المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجواب الكافي لمن سال عن الدواء الشافي



ابو الزناد
2011-03-23, 09:45 PM
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ما تقول السادة العلماء ، أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين - في رجل ابتلي ببلية وعلم أنها إن استمرت به أفسدت دنياه وآخرته ، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق ، فما يزداد إلا توقدا وشدة ، فما الحيلة في دفعها ؟ وما الطريق إلى كشفها ؟ فرحم الله من أعان مبتلى ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى .
فأجاب الشيخ الإمام العالم ، شيخ الإسلام مفتي المسلمين ، شمس الدين أبو عبد الله بن أبي بكر أيوب إمام المدرسة الجوزية رحمه الله تعالى .
لكل داء دواء
الحمد لله
أما بعد : فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء .
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله : لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن شريك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله ، وفي لفظ : إن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، أو دواء ، إلا داء واحدا ، قالوا : يا رسول الله ما هو ؟ قال : الهرم قال الترمذي : هذا حديث صحيح .
دواء العي السؤال
وهذا يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها ، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهل داء ، وجعل دواءه سؤال العلماء .
فروى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر ، فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة ، وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل ، فمات ، فلما قدمنا على رسول الله أخبر بذلك ، فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر - أو يعصب - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده .
فأخبر أن الجهل داء ، وأن شفاءه السؤال .
الدعاء يدفع المكروه
وكذلك الدعاء ، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه ، وحصول المطلوب ، ولكن قد يتخلف أثره عنه ، إما لضعفه في نفسه - بأن يكون دعاء لا يحبه الله ، لما فيه من العدوان - وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء ، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا ، فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا ، وإما لحصول المانع من الإجابة : من أكل الحرام ، والظلم ، ورين الذنوب على القلوب ، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو ، وغلبتها عليها .
كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة .
الدعاء من أنفع الأدوية
والدعاء من أنفع الأدوية ، وهو عدو البلاء ، يدفعه ، ويعالجه ، ويمنع نزوله ، ويرفعه ، أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن .
كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الدعاء سلاح المؤمن ، وعماد الدين ، ونور السماوات والأرض .
للدعاء مع البلاء مقامات .
وله مع البلاء ثلاث مقامات :
أحدها : أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه .
الثاني : أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء ، فيصاب به العبد ، ولكن قد يخففه ، وإن كان ضعيفا .
الثالث : أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه .
وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول
[ ص: 11 ] الله - صلى الله عليه وسلم : لا يغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة .
وفيه أيضا من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء .
وفيه أيضا من حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .
فصل من آفات الدعاء
ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه : أن يستعجل العبد ، ويستبطئ الإجابة ، فيستحسر ويدع الدعاء ، وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرسا ، فجعل يتعاهده ويسقيه ، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله .
وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي .
وفي صحيح مسلم عنه : لا يزال يستجاب للعبد ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، ما لم يستعجل ، قيل : يا رسول الله ما الاستعجال ؟ قال يقول : قد دعوت ، وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لي ، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء .
وفي مسند أحمد من حديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل ، قالوا : يا رسول الله كيف يستعجل ؟ قال : يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي .

ابو الزناد
2011-03-24, 09:44 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
ظروف الدعاء
وكثيرا ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله ، أو حسنة تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته ، أو صادف وقت إجابة ، ونحو ذلك ، فأجيبت دعوته ، فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي ، وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي استعماله على الوجه الذي ينبغي ، فانتفع به ، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب ، كان غالطا ، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس .
ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب ، فيظن الجاهل أن السر للقبر ، ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله ، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله ، كان أفضل وأحب إلى الله .

الدعاء والقدر

[ ص: 16 ] وهاهنا سؤال مشهور وهو :
أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع ، وإن لم يكن قد قدر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله .
فظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء وقالت : لا فائدة فيه ، وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم ، متناقضون فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم :
إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلابد من وقوعهما ، أكلت أو لم تأكل ، وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل .
وإن كان الولد قدر لك فلابد منه ، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأ ، وإن لم يقدر لم يكن ، فلا حاجة إلى التزويج والتسري ، وهلم جرا .
فهل يقول هذا عاقل أو آدمي ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته ، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا .
وتكايس بعضهم وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي ، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا المتكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب ، وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق .
وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء : بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة ، فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد انقضت ، وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء ، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر .
قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب ، والكفر والمعاصي مع العقاب ، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب له .
وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار ، والحرق مع الإحراق ، والإزهاق مع القتل ليس
[ ص: 17 ] شيء من ذلك سببا البتة ، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه ، إلا مجرد الاقتران العادي ، لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل ، والشرع والفطرة ، وسائر طوائف العقلاء ، بل أضحكوا عليهم العقلاء .
وللصواب أن هاهنا قسما ثالثا ، غير ما ذكره السائل ، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء ، فلم يقدر مجردا عن سببه ، ولكن قدر بسببه ، فمتى أتى العبد بالسبب ، وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور ، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه ، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ، ودخول النار بالأعمال ، وهذا القسم هو الحق ، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له .
الدعاء من أقوى الأسباب
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب ، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال ، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ، ولا أبلغ في حصول المطلوب .
عمر يستنصر بالدعاء
ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأفقههم في دينه ، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم .
وكان عمر - رضي الله عنه - يستنصر به على عدوه ، وكان أعظم جنديه ، وكان يقول لأصحابه : لستم تنصرون بكثرة ، وإنما تنصرون من السماء ، وكان يقول : إني لا أحمل هم الإجابة ، ولكن هم الدعاء ، فإذا ألهمتم الدعاء ، فإن الإجابة معه ، وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه فقال :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا
فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة ، فإن الله سبحانه يقول : ادعوني أستجب لكم [ سورة غافر : 60 ] وقال : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
[ ص: 18 ] وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه
وهذا يدل على أن رضاءه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه ، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أثرا [ أنا الله ، لا إله إلا أنا ، إذا رضيت باركت ، وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد ] .
وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أن التقرب إلى رب العالمين ، وطلب مرضاته ، والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر ، فما استجلبت نعم الله ، واستدفعت نقمته ، بمثل طاعته ، والتقرب إليه ، والإحسان إلى خلقه .
ارتباط الخير والشر بالعمل
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة ، وحصول السرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ، ترتب الجزاء على الشرط ، والمعلول على العلة ، والمسبب على السبب ، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع .
فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له كقوله تعالى : عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ سورة الأعراف : 166 ] .
وقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ سورة الزخرف : 55 ] .
وقوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا [ المائدة : 83 ] .
وقوله : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] .
وهذا كثير جدا .
[ ص: 19 ] وتارة يرتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى : إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم [ سورة الأنفال : 29 ] .
وقوله : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [ التوبة : 11 ] .
وقوله : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا [ سورة الجن : 16 ] .
ونظائره .
وتارة يأتي بلام التعليل كقوله : ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ سورة ص : 29 ] .
وقوله : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة : 143 ] .
وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل كقوله : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ سورة الحشر : 77 ] .
وتارة يأتي بباء السببية ، كقوله تعالى : ذلك بما قدمت أيديكم [ سورة آل عمران : 182 ] .
وقوله : بما كنتم تعملون [ سورة المائدة : 105 ] .
وقوله : بما كنتم تكسبون ، وقوله : ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله [ سورة آل عمران : 112 ] .
وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهرا أو محذوفا ، كقوله : فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ سورة البقرة : 282 ] .
وكقوله تعالى : أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [ سورة الأعراف : 172 ]
[ ص: 20 ] وقوله : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا [ سورة الأنعام : 156 ] ، أي : كراهة أن تقولوا .
وتارة يأتي بفاء السببية كقوله : فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [ سورة الشمس : 14 ] .
وقوله : فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية [ سورة الحاقة : 10 ] .
وقوله : فكذبوهما فكانوا من المهلكين المؤمنون : 48 ] .
وتارة يأتي بأداة [ لما ] الدالة على الجزاء ، كقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ سورة الزخرف : 55 ] .
ونظائره .
وتارة يأتي بإن وما عملت فيه ، كقوله : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات [ سورة الأنبياء : 90 ] .
وقوله في ضوء هؤلاء : إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ الأنبياء : 77 ] .
وتارة يأتي بأداة " لولا " ، الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها ، كقوله : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [ سورة الصافات : 143 - 144 ] .
وتارة يأتي " بلو " الدالة على الشرط كقوله : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم [ سورة النساء : 66 ] .
وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب ، بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال .
ومن تفقه في هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع ، ولم يتكل على
[ ص: 21 ] القدر جهلا منه ، وعجزا وتفريطا وإضاعة ، فيكون توكله عجزا ، وعجزه توكلا ، بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر ، ويدفع القدر بالقدر ، ويعارض القدر بالقدر ، بل لا يمكن لإنسان أن يعيش إلا بذلك ، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر .
والخلق كلهم ساهون في دفع هذا القدر بالقدر ، وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة ، فهذا وزان القدر المخوف في الدنيا وما يضاده سواء ، فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضا ، ولا يبطل بعضها بعضا ، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ، ورعاها حق رعايتها ، والله المستعان .
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه .
أحدهما : أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ، ويكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم ، وما جربه في نفسه وغيره ، وما سمعه من أخبار الأمم قديما وحديثا .
التاريخ تفصيل لما جاء عن الله
ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ، وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة ، ثم السنة ، فإنها شقيقة القرآن ، وهي الوحي الثاني ، ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما ، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما ، حتى كأنك تعاين ذلك عيانا ، وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم ، وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ، ووعد به ، وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق ، وأن الرسول حق ، وأن الله ينجز وعده لا محالة ، فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر .