المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البحر في الأدب العربي 2 (عبد القادر الأسود)



عبد القادر الأسود
2011-03-06, 02:15 PM
وأما السبب الثاني : فهو الحواجز من الموج الداخلي والموج الخارجي والسحاب.فهذه كلها حواجز ، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلى الأسفل .

والموج الداخلي هو الذي يعلو البحرَ اللُّجّيَّ ويُغطيه، ويعكس معظم ما بقي من الأشعة الشمسية الساقطة على أسطح البحار والمحيطات ، ويحول دون الوصول إلى أعماقها . وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجيّة . ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة . ويبدأ تكوُّنه على عمقِ أربعين مترًا ، تقريبًا ، من مستوى سطح الماء في المحيطات ؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها , وقد تتكرر على أعماق أخرى ، كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة .
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر ، يسمَّى بالموج السطحي ، الذي يعدُّ أحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية .
وبذلك يُعَدُّ أحدَ الأسباب في إحداث ظلمةِ تلك الأعماق , هذا بالإضافة إلى تحلُّلِ تلك الأشعة إلي أطيافِها، وامتصاصِها بالتدريج في الماء .
ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب ، الذي يَمتصُّ حوالي تسعة عشر جزءاً بالمئة من الأشعة الشمسيّة المارّة من خلاله . ويَحجُب بالانعكاس والتشتيت نحو ثلاثين جزءًا بالمئة من هذه الأشعة , فيُحدث قدْرًا من الظلمة النسبيّة التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض . وبذلك تجتمع ظلمةُ الموج الداخليِّ ، وظلمةُ الموجِ السَطحِيِّ ، وظلمةُ السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يُحدثُها امتصاصُ الماء لتلك الأطياف .
والله{سبحانه} عندما يصف هذه الظلمات ، ينسبُها إلى عمق البحر اللجيِّ : (( أو كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ )) .
ثم يقول{سبحانه}:(( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)) وكأنّه يقول لنا:
هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق ، وسببها الحواجز . ومن المعروف أن لفظ {ظُلُمَاتٌ} من جُموع القِلّة.
وجمعُ القِلَّة يشمل من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ، فأنت تقول : ظلمة ، وظلمتان ، وثلاث ظلمات إلى عشرِ ظلماتٍ .
والظلمات التي تتحدّث عنها الآيةُ الكريمة هي عشرُ ظلمات : سبعٌ منها للألوان ، وثلاثٌ للحواجز {الأمواج الداخلية ، والأمواج السطحيّة ، والسحاب} .
ثم عقَّب{سبحانه} على ذلك بقوله:(( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) مبالغة في بيان شدّة هذه الظلمات . والمعنى: إذا أخرج من ابتُليَ بهذه الظلمات يده من كُمِّه ، لم يكد يراها . وجاز إضمارُ الفاعل ـ هنا ـ من غير أن يتقدّم ذكرُه ، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة . وكذا تقديرُ ضميرٍ يرجِع إلى ظلماتٍ . واحْتيجَ إليه ؛ لأنّ الجملة في موضع الصفة لظلمات ، ولا بدّ لها من رابط . وقيل : ضميرُ الفاعلِ عائدٌ على اسمِ الفاعل المفهوم من الفعل أي : إذا أخرج المُخرِجُ فيها يدَه ، لم يكد يراها .
واختَلف علماءُ اللُّغة والتفسير في قولِه تعالى : (( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) هل يقتضي أنّ هذا الرجلَ المقدَّرَ في هذه الأحوال ، إذا أخرج يده من كُمِّه ، لم يرَها البتّة . أمْ رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ؟ فقالت فِرقةٌ منهم : لم يَرَها البتّة ؛ وذلك لأنَّ {كاد} معناها : قارب ؛ فكأنّه قال : "إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ" لم يقارب رؤيتَها.
وهذا يقتضي نفيَ الرؤيةِ جملةً . وقالتْ فُرقة من العلماء: بل رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ، وكاد أن لا يراها . ووجه ذلك : أن {كاد} إذا صحِبَها حرفُ النفي ، وَجَبَ الفعلُ الذي بعدها . وإذا لم يصحبْها ، انتفى ذلك الفعل .
وهذا القول يكون لازمًا ، إذا كان حرف النفي بعد {كاد} داخلاً على الفعل ، الذي بعدها . تقول : كاد زيدٌ يقوم ، فالقيام منفي . فإذا قلت : كاد زيد أن لا يقوم ، فالقيام واجبٌ واقع . وتقول :كاد النعام يطير . فهذا يقتضي نفي الطيران عنه . فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير ، وجب الطيران له .
أما إذا كان حرف النفي مع {كاد} فالأمر محتمل ، مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه . تقول : المريض لا يكاد يسكن .
فهذا كلام صحيح ، تضمّن نفيَ السكون . وتقول : رجلٌ متألِّم لا يكاد يسكن . فهذا كلام صحيح ، يتضمن إيجاب السكون بعد جهد .
ويشهد لذلك قوله تعالى حكايةً عن فرعون : (( أَمْ أَنَا خَيْرٌ منْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ )) . (28) أي : لا يكاد يَظهرُ كلامُه للثغةٍ في لسانِه بسبب الجمرةِ . التي تناولها في صغره.وهو سيدُنا موسى {عليه السلام} وقولُ تأبّط شرًّا:
فأُبْتُ إلى فَهْمٍ،وما كِدْتُ آيِباً
وكم مثلها فارقتُها وهي تصفر
يقول:رَجَعتُ إلى قبيلتي {فَهْمٍ} وكدت لا أرجِع ؛ لأنني شارفتُ على التلَفَ .
ومما يحمل على الاحتمالين قولُه تعالى عن اليهود في
السورة التي يَذكر فيها البقرة : (( فَـذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ )) . (29) أي : وما كادوا يذبحون . فكنَّى عن الذبح بالفعل ؛ لأن الـ {فَعَلَ} يكنّى بها عن كل فِعْلٍ . والنفيُ مع {كاد} ـ هنا ـ يتضمَّن وُجوبَ الذبحِ بعد جُهدٍ ويتضمن نفيَه البَتّةَ . وبيانُ ذلك أنّ جملةَ : (( وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ )) تحتمل الحال والاستئناف . والأوّلُ أَظهر وأوضحُ إشارةً إلى أنّ مماطلتَهم قارنت أوّلَ أزمنةِ الذبح .. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين : زمان نفي المقاربة ، وزمان الذبح ؛ إذ المعنى : وما قاربوا ذبحها قبل ذلك . أي : وقع الذبح بعد أنْ نفى مقاربتَه . فالمعنى : أنهم تردّدوا في ذبحها ، ثم ذبحوها بعد ذلك .
قيل : والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو : إمَّا غلاءُ ثمنِها ، وإمَّا خوفُ فضيحةِ القاتل ، وإمَّا قلّةُ انقيادٍ لأمر الله وتعنتٌ من اليهودِ على الأنبياء {عليهم السلام} وكذلك كان دأبَهم مع الأنبياء وعلى مرِّ العصور
ونحو ذلك قولُه تعالى في هذه الآية : (( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) فإنّه نفيٌ مع {يَكاد} يتضمّن ـ في أحدِ التأويلين ـ نفيَ الرؤيةِ .
ويتضمن ـ في الاحتمال الآخر ـ وجوبَ الرؤيةِ بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ؛ وبالعودة إلى موضوعنا الذي عنه نتحدّث ، فإنَّ الكائنَ في ظُلماتِ البحرِ اللُّجيِّ ، التي ما زال فيها شيءٌ من ضوءٍ ، لا يَرى يدَه إلاّ بصعوبةٍ . لكن إذا غاص إلى الأعماق التي تغرق في الظلام الشديد ، ومد يدَه أمامَ عينيْه ، فإنّه لن يراها أبداً .
ولهذا ، ونحوِه ، قال سيبويه {رحمه الله} : إن أفعال المقاربة لها نحوٌ آخر . بمعنى : أنّها دقيقةُ التصرُّف .
أمّا قولُ ابنِ الأنباري وغيرِه ، ممن اعتقد زيادة {يَكَدْ} وأنّ المعنى:لم يرها ، فليس بصحيح ولا وجهَ له ، والله أعلم .
ثم يختم الله { تبارك وتعالى} الآية الكريمة بهذه الحقيقة المعنويّة الكبرى ، فيقول { سبحانه } : (( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ )) .
ثم تفاجئنا البحوثُ العلمية أخيرًا بواقعٍ ماديٍّ ملموسٍ لهذه الحقيقة المعنوية , فقد كان العلماءُ إلى عهدٍ قريبٍ جدًّا لا يتصوّرون إمكانيةَ وجودِ حياةٍ في أغوارِ المحيطات العميقة , للظلمة التامّة فيها , ولبرودة مائها الشديدة , وللضغوط الهائلة الواقعة عليها ، ولملوحة ذلك الماء المرتفعة جدّاً في بعض الأحيان ؛ ولكن بعد تطوير غوَّاصات خاصّة لدراسة تلك الأعماق ، فوجئ دارسو الأحياء البحريّة بوجودِ البلايين من الكائنات الحيَّة ، التي تنتشر في تلك الظُلْمة الحالكة ، وقد زوّدها خالقُها { سبحانه } بوسائل إنارة ذاتيّةٍ في صميم بنائها الجسدي تُعرَفُ باسمِ الإنارة الحيويّة .
والسؤال الذي يفرض نفسَه هنا : مَن غيرُ اللهِ الخالقِ يُمكنُه أنْ يُعطيَ كلَّ نوعٍ من أنواع تلك الأحياء البحرية ذات الأعماق السحيقة , هذا النور الذاتي ؟ وهنا يتضح البعد الماديُّ الملموس لهذا النصِّ القرآنيِّ المعجزِ , كما يتّضح بعدُه المعنويُّ الرفيعُ : (( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ )) فمن لم يُنوِّرُ اللهُ تعالى قلبَه بنورِهِ ، الذي أضاء الوجودَ كلَّه ويَهديه إليه فهو باقٍ في ظلماتِ الجهلِ والغيِّ والضلال ، لا يهتدي أبدًا .
وكيف يهتدي ، وهو لا يملك شيئًا من النور ، الذي هو سبب الهداية لتأكيد هذا المعنى جيء بعد { مَا } النافية، بـ { مِن } التي يدلُّ وجودُها على استغراق النفيِ وشمولِه لكلِّ جُزءٍ من أجزاء النور .
ولو قيل : "فَمَا لَهُ نُّورٍ"، بدون {مِن} ما أفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودُها .
ولنبيِّ الله سيِّدنا نوحٍ { عليه السلامُ } في القرآن الكريم مع البحر ، قُصَّةٌ أخرى ، حيث أصبحت الأرضُ ، كلُّ الأرض بحراً له ليخلِّصه اللهُ من قومه الذين كذّبوه وكفروا برسالته ، ولِيُنْجِيَهُ اللهُ ، ومَنْ آمَنَ معَهُ ، ويُغرق الأرضَ بما فيها ، ومن عليها لأنّها مُلئتْ كفراً وظلماً وجوراً ، فلم يستجبْ أهلُها لدعوةِ الإيمان بالله وبرسالته التي حملَها إليهم نبيُّهُم نوحٌ {عليه السلام} ، فأمر الله نبيَّه، أنْ يصنعَ سفينةً عظيمةً ، ويحمل عليها ـ بالإضافة إلى المؤمنين بالله ورسوله ـ زوجين اثنين {ذكراً وأنثى} من كلِّ نوعٍ من أنواعِ الحيوانات والنبات كذلك ، حتى لا تَنْقرِضَ هذه الأنواع ، وذلك استجابةً لدعاء نبيّه نوح الذي بقي /950 / عاماً يدعوهم إلى الله وهذه المدّةُ الطويلةُ ، التي قاربت الألف سنةً، ما زادتهم إلاّ نُفوراً وإعراضاً وعتوّاً عن أمره {سبحانه} قال الله في كتابه العزيز : (( قال ربِّ إنّي دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً * فلم يَزِدْهم دعائي إلاّ فراراً * وإنِّي كلَّما دَعَوْتُهم لتغفرَ لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصَرّوا واستكبروا استكباراً * ثمَّ إنّي دَعَوْتُهم جهارا * ثمّ إنّي أعلنتُ لهم وأسررتُ لهم إسراراً * فقلتُ استغفروا ربَّكم إنّه كان غفّاراً * يرسلِ السماء عليكم مِدْراراً * ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنّاتٍ ويجعلْ لكم أنهاراً * ما لكم لا تَرْجونَ لله وَقاراً * وقد خلقكم أطواراً * )).(30)
لقد أصرّوا على كفرهم ولم يلتفتوا إلى نُصْحِ نبيِّهم ، وأعلمَ اللهُ نبيَّه بأنّه لا أمل في هداهم وليس في أصلابهم من سوف يؤمن بالله ولذلك دعا عليهم فقال : (( وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ من الكافرين ديّاراً * إنّكَ إن تذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَك ولا يَلِدوا إلاَّ فاجراً كفّارا * ربِّ اغفرْ لي ولوالديَّ ولمن دَخَلَ بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تَزِدِ الظالمين إلاّ تَبَارى )) . (31) ودعوةُ الأنبياءِ مستجابَةٌ ، لأنهم لا يفعلون شيئاً ولا يتكلّمون إلاّ بإذن اللهِ ووحيِهِ ، فأمرَ اللهُ نبيَّه بأنْ يصنَع السفينة . قال تعالى : (( واصْنعِ الفُلْكَ بأعيُنِنا ووحيِنا )) . (32)
ويبدأ نوح ٌ بصُنعِ السفينة ـ وكان نجّاراً ـ ويمُرُّ به كفرةُ قومِهِ فيستهزئون به وبما يصنعُ ، شأنَ الكفّار في كلِّ أمّة وفي كلِّ زمن ، وأنّى لهم أنْ يصدِّقوا وَعيدَهُ وهم لم يؤمنوا برسالته أصلاً ؟ قال {تعالى} في محكم كتابه : (( ويصنع الفلكَ ، وكلّما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه )) . (33) ويصنعُ السفينةَ ويَركبُ فيها كلُّ المؤمنين الذين قضى الله بنَجاتهم وسعادتهم بسسبب إيمانهم ، ويحملُ نوحٌ ـ بأمرٍ من العليم الخبير ـ من كلِّ نوعٍ من أنواع الحيوان زوجين ، ومن النبات كذالك ، مع أهلِه ومَن آمن به وبرسالة ربّه ، إلاّ ابنَه لأنّه كان كافراً : (( قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين وأهلَكَ ، إلاَّ من سبق عليه القولُ ، ومن آمن ، وما آمن معه إلاّ قليلٌ )) (34) ويأمرُ اللهُ القادرُ السماءَ بأنْ تنصبَّ ماءً ، والأرضَ بأن تنبع ماءً كذالك ، حتى تغرق الأرضُ بمن فيها ، و يعلو الماءُ الجبالَ حتى تنعدِمَ الحياةُ على وجهِ الأرضِ ، بما في ذلك ابنُ نوحٍ الذي لجأ إلى جبلٍ مرتفعٍ ليعصمه من الماء ، علوّاً منه واستكباراً ، ظنّاً منه بأنه سوف يكون بمنجى من الغرق فوق الجبل ، قال {سبحانه} : (( حتى إذا جاء أمرُنا وفار التنّور ، قلنا احملْ فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلَكَ ، إلاّ مَن سَبَقَ عليه القولُ ، ومَن آمن ، وما آمن معه إلاَّ قليلٌ * وقال اركبوا فيها بسم الله مَجريها ومُرساها ، إنَّ ربّي لغفورٌ رحيم * وهي تجري بهم في موجٍ كالجبال ، ونادى نوحٌ ابنَه ، وكان في مَعْزِلٍ ، يا بُنيَّ ارْكَبْ معَنا ولا تَكُنْ مع الكافرين * قال سآوي إلى جَبَلٍ يعصمني من الماء * قال لا عاصمَ اليوم من أمرِ اللهِ إلاّ مَنْ رَحِمَ ، وحال بينهما الموجُ فكان من المغرَقين)) (35) وكان فَوَرانُ تَنُّورِ الخَبّازِ بالماءِ الإشارةَ ببدءِ المعركة ، وكان لسيدِنا نوح {عليه السلام} أمارةَ الأمرِ بركوب السفينة ، وما أقساه من منظرٍ أنْ وما أصعبها من لحظات يرى الرجلُ فيها ابنَه يغرقُ أمامَ عيْنَيْهِ وهو لا يستطيعُ فعلَ شيءٍ ، إنّه قضاءُ اللهِ وقَدَرُهُ ، وإنّها العقيدةُ التي فرَّقَتْ بين الأبِ وابنِهِ العاقِّ الذي لم يُطعْ ربّه ولم نُصحَ والدِهِ فهَلَكَ ، وإنّه صبرُ أولي العزم على الابتلاءِ والامتحان الذي ابْتلى بهما اللهُ عبدَه نوحاً { عليه السلامُ } فصبر وشكر ، وتغلَّب حبُّهُ لربِّهِ على حبِّه لوَلَدِه ، وهذا مِصداقُ قولِ اللهِ {تبارك وتعالى} في كتابِهِ العزيز : (( قُلْ إنْ كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانُكم وأزواجُكم وعَشيرتُكم وأموالٌ اقْتَرَفْتُموها وتِجارةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إليكم من اللهِ ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ فتربّصوا حتّى يأتيَ اللهُ بأمرِهِ ، واللهُ لا يَهْدي القومَ الفاسقين )) . (36) وقُضي الأمرُ ونَفَذَ حكم الله تعالى على الكافرين المستكبرين ، فأمر اللهُ السماء بأن تتوقّفَ وتُمْسِكَ ماءها ، والأرض بأن تكفَّ عن النبع وتبتلعَ ما على سطحها من ماء قال تعالى : (( وقيل يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي )) . (37) فقد أنهت الأرضُ المعركة التي كانت قد بدأتها ، وهذا خلافُ المتوهَّم ، حيث يُظَنُّ بأنَّ مطر السماء هو مصدرُ المياه الأساس ، فهو ينزل على الأرض فتتشرّبُهُ وتخزِّنُه في باطنها ليخرج فينتع الناسُ به ، لكن أن تبدأ الأرضُ المعركة بدفع ما في جوفها من ماء ، وأن تبدأ النهاية منها أيضاً بأن تبلعَ ماءها فإنّ في ذلك إشارة إلى أنّ الأرضَ هي المصدرُ أساسُ للماءِ ، حيث أثبتت الأبحاث العلميَّةُ بعد نزول القرآن الكريم بقرون أنَّ الماء النازل من السماء إنّما هو بخار تصاعد من الأرض بفعل حرارة الشمس ، فشكّلَ سحاباً ثمّ تساقط أمطاراً بعد ذلك ، بإذن الله وأمره ليحيي به الله ما شاء وليسقيَه مَن شاء من خلقه .
سبحان الله الحليم كم يَجحد الناسُ فضلَه ، ويكفرون نعمَه ، ويبطرون معيشتَهم حالَ الرخاء ، فإذا حلَّ بهم الضيق ونَزَل بهم الكرب ، ولم يجدوا من دونه ملجأً إليهَ يلجؤون ، تراهم يجأرون إليه بالدعاء طالبين منه النجدة وينجدُهم الله ، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من كفرٍ وضلالٍ ، كراكبِ البحر الذي اشتدّت به الريح حتى لتكاد تكفأ سفينتَه به فيستغيث باللهِ فيجيبُه الله الكريم إلى ما سأل ، وينجيه من الغرق ، لكنّه يعود إلى عصيانه وجحودِه ، يقول سبحانه في سورة الإسراء معرِّضاً بهؤلاء الملاحدة والعصاة : (( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا)) . (67) ((أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَات ِوَفَضَّلْنَاهُ مْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )) (70) {37} أرأيت إلى الإنسان كيف يقابل نعم الله وحلمَه وكرمه وتفضيلَه على الكثير من مخلوقات الله .
وهكذا نرى أنَّ القرآنَ الكريمَ قد ذكرَ لنا الكثيرَ عن البحرِ،مُرْشِدا ً لنا ومُعَلِّماً ومُشَجِّعاً على سَبْرِ أَغوارِه واكتشافِ المزيدِ مِن أسرارِه والانتفاعِ به وبما يحتويه من كنوز وأمرنا أن نسخِّرَهُ لما فيه صالح الإنسان في كلِّ زمان ومكان.




مصادر الباب الثاني

1 ـ سورة طـه : الآيات37-40 .
2 ـ سورة البقرة : الآية 50 .
3 ـ سورة يونس: الآيات 90-91-92
4 ـ سورة الكهف : الآيتان 71ـ 72
5 ـ سورة الكهف : الآية 79
6 ـ سورة الأنبياء : الآيتان 87-88.
7 ـ سورة لقمان : الآية 27
8 ـ سورة الكهف : الآية 109.
9 سورة الجاثية : الآية 12
10 ـ سورة النحل : الآية 14.
11 ـ سورة المائدة : / 96.
12 ـ سورة الأعراف الآية : /163.
13 ـ سورة الإسراء الآية : / 67 .
14 ـ سورة الشورى الآيتان : / 32، 33 .
15 ـ سورة النمل ، الآية : / 61 .
16 ـ سورة الرحمن : الآيتان / 24 و 25.
17 ـ سورة الفرقان ، الآية . /53/
18 ـ إقامة الحجة على العالمين بنبوة خاتم النبيين-(ج 1 / ص 491.
19 ـ سورة الفرقان ، الآية : / 6 / .
20 ـ سورة فصلت ، الآية : / 53 / .
21 ـ سورة النور ، الآية : / 40 / .
22 ـ سورة البقرة ، الآية : / 257 / .
23 ـ سورة النمل ، الآية : / 44 /.
24 ـ سورة لقمان ، الآية : / 32 / .
25 ـ سورة طه ، الآية : /78/
26 ـ سورة الرعد ، الآية : / 12 / .
27 ـ سورة الزخرف ، الآية : / 52 / .
28 ـ سورة البقرة ، الآية : / 71 / .
29 ـ سورة نوح ، الآيات : /5 - 14
30 ـ سورة نوح ، الآيات : / 26 ،27 ، 28
31 ـ سورة هود ، الآية :/ 37
32 ـ سورة هود ، الآية : /38 /
33 ـ سورة هود ، الآية :/40
34 ـ سورة هود ، الآيات:/ 40ـ 41ـ 42ـ 43
35 ـ سورة التوبة ، الآية /24
36 ـ سورة هود ، الآية /44
37 ـ سورة الإسراء/67 - 70 /