أبو المنذر البخاري
2011-03-05, 10:35 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مقال لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد العزيز العقل ( بتصرف )
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على من بعثه الله بالهدى واليقين ، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين . أما بعد :
فثمة غاية عظيمة كبرى من غايات الإسلام جاءت بها نصوص الكتاب في آيات بينات كثيرات ، ونادت بها السنة في أحاديث وافرات ، وتوارد علماء الإسلام سلفا وخلفا على تأكيدها ، وبيان ضرورة تفعيله في حياة الأمة ؛ لأن في تركها اشتقاق العصا ، واستحكام الشقاق .
إنها غاية لزوم الجماعة التي علق الله عليها تأييده ومعيته كما في سنن الترمذي من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال ، قال رسول الله (ص) " يد الله مع الجماعة " ( جامع الترمذي 4/466 )
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا
وفي حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله (ص) قال " إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم ، يأخذ القاصية والشاردة ، وإياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة " ( أخرجه أحمد 36/358 )
وإن من عزائم ما ينتظمه حبل الجماعة، الاجتماع على آراء العلماء الراسخين بعيدا عن شواذ الأقوال وغرائب الفتاوى ؛ فإن سمة ظاهرة أطلت في سماء الفتوى يصدق أن تكون مخاضا لولادة الشذوذ العلمي والإغراب في الفتوى ؛ ألا وهي ظاهرة الشذوذ في الفتوى .
وقد نتج عن هذه الظاهرة : قلة الأدب مع أهل العلم ، والتعجل في الفتوى ، ومصادرة قول الجماعة ، والفهم المعوج ، والتذبذب في الأقوال ، والتناقض في الأفعال ، وإعجاب ذي الرأي برأيه ، في لهث عجيب على الفتوى في المسائل الكبار التي لو كانت في عهد عمر الفاروق لجمع لها أهل بدر .
وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه فقال له رجل ما يبكيك ؟ فقال : ( استُفتي من لا علم له ، وظهر في الإسلام أمر عظيم . قال : ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السَّراق ) ( إعلام الموقعين 4/207 ، 208 ) .
قال بن القيم معلِّقَا : ( قال بعض العلماء : فكيف لو رأى ربيعة زماننا ، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها ، ومدُّ باع التكلف إليها ، وتسلُّقه بالجهل والجرأة عليها ، مع قلة الخبرة وسوء السيرة ، وشؤم السريرة ، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب ، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ) ( إعلام الموقعين 4/207 ) .
وقديما قيل ( إذا كثر الملاحون غرقت السفينة ) ، وهي كلمة قديمة قالها أحد أئمة الإسلام يشكوا فيها حفنة عفنة كدودة لزجة ، متلبدة أسرابها في سماء غيرها ، تقحموا في ما لم يحسنوا ،ومن أقحم نفسه في مالا يحسن أتى بالعجائب .
خاضوا غمار البحار ، من غير مهارة ولا دربة في الغوص ، فانكشفوا وفضحتهم الأيام ، وكل من يدعي ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان ، وقد اشتكى ابن القيم ـ رحمه الله ـ امتحانه بهؤلاء فقال :
هذا وإني بَعْدُ ممتَحَنٌ بأر بعةٍ وكلُّهم ذوو أضغانِ .
فظٌ غليظٌ جاهلٌ متمعلمٌ ضخمُ العمامةِ واسعُ الأردانِ
متفيهقٌ متضلِّع بالجهلِ ذو صَلَع وذو جَلَح من العرفانِ
مزجى البضاعةِ في العلومِ وإنَّه زاجٍ من الإبهام والهذيانِ
يشكوا إلى الله الحقوقَ تظلُّما من جهله كشكايةِ الأبدانِ
من جاهلٍ متطبِّبٍ يفتيِ الورى ويحيلُ ذاكَ على قضا الرحمنِ
وإن لظاهرة الشذوذ في الفتوى أسبابا منها :
الأول : فقدان السُّنة المباركة في التلقي وهي تلقي العلم في حلقه وما يتبعها من مُشَامَّة الشيخ ومشافهته ، ومجالسة أهل العلم ، التي تصنع في النفس الصبر وطول النفَس ومن ثمَّ العمق والعقل والتأني ، وكما قيل : مفاتيح العلم أربعة : عقل رجاح ، وشيخ فتاح ، وكتب صحاح ، ومداومة وإلحاح .
الثاني : الظن بأن كل من نال طرفا من العلم له حق الفتوى ، وهذه لعمري مراهقة علمية ؛ فإن من محن محن هذا الزمان تصدر أقوام للإفتاء ، ليس لهم في مقام الفتوى حظ ولا نصيب .
والفتوى منزلة علية لا ينالها إلا من تحققت فيه الشروط المقررة عند أهل العلم ، ومنها :
• العلم بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بهما من علوم .
• العلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية .
• المعرفة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده ، ومقاصد الشريعة ، والعلوم المساعدة مثل : النحو والصرف واللغة والمصطلح وسائر علوم الآلة .
• المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم ، وأوضاع العصر ومستجداته ، وما بني على العرف المعتبر الذي لا يصادم النص . وغير ذلك مما شرطه العلماءفي المفتي ليكون أهلا للفتوى .
قال الحافظ بن حجر ـ رحمه الله ـ ( إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب ) ( فتح الباري 3/584 ) .
وقال بعض المصنفين : الإنفراد عن أهل العلم برأي في الشرع ، والقول بما لم يقل به أحد فيه ، ينبئان عن خلل في العقل ) (النظائر لبكر ابو زيد ، ص 190 ) .
الثالث : حب الصدارة والتصدر في الفتوى ( ولو أن المرء أسلم الزناد للنفس لأسلمته للسقوط والهلكة .
الرابع : غياب منهج السلف الصالح عند هؤلاء فإن سلفنا الصالح كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها هديا وأقلها تكلفا ، كانوا ـ رضوان الله عليه ـ أعظم الناس ورعا وأقلهم في الدين كلاما ، وهذا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ على المنبر الشريف يقول ( أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم ) .
سنكمل بعد ذلك إن شاء الله ، أسألكم الدعاء لي ولشيخي ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذا مقال لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد العزيز العقل ( بتصرف )
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على من بعثه الله بالهدى واليقين ، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين . أما بعد :
فثمة غاية عظيمة كبرى من غايات الإسلام جاءت بها نصوص الكتاب في آيات بينات كثيرات ، ونادت بها السنة في أحاديث وافرات ، وتوارد علماء الإسلام سلفا وخلفا على تأكيدها ، وبيان ضرورة تفعيله في حياة الأمة ؛ لأن في تركها اشتقاق العصا ، واستحكام الشقاق .
إنها غاية لزوم الجماعة التي علق الله عليها تأييده ومعيته كما في سنن الترمذي من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال ، قال رسول الله (ص) " يد الله مع الجماعة " ( جامع الترمذي 4/466 )
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا
وفي حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله (ص) قال " إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم ، يأخذ القاصية والشاردة ، وإياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة " ( أخرجه أحمد 36/358 )
وإن من عزائم ما ينتظمه حبل الجماعة، الاجتماع على آراء العلماء الراسخين بعيدا عن شواذ الأقوال وغرائب الفتاوى ؛ فإن سمة ظاهرة أطلت في سماء الفتوى يصدق أن تكون مخاضا لولادة الشذوذ العلمي والإغراب في الفتوى ؛ ألا وهي ظاهرة الشذوذ في الفتوى .
وقد نتج عن هذه الظاهرة : قلة الأدب مع أهل العلم ، والتعجل في الفتوى ، ومصادرة قول الجماعة ، والفهم المعوج ، والتذبذب في الأقوال ، والتناقض في الأفعال ، وإعجاب ذي الرأي برأيه ، في لهث عجيب على الفتوى في المسائل الكبار التي لو كانت في عهد عمر الفاروق لجمع لها أهل بدر .
وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه فقال له رجل ما يبكيك ؟ فقال : ( استُفتي من لا علم له ، وظهر في الإسلام أمر عظيم . قال : ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السَّراق ) ( إعلام الموقعين 4/207 ، 208 ) .
قال بن القيم معلِّقَا : ( قال بعض العلماء : فكيف لو رأى ربيعة زماننا ، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها ، ومدُّ باع التكلف إليها ، وتسلُّقه بالجهل والجرأة عليها ، مع قلة الخبرة وسوء السيرة ، وشؤم السريرة ، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب ، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ) ( إعلام الموقعين 4/207 ) .
وقديما قيل ( إذا كثر الملاحون غرقت السفينة ) ، وهي كلمة قديمة قالها أحد أئمة الإسلام يشكوا فيها حفنة عفنة كدودة لزجة ، متلبدة أسرابها في سماء غيرها ، تقحموا في ما لم يحسنوا ،ومن أقحم نفسه في مالا يحسن أتى بالعجائب .
خاضوا غمار البحار ، من غير مهارة ولا دربة في الغوص ، فانكشفوا وفضحتهم الأيام ، وكل من يدعي ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان ، وقد اشتكى ابن القيم ـ رحمه الله ـ امتحانه بهؤلاء فقال :
هذا وإني بَعْدُ ممتَحَنٌ بأر بعةٍ وكلُّهم ذوو أضغانِ .
فظٌ غليظٌ جاهلٌ متمعلمٌ ضخمُ العمامةِ واسعُ الأردانِ
متفيهقٌ متضلِّع بالجهلِ ذو صَلَع وذو جَلَح من العرفانِ
مزجى البضاعةِ في العلومِ وإنَّه زاجٍ من الإبهام والهذيانِ
يشكوا إلى الله الحقوقَ تظلُّما من جهله كشكايةِ الأبدانِ
من جاهلٍ متطبِّبٍ يفتيِ الورى ويحيلُ ذاكَ على قضا الرحمنِ
وإن لظاهرة الشذوذ في الفتوى أسبابا منها :
الأول : فقدان السُّنة المباركة في التلقي وهي تلقي العلم في حلقه وما يتبعها من مُشَامَّة الشيخ ومشافهته ، ومجالسة أهل العلم ، التي تصنع في النفس الصبر وطول النفَس ومن ثمَّ العمق والعقل والتأني ، وكما قيل : مفاتيح العلم أربعة : عقل رجاح ، وشيخ فتاح ، وكتب صحاح ، ومداومة وإلحاح .
الثاني : الظن بأن كل من نال طرفا من العلم له حق الفتوى ، وهذه لعمري مراهقة علمية ؛ فإن من محن محن هذا الزمان تصدر أقوام للإفتاء ، ليس لهم في مقام الفتوى حظ ولا نصيب .
والفتوى منزلة علية لا ينالها إلا من تحققت فيه الشروط المقررة عند أهل العلم ، ومنها :
• العلم بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بهما من علوم .
• العلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية .
• المعرفة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده ، ومقاصد الشريعة ، والعلوم المساعدة مثل : النحو والصرف واللغة والمصطلح وسائر علوم الآلة .
• المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم ، وأوضاع العصر ومستجداته ، وما بني على العرف المعتبر الذي لا يصادم النص . وغير ذلك مما شرطه العلماءفي المفتي ليكون أهلا للفتوى .
قال الحافظ بن حجر ـ رحمه الله ـ ( إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب ) ( فتح الباري 3/584 ) .
وقال بعض المصنفين : الإنفراد عن أهل العلم برأي في الشرع ، والقول بما لم يقل به أحد فيه ، ينبئان عن خلل في العقل ) (النظائر لبكر ابو زيد ، ص 190 ) .
الثالث : حب الصدارة والتصدر في الفتوى ( ولو أن المرء أسلم الزناد للنفس لأسلمته للسقوط والهلكة .
الرابع : غياب منهج السلف الصالح عند هؤلاء فإن سلفنا الصالح كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها هديا وأقلها تكلفا ، كانوا ـ رضوان الله عليه ـ أعظم الناس ورعا وأقلهم في الدين كلاما ، وهذا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ على المنبر الشريف يقول ( أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم ) .
سنكمل بعد ذلك إن شاء الله ، أسألكم الدعاء لي ولشيخي ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .