أبو طيبة
2010-12-29, 12:43 AM
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ؛
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد : لما رأيت كثرة اللهج بالمنهج في هذا العصر ، واختلاف الناس في بيان حقيقته ، استعنت بالله – عز وجل – أن أكتب هذا المقال المبهج في بيان الحقيقة الشرعية للمنهج ، ومعلوم أن التحقيق حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية ، ثم العرفية ، ثم اللغوية ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما المنهج في اللغة فكما قال أبو منصور الأزهري في "تهذيب اللغة" في مادة نهج (6 /62-63) : « قال الليث : طريقٌ نَهْج ، وطُرُقٌ نَهْجة ، وقد نَهَج الأمرُ وأَنهَج ، لغتان: إذا وضح ، ومِنهَج الطريق : وَضَحه ، والمِنهاج : الطّريق الواضح . وقال ابن بُزُرج : اسْتَنْهج الطريقُ : صار نهْجاً ، ويقال : نهجتُ لكَ الطريقَ وأَنهجْتُه، فهو مَنْهُوج ومُنهَج ، وهو نَهْج ، ومُنهَج » .
وقال – رحمه الله – في مادة شرع (1 / 424-425) : « قال الله جلّ وعزّ : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، وقال في موضع آخر : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أهواء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الجَاثيَة: 18 ]، وقال : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ﴾ [الشّورى: 13]؛ قال أبو إسحاق في قوله : ﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [المَائدة: 48 ] قال بعضهم : الشِّرعة في الدين، والمنهاجُ: الطَّريق ، وقيل: الشِّرعة والمنهاج جميعاً: الطَّريق. والطَّريق ها هنا : الدِّين ، ولكنَّ اللفظَ إذا اختَلف أُتي به بألفاظٍ تؤكد بها القصَّة والأمر ، كما قال عنترة :
أقوَى وأقفَرَ بعد أمِّ الهيثَمِ
فمعنى أقوى وأقفَرَ واحد يدلُّ على الخَلْوة، إلاّ أنّ اللَّفظين أوكدُ في الخَلْوة. قال: وقال محمد بن يزيد: شِرعةً معناها ابتداء الطريق. والمنهاج: الطريق المستمرّ.
وقال الفرّاء في قوله : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر ﴾ [ الجَاثيَة: 18]، قال: على دينٍ ومِلّة ومنهاج، وكلُّ ذلك يقال. وقال القتيبيّ: ﴿ على شريعة ﴾: على مِثال ومذْهب، ومنه يقال : شَرَع فلان في كذا وكذا، أي أخذَ فيه. ومنه مَشارع الماء، وهي الفُرَض التي تَشرع فيها الواردة.
وقوله جلّ وعزّ: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [الشّورى : 13]؛ قال ابن الأعرابيّ - فيما روى عنه أبو العباس-: شَرَع أي أظهَرَ، وقال في قوله : ﴿ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله ﴾ [الشّورى : 21 ] قال : أظهروا لهم. قال: والشارع: الرَّبَّانيّ، وهو العالم العامل المعلِّم. قال: وشرعَ فلانٌ إذا أظهرَ الحقَّ وقَمَعَ الباطل.
وقال ابن السكيت: الشَّرْع: مصدر شَرَعتُ الإهابَ، إذا شققتَ ما بين الرِّجلين وسلختَه . قال: وهم في الأمر شَرَعٌ، أي سواء .
قلت: فمعنى شَرَعَ بيَّنَ وأوضَحَ، مأخوذ من شُرِع الإهابُ، إذا شُقَّ ولم يُزقَّقْ ولم يُرجَّلْ. وهذه ضروبٌ من السَّلخ معروفة، أوسعُها وأبيَنها الشرع.
وقيل في قوله : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ﴾ [ الشّورى : 13]: إنّ نُوحاً أوّلُ من أتى بِتحريم البنات والأخوات والأمَّهات. وقوله جلّ وعزّ: ﴿ والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ﴾ [ الشّورى : 13] : أي وشرع لكم ما أوحينا إليك وما وصَّينا به الأنبياء قبلك. والشِّرعة والشريعة في كلام العرب: المَشْرعة التي يشرعُها الناس فيشربون منها ويستَقُون، وربَّما شرَّعوها دوابَّهم حتى تشرعَها وتَشربَ منها. والعربُ لا تُسمِّيها شريعةً حتّى يكون الماء عِدّاً لا انقطاعَ له، ويكونَ ظاهراً مَعِيناً لا يُستَقى منه بالرِّشاء. وإذا كان من ماء السماء والأمطار فهو الكَرَع ، وقد أكرعوه إبلَهم فكرعتْ فيه، وقد سقَوها بالكَرَع ».
وقال الإمام الطبري في التفسير (10/384) : «... وأما"المنهاج" ، فإنّ أصله : الطريقُ البيِّن الواضح ، يقال منه : "هو طريق نَهْجٌ ، وَمنهْجٌ" ، بيِّنٌ ، كما قال الراجز :
مَنْ يكُ فِي شَكٍّ فَهذَا فَلْجُ... مَاءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ
ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا ».
فالمنهج والمنهاج في اللغة هو الطريق الواضح البين السهل ، وهو الصراط المستقيم ، وسواء السبيل .
وأما المنهج في الشرع ؛ فقد قال الله - جل وعز-: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48].
عن ابن عباس قوله : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]. يقول: «سبيلا وسنة ». أثر صحيح : رواه الطبري (10 / 388) ، والبخاري معلقا ، ووصله عبد الرزاق في تفسيره ، كما في تغليق التعليق (2/ 25) .
وعن أبي بن كعب قال : « عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية ربه فيعذبه الله أبدا ، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه ، كما تحات عن تلك الشجرة ورقها ، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة ، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم ». أثر حسن في حكم المرفوع: رواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق بزوائد نعيم بن حماد (ص454، رقم87- ط2، دار الكتب العلمية، 1425)، وابن أبي شيبة في المصنف (12 / 91-92 - ط1، مكتبة الرشد، 1425)، وأحمد في الزهد ( ق 102 – مخطوط)، وأبو داود في كتاب الزهد (ص183 - ط1، دار المشكاة)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 252-253 – ط1، دار الكتب العلمية، 1409) .
وعن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : ﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ، قال: «"الشرعة" : السنة، "ومنهاجًا"، قال : السبيل » . أثر حسن رواه الطبري (10 / 388).
وعن قتادة قوله : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ يقول : « سبيلا وسُنّة . والسنن مختلفة : للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحلُّ الله فيها ما يشاء ، ويحرِّم ما يشاء بلاءً ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره : التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل » . أثر حسن رواه الطبري (10 / 385).
وعن قتادة أيضا قوله : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾، قال: « الدينُ واحد، والشريعةُ مختلفة » . أثر صحيح رواه الطبري (10 / 385) .
فالمنهاج هو سبيل الله ؛ وهو يقع على كل عمل خالص لله موافق لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؛ قال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة (12/436):«وكلُّ سَبِيل أُريدَ به الله جلَّ وعزّ وفيه بِرٌّ، فهو داخلٌ في سبيل الله ». وقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/338-339، ط، دار ابن الجوزي): « قد تكرر في الحديث ذكر سَبيل اللّه وابن السَّبيل؛ فالسَّبيلُ في الأصل: الطَّريقُ ويذكَّر ويؤنثَّ، والتأنيثُ فيها أغلبُ. وسبيلُ اللّه عامٌّ يقعُ على كل عَمل خالِصٍ، سُلك به طَريق التقرُّب إلى اللّه تعالى، بأداءِ الفَرَائض والنَّوافل وأنْواع التَّطوعُّات، وإذا أُطْلق فهو في الغالِب واقعٌ على الجهَاد، حتى صارَ لكَثْرة الاسْتِعْمال كأنه مقصورٌ عليه ».
وقال تعالى : ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ ﴾ [النحل : 125].
قال الإمام الطبري في تفسيره (17/321، ط، شاكر، مكتبة ابن تيمية) : « يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ﴿ ادْعُ ﴾ يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته ، ﴿ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾ يقول : إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه ، وهو الإسلام ، ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾ يقول : بوحي الله الذي يوحيه إليك وكتابه الذي ينزله عليك ، ﴿ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ يقول : وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه ، وذكّرهم بها في تنزيله ، كالتي عدّد عليهم في هذه السورة من حججه ، وذكّرهم فيها ما ذكرهم من آلائه ، ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ يقول : وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى ، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك » . ثم روى بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله : ﴿وَجَادِلْهُ ْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ : « أعرض عن أذاهم إياك » .
وسيبل الله هو سبيل رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، قال الله - جل وعز - : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف : 108] .
قال الإمام الطبري (16/251-252 ، ط، شاكر، مكتبة ابن تيمية) : « يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هذه ﴾ الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها ؛ من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان ، والانتهاء إلى طاعته ، وترك معصيته ، ﴿ سبيلي ﴾ وطريقتي ودعوتي ، ﴿ أدعو إلى الله ﴾ وحده لا شريك له ﴿ على بصيرة ﴾ بذلك ويقينِ عليمٍ منّي به أنا ، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي ، ﴿ وسبحان الله ﴾ يقول له تعالى ذكره : وقل تنزيهًا لله وتعظيمًا له من أن يكون له شريك في ملكه ، أو معبود سواه في سلطانه ، ﴿وما أنا من المشركين ﴾ يقول : وأنا بريءٌ من أهل الشرك به ، لست منهم ولا هم منّي». ثم روى بسنده الحسن عن الربيع بن أنس قوله : ﴿ قل هذه سبيلي ﴾ : هذه دعوتي .
وسيبل الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم – هي سبيل المؤمنين ، قال : ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[النساء: 115].
قال الطبري : « يعني جل ثناؤه بقوله : ﴿ ومن يشاقق الرسول﴾ : ومن يباين الرسولَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - معاديًا له ، فيفارقه على العداوة له ، ﴿ من بعد ما تبين له الهدى ﴾ يعني : من بعد ما تبين له أنه رسول الله ، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين﴾ يقول : ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير منهاجهم ، وذلك هو الكفر بالله ، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم ، ﴿ نولّه ما تولّى ﴾ يقول : نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام ، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئًا، ولا تنفعه ، كما حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ﴿ نوله ما تولى ﴾ قال : من آلهة الباطل » وإسناد الأثر صحيح وجادة.
وفي الحديث عن الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : « قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا أنقيد انْقَادَ » حديث صحيح رواه أحمد (13/278) مروي في عدة من دواوين السنة .
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/120، ط دار الهدى):«... والسُّنة: هي الطريقة المسلوكةُ ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه ، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض. وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنَّها أصلُ الدِّين ، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم...» .
وسبيل المؤمنين هي الصراط المستقيم ، كما في قول الله – عز وجل -: ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ [الفاتحة : 6] .
عن جابر بن عبد الله : ﴿ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ ، قال: « الإسلام » ، قال : « هو أوسع مما بين السماء والأرض » أثر صحيح : رواه الطبري في تفسيره (1/173) وابن نصر في السنة (ص/151، ط1 ، دار غراس ) والحاكم وصححه (2/311 ، ط1 ، دار الحرمين) و(2/524-525) .
قال أبو جعفر الطبري في تفسيره (1/170-171) : « أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن "الصراط المستقيم" ، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه . وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي :
أميرُ المؤمنين عَلَى صِرَاطٍ ... إذا اعوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقيمِ
يريد على طريق الحق .
ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب :
صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بالخَيْلِ حَتّى ... تركْنَاها أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ
ومنه قول الراجز:
فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّراطِ القَاصدِ
والشواهد على ذلك أكثرُ من أن تُحصى ، وفيما ذكرنا غنًى عما تركنا .
ثم تستعيرُ العرب الصراط فتستعمله في كل قولٍ وعمل وُصِف باستقامة أو اعوجاج ، فتصفُ المستقيمَ باستقامته ، والمعوجَّ باعوجاجه .
والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي ، أعني : ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ ، أن يكونا معنيًّا به : وَفّقنا للثبات على ما ارتضيتَه ووَفّقتَ له مَنْ أنعمتَ عليه من عبادِك ، من قولٍ وعملٍ ، وذلك هو الصِّراط المستقيم ؛ لأن من وُفّق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيِّين والصديقين والشهداء ، فقد وُفّق للإسلام ، وتصديقِ الرسلِ ، والتمسكِ بالكتاب ، والعملِ بما أمر الله به ، والانزجار عمّا زَجره عنه ، واتّباع منهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وكلِّ عبدٍ لله صالحٍ ، وكل ذلك من الصراط المستقيم » .
وقال الله – سبحانه - : ﴿ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [الأنعام : 153] .
عن عبد الله بن مسعود قال : خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ، فقال : « هذا سبيل الله » ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، فقال : « هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه » ، ثم تلا : ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما ﴾ الآية . حديث حسن الطيالسي في مسنده (1/197، ط دار هجر) وغيره .
وفي رواية عن أبي وائل قال : قال عبد الله : « خط لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً خطاً ، - وخطه لنا عاصم – فقال : « هذا سبيل الله » ، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ؛ فقال لهذه السُّبُل : « وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه » ، ثم تلا هذه الآية : ﴿ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ﴾ للخط الأول ، ﴿ولا تتبعوا السبل ﴾ للخطوط ، ﴿ فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون﴾». حديث حسن صحيح رواه النسائي في تفسيره (2/485، ط1، 1410هـ، مؤسسة الكتب الثقافية) .
وعن ابن عباس قوله : ﴿ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ، وقوله : ﴿ وَأَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [سورة الشورى : 13] ، ونحو هذا في القرآن . قال : « أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله» حسن رواه الطبري في التفسير (12/229-230) .
وعن مجاهد : ﴿ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ ﴾ قال : « البدع والشبهات » أثر صحيح رواه الدارمي (1/286، ط1 ، دار المغني ) وغيره .
وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام : 161].
قال أبو جعفر الطبري في تفسيره (12/281-282) : « يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ﴿ قل ﴾ يا محمد ، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنامَ ﴿إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ﴾ ، يقول : قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به ، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له ، ﴿ دينًا قيمًا ﴾ ، يقول : مستقيمًا ، ﴿ ملة إبراهيم ﴾ ، يقول: دين إبراهيم ، ﴿حنيفًا ﴾ يقول : مستقيمًا ، ﴿ وما كان من المشركين ﴾ ، يقول : وما كان من المشركين بالله ، يعني إبراهيم - صلوات الله عليه -، لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام » .
وقد وردت كلمة المنهاج – أيضا - في السنة النبوية فعن حبيب بن سالم قال : سمعت النعمان بن بشير بن سعد قال : كنا قعودا في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان بشير رجلا يكف حديثه ، فجاء أبو ثعلبة ، فقال : يا بشير بن سعد ، أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء ؟ وكان حذيفة قاعدا مع بشير ، فقال حذيفة : أنا أحفظ خطبته ، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: « إنكم في النبوة ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون جبرية ، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» ، ثم سكت ، قال : فقدم عمر ومعه يزيد بن النعمان في صحابته ، فكتبت إليه أذكره الحديث ، فكتبت إليه : إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين بعد الملك العاض والجبرية ، قال : فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر ، فسر به وأعجبه . حديث حسن رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/349-350، دار هجر، رقم439) ومن طريقه رواه الإمام أحمد وغيره .
وعن أبي الطُّفَيْلِ عامر بن واثلة يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ أَلَا تَسْأَلُونِي ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْخَيْرِ ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ، إِنَّ اللهَ بَعَثَ نَبِيَّهُ – عليه الصلاة والسلام - فَدَعَا النَّاسَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَنْ اسْتَجَابَ ، فَحَيِيَ مِنَ الْحَقِّ مَا كَانَ مَيْتًا ، وَمَاتَ مِنَ الْبَاطِلِ مَا كَانَ حَيًّا ، ثُمَّ ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ ، فَكَانَتِ الْخِلَافَةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ » . صحيح رواه الإمام أحمد (16/624، برقم 23324، ط دار الحديث) .
وما منهاج النبوة إلا الإسلام الصحيح ، وهو ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَنفرجُوا ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ؛ قَالَ : وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ، وَالصِّرَاطُ : الْإِسْلَامُ ، وَالسُّورَانِ : حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ : مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ » حديث صحيح رواه أحمد (13/485، ط1، 1416هـ ، دار الحديث ) وغيره .
هذا ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يثبت قلوبنا على الدين ، وأن يهدينا الصراط المستقيم ، وأن يمسكنا بالإسلام حتى نلقاه عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
وكتبه أبو طيبة
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ؛
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد : لما رأيت كثرة اللهج بالمنهج في هذا العصر ، واختلاف الناس في بيان حقيقته ، استعنت بالله – عز وجل – أن أكتب هذا المقال المبهج في بيان الحقيقة الشرعية للمنهج ، ومعلوم أن التحقيق حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية ، ثم العرفية ، ثم اللغوية ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما المنهج في اللغة فكما قال أبو منصور الأزهري في "تهذيب اللغة" في مادة نهج (6 /62-63) : « قال الليث : طريقٌ نَهْج ، وطُرُقٌ نَهْجة ، وقد نَهَج الأمرُ وأَنهَج ، لغتان: إذا وضح ، ومِنهَج الطريق : وَضَحه ، والمِنهاج : الطّريق الواضح . وقال ابن بُزُرج : اسْتَنْهج الطريقُ : صار نهْجاً ، ويقال : نهجتُ لكَ الطريقَ وأَنهجْتُه، فهو مَنْهُوج ومُنهَج ، وهو نَهْج ، ومُنهَج » .
وقال – رحمه الله – في مادة شرع (1 / 424-425) : « قال الله جلّ وعزّ : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، وقال في موضع آخر : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أهواء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الجَاثيَة: 18 ]، وقال : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ﴾ [الشّورى: 13]؛ قال أبو إسحاق في قوله : ﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [المَائدة: 48 ] قال بعضهم : الشِّرعة في الدين، والمنهاجُ: الطَّريق ، وقيل: الشِّرعة والمنهاج جميعاً: الطَّريق. والطَّريق ها هنا : الدِّين ، ولكنَّ اللفظَ إذا اختَلف أُتي به بألفاظٍ تؤكد بها القصَّة والأمر ، كما قال عنترة :
أقوَى وأقفَرَ بعد أمِّ الهيثَمِ
فمعنى أقوى وأقفَرَ واحد يدلُّ على الخَلْوة، إلاّ أنّ اللَّفظين أوكدُ في الخَلْوة. قال: وقال محمد بن يزيد: شِرعةً معناها ابتداء الطريق. والمنهاج: الطريق المستمرّ.
وقال الفرّاء في قوله : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر ﴾ [ الجَاثيَة: 18]، قال: على دينٍ ومِلّة ومنهاج، وكلُّ ذلك يقال. وقال القتيبيّ: ﴿ على شريعة ﴾: على مِثال ومذْهب، ومنه يقال : شَرَع فلان في كذا وكذا، أي أخذَ فيه. ومنه مَشارع الماء، وهي الفُرَض التي تَشرع فيها الواردة.
وقوله جلّ وعزّ: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [الشّورى : 13]؛ قال ابن الأعرابيّ - فيما روى عنه أبو العباس-: شَرَع أي أظهَرَ، وقال في قوله : ﴿ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله ﴾ [الشّورى : 21 ] قال : أظهروا لهم. قال: والشارع: الرَّبَّانيّ، وهو العالم العامل المعلِّم. قال: وشرعَ فلانٌ إذا أظهرَ الحقَّ وقَمَعَ الباطل.
وقال ابن السكيت: الشَّرْع: مصدر شَرَعتُ الإهابَ، إذا شققتَ ما بين الرِّجلين وسلختَه . قال: وهم في الأمر شَرَعٌ، أي سواء .
قلت: فمعنى شَرَعَ بيَّنَ وأوضَحَ، مأخوذ من شُرِع الإهابُ، إذا شُقَّ ولم يُزقَّقْ ولم يُرجَّلْ. وهذه ضروبٌ من السَّلخ معروفة، أوسعُها وأبيَنها الشرع.
وقيل في قوله : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ﴾ [ الشّورى : 13]: إنّ نُوحاً أوّلُ من أتى بِتحريم البنات والأخوات والأمَّهات. وقوله جلّ وعزّ: ﴿ والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ﴾ [ الشّورى : 13] : أي وشرع لكم ما أوحينا إليك وما وصَّينا به الأنبياء قبلك. والشِّرعة والشريعة في كلام العرب: المَشْرعة التي يشرعُها الناس فيشربون منها ويستَقُون، وربَّما شرَّعوها دوابَّهم حتى تشرعَها وتَشربَ منها. والعربُ لا تُسمِّيها شريعةً حتّى يكون الماء عِدّاً لا انقطاعَ له، ويكونَ ظاهراً مَعِيناً لا يُستَقى منه بالرِّشاء. وإذا كان من ماء السماء والأمطار فهو الكَرَع ، وقد أكرعوه إبلَهم فكرعتْ فيه، وقد سقَوها بالكَرَع ».
وقال الإمام الطبري في التفسير (10/384) : «... وأما"المنهاج" ، فإنّ أصله : الطريقُ البيِّن الواضح ، يقال منه : "هو طريق نَهْجٌ ، وَمنهْجٌ" ، بيِّنٌ ، كما قال الراجز :
مَنْ يكُ فِي شَكٍّ فَهذَا فَلْجُ... مَاءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ
ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا ».
فالمنهج والمنهاج في اللغة هو الطريق الواضح البين السهل ، وهو الصراط المستقيم ، وسواء السبيل .
وأما المنهج في الشرع ؛ فقد قال الله - جل وعز-: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48].
عن ابن عباس قوله : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]. يقول: «سبيلا وسنة ». أثر صحيح : رواه الطبري (10 / 388) ، والبخاري معلقا ، ووصله عبد الرزاق في تفسيره ، كما في تغليق التعليق (2/ 25) .
وعن أبي بن كعب قال : « عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية ربه فيعذبه الله أبدا ، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه ، كما تحات عن تلك الشجرة ورقها ، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة ، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم ». أثر حسن في حكم المرفوع: رواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق بزوائد نعيم بن حماد (ص454، رقم87- ط2، دار الكتب العلمية، 1425)، وابن أبي شيبة في المصنف (12 / 91-92 - ط1، مكتبة الرشد، 1425)، وأحمد في الزهد ( ق 102 – مخطوط)، وأبو داود في كتاب الزهد (ص183 - ط1، دار المشكاة)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 252-253 – ط1، دار الكتب العلمية، 1409) .
وعن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : ﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ، قال: «"الشرعة" : السنة، "ومنهاجًا"، قال : السبيل » . أثر حسن رواه الطبري (10 / 388).
وعن قتادة قوله : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ يقول : « سبيلا وسُنّة . والسنن مختلفة : للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحلُّ الله فيها ما يشاء ، ويحرِّم ما يشاء بلاءً ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره : التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل » . أثر حسن رواه الطبري (10 / 385).
وعن قتادة أيضا قوله : ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾، قال: « الدينُ واحد، والشريعةُ مختلفة » . أثر صحيح رواه الطبري (10 / 385) .
فالمنهاج هو سبيل الله ؛ وهو يقع على كل عمل خالص لله موافق لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؛ قال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة (12/436):«وكلُّ سَبِيل أُريدَ به الله جلَّ وعزّ وفيه بِرٌّ، فهو داخلٌ في سبيل الله ». وقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/338-339، ط، دار ابن الجوزي): « قد تكرر في الحديث ذكر سَبيل اللّه وابن السَّبيل؛ فالسَّبيلُ في الأصل: الطَّريقُ ويذكَّر ويؤنثَّ، والتأنيثُ فيها أغلبُ. وسبيلُ اللّه عامٌّ يقعُ على كل عَمل خالِصٍ، سُلك به طَريق التقرُّب إلى اللّه تعالى، بأداءِ الفَرَائض والنَّوافل وأنْواع التَّطوعُّات، وإذا أُطْلق فهو في الغالِب واقعٌ على الجهَاد، حتى صارَ لكَثْرة الاسْتِعْمال كأنه مقصورٌ عليه ».
وقال تعالى : ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ ﴾ [النحل : 125].
قال الإمام الطبري في تفسيره (17/321، ط، شاكر، مكتبة ابن تيمية) : « يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ﴿ ادْعُ ﴾ يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته ، ﴿ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾ يقول : إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه ، وهو الإسلام ، ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾ يقول : بوحي الله الذي يوحيه إليك وكتابه الذي ينزله عليك ، ﴿ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ يقول : وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه ، وذكّرهم بها في تنزيله ، كالتي عدّد عليهم في هذه السورة من حججه ، وذكّرهم فيها ما ذكرهم من آلائه ، ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ يقول : وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى ، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك » . ثم روى بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله : ﴿وَجَادِلْهُ ْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ : « أعرض عن أذاهم إياك » .
وسيبل الله هو سبيل رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، قال الله - جل وعز - : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف : 108] .
قال الإمام الطبري (16/251-252 ، ط، شاكر، مكتبة ابن تيمية) : « يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هذه ﴾ الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها ؛ من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان ، والانتهاء إلى طاعته ، وترك معصيته ، ﴿ سبيلي ﴾ وطريقتي ودعوتي ، ﴿ أدعو إلى الله ﴾ وحده لا شريك له ﴿ على بصيرة ﴾ بذلك ويقينِ عليمٍ منّي به أنا ، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي ، ﴿ وسبحان الله ﴾ يقول له تعالى ذكره : وقل تنزيهًا لله وتعظيمًا له من أن يكون له شريك في ملكه ، أو معبود سواه في سلطانه ، ﴿وما أنا من المشركين ﴾ يقول : وأنا بريءٌ من أهل الشرك به ، لست منهم ولا هم منّي». ثم روى بسنده الحسن عن الربيع بن أنس قوله : ﴿ قل هذه سبيلي ﴾ : هذه دعوتي .
وسيبل الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم – هي سبيل المؤمنين ، قال : ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[النساء: 115].
قال الطبري : « يعني جل ثناؤه بقوله : ﴿ ومن يشاقق الرسول﴾ : ومن يباين الرسولَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - معاديًا له ، فيفارقه على العداوة له ، ﴿ من بعد ما تبين له الهدى ﴾ يعني : من بعد ما تبين له أنه رسول الله ، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين﴾ يقول : ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير منهاجهم ، وذلك هو الكفر بالله ، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم ، ﴿ نولّه ما تولّى ﴾ يقول : نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام ، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئًا، ولا تنفعه ، كما حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ﴿ نوله ما تولى ﴾ قال : من آلهة الباطل » وإسناد الأثر صحيح وجادة.
وفي الحديث عن الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : « قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا أنقيد انْقَادَ » حديث صحيح رواه أحمد (13/278) مروي في عدة من دواوين السنة .
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/120، ط دار الهدى):«... والسُّنة: هي الطريقة المسلوكةُ ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه ، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض. وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنَّها أصلُ الدِّين ، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم...» .
وسبيل المؤمنين هي الصراط المستقيم ، كما في قول الله – عز وجل -: ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ [الفاتحة : 6] .
عن جابر بن عبد الله : ﴿ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ ، قال: « الإسلام » ، قال : « هو أوسع مما بين السماء والأرض » أثر صحيح : رواه الطبري في تفسيره (1/173) وابن نصر في السنة (ص/151، ط1 ، دار غراس ) والحاكم وصححه (2/311 ، ط1 ، دار الحرمين) و(2/524-525) .
قال أبو جعفر الطبري في تفسيره (1/170-171) : « أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن "الصراط المستقيم" ، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه . وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي :
أميرُ المؤمنين عَلَى صِرَاطٍ ... إذا اعوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقيمِ
يريد على طريق الحق .
ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب :
صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بالخَيْلِ حَتّى ... تركْنَاها أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ
ومنه قول الراجز:
فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّراطِ القَاصدِ
والشواهد على ذلك أكثرُ من أن تُحصى ، وفيما ذكرنا غنًى عما تركنا .
ثم تستعيرُ العرب الصراط فتستعمله في كل قولٍ وعمل وُصِف باستقامة أو اعوجاج ، فتصفُ المستقيمَ باستقامته ، والمعوجَّ باعوجاجه .
والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي ، أعني : ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ ، أن يكونا معنيًّا به : وَفّقنا للثبات على ما ارتضيتَه ووَفّقتَ له مَنْ أنعمتَ عليه من عبادِك ، من قولٍ وعملٍ ، وذلك هو الصِّراط المستقيم ؛ لأن من وُفّق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيِّين والصديقين والشهداء ، فقد وُفّق للإسلام ، وتصديقِ الرسلِ ، والتمسكِ بالكتاب ، والعملِ بما أمر الله به ، والانزجار عمّا زَجره عنه ، واتّباع منهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وكلِّ عبدٍ لله صالحٍ ، وكل ذلك من الصراط المستقيم » .
وقال الله – سبحانه - : ﴿ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [الأنعام : 153] .
عن عبد الله بن مسعود قال : خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ، فقال : « هذا سبيل الله » ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، فقال : « هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه » ، ثم تلا : ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما ﴾ الآية . حديث حسن الطيالسي في مسنده (1/197، ط دار هجر) وغيره .
وفي رواية عن أبي وائل قال : قال عبد الله : « خط لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً خطاً ، - وخطه لنا عاصم – فقال : « هذا سبيل الله » ، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ؛ فقال لهذه السُّبُل : « وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه » ، ثم تلا هذه الآية : ﴿ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ﴾ للخط الأول ، ﴿ولا تتبعوا السبل ﴾ للخطوط ، ﴿ فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون﴾». حديث حسن صحيح رواه النسائي في تفسيره (2/485، ط1، 1410هـ، مؤسسة الكتب الثقافية) .
وعن ابن عباس قوله : ﴿ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ، وقوله : ﴿ وَأَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [سورة الشورى : 13] ، ونحو هذا في القرآن . قال : « أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله» حسن رواه الطبري في التفسير (12/229-230) .
وعن مجاهد : ﴿ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ ﴾ قال : « البدع والشبهات » أثر صحيح رواه الدارمي (1/286، ط1 ، دار المغني ) وغيره .
وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام : 161].
قال أبو جعفر الطبري في تفسيره (12/281-282) : « يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ﴿ قل ﴾ يا محمد ، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنامَ ﴿إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ﴾ ، يقول : قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به ، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له ، ﴿ دينًا قيمًا ﴾ ، يقول : مستقيمًا ، ﴿ ملة إبراهيم ﴾ ، يقول: دين إبراهيم ، ﴿حنيفًا ﴾ يقول : مستقيمًا ، ﴿ وما كان من المشركين ﴾ ، يقول : وما كان من المشركين بالله ، يعني إبراهيم - صلوات الله عليه -، لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام » .
وقد وردت كلمة المنهاج – أيضا - في السنة النبوية فعن حبيب بن سالم قال : سمعت النعمان بن بشير بن سعد قال : كنا قعودا في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان بشير رجلا يكف حديثه ، فجاء أبو ثعلبة ، فقال : يا بشير بن سعد ، أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء ؟ وكان حذيفة قاعدا مع بشير ، فقال حذيفة : أنا أحفظ خطبته ، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: « إنكم في النبوة ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون جبرية ، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» ، ثم سكت ، قال : فقدم عمر ومعه يزيد بن النعمان في صحابته ، فكتبت إليه أذكره الحديث ، فكتبت إليه : إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين بعد الملك العاض والجبرية ، قال : فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر ، فسر به وأعجبه . حديث حسن رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/349-350، دار هجر، رقم439) ومن طريقه رواه الإمام أحمد وغيره .
وعن أبي الطُّفَيْلِ عامر بن واثلة يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ أَلَا تَسْأَلُونِي ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْخَيْرِ ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ، إِنَّ اللهَ بَعَثَ نَبِيَّهُ – عليه الصلاة والسلام - فَدَعَا النَّاسَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَنْ اسْتَجَابَ ، فَحَيِيَ مِنَ الْحَقِّ مَا كَانَ مَيْتًا ، وَمَاتَ مِنَ الْبَاطِلِ مَا كَانَ حَيًّا ، ثُمَّ ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ ، فَكَانَتِ الْخِلَافَةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ » . صحيح رواه الإمام أحمد (16/624، برقم 23324، ط دار الحديث) .
وما منهاج النبوة إلا الإسلام الصحيح ، وهو ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَنفرجُوا ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ؛ قَالَ : وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ، وَالصِّرَاطُ : الْإِسْلَامُ ، وَالسُّورَانِ : حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ : مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ » حديث صحيح رواه أحمد (13/485، ط1، 1416هـ ، دار الحديث ) وغيره .
هذا ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يثبت قلوبنا على الدين ، وأن يهدينا الصراط المستقيم ، وأن يمسكنا بالإسلام حتى نلقاه عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
وكتبه أبو طيبة