أبو الهمام البرقاوي
2011-02-13, 12:43 PM
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على أشرفِ خلقِ الله .
وبعد .
هذا الكتاب الثاني من سلسلة ( الفوائد المنتخبة ) وهو الجزء الأول من ( مجموع الفتاوى ) لشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني .
وكانت طريقتي في قراءة الكتاب : وضع معكوفتين على الفائدة المعنِّيَّة ، ثم اختصارها في دفة الكتاب الأولى ، وهكذا حتى انتهيتُ من المجلد .
قال الإمامُ العلامة / شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية – قدَّسَ اللهُ روحَه-:
ص (4) الفائدة الأولى : ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعا من القرآن كقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقوله تعالى:
{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} . وقوله تعالى {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} . وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} .
فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سببا لمحبة الله عبده.
(6) الفائدة الثانية : {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} .
وقد قال غير واحد من العلماء: منهم يحيى بن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم (الحكمة) : هي السنة لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة.
(8) الفائدة الثالثة : فسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المثنين عليه ، {فقيل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه؛ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن} .
الثاني: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح؛ أو ترى له.. وقال البراء بن عازب: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله {لهم البشرى في الحياة الدنيا} فقال: {هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح؛ أو ترى له} .
قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته
(13) الفائدة الرابعة : إذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحا، والذي أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون ما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم يدخل فيه شريعته التي تختص بنا؛ فإن جميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه من الأصول والفروع بخلاف نوح وغيره من الرسل؛ فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به؛ من إقامة الدين، وترك التفرق فيه.
والدين الذي اتفقوا عليه: هو الأصول. فتضمن الكلام أشياء:
أحدها: أنه شرع لنا الدين المشترك وهو الإسلام والإيمان العام والدين المختص بنا؛ وهو الإسلام والإيمان الخاص.
الثاني: أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك والمختص ونهانا عن التفرق فيه. الثالث: أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه.
الرابع: أنه لما فصل بقوله: {والذي أوحينا إليك} بين قوله: {ما وصى به نوحا} وقوله: {وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} أفاد ذلك.
(15) الفائدة الخامسة : الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن، وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه. قال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} وقال: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} وقال: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وقال: {إنما المشركون نجس}
فنجد كثيرا من المتفقهة والمتعبدة، إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع اهتماما وعملا. ويترك من طهارة القلب ما أمر به؛ إيجابا، أو استحبابا، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك.
ونجد كثيرا من المتصوفة والمتفقرة، إنما همته طهارة القلب فقط؛ حتى يزيد فيها على المشروع اهتماما وعملا؛ ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجابا، أو استحبابا.
فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر والغل لإخوانهم، وفي ذلك مشابهة بينة لليهود.
والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر - الذي يجب اتقاؤه - من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى. وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به .
الإجماعُ حجَّةٌ قطعيَّةٌ
(17) الفائدة السادسة : ظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنا، وظاهرا.
وسبب الفرقة: ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم.
ونتيجة الجماعة: رحمة الله، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة: عذاب الله، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم. وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة الله ورحمته: بفعل لم يأمر الله به من اعتقاد، أو قول، أو عمل، فلو كان القول، أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به لم يكن ذلك طاعة لله، ولا سببا لرحمته، وقد احتج بذلك أبو بكر عبد العزيز في أول " التنبيه " نبه على هذه النكتة.
فصل
الإخلاص ، والمناصحة ، والجماعة ، هنَّ خصالُ الدين
(18) الفائدة السابعة : قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهي الصحابة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت {ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم} هذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان:
(1)حق لله (2)وحق لعباده .
فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئا، وهذا معنى إخلاص العمل لله
وحقوق العباد قسمان: (1)خاص (2)وعام .
أما الخاص : فمثل بر كل إنسان والديه، وحق زوجته وجاره؛ فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه؛ ولأن مصلحتها خاصة فردية.
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: (1)رعاة (2)ورعية .
فحقوق الرعاة : مناصحتهم .
وحقوق الرعية : لزوم جماعتهم؛ فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة؛ بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعا؛ فهذه الخصال تجمع أصول الدين.
قاعدةٌ في توحيد الألوهية
(25) الفائدة الثامنة :
( أصلٌ ) نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن؛ لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: أن عبادته تكليف ومشقة. وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار؛ أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس - والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب} الآية، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: {أجرك على قدر نصبك} - فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه.
ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة؛ وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي؛ كقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} {لا تكلف إلا نفسك} {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} أي وإن وقع في الأمر تكليف؛ فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفا، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدا.
فائدة (عذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب. ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات )
فصل
(35) الفائدة التاسعة : إذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس؛ وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين:
(1) لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها؛ وهو إلهها.
(2) ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها؛ سواء كان ذلك هو الله أو غيره وإذا فقد يكون عاما وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقا، مثل عباد الشمس والقمر وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب. وقد يكون خاصا في المسلمين، مثل من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم {تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة: إن أعطي رضي، وإن منع سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}
فصل
(39) الفائدة العاشرة : والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له: كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله.
وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره،
ولقد صدق القائل:
بين التذلل والتدلل نقطة ... في رفعها تتحير الأفهام
ذاك التذلل شرك ... فافهم يا فتى بالخلف
وقال الشيخ :
فهم ( الناس ) ثلاثة أصناف: ظالم. وعادل. ومحسن.
فالظالم: الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك. والعادل: المكافئ. كالبايع لا لك ولا عليك كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه كالزوجين والمتبايعين والشريكين.
والمحسن : الذي يحسن لا لعوض يناله منك.
فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح - الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك.
(43) الفائدة الحادية عشرة : لفظ العبد في القرآن: يتناول من عبد الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده. كما قال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وأما قوله {إلا من اتبعك من الغاوين} فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء،
وقوله: {عينا يشرب بها عباد الله} {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} {واذكر عبدنا داود} و {نعم العبد إنه أواب} {واذكر عبدنا أيوب} {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب} {فوجدا عبدا من عبادنا}
......
وقال: وهذا كقوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم معبدون مذللون مقهورون يجري عليهم قدره. وقد يكون كونهم عبيدا: هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارا كقوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وقوله: {إلا آتي الرحمن عبدا} أي ذليلا خاضعا.
وقال: بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون قانتون مضطرون من وجوه.
منها: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه.
ومنها: دعاؤهم إياه عند الاضطرار.
ومنها: خضوعهم واستسلامهم لما يجري عليهم من أقداره ومشيئته.
ومنها: انقيادهم لكثير مما أمر به في كل شيء، فإن سائر البشر لا يمكنون العبد من مراده بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذي يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له في بعض ما أمر به - وإن كان هو التوحيد - لا يمنع كونهم قانتين خاضعين مستسلمين كرها كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذي بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه في أمور.
(57) الفائدة الثانية عشرة : قال تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} أي يخوفكم بأوليائه.
هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور؛ كابن عباس وغيره وأهل اللغة كالفراء وغيره. قال ابن الأنباري: والذي نختاره في الآية: يخوفكم أولياءه. تقول العرب أعطيت الأموال: أي أعطيت القوم الأموال؛ فيحذفون المفعول الأول. قلت: وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة؛ فحذف الأول لأنه ليس مقصودا.
وقال بعض المفسرين: يخوف أولياءه المنافقين والأول أظهر؛ لأنها نزلت بسبب تخويفهم من الكفار في إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس. وقد قال: {يخوف أولياءه فلا تخافوهم} الضمير عائد إلى أولياء الشيطان؛ الذين قال فيهم: {فاخشوهم} قبلها والذي قال الثاني: فسرها من جهة المعنى وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه؛ لأن سلطانه عليهم، فهو يدخل عليهم المخاوف دائما وإن كانوا ذوي عدد وعدد وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار أو أنهم أرادوا المفعول الأول؛ أي: يخوف لمنافقين أولياءه وهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين؛ ولو أريد أنه يجعل أولياءه خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه؛ هو قوله: {فلا تخافوهم} .
وأيضا فإنه يعد أولياءه ويمنيهم؛ ولكن الكفار: يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين.
وقال (فكلا القولين صحيح من حيث المعنى؛ لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين كما دل عليه السياق وإذا جعلهم مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم. فدلت الآية على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناسا خائفين منهم. ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس كما قال: {فلا تخشوا الناس واخشون} فخوف الله أمر به وخوف أولياء الشيطان نهى عنه. قال تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني} فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته وقال: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} وقال: {فإياي فارهبون}
وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك فهذا لام ساقط لا يجوز.
الطاعة ، المبايعة ، الأذى ، المحبة ، المعصية ، الرضا
لا ، العبادة ، التوكل ، الاستعانة ، الدعاء .
(68) الفائدة الثالثة عشرة : بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له ومحبته وتعزيره وتوقيره ونصره وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له واتباعه والصلاة والتسليم عليه وتقديمه على النفس والأهل والمال ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق.
وأخبر أن طاعته طاعته فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}
ومبايعته مبايعته فقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال: {أحب إليكم من الله ورسوله} .
وفي الأذى فقال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله}
وفي الطاعة والمعصية فقال: {ومن يطع الله ورسوله} . {ومن يعص الله ورسوله} وفي الرضا فقال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
أما العبادة والاستعانة .... والتوكل .... والدعاء سواء كان عبادة أو مسألة ...لله وحده لا شريك له .
(76) الفائدة الرابعة عشرة : لما كان أصل الدين الشهادتين: كانت هذه الأمة الشهداء ولها وصف الشهادة.
والقسيسون لهم العبادة بلا شهادة ولهذا قالوا: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} ولهذا كان المحققون على أن الشهادتين أول واجبات الدين كما عليه خلص أهل السنة وذكره منصور السمعاني والشيخ عبد القادر وغيرهما وجعله أصل الشرك وغيروا بذلك ملة التوحيد التي هي أصل الدين كما فعله قدماء المتفلسفة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
ومن أسباب ذلك: الخروج عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين أو النصارى أو اليهود وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} فيريدون أن يجعلوا السماع جنسا واحدا والملة جنسا واحدا ولا يميزون بين مشروعه ومبتدعه ولا بين المأمور به والمنهي عنه.
فالسماع الشرعي الديني : سماع كتاب الله وتزيين الصوت به وتحبيره كما قال صلى الله عليه وسلم {زينوا القرآن بأصواتكم} وقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. والصور والأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى.
والعبادة: عبادة الله وحده لا شريك له {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} {رجال} .
وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم.
يتبع!
وبعد .
هذا الكتاب الثاني من سلسلة ( الفوائد المنتخبة ) وهو الجزء الأول من ( مجموع الفتاوى ) لشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني .
وكانت طريقتي في قراءة الكتاب : وضع معكوفتين على الفائدة المعنِّيَّة ، ثم اختصارها في دفة الكتاب الأولى ، وهكذا حتى انتهيتُ من المجلد .
قال الإمامُ العلامة / شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية – قدَّسَ اللهُ روحَه-:
ص (4) الفائدة الأولى : ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعا من القرآن كقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقوله تعالى:
{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} . وقوله تعالى {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} . وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} .
فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سببا لمحبة الله عبده.
(6) الفائدة الثانية : {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} .
وقد قال غير واحد من العلماء: منهم يحيى بن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم (الحكمة) : هي السنة لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة.
(8) الفائدة الثالثة : فسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المثنين عليه ، {فقيل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه؛ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن} .
الثاني: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح؛ أو ترى له.. وقال البراء بن عازب: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله {لهم البشرى في الحياة الدنيا} فقال: {هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح؛ أو ترى له} .
قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته
(13) الفائدة الرابعة : إذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحا، والذي أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون ما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم يدخل فيه شريعته التي تختص بنا؛ فإن جميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه من الأصول والفروع بخلاف نوح وغيره من الرسل؛ فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به؛ من إقامة الدين، وترك التفرق فيه.
والدين الذي اتفقوا عليه: هو الأصول. فتضمن الكلام أشياء:
أحدها: أنه شرع لنا الدين المشترك وهو الإسلام والإيمان العام والدين المختص بنا؛ وهو الإسلام والإيمان الخاص.
الثاني: أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك والمختص ونهانا عن التفرق فيه. الثالث: أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه.
الرابع: أنه لما فصل بقوله: {والذي أوحينا إليك} بين قوله: {ما وصى به نوحا} وقوله: {وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} أفاد ذلك.
(15) الفائدة الخامسة : الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن، وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه. قال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} وقال: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} وقال: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وقال: {إنما المشركون نجس}
فنجد كثيرا من المتفقهة والمتعبدة، إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع اهتماما وعملا. ويترك من طهارة القلب ما أمر به؛ إيجابا، أو استحبابا، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك.
ونجد كثيرا من المتصوفة والمتفقرة، إنما همته طهارة القلب فقط؛ حتى يزيد فيها على المشروع اهتماما وعملا؛ ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجابا، أو استحبابا.
فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر والغل لإخوانهم، وفي ذلك مشابهة بينة لليهود.
والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر - الذي يجب اتقاؤه - من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى. وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به .
الإجماعُ حجَّةٌ قطعيَّةٌ
(17) الفائدة السادسة : ظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنا، وظاهرا.
وسبب الفرقة: ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم.
ونتيجة الجماعة: رحمة الله، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة: عذاب الله، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم. وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة الله ورحمته: بفعل لم يأمر الله به من اعتقاد، أو قول، أو عمل، فلو كان القول، أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به لم يكن ذلك طاعة لله، ولا سببا لرحمته، وقد احتج بذلك أبو بكر عبد العزيز في أول " التنبيه " نبه على هذه النكتة.
فصل
الإخلاص ، والمناصحة ، والجماعة ، هنَّ خصالُ الدين
(18) الفائدة السابعة : قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهي الصحابة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت {ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم} هذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان:
(1)حق لله (2)وحق لعباده .
فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئا، وهذا معنى إخلاص العمل لله
وحقوق العباد قسمان: (1)خاص (2)وعام .
أما الخاص : فمثل بر كل إنسان والديه، وحق زوجته وجاره؛ فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه؛ ولأن مصلحتها خاصة فردية.
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: (1)رعاة (2)ورعية .
فحقوق الرعاة : مناصحتهم .
وحقوق الرعية : لزوم جماعتهم؛ فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة؛ بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعا؛ فهذه الخصال تجمع أصول الدين.
قاعدةٌ في توحيد الألوهية
(25) الفائدة الثامنة :
( أصلٌ ) نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن؛ لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: أن عبادته تكليف ومشقة. وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار؛ أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس - والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب} الآية، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: {أجرك على قدر نصبك} - فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه.
ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة؛ وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي؛ كقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} {لا تكلف إلا نفسك} {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} أي وإن وقع في الأمر تكليف؛ فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفا، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدا.
فائدة (عذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب. ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات )
فصل
(35) الفائدة التاسعة : إذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس؛ وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين:
(1) لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها؛ وهو إلهها.
(2) ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها؛ سواء كان ذلك هو الله أو غيره وإذا فقد يكون عاما وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقا، مثل عباد الشمس والقمر وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب. وقد يكون خاصا في المسلمين، مثل من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم {تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة: إن أعطي رضي، وإن منع سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}
فصل
(39) الفائدة العاشرة : والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له: كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله.
وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره،
ولقد صدق القائل:
بين التذلل والتدلل نقطة ... في رفعها تتحير الأفهام
ذاك التذلل شرك ... فافهم يا فتى بالخلف
وقال الشيخ :
فهم ( الناس ) ثلاثة أصناف: ظالم. وعادل. ومحسن.
فالظالم: الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك. والعادل: المكافئ. كالبايع لا لك ولا عليك كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه كالزوجين والمتبايعين والشريكين.
والمحسن : الذي يحسن لا لعوض يناله منك.
فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح - الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك.
(43) الفائدة الحادية عشرة : لفظ العبد في القرآن: يتناول من عبد الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده. كما قال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وأما قوله {إلا من اتبعك من الغاوين} فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء،
وقوله: {عينا يشرب بها عباد الله} {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} {واذكر عبدنا داود} و {نعم العبد إنه أواب} {واذكر عبدنا أيوب} {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب} {فوجدا عبدا من عبادنا}
......
وقال: وهذا كقوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم معبدون مذللون مقهورون يجري عليهم قدره. وقد يكون كونهم عبيدا: هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارا كقوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وقوله: {إلا آتي الرحمن عبدا} أي ذليلا خاضعا.
وقال: بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون قانتون مضطرون من وجوه.
منها: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه.
ومنها: دعاؤهم إياه عند الاضطرار.
ومنها: خضوعهم واستسلامهم لما يجري عليهم من أقداره ومشيئته.
ومنها: انقيادهم لكثير مما أمر به في كل شيء، فإن سائر البشر لا يمكنون العبد من مراده بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذي يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له في بعض ما أمر به - وإن كان هو التوحيد - لا يمنع كونهم قانتين خاضعين مستسلمين كرها كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذي بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه في أمور.
(57) الفائدة الثانية عشرة : قال تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} أي يخوفكم بأوليائه.
هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور؛ كابن عباس وغيره وأهل اللغة كالفراء وغيره. قال ابن الأنباري: والذي نختاره في الآية: يخوفكم أولياءه. تقول العرب أعطيت الأموال: أي أعطيت القوم الأموال؛ فيحذفون المفعول الأول. قلت: وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة؛ فحذف الأول لأنه ليس مقصودا.
وقال بعض المفسرين: يخوف أولياءه المنافقين والأول أظهر؛ لأنها نزلت بسبب تخويفهم من الكفار في إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس. وقد قال: {يخوف أولياءه فلا تخافوهم} الضمير عائد إلى أولياء الشيطان؛ الذين قال فيهم: {فاخشوهم} قبلها والذي قال الثاني: فسرها من جهة المعنى وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه؛ لأن سلطانه عليهم، فهو يدخل عليهم المخاوف دائما وإن كانوا ذوي عدد وعدد وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار أو أنهم أرادوا المفعول الأول؛ أي: يخوف لمنافقين أولياءه وهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين؛ ولو أريد أنه يجعل أولياءه خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه؛ هو قوله: {فلا تخافوهم} .
وأيضا فإنه يعد أولياءه ويمنيهم؛ ولكن الكفار: يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين.
وقال (فكلا القولين صحيح من حيث المعنى؛ لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين كما دل عليه السياق وإذا جعلهم مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم. فدلت الآية على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناسا خائفين منهم. ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس كما قال: {فلا تخشوا الناس واخشون} فخوف الله أمر به وخوف أولياء الشيطان نهى عنه. قال تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني} فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته وقال: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} وقال: {فإياي فارهبون}
وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك فهذا لام ساقط لا يجوز.
الطاعة ، المبايعة ، الأذى ، المحبة ، المعصية ، الرضا
لا ، العبادة ، التوكل ، الاستعانة ، الدعاء .
(68) الفائدة الثالثة عشرة : بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له ومحبته وتعزيره وتوقيره ونصره وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له واتباعه والصلاة والتسليم عليه وتقديمه على النفس والأهل والمال ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق.
وأخبر أن طاعته طاعته فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}
ومبايعته مبايعته فقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال: {أحب إليكم من الله ورسوله} .
وفي الأذى فقال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله}
وفي الطاعة والمعصية فقال: {ومن يطع الله ورسوله} . {ومن يعص الله ورسوله} وفي الرضا فقال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
أما العبادة والاستعانة .... والتوكل .... والدعاء سواء كان عبادة أو مسألة ...لله وحده لا شريك له .
(76) الفائدة الرابعة عشرة : لما كان أصل الدين الشهادتين: كانت هذه الأمة الشهداء ولها وصف الشهادة.
والقسيسون لهم العبادة بلا شهادة ولهذا قالوا: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} ولهذا كان المحققون على أن الشهادتين أول واجبات الدين كما عليه خلص أهل السنة وذكره منصور السمعاني والشيخ عبد القادر وغيرهما وجعله أصل الشرك وغيروا بذلك ملة التوحيد التي هي أصل الدين كما فعله قدماء المتفلسفة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
ومن أسباب ذلك: الخروج عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين أو النصارى أو اليهود وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} فيريدون أن يجعلوا السماع جنسا واحدا والملة جنسا واحدا ولا يميزون بين مشروعه ومبتدعه ولا بين المأمور به والمنهي عنه.
فالسماع الشرعي الديني : سماع كتاب الله وتزيين الصوت به وتحبيره كما قال صلى الله عليه وسلم {زينوا القرآن بأصواتكم} وقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. والصور والأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى.
والعبادة: عبادة الله وحده لا شريك له {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} {رجال} .
وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم.
يتبع!