحقل الروائي.. وجعله المتلقي يميل في النهاية إلى الأصوات والأفكار الإيجابية التي يروم الكيلاني إبلاغها عبر الصنعة الروائية.
إن الكيلاني , في كل نصوصه , تسكنه الأفكار , ويشغله الصراع المحتدم بين الخير والشر ويعمل جاهدا على إسماع صوت الخير وجعله أساس التعامل الإنساني , وفي المقابل يمعن في كشف وتعرية الشر السياسي والأيديولوجي وإبراز تناقضاته.. فهو بتجربته الغنية التي اجتمع فيها ما هو فني بما هو علمي وفكري وسياسي, استطاع نبش أعماق النفس الإنسانية بكل أصنافها التي خبرها جيدا ً, علاوة على هذا استطاع أن يرصد كل تيارات الصراع داخل المجتمع , وتحويلها إلى أصوات لغوية تتدافع في نصوصه الروائية.
إننا أمام شاهد على عصره , يرصد الحراك الاجتماعي في مجتمعه فتصبح الرواية لديه تبحث عن المعنى والفضيلة في عالم تضطرب فيه القيم وتختل موازين الحياة , لنستحضر هنا رواية " ليالي السهاد" ورواية "رحلة إلى الله "و " ليل وقضبان " حيث نجد أنفسنا أمام محاكمة للتعفن المستشري داخل أجهزة الدولة التي استوحشت وتحولت بأجهزتها الرهيبة إلى آلة قمع وإبادة لكل ما هو جميل في الحياة . ويطول بنا الحديث لو حاولنا تتبع سلبيات العصر الاجتماعية والسياسية التي حاول الكاتب الكشف عنها في رواياته.
إن مسلك الكيلاني في الكتابة الروائية لا يهدف فقط إلى خلق عالم تخيلي تتحقق فيه المتعة الجمالية للمتلقي ، بل إضافة إلى هذه المتعة هناك تطلع إلى هدف بعيد يروم بناء المستقبل على أنقاض الحاضر و الواقع المتحلل الذي فقد مصداقية استمراره في التاريخ والحضارة والشعور.
هل نجازف فنقول إن الرواية عند الكيلاني مناهضة للسلطة الظالمة ومسائلة لأيديولوجيتها؟
هي بالفعل كذلك , فهو الذي اكتوى بنار هذه السلطة المستحكمة وتغوُّلِها وسحقها للإنسان , ومن ثم كان مبشرا بالزمن الآخر: "الزمن الإسلامي المجيد الذي تتطلع إليه البشرية إلى الخلاص, دون أن تتحول الرواية لديه إلى حقل للوعظ أو محاكمة تصدر أحكاما أخلاقية , مما أفسح لرواياته الانتشار الواسع , وتبوأ بذلك مكانته المرموقة واللائقة به كأديب عالمي".
وإذا كانت الرواية مندمجة بالواقع , فإن هذا يلزمنا بالبحث عن الأشكال الأدبية التي يوظفها الروائي عند تفسيره للواقع بكل أصواته اللغوية وتعددية أيديولوجياته , فالرواية تستعير معمارها الفني من بنية المجتمع وتفسح مكانا لتتعايش فيها الأنواع والأساليب المختلفة.
ولعل الوقوف عند بنية الشكل الروائي وجماليته أضحت ضرورية ؛ وذلك أن التراكم النقدي الإسلامي لا تحضر فيه دراسة الشكل الروائي بشكل مقنع ومخصب , بالمقارنة مع الدراسات المضمونية التي لا تهتم في النص إلا بالموضوع.
وقد لا أحتاج إلى تأكيد مسلمة , وهي ضرورة الإحاطة بالمناهج المعاصرة التي اهتمت بدراسة فلسفة الشكل وجماليته , لتمنحنا بذلك فرصة الدخول إلى عالم النص لنعرف " ماذا يقول ؟ " وأيضا "كيف يقول؟".
إن بنية العمل الأدبي يرتبط فيها الإطار بالمحتوى , والدال بمدلوله , وإن الفصل بينهما هو تعسف وجناية في حق الأدب.
والرواية بوصفها معمارا فنيا , لها شكلها الخاص.. وإن كانت هي النوع الأدبي الوحيد التي لا تخضع لشكل نهائي بل هي نص مفتوح وغير مكتمل وفي صيرورة مستمرة, ولقد فهم الشكل الروائي في معظم الأحيان بوصفه تقنية أسلوبية فقط, يوظفها الروائي للحصول على عمل فني متناسق.
ولكننا نجد عند "ميخائيل باختين" فهما مغايرا للشكل, مفاده أن للشكل بعدا جماليا ودلاليا ً, أي أن الشكل معمار جمالي يوحد القيم الإفهامية والأخلاقية وينظمها في النص، أو بعبارة أخرى ، إن الشكل يجمع بطريقة لا تقبل التفريق بين المدلولات الاجتماعية والدوال الأدبية.
من هذا المنطلق إذن , لا بد أن نبحث بنية الشكل الروائي عند الكيلاني.. وإن كان هذا الموضوع يحتاج وحده إلى دراسة مستقلة معمقة تكشف عن جمالية الشكل لدى هذا الروائي المبدع ؛ لأن تجربة الكتابة لديه عرفت تفاوتا على المستوى الفني , بين البساطة أحيانا في الأشكال ، على الرغم من الموضوعات الجيدة التي يعالجها في " الطريق الطويل " و " في الظلام " مثلا ً.
ولكن سرعان ما يبهرنا في نصوص أخرى " نور الله " , " حكاية جاد الله " بأشكال فنية متألقة , تكشف عن مراس فني رفيع لدى كاتب محترف , يعرف كيف ينسج خيوط نسيجه الروائي , ومن ثم فبقدر ما تعرف تجربة الكيلاني الروائية نموا في الكم تعرف كذلك نموا في الكيف , فالرواية الكيلانية يكثر فيها السرد وتوجهه يد فنية متمرسة , والسرد " يسهم في دفع الحوادث ويعمل بشتى الوسائل الممكنة على إقناعنا بما يطرحه الروائي من قضايا".
وقد نجح الكيلاني في كشف سوءات العصر من خلال هذه الأبعاد التي رسمها لشخصية " جاد الله " ، فيصور لنا الصراع الداخلي الذي أوشك أن يمزقه في أثناء جلوسه ـ مضطرا ـ مع زميله " حسنين " في حلقة الشيخ " بحيري".
قال" جاد الله " وقد حاصرته الأفكار:-
"ماذا نفعل ؟؟ العالم كله فساد في فساد".
قال الشيخ باطمئنان كبير:
"عد إلى نفسك وافتح كتاب الله .. وأغرق همومك في عمل مفيد".
كما يكثر عند الكيلاني الحوار والمشاهد الممسرحة والوصف والاعتماد على اللغة الشاعرية , كما يمنح شخوصه الحرية في الحركة والتعبير دون تدخل سافر من الكاتب, وإن كان يبقى له الحق في التحيز إلى شخوص معينة في النص, فراوي النص لم يعد ذلك الراوي العالم بكل شيء.. كما في الرواية الكلاسيكية , حيث كان الراوي يتدخل في كل شيء , ويتنبأ بمصير الشخوص وبمسار الحوادث.
إنما نلمس عند الكيلاني كسائر الكتاب الكبار تلك الرغبة في دفع مسار الحوادث وفق طبيعتها , وترك الشخوص تحدد خطواتها بنفسها , مع اقتصار دور الكاتب فقط على تأثيث فضاء الصراع بين الشخوص , وجعل اللغة مسرحا لتجلي أفكار الشخوص وأحلامها ورغباتها وتطلعاتها.
فيصور لنا الكاتب كل هذه الألوان من الصراع وهي تتفاعل في رأس "جاد الله" ـ على سبيل المثال ـ في أثناء عودته من حلقة الشيخ "بحيري":
"وقد شعر بسخونة في رأسه على الرغم من برودة الجو.. كان طوفان الأفكار يهدر في داخله.. اختلطت الحدود في رأسه، بين كل المتناقضات، لم تزده الزيارة الأخيرة إلا حيرة على حيرته، ما هذا العالم الغريب الذي من حوله؟ قوم يعبدون الله في إيمان عميق ويقين ، وقوم يسرقون وينهبون ويقتلون دون أن تهتز فيهم شعرة من خوف الله ، ومسجونون يغوصون في الإثم دون مبالاة ، وضباط يشمخون بأنوفهم وكأنهم آلهة يأمرون فيطاعون ، وحكام لا شريك لهم في حكمهم لا يسألهم أحد عما يفعلون ، ويتحدثون عن الحرية والحب والإخاء والمساواة , وشباب يموتون غيلة , من أجل موقف أو رأى.
لو كنت في موقفهم لضحيت بكل شيء حتى أعيش.. أن تعيش هذا هو المهم ، وبعدها تستطيع أن تتصرف كما يحلو لك، وتحاول أن تتغلب على كل الصعاب , وأن تغير من مبادئك وخططك مثلما تهوى ، المهم ألا تموت ، وأن تنعم بحياتك , لا تستطيع قوة في الأرض أن تقنعني بأنني جئت إلى هذه الدنيا لكي أضحى أو أتعذب أو أعاني ، من العدل أن أحقق ما أريد أو قدرا لا بأس به مما أريد ، وعلى الأقل أعيش حياة مقبولة.
ليقل الشيخ "بحيري" ما يشاء ، فلو عضه الجوع ، وأرقه الذل مثلى لكان له موقف آخر غير موقفه الحالي.. لقد سرت في طريقي الخاص منذ زمن بعيد.. قتلت.. وفسقت.. وسرقت.. فماذا يعنى؟ ولم يبق إلا خطوة واحدة حتى أحقق آمالي.. ومن يدرى بعدها ماذا يحدث، قد ألبس عمامة ، وأطلق لحيتي ، وانخرط في سلك العابدين الزاهدين ، الزهد له مذاق خاص عندما يملك الإنسان كل شيء , لكن الزهد مهزلة كبرى حينما يكون الزاهد فقيرا عاريا , لا يملك من حطام الدنيا شيئا".
القصص الشعري عند الكيلاني
وقد استطاع الكيلاني ـ رحمة الله ـ أن يوظف كثيرًا من آليات الفن القصصي في شعره، فاستخدم الرمز والقناع والحوار والسرد والتعبير المتلاحق، والارتداد (تذكّر الماضي والرجوع للوراء) والمفارقة، واللقطات المقتطعة من خلال الأشكال والمضامين التعبيرية المتفردة ، كما يرى د. جابر قميحة.
وكان أول دواوينه "نحو العلا" عام 1950 وهو طالب بالمرحلة الثانوية، وآخرها "لؤلؤة الخليج" وهو الديوان الذي لم يكتمل، مرورًا بـ "كيف ألقاك" و"عصر الشهداء" و"أغنيات الغرباء" و"مدينة الكبائر"، و"مهاجر" ، و" أغنيات الليل الطويل".
رحم الله أديبنا الكبير الدكتور نجيب الكيلاني.. الذي رحل عنا في مثل هذه الأيام،وبالتحدي د في السابع من شهر مارس عام 1995م