أبوعبيدة المصري
2011-02-10, 02:25 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ؛ الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل : بقايا من أهل العلم , يدلون من ضل إلى الهدى , و يبصرون بنور الله أهل العمى , فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه , و كم من ضال تائه قد هدوه , فلله ما أحسن أثرهم على الناس , و لكن ما أسوأ أثر المخذلين عليهم .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , و أشهد أن محمدا عبده و رسوله , صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبع سنته و حفظ الدين و بلغه و نافح عنه إلى يوم الدين .. آمين .
أما بعد :
فإن القول على الله بغير علم من أكبر المحرمات ؛ و ذلك لما يترتب عليه من مفاسد عظيمة في دين الناس , إذ به يحل الحرام و يحرم الحلال و ينسب إلى الله "عز و جل" ما لم يقله .
* قال "سبحانه و تعالى" : ففف وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ققق النحل (116)
- قال ابن القيم "رحمه الله" : "" فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام ولما لم يحله هذا حلال , وهذا بيان منهسبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه "" إعلام الموقعين .
- و قال السعدي "رحمه الله" : "" أي: لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم ، كذبا وافتراء على الله وتقولا عليه "" تفسير السعدي .
* و قال "عز و جل" : ففف قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ققق الأعراف (33)
- قال ابن القيم "رحمه الله" : "" فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش , ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم , ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه , ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم , وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه "" إعلام الموقعين .
* و قال تعالى : ففف وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ققق الإسراء (36)
- "" نهى "جل وعلا" في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم ""
أضواء البيان للشنقيطي , و لا شك أنه يدخل فيه القول على الله بغير علم .
* و قال سبحانه : ففف قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ققق يونس (59)
- فالذي يقول هذا حلال و هذا حرام , إن لم يكن عنده حجة من كلام الله فهو مفتر بنص هذه الآية .
* و قال النبي صلى الله عليه و سلم : "" إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ , و مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ "" متفق عليه
- و إنما قال هذا الكلام النبي صلى الله عليه و سلم لما يترتب على قوله من وجوب الاتباع , و من التحليل و التحريم .
· و قد عرف السلف الصالح "رحمهم الله أجمعين" خطورة القول على الله بغير علم , و لذلك وردت عنهم كلمات كثيرة فيها ذم القول على الله بغير علم
- منها ما قاله بعضهم : ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا و حرم الله كذا , فيقول الله له : كذبت , لم أحل كذا و لم أحرم كذا .
- و منها قول المروذي : سمعت أبا عبدالله , يقول : ليتق الله عبد و لينظر ما يقول وما يتكلم به فإنه مسؤول .
· و من أجل هذا ؛ فإنهم "رحمهم الله أجمعين" كانوا يتحرون عدم الكلام في دين الله "عز و جل" بغير برهان و لا سلطان , بل و يحذرون من الاجتراء على الله في الفتوى
- قال سحنون بن سعيد "رحمه الله" : أجسر الناس على الإفتاء أقلهم علماً , يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيظن أن الحق كله فيه .
- وقال بن وهب : سمعت مالكا يقول : العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق .
- وقال الإمام مالك "رحمه الله" : ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك .
- وقال عبدالرحمن بن مهدي : كنا عند مالك , فجاءه رجل , فقال : يا أبا عبدالله جئتك من مسيرة ستة أشهر , حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها , فسأل الرجل عن المسألة , فقال الإمام مالك "رحمه الله" : لا أدري , فبهت الرجل , وقال أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم , قال تقول لهم : قال مالك لا أدري .
- و قال مالك "رحمه الله" : أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن عبدالرحمن فوجده يبكي , فقال له : ما يبكيك ؛ أمصيبة دخلت عليك ؟ فقال : لا.. ولكن استفتي من لا علم له : وظهر في الإسلام أمر عظيم . وقال : ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق .
كيف لو رأى هذا الزمان و أهله ؟!
و قد بين النبي صلى الله عليه و سلم هذا أيضا لما ذم هؤلاء الذين أفتوا بغير علم في حياته و عصره
ففي الحديث : "" أنَّ رجلاً أصابه جُرْحٌ في عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثم أصابه احتلامٌ , فأمر بالاغتسال فمات ، فبلغ ذلك النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : قَتَلُوه قَتَلَهم الله ألم يكن شفاء العيّ السؤال "" أبو داود و غيره و حسنه الألباني
انظر كيف سماه مريضا , بل وقال أنه القاتل !!!
· ليس هذا و فقط , بل كان السلف الصالح ينصحون العوام بعدم أخذ العلم إلا من الثقات المعروفين بالعلم و الفضل و التمكن في هذا الدين
- قال ابن سيرين "رحمه الله" : إن هذا العلم دين , فانظروا عمن تأخذون دينكم .
و قد انتقص الله "تبارك و تعالى" هؤلاء الذين يتبعون من يتقول عليه بغير علم , و أخبر "سبحانه و تعالى" أن من يفعل ذلك فكأنما يعبد هذا القائل
ورد هذا المعنى في حديث النبي صلى الله عليه و سلم , "" لما تلى قوله تعالى : ففف اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ققق فقال له عدي : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ . قَالَ : أَجَلْ وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّون َهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَه ُ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ ."" الترمذي و غيره و صححه الألباني
فإذا كان الأمر بهذه الخطورة
و إذا كانت النصوص جاءت متوافرة دالة على حرمة القول على الله بغير علم , و على وجوب تحري الحق بسؤال أهل العلم , و على كراهة التصدر للفتوى ممن لم يتأهل
فما هو حال أهل هذا العصر من هذا الأمر ؟؟؟
ما هو حال العوام ؟
هل يعرفون العلماء الكبار الموثوق في علمهم , الذين يجب عليهم أن يرجعوا لهم في مسائل دينهم ؟
هل يستطيعون أن يفرقوا بين طالب العلم و بين الداعية و بين العالم المجتهد ؟
أم أن الأمر عندهم سواء ؟
و هل يستطيع الواحد منهم أن يفرق بين المسائل الصغيرة –التي يستطيع الصغير من طلاب العلم أن يجيب عليها- و بين المسائل الكبيرة العظيمة التي يجب أن يرجع فيها لكبار أهل العلم ممن يعيش في العصر , و ليس لغيرهم ؟
ثم ما هو حال من يتكلم في دين الله "عز و جل" , سواء كان طالب علم أو داعية أو عالما أو مجتهدا ؟؟؟
هل كل واحد يعرف قدره ؟
هل كل واحد منهم يتكلم فيما يحسن ؟
هل إذا سئل الواحد منهم في شيء لا يحسنه , أحال على من عنده العلم ؟
أم أن الأمور اختلطت , و صار الكل يتكلم في دين الله "عز و جل" بدون برهان و لا سلطان , و بدون تأهل و تزكية من أهل العلم المعتبرين ؟
واقع مرير , والله المستعان
· حتى يسهل الأمر , و حتى نستطيع أن نتصور خطورة الأمر , سأعرض عليكم قول أهل العلم في الرجل الذي يحق له أن يجلس للفتوى
- قال الشافعي -فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه- : "" لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجل عارف بكتاب الله ؛ بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه , وما أريد به , ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم , وبالناسخ والمنسوخ , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر , وما يحتاج إليه للسنة والقرآن , ويستعمل هذا مع الإنصاف , ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار , وتكون له قريحة بعد هذا , فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام , وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي ""
لو طبقنا هذا الكلام على أهل هذا العصر ؛ لما جلس منهم أحد للفتوى , إلا أقل القليل
و الله المستعان
- قال العلامة ابن جبرين "رحمه الله" : "" شروط المفتي ؛ الذي يفتي في مسألة إذا سئل عنها ؟
يشترط بعضهم شروطا ثقيلة ، يشترطون أنيكون عالما بالقرآن، عالما بناسخه و منسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومكيه ومدنيه ، وعامهوخاصه ، ومنطوقه وملفوظه إلى آخر ذلك.
وكذلك يقولون في السنة ، وهذا شرطالفقيه
والصحيح أنه يشترط للمفتي الذي يفتي في الفتاوى العامة أن يكون عالمابالفقه ؛ أصوله وفروعه ، عالما بالفقه وعالما بأصول الفقه ، وأن يكون عالما بالخلافات ،ولو في مذهب خاص ، إذا كان مثلا من أهل المذهب الحنبلي ؛ فيعرف الروايات التي اختلفتعن الإمام أحمديعرف كم في المسألة من قول ، فيختار منها ما يترجح له.
يشترط : أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد ، يعني : سمعه وبصره وعقله وذكاؤهوفهمه وقدرته ، وتمكنه من معرفة الكتب ومعرفة دلالاتها.
يشترط : أن يكونعالمًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام ؛ لأن هناك من يأخذ الأحكام من الأدلةوتكون الأدلة مجملة فيستنبط منها ؛ فيقول : في هذه الآية دليل على كذا ودليل على كذا ،وفائدة كذا وكذا ، تجده مثلا إذا شرح الحديث يقول : فيه دليل على كذا ، وفيه دليل علىكذا ، وفيه دليل على كذا.
هذا هو الإستنباط ، وإنما يستنبط ذلك أهل الذكاءوأهل الفهم ، يشترط أن يكون قادرا ، عالما بالوسائل ، الوسائل العلمية : النحو واللغة ؛وذلك لأن بفهمهما يتمكن من فهم الأحاديث ومن فهم الآيات.
يشترط إذا كانيحتاج إلى الأسانيد أن يكون عارفا برجال الأحاديث ، برجال الأحاديث الذين قولهم لايقبل ، يشترط أن يكون عالما بتفاسير الآيات ؛ بالأخص الآية التي يريد أن يستدل بها ،عنده قدرة على معرفة مدلولها.
الآيات الواردة في الأحكام والأخباروالأحاد يث الواردة في الأحكام ؛ فإذا كان عالما بذلك كله ، فإنه يكون قد بلغ رتبةالفتيا ، فيتصدر للفتيا ، ثم نعرف أن هذا لا يلزم في كل مسألة ، فلو أن إنسانا بحثمسألة وتعمق فيها ، وعرف الاجتهادات التي فيها جاز له أن يفتي فيها ، ولو لم يعرفبقية المسائل ؛ فأنت مثلا لو بحثت مسألة الجهر بالتسمية ، وقرأتها في كتب الحديث وفيكتب الفقه ، في كتب الحنابلة وفي كتب الشافعية ، وخرجت منها بقول فإنك تفتي بذلكالقول ، ولو أنك ما بحثت في بقية المسائل. "" الموقع الرسمي للشيخ "رحمه الله"
هذا هو كلام أحد العلماء المعتبرين المعروفين في هذا العصر
إذن حسب هذا الكلام ؛ لا يجوز أن يتصدى للفتوى إلا من انطبقت عليه هذه الشروط التي ذكرها الشيخ "رحمه الله"
سيقول قائل في هذا الوقت : و ما هو الطريق لمعرفة تحقق هذه الشروط في الشخص المفتي ؟
كيف أعرف أن هذا المتكلم متأهل أم غير متأهل ؟
و هل من الممكن أن يكون بعض الناس متأهلا للكلام في فن دون آخر ؟
و في مسألة دون أخرى ؟
و هل لما نقول هذا متأهل و ذاك غير متأهل ؛ نكون بهذا طعنا و وقعنا في هذا الشخص المتكلم فيه ؟
أسئلة تحتاج لإجابات .
و لفهم الإجابات ؛ يجب عليك أولا أن تعرف أن هذه الشروط التي اشترطها العلماء في المفتي ؛ هي شروط ثبوتية وجودية
أي يجب أن تتوفر في الشخص حتى يحكم له بجواز الجلوس و القعود للفتوى .
بمعنى :
أن الذي يتكلم عن رجل معين و يقول هو مقبول الفتوى ؛ هو مطالب بالدليل على صحة هذا الكلام
§ و على هذا كان السلف الصالح رضوان الله عنهم أجمعين ؛ فإنهم لم يكونوا
يسمحوا لأحد بأن يفتي في دين الله "عز و جل" إلا إذا كان مجازا –و الإجازة هي أحد الطرق التي يعرف بها وجود و تمكن شروط الفتوى في المفتي- و قد مر معنا خبر مالك و كيف أنه لم يجلس للفتوى إلا بعدما أجازه بعض أهل العلم في مدينته .
فتنبه لهذا حفظك الله
· و الآن إلى بيان الطرق التي بها يعرف العالم من غيره , و من تجوز له الفتوى ممن لا تجوز له
(1) باليقين ؛ و هذا يحصل لمن هو من أهل العلم , إذ من خبرته بالمتكلم و من خلال علمه , يعرف هل هو مجتهد أم لا , و هل يحسن الفتوى أم لا .
(2) بالإستفاضة , و ذلك بأن ينتشر بين الخاصة و العامة أن فلان بن فلان مفتٍ و يجلس للإفتاء , من غير نكير من أحدهم , بل مع الثناء و المدح .
(3) بالتزكية من عالم معروف أو أكثر , كأن يقول واحد أو أكثر من العلماء : فلان بن فلان يجوز له أن يفتي , أو هو من أهل العلم الأقوياء , و هكذا ...
(4) بالممارسة مع عدم الإنكار من العلماء , كأن يكون متصدرا للإفتاء من مدة طويلة بمسمع من العلماء , و مع هذا لم ينكروا و يقولوا أنه لا يجوز له أن يفتي .
هذه أربعة طرق يستطيع من خلالها الإنسان أن يتأكد من علم المفتي , و أنه من أهل العلم .
- و الذي يجب أن ينتبه إليه في هذا الصدد ؛ أن العلماء ربما يزكون و يمدحون واحدا من الناس في علم معين دون آخر
فيقولون مثلا : هو قوي في باب الإعتقاد
ففي هذه الحالة يكون هذا المزكى مقبول القول و الفتوى في الإعتقاد دون غيره من العلوم و الفنون الأخرى
و هذا هو الغالب على أكثر الناس , إذ الكمال عزيز و قلما تجد هذا الذي حقق الإجتهاد في كل علوم الشريعة
- و أيضا ينبغي أن ينتبه إلى أن الذي يزكى و يجيز هم العلماء و ليس العوام
فما نراه الآن من حال الناس ليس بشيء
فعند العوام من ألقى محاضرة فهو طالب علم
و من صعد المنبر صار شيخا
و من ظهر على فضائية فهو عالم
و من تصدر للفتوى أصبح علامة مجتهداً
و كل هذا ليس بشيء , و إنما العبرة بكلام العلماء و بتزكياتهم , و ليس بكلام العوام
حتى إننا صرنا في هذا الوقت نرى من يدافع و ينافح عن فتوى خرجت من شيخ في غير تخصصه , بحجة أنه عالم مشهور
مع أننا لم نجد واحداً قط من العلماء زكى هذا الشيخ و قال أنه يحسن التكلم في هذا الذي تكلم فيه
- و للأسف رأينا بعض من يتكلم في الدين يساعد هؤلاء العوام على هذا الفهم , و لا يدلهم على الطريق الصحيح الذي به النجاة
رأينا البعض –إلا من رحم الله- يفتي و يتكلم في كل شيء
في المسائل الصغيرة و الكبيرة
في الأمور الخاصة و العامة
فيما يحسن و فيما لا يحسن
يتكلم و يحكم و يفتي في مسألة لو عرضت على عمر لجمع لها كبار الأصحاب .
و الله المستعان
§ و الواجب على كل واحد من الناس أن يسند و يرجع الأمر إلى أهله
هكذا كان السلف الصالح .
- قال الشافعي لأحمد : يا أبا عبد الله ، إذا صحَّ عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه ؛ حجازياً كان أوشامياً أو عراقياً أو يمنياً .
الشافعي يقول هذا
وهو من أوثق الناس
و له بحوث حديثية في كتابه "الرسالة" تدل على تمكنه و تضلعه في علم الحديث
و هو أجل من حمل عن مالك رحمهم الله أجمعين
- و كذلك كان أحمد "رحمه الله " , يحيل على أبي عبيد في مختلف الحديث
مع أن الإمام أحمد كبير القدر واسع العلم عظيم الشأن
أما اليوم فالكل يتكلم
كأنه العالم النحرير
و المجتهد المطلق
والله المستعان
* و حفظ الله الشيخ المبجل , و المربي العاقل الفاضل ؛ الشيخ محمد حسين يعقوب
فإنه لما تكلم عن أحداث مصر , قال باللفظ : "" فلابد في هذه الفتنة , من الرجوع إلى العلماء ""
يقول هذا مع أنه شيخ معروف بالفضل
له تلاميذ كثر
و أتباع يتبعونه في قوله
حفظه الله
* و كذلك هذا حال الشيخ المفضال محمد بن إسماعيل المقدم , فإنك لا تكاد تراه يتكلم بكلمة من بنيات أفكاره , بل دائما ينقل عن السلف و يسند الأمر إليهم .
* و هذا أيضا هو حال الشيخ الكبير , دائما ما أراه إذا أحب أن يتكلم في حكم نازلة من النوازل يكتب في ورقة كلام أهل العلم الكبار ثم يقرأ من الورقه .
حفظهم الله أجمعين
و أخيرا فهذه كلمة بسيطة إلى غلاة التعديل
اعلم رحمك الله أن هذه الأمة أمة وسط
و خير الأمور الوسط
فكما أنه لا يجوز أبدا أن يطعن إنسان أو يقدح في شخص واحد من أهل العلم
فكما أننا نرد على هؤلاء الذين انتقصوا مشايخنا بحجة عدم جواز المغالاة في الجرح
فكذلك يجب علينا أن نراعي نحن عدم الغلو في التعديل
برفع الواحد فوق منزلته
و تنزيل كلامه فوق ما هو عليه
و معاملته معاملة المجتهد المطلق
كلا الطرفين غير جيد
و الواجب هو ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة "رضي الله عنها" : "" أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نُنزل الناس منازلهم "" مسلم في المقدمة
لا إفراط و لا تفريط
لا نرفع الواحد فوق منزلته , و كذلك لا نضعه
نقبل منه و نأخذ عنه ما يحسن , و ندع و نترك ما لا يحسن
نحيل عليه في أمر هو يجيده و يتقنه , و في نفس الوقت نقول بعدم جواز الأخذ بكلامه في الأمور التي لا يجيدها و لم يتقنها
رحم الله ابن حجر لما قال : "" من تكلم في غير فنه أتى بهذه الأعاجيب ""
هل تعرف في من قيل هذا الكلام ؟؟؟
هل تعرف من هو هذا المقصود بهذا الكلام ؟؟؟
المقصود بهذا الكلام هو محمد بن يوسف الكرماني شارح البخاري , العالم المعروف المشهور
و مع هذا لما قال هذا الكلام الحافظ ابن حجر , لم يقل له واحد قط أنت بهذا وقعت و طعنت في الكرماني
بل تناقل العلماء كلماته بالثناء و المدح و القبول
لماذا ؟
لأنه لم يرد بهذا الكلام الطعن في شخص الكرماني , و إنما و فقط أراد أن يبين حاله في فن معين من فنون الشريعة
و فرق كبير بين الكلام في الشخص بصفته , و بين الكلام فيه لشخصه
و من تكلم في دين الله فقد عرض نفسه للمدح و الذم
و الله المستعان
فالوسطية يا عباد الله
لا إفراط و لا تفريط
الله أسأل أن يوفقنا و إياكم لما يحب و يرضى
أبوعبيدة حسين بن سيد
الحمد لله ؛ الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل : بقايا من أهل العلم , يدلون من ضل إلى الهدى , و يبصرون بنور الله أهل العمى , فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه , و كم من ضال تائه قد هدوه , فلله ما أحسن أثرهم على الناس , و لكن ما أسوأ أثر المخذلين عليهم .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , و أشهد أن محمدا عبده و رسوله , صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبع سنته و حفظ الدين و بلغه و نافح عنه إلى يوم الدين .. آمين .
أما بعد :
فإن القول على الله بغير علم من أكبر المحرمات ؛ و ذلك لما يترتب عليه من مفاسد عظيمة في دين الناس , إذ به يحل الحرام و يحرم الحلال و ينسب إلى الله "عز و جل" ما لم يقله .
* قال "سبحانه و تعالى" : ففف وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ققق النحل (116)
- قال ابن القيم "رحمه الله" : "" فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام ولما لم يحله هذا حلال , وهذا بيان منهسبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه "" إعلام الموقعين .
- و قال السعدي "رحمه الله" : "" أي: لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم ، كذبا وافتراء على الله وتقولا عليه "" تفسير السعدي .
* و قال "عز و جل" : ففف قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ققق الأعراف (33)
- قال ابن القيم "رحمه الله" : "" فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش , ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم , ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه , ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم , وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه "" إعلام الموقعين .
* و قال تعالى : ففف وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ققق الإسراء (36)
- "" نهى "جل وعلا" في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم ""
أضواء البيان للشنقيطي , و لا شك أنه يدخل فيه القول على الله بغير علم .
* و قال سبحانه : ففف قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ققق يونس (59)
- فالذي يقول هذا حلال و هذا حرام , إن لم يكن عنده حجة من كلام الله فهو مفتر بنص هذه الآية .
* و قال النبي صلى الله عليه و سلم : "" إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ , و مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ "" متفق عليه
- و إنما قال هذا الكلام النبي صلى الله عليه و سلم لما يترتب على قوله من وجوب الاتباع , و من التحليل و التحريم .
· و قد عرف السلف الصالح "رحمهم الله أجمعين" خطورة القول على الله بغير علم , و لذلك وردت عنهم كلمات كثيرة فيها ذم القول على الله بغير علم
- منها ما قاله بعضهم : ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا و حرم الله كذا , فيقول الله له : كذبت , لم أحل كذا و لم أحرم كذا .
- و منها قول المروذي : سمعت أبا عبدالله , يقول : ليتق الله عبد و لينظر ما يقول وما يتكلم به فإنه مسؤول .
· و من أجل هذا ؛ فإنهم "رحمهم الله أجمعين" كانوا يتحرون عدم الكلام في دين الله "عز و جل" بغير برهان و لا سلطان , بل و يحذرون من الاجتراء على الله في الفتوى
- قال سحنون بن سعيد "رحمه الله" : أجسر الناس على الإفتاء أقلهم علماً , يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيظن أن الحق كله فيه .
- وقال بن وهب : سمعت مالكا يقول : العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق .
- وقال الإمام مالك "رحمه الله" : ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك .
- وقال عبدالرحمن بن مهدي : كنا عند مالك , فجاءه رجل , فقال : يا أبا عبدالله جئتك من مسيرة ستة أشهر , حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها , فسأل الرجل عن المسألة , فقال الإمام مالك "رحمه الله" : لا أدري , فبهت الرجل , وقال أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم , قال تقول لهم : قال مالك لا أدري .
- و قال مالك "رحمه الله" : أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن عبدالرحمن فوجده يبكي , فقال له : ما يبكيك ؛ أمصيبة دخلت عليك ؟ فقال : لا.. ولكن استفتي من لا علم له : وظهر في الإسلام أمر عظيم . وقال : ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق .
كيف لو رأى هذا الزمان و أهله ؟!
و قد بين النبي صلى الله عليه و سلم هذا أيضا لما ذم هؤلاء الذين أفتوا بغير علم في حياته و عصره
ففي الحديث : "" أنَّ رجلاً أصابه جُرْحٌ في عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثم أصابه احتلامٌ , فأمر بالاغتسال فمات ، فبلغ ذلك النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : قَتَلُوه قَتَلَهم الله ألم يكن شفاء العيّ السؤال "" أبو داود و غيره و حسنه الألباني
انظر كيف سماه مريضا , بل وقال أنه القاتل !!!
· ليس هذا و فقط , بل كان السلف الصالح ينصحون العوام بعدم أخذ العلم إلا من الثقات المعروفين بالعلم و الفضل و التمكن في هذا الدين
- قال ابن سيرين "رحمه الله" : إن هذا العلم دين , فانظروا عمن تأخذون دينكم .
و قد انتقص الله "تبارك و تعالى" هؤلاء الذين يتبعون من يتقول عليه بغير علم , و أخبر "سبحانه و تعالى" أن من يفعل ذلك فكأنما يعبد هذا القائل
ورد هذا المعنى في حديث النبي صلى الله عليه و سلم , "" لما تلى قوله تعالى : ففف اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ققق فقال له عدي : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ . قَالَ : أَجَلْ وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّون َهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَه ُ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ ."" الترمذي و غيره و صححه الألباني
فإذا كان الأمر بهذه الخطورة
و إذا كانت النصوص جاءت متوافرة دالة على حرمة القول على الله بغير علم , و على وجوب تحري الحق بسؤال أهل العلم , و على كراهة التصدر للفتوى ممن لم يتأهل
فما هو حال أهل هذا العصر من هذا الأمر ؟؟؟
ما هو حال العوام ؟
هل يعرفون العلماء الكبار الموثوق في علمهم , الذين يجب عليهم أن يرجعوا لهم في مسائل دينهم ؟
هل يستطيعون أن يفرقوا بين طالب العلم و بين الداعية و بين العالم المجتهد ؟
أم أن الأمر عندهم سواء ؟
و هل يستطيع الواحد منهم أن يفرق بين المسائل الصغيرة –التي يستطيع الصغير من طلاب العلم أن يجيب عليها- و بين المسائل الكبيرة العظيمة التي يجب أن يرجع فيها لكبار أهل العلم ممن يعيش في العصر , و ليس لغيرهم ؟
ثم ما هو حال من يتكلم في دين الله "عز و جل" , سواء كان طالب علم أو داعية أو عالما أو مجتهدا ؟؟؟
هل كل واحد يعرف قدره ؟
هل كل واحد منهم يتكلم فيما يحسن ؟
هل إذا سئل الواحد منهم في شيء لا يحسنه , أحال على من عنده العلم ؟
أم أن الأمور اختلطت , و صار الكل يتكلم في دين الله "عز و جل" بدون برهان و لا سلطان , و بدون تأهل و تزكية من أهل العلم المعتبرين ؟
واقع مرير , والله المستعان
· حتى يسهل الأمر , و حتى نستطيع أن نتصور خطورة الأمر , سأعرض عليكم قول أهل العلم في الرجل الذي يحق له أن يجلس للفتوى
- قال الشافعي -فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه- : "" لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجل عارف بكتاب الله ؛ بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه , وما أريد به , ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم , وبالناسخ والمنسوخ , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر , وما يحتاج إليه للسنة والقرآن , ويستعمل هذا مع الإنصاف , ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار , وتكون له قريحة بعد هذا , فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام , وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي ""
لو طبقنا هذا الكلام على أهل هذا العصر ؛ لما جلس منهم أحد للفتوى , إلا أقل القليل
و الله المستعان
- قال العلامة ابن جبرين "رحمه الله" : "" شروط المفتي ؛ الذي يفتي في مسألة إذا سئل عنها ؟
يشترط بعضهم شروطا ثقيلة ، يشترطون أنيكون عالما بالقرآن، عالما بناسخه و منسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومكيه ومدنيه ، وعامهوخاصه ، ومنطوقه وملفوظه إلى آخر ذلك.
وكذلك يقولون في السنة ، وهذا شرطالفقيه
والصحيح أنه يشترط للمفتي الذي يفتي في الفتاوى العامة أن يكون عالمابالفقه ؛ أصوله وفروعه ، عالما بالفقه وعالما بأصول الفقه ، وأن يكون عالما بالخلافات ،ولو في مذهب خاص ، إذا كان مثلا من أهل المذهب الحنبلي ؛ فيعرف الروايات التي اختلفتعن الإمام أحمديعرف كم في المسألة من قول ، فيختار منها ما يترجح له.
يشترط : أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد ، يعني : سمعه وبصره وعقله وذكاؤهوفهمه وقدرته ، وتمكنه من معرفة الكتب ومعرفة دلالاتها.
يشترط : أن يكونعالمًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام ؛ لأن هناك من يأخذ الأحكام من الأدلةوتكون الأدلة مجملة فيستنبط منها ؛ فيقول : في هذه الآية دليل على كذا ودليل على كذا ،وفائدة كذا وكذا ، تجده مثلا إذا شرح الحديث يقول : فيه دليل على كذا ، وفيه دليل علىكذا ، وفيه دليل على كذا.
هذا هو الإستنباط ، وإنما يستنبط ذلك أهل الذكاءوأهل الفهم ، يشترط أن يكون قادرا ، عالما بالوسائل ، الوسائل العلمية : النحو واللغة ؛وذلك لأن بفهمهما يتمكن من فهم الأحاديث ومن فهم الآيات.
يشترط إذا كانيحتاج إلى الأسانيد أن يكون عارفا برجال الأحاديث ، برجال الأحاديث الذين قولهم لايقبل ، يشترط أن يكون عالما بتفاسير الآيات ؛ بالأخص الآية التي يريد أن يستدل بها ،عنده قدرة على معرفة مدلولها.
الآيات الواردة في الأحكام والأخباروالأحاد يث الواردة في الأحكام ؛ فإذا كان عالما بذلك كله ، فإنه يكون قد بلغ رتبةالفتيا ، فيتصدر للفتيا ، ثم نعرف أن هذا لا يلزم في كل مسألة ، فلو أن إنسانا بحثمسألة وتعمق فيها ، وعرف الاجتهادات التي فيها جاز له أن يفتي فيها ، ولو لم يعرفبقية المسائل ؛ فأنت مثلا لو بحثت مسألة الجهر بالتسمية ، وقرأتها في كتب الحديث وفيكتب الفقه ، في كتب الحنابلة وفي كتب الشافعية ، وخرجت منها بقول فإنك تفتي بذلكالقول ، ولو أنك ما بحثت في بقية المسائل. "" الموقع الرسمي للشيخ "رحمه الله"
هذا هو كلام أحد العلماء المعتبرين المعروفين في هذا العصر
إذن حسب هذا الكلام ؛ لا يجوز أن يتصدى للفتوى إلا من انطبقت عليه هذه الشروط التي ذكرها الشيخ "رحمه الله"
سيقول قائل في هذا الوقت : و ما هو الطريق لمعرفة تحقق هذه الشروط في الشخص المفتي ؟
كيف أعرف أن هذا المتكلم متأهل أم غير متأهل ؟
و هل من الممكن أن يكون بعض الناس متأهلا للكلام في فن دون آخر ؟
و في مسألة دون أخرى ؟
و هل لما نقول هذا متأهل و ذاك غير متأهل ؛ نكون بهذا طعنا و وقعنا في هذا الشخص المتكلم فيه ؟
أسئلة تحتاج لإجابات .
و لفهم الإجابات ؛ يجب عليك أولا أن تعرف أن هذه الشروط التي اشترطها العلماء في المفتي ؛ هي شروط ثبوتية وجودية
أي يجب أن تتوفر في الشخص حتى يحكم له بجواز الجلوس و القعود للفتوى .
بمعنى :
أن الذي يتكلم عن رجل معين و يقول هو مقبول الفتوى ؛ هو مطالب بالدليل على صحة هذا الكلام
§ و على هذا كان السلف الصالح رضوان الله عنهم أجمعين ؛ فإنهم لم يكونوا
يسمحوا لأحد بأن يفتي في دين الله "عز و جل" إلا إذا كان مجازا –و الإجازة هي أحد الطرق التي يعرف بها وجود و تمكن شروط الفتوى في المفتي- و قد مر معنا خبر مالك و كيف أنه لم يجلس للفتوى إلا بعدما أجازه بعض أهل العلم في مدينته .
فتنبه لهذا حفظك الله
· و الآن إلى بيان الطرق التي بها يعرف العالم من غيره , و من تجوز له الفتوى ممن لا تجوز له
(1) باليقين ؛ و هذا يحصل لمن هو من أهل العلم , إذ من خبرته بالمتكلم و من خلال علمه , يعرف هل هو مجتهد أم لا , و هل يحسن الفتوى أم لا .
(2) بالإستفاضة , و ذلك بأن ينتشر بين الخاصة و العامة أن فلان بن فلان مفتٍ و يجلس للإفتاء , من غير نكير من أحدهم , بل مع الثناء و المدح .
(3) بالتزكية من عالم معروف أو أكثر , كأن يقول واحد أو أكثر من العلماء : فلان بن فلان يجوز له أن يفتي , أو هو من أهل العلم الأقوياء , و هكذا ...
(4) بالممارسة مع عدم الإنكار من العلماء , كأن يكون متصدرا للإفتاء من مدة طويلة بمسمع من العلماء , و مع هذا لم ينكروا و يقولوا أنه لا يجوز له أن يفتي .
هذه أربعة طرق يستطيع من خلالها الإنسان أن يتأكد من علم المفتي , و أنه من أهل العلم .
- و الذي يجب أن ينتبه إليه في هذا الصدد ؛ أن العلماء ربما يزكون و يمدحون واحدا من الناس في علم معين دون آخر
فيقولون مثلا : هو قوي في باب الإعتقاد
ففي هذه الحالة يكون هذا المزكى مقبول القول و الفتوى في الإعتقاد دون غيره من العلوم و الفنون الأخرى
و هذا هو الغالب على أكثر الناس , إذ الكمال عزيز و قلما تجد هذا الذي حقق الإجتهاد في كل علوم الشريعة
- و أيضا ينبغي أن ينتبه إلى أن الذي يزكى و يجيز هم العلماء و ليس العوام
فما نراه الآن من حال الناس ليس بشيء
فعند العوام من ألقى محاضرة فهو طالب علم
و من صعد المنبر صار شيخا
و من ظهر على فضائية فهو عالم
و من تصدر للفتوى أصبح علامة مجتهداً
و كل هذا ليس بشيء , و إنما العبرة بكلام العلماء و بتزكياتهم , و ليس بكلام العوام
حتى إننا صرنا في هذا الوقت نرى من يدافع و ينافح عن فتوى خرجت من شيخ في غير تخصصه , بحجة أنه عالم مشهور
مع أننا لم نجد واحداً قط من العلماء زكى هذا الشيخ و قال أنه يحسن التكلم في هذا الذي تكلم فيه
- و للأسف رأينا بعض من يتكلم في الدين يساعد هؤلاء العوام على هذا الفهم , و لا يدلهم على الطريق الصحيح الذي به النجاة
رأينا البعض –إلا من رحم الله- يفتي و يتكلم في كل شيء
في المسائل الصغيرة و الكبيرة
في الأمور الخاصة و العامة
فيما يحسن و فيما لا يحسن
يتكلم و يحكم و يفتي في مسألة لو عرضت على عمر لجمع لها كبار الأصحاب .
و الله المستعان
§ و الواجب على كل واحد من الناس أن يسند و يرجع الأمر إلى أهله
هكذا كان السلف الصالح .
- قال الشافعي لأحمد : يا أبا عبد الله ، إذا صحَّ عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه ؛ حجازياً كان أوشامياً أو عراقياً أو يمنياً .
الشافعي يقول هذا
وهو من أوثق الناس
و له بحوث حديثية في كتابه "الرسالة" تدل على تمكنه و تضلعه في علم الحديث
و هو أجل من حمل عن مالك رحمهم الله أجمعين
- و كذلك كان أحمد "رحمه الله " , يحيل على أبي عبيد في مختلف الحديث
مع أن الإمام أحمد كبير القدر واسع العلم عظيم الشأن
أما اليوم فالكل يتكلم
كأنه العالم النحرير
و المجتهد المطلق
والله المستعان
* و حفظ الله الشيخ المبجل , و المربي العاقل الفاضل ؛ الشيخ محمد حسين يعقوب
فإنه لما تكلم عن أحداث مصر , قال باللفظ : "" فلابد في هذه الفتنة , من الرجوع إلى العلماء ""
يقول هذا مع أنه شيخ معروف بالفضل
له تلاميذ كثر
و أتباع يتبعونه في قوله
حفظه الله
* و كذلك هذا حال الشيخ المفضال محمد بن إسماعيل المقدم , فإنك لا تكاد تراه يتكلم بكلمة من بنيات أفكاره , بل دائما ينقل عن السلف و يسند الأمر إليهم .
* و هذا أيضا هو حال الشيخ الكبير , دائما ما أراه إذا أحب أن يتكلم في حكم نازلة من النوازل يكتب في ورقة كلام أهل العلم الكبار ثم يقرأ من الورقه .
حفظهم الله أجمعين
و أخيرا فهذه كلمة بسيطة إلى غلاة التعديل
اعلم رحمك الله أن هذه الأمة أمة وسط
و خير الأمور الوسط
فكما أنه لا يجوز أبدا أن يطعن إنسان أو يقدح في شخص واحد من أهل العلم
فكما أننا نرد على هؤلاء الذين انتقصوا مشايخنا بحجة عدم جواز المغالاة في الجرح
فكذلك يجب علينا أن نراعي نحن عدم الغلو في التعديل
برفع الواحد فوق منزلته
و تنزيل كلامه فوق ما هو عليه
و معاملته معاملة المجتهد المطلق
كلا الطرفين غير جيد
و الواجب هو ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة "رضي الله عنها" : "" أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نُنزل الناس منازلهم "" مسلم في المقدمة
لا إفراط و لا تفريط
لا نرفع الواحد فوق منزلته , و كذلك لا نضعه
نقبل منه و نأخذ عنه ما يحسن , و ندع و نترك ما لا يحسن
نحيل عليه في أمر هو يجيده و يتقنه , و في نفس الوقت نقول بعدم جواز الأخذ بكلامه في الأمور التي لا يجيدها و لم يتقنها
رحم الله ابن حجر لما قال : "" من تكلم في غير فنه أتى بهذه الأعاجيب ""
هل تعرف في من قيل هذا الكلام ؟؟؟
هل تعرف من هو هذا المقصود بهذا الكلام ؟؟؟
المقصود بهذا الكلام هو محمد بن يوسف الكرماني شارح البخاري , العالم المعروف المشهور
و مع هذا لما قال هذا الكلام الحافظ ابن حجر , لم يقل له واحد قط أنت بهذا وقعت و طعنت في الكرماني
بل تناقل العلماء كلماته بالثناء و المدح و القبول
لماذا ؟
لأنه لم يرد بهذا الكلام الطعن في شخص الكرماني , و إنما و فقط أراد أن يبين حاله في فن معين من فنون الشريعة
و فرق كبير بين الكلام في الشخص بصفته , و بين الكلام فيه لشخصه
و من تكلم في دين الله فقد عرض نفسه للمدح و الذم
و الله المستعان
فالوسطية يا عباد الله
لا إفراط و لا تفريط
الله أسأل أن يوفقنا و إياكم لما يحب و يرضى
أبوعبيدة حسين بن سيد