العلمي أمل
2010-12-05, 04:55 PM
ما يمسكهن إلا الله... الواحد القهار
(بخلاف ما ادعاه بعض الجهلة من المتصوفة !)
إعداد الدكتور أمل العلمي
في سورة النحل: الآيات 77-79
ﭧ ﭨ ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼالنحل: ٧٧ - ٧٩
(ولله غيب السماوات والأرض. وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب. إن الله على كل شيء قدير). . وقضية البعث إحدى قضايا العقيدة التي لقيت جدلا شديدا في كل عصر, ومع كل رسول. وهي غيب من غيب الله الذي يختص بعلمه. (ولله غيب السماوات والأرض) وإن البشر ليقفون أمام أستار الغيب عاجزين قاصرين , مهما يبلغ علمهم الأرضي , ومهما تتفتح لهم كنوز الأرض وقواها المذخورة. وإن أعلم العلماء من بني البشر ليقف مكانه لا يدري ماذا سيكون اللحظة التالية في ذات نفسه. أيرتد نفسه الذي خرج أم يذهب فلا يعود ! وتذهب الآمال بالإنسان كل مذهب , وقدره كامن خلف ستار الغيب لا يدري متى يفجؤه , وقد يفجؤه اللحظة. وإنه لمن رحمة الله بالناس أن يجهلوا ما وراء اللحظة الحاضرة ليؤملوا ويعملوا وينتجوا وينشئوا , ويخلفوا وراءهم ما بدؤوه يتمه الخلف حتى يأتيهم ما خبئ لهم خلف الستار الرهيب. والساعة من هذا الغيب المستور. ولو علم الناس موعدها لتوقفت عجلة الحياة , أو اختلت , ولما سارت الحياة وفق الخط الذي رسمته لها القدرة , والناس يعدون السنين والأيام والشهور والساعات واللحظات لليوم الموعود ! (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب). . فهي قريب . ولكن في حساب غير حساب البشر المعلوم. وتدبير أمرها لا يحتاج إلى وقت. طرفة عين. فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها (إن الله على كل شيء قدير) وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق , وانتفاضها , وجمعها , وحسابها , وجزاؤها . . كله هين على تلك القدرة التي تقول للشيء: كن. فيكون. إنما يستهول الأمر ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر , وينظرون بعين البشر , ويقيسون بمقاييس البشر . . ومن هنا يخطئون التصور والتقدير ! ويقرب القرآن الأمر بعرض مثل صغير من حياة البشر, تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم, وهو يقع في كل لحظة من ليل أو نهار:
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا, وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون). . وهو غيب قريب , ولكنه موغل بعيد. وأطوار الجنين قد يراها الناس, ولكنهم لا يعلمون كيف تتم, لأن سرها هو سر الحياة المكنون. والعلم الذي يدعيه الإنسان ويتطاول به ويريد أن يختبر به أمر الساعة وأمر الغيب , علم حادث مكسوب: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) ومولد كل عالم وكل باحث , ومخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا قريب قريب ! وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من الله بالقدر الذي أراده للبشر , وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب , في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية ; وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل , وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكنه والعمل. جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة (لعلكم تشكرون) حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله عليكم. وأول الشكر: الإيمان بالله الواحد المعبود. وعجيبة أخرى من آثار القدرة الإلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون:
(ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء , ما يمسكهن إلا الله . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). . ومشهد الطير مسخرات في جو السماء مشهد مكرور , قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب , وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ , ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب . وإن تحليقة طائر في جو السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه . فينتفض للمشهد القديم الجديد . . (ما يمسكهن إلا الله) بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها , وجعل الطير قادرة على الطيران , وجعل الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران ; وأمسك بها الطير وهي في جو السماء: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . . فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين , المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر. وهو يعبر عن إحساسه بروعة الخلق , بالإيمان والعبادة والتسبيح ; والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير , قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين , لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء. [1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1)
في سورة الملك: الآيات 19-21
ﭧ ﭨ ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﭼالملك: ١٩ - ٢١
بعدئذ ينتقل بهم من لمسة التهديد والنذير , إلى لمسة التأمل والتفكير . في مشهد يرونه كثيرا , ولا يتدبرونه إلا قليلا . وهو مظهر من مظاهر القدرة , وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف .
(أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ما يمسكهن إلا الرحمن , إنه بكل شيء بصير). . وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة, تنسينا بوقوعها المتكرر, ما تشي به من القدرة والعظمة. ولكن تأمل هذا الطير , وهو يصف جناحيه ويفردهما , ثم يقبضهما ويضمهما , وهو في الحالين: حالة الصف الغالبة , وحالة القبض العارضة يظل في الهواء , يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة ; ويأتي بحركات يخيل إلى الناظر أحيانا أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع ! تأمل هذا المشهد, ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة بنوعه, لا يمله النظر, ولا يمله القلب. وهو متعة فوق ما هو مثار تفكير وتدبر في صنع الله البديع, الذي يتعانق فيه الكمال والجمال ! والقرآن يشير بالنظر إلى هذا المشهد المثير: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ?). . ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير: (ما يمسكهن إلا الرحمن). . والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب , الملحوظ فيه كل صغيرة وكبيرة , المحسوب فيه حساب الخلية والذرة . . النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير, لتتم هذه الخارقة وتتكرر, وتظل تتكرر بانتظام. والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لا تكل , وعنايته الحاضرة التي لا تغيب. وهي التي تحفظ هذه النواميس أبدا في عمل وفي تناسق وفي انتظام. فلا تفتر ولا تختل ولا تضطرب غمضة عين إلى ما شاء الله: (ما يمسكهن إلا الرحمن). . بهذا التعبير المباشر الذي يشي بيد الرحمن تمسك بكل طائر وبكل جناح, والطائر صاف جناحيه أو حين يقبض , وهو معلق في الفضاء ! (إنه بكل شيء بصير). . يبصره ويراه . ويبصر أمره ويخبره . ومن ثم يهيئ وينسق , ويعطي القدرة , ويرعى كل شيء في كل لحظة رعاية الخبير البصير. وإمساك الطير في الجو كإمساك الدواب على الأرض الطائرة بما عليها في الفضاء. كإمساك سائر الأجرام التي لا يمسكها في مكانها إلا الله. ولكن القرآن يأخذ بأبصار القوم وقلوبهم إلى كل مشهد يملكون رؤيته وإدراكه ; ويلمس قلوبهم بإيحاءاته وإيقاعاته. وإلا فصنعة الله كلها إعجاز وكلها إبداع , وكلها إيحاء وكلها إيقاع. وكل قلب وكل جيل يدرك منها ما يطيقه, ويلحظ منها ما يراه. حسب توفيق الله. ثم يلمس قلوبهم لمسة أخرى تعود بهم إلى مشهد البأس والفزع من الخسف والحاصب , بعد أن جال بهم هذه الجولة مع الطير السابح الآمن. فيردد قلوبهم بين شتى اللمسات عودا وبدءا كما يعلم الله من أثر هذا الترداد في قلوب العباد:
(أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ? إن الكافرون إلا في غرور). . وقد خوفهم الخسف وخوفهم الحاصب , وذكرهم مصائر الغابرين الذين أنكر الله عليهم فأصابهم التدمير. فهو يعود ليسألهم: من هو هذا الذي ينصرهم ويحميهم من الله , غير الله ? من هو هذا الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن ? (إن الكافرون إلا في غرور). . غرور يهيئ لهم أنهم في أمن وفي حماية وفي اطمئنان , وهم يتعرضون لغضب الرحمن وبأس الرحمن , بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن. ولمسة أخرى في الرزق الذي يستمتعون به , وينسون مصدره , ثم لا يخشون ذهابه , ثم يلجون في التبجح والإعراض:
(أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور). . ورزق البشر كله - كما سلف - معقود بإرادة الله في أول أسبابه, في تصميم هذا الكون وفي عناصر الأرض والجو وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقا, ولا تتعلق بعملهم بتاتا. فهي أسبق منهم في الوجود , وهي أكبر منهم في الطاقة , وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله. فمن يرزق البشر إن أمسك الماء , أو أمسك الهواء , أو أمسك العناصر الأولى التي منها ينشأ وجود الأشياء ? إن مدلول الرزق أوسع مدى وأقدم عهدا وأعمق جذورا مما يتبادر إلى الذهن عندما يسمع هذه الكلمة. ومرد كل صغيرة وكبيرة فيه إلى قدرة الله وقدره , وإرساله للأسباب وإمساكها حين يشاء. وفي هذا المدلول الكبير الواسع العميق تنطوي سائر المدلولات القريبة لكلمة الرزق, مما يتوهم الإنسان أنها من كسبه وفي طوقه, كالعمل, والإبداع, والإنتاج . . وكلها مرتبطة بقيام الأسباب والعناصر الأولى من جهة ومتوقفة على هبة الله للأفراد والأمم من جهة أخرى. فأي نفس يتنفسه العامل , وأي حركة يتحركها , إلا من رزق الله , الذي أنشأه , ومنحه المقدرة والطاقة , وخلق له النفس الذي يتنفسه , والمادة التي تحترق في جسده فتمنحه القدرة على الحركة ? وأي جهد عقلي يبذله مخترع إلا وهو من رزق الله الذي منحه القدرة على التفكير والإبداع ? وأي إنتاج ينتجه عامل أو مبدع إلا في مادة هي من صنع الله ابتداء, وإلا بأسباب كونية وإنسانية هي من رزق الله أصلا ? . . (أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ?!). . (بل لجوا في عتو ونفور). والتعبير يرسم خدا مصعرا, وهيئة متبجحة, بعد تقريره لحقيقة الرزق, وأنهم عيال على الله فيه , وأقبح العتو والنفور , والتبجح والتصعير , ما يقع من العيال في مواجهة المطعم الكاسي , الرازق العائل وهم خلو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم. وهم بعد ذلك عاتون معرضون وقحاء ! وهو تصوير لحقيقة النفوس التي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات, وفي إعراض نافر, وتنسى أنها من صنع الله, وأنها تعيش على فضله, وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئا على الإطلاق ! [2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2)
في سورة فاطر: الآيات 39-45
ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼفاطر: ٣٩ - ٤٥
خضوع الكون والإنسان لله وسنته المطردة ونفيالشركاء:
هذا المقطع الأخير في السورة يشتمل على جولات واسعة المدى كذلك , ولمسات للقلب وإيحاءات شتى: جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة , يخلف بعضها بعضاً. وجولة في الأرض والسماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله. وجولة في السماوات والأرض كذلك لرؤية يد الله القوية القادرة تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا. وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم , ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً . وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة الله الجارية . . ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة). وفضل الله العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الأخذ المدمر المبيد . .
استخلاف الله للناس في الأرض:
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض . فمن كفر فعليه كفره . ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا. ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً).
إن تتابع الأجيال في الأرض, وذهاب جيل ومجيء جيل, ووراثة هذا لذاك, وانتهاء دولة وقيام دولة, وانطفاء شعلة واتقاد شعلة. وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور . . إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة, وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين, يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم, كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم. وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار, وتقلب الصولجان, وتديل الدول, وتورث الملك, وتجعل من الجيل خليفة لجيل. وكل شيء يمضي وينتهي ويزول, والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول. ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي, فلا يخلد ولا يبقى. من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ; وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل, وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل. من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثراءه القليل, ويترك وراءه الذكر الجميل, ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير. هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر , حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور , والطلوع والأفول , والدول الدائلة , والحياة الزائلة , والوراثة الدائبة جيلاً بعد جيل: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض). . وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر, يذكرهم بفردية التبعة, فلا يحمل أحد عن أحد شيئاً, ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً ; ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال, وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف: (فمن كفر فعليه كفره. ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً . ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً). والمقت أشد البغض . ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره ? وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران ?!
نفي الشركاء العجزة عن الله
والجولة الثانية في السماوات والأرض, لتقصِّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون الله, والسماوات والأرض لا تحس لهم أثراً, ولا تعرف عنهم خبراً:
(قل:أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه ? بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً).
والحجة واضحة والدليل بين . فهذه الأرض بكل ما فيها ومن فيها. هذه هي مشهودة منظورة . أي جزء فيها أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحداً - غير الله - خلقه وأنشأه ! إن كل شيء يصرخ في وجه هذه الدعوى لو جرؤ عليها مدع. وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو الله ; وهو يحمل آثار الصنعة التي لا يدعيها مدع , لأنه لا تشبهها صنعة , مما يعمل العاجزون أبناء الفناء !
(أم لهم شرك في السماوات ?). . ولا هذه من باب أولى ! فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه الآلهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات , ولا مشاركة في ملكية السماوات. كائنة ما كانت. حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملائكة. . فقصارى ما كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلاغهم خبر السماء. أو يستشفعوا بالملائكة عند الله. ولم يرتق ادعاؤهم يوماً إلى الزعم بأن لهم شركاً في السماء !
(أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه ?). . وحتى هذه الدرجة - درجة أن يكون الله قد آتى هؤلاء الشركاء كتابا فهم مستيقنون منه , واثقون بما فيه - لم يبلغها أولئك الشركاء المزعومون . . والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال الإنكاري موجهاً إلى المشركين أنفسهم - لا إلى الشركاء - فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه من الله فهم على بينة منه وبرهان. وليس هذا صحيحاً ولا يمكن أن يدعوه. وعلى هذا المعنى يكون هناك إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من الله بيّن. وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق . وليس لهم من هذا شيء يدعونه ; بينما الرسول [ ص ] قد جاءهم بكتاب من عند الله بيّن. فما لهم يعرضون عنه, وهو السبيل الوحيد لاستمداد العقيدة ?!
(بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً). . والظالمون يعد بعضهم بعضاً أن طريقتهم هي المثلى ; وأنهم هم المنتصرون في النهاية . وإن هم إلا مخدوعون مغرورون , يغر بعضهم بعضاً , ويعيشون في هذا الغرور الذي لا يجدي شيئاً . .
تدبير الله للسموات والأرض وقيامه عليهما
والجولة الثالثة - بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض - تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك:
(إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . إنه كان حليماً غفوراً). .
ونظرة إلى السماوات والأرض ; وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود. وكلها قائمة في مواضعها , تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها , لا تختل , ولا تخرج عنها , ولا تبطىء أو تسرع في دورتها , وكلها لا تقوم على عمد , ولا تشد بأمراس , ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك . . نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول. ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها , واختلت وتناثرت بدداً , فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبداً. وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيراً لنهاية هذا العالم . حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر ; ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه. وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا. والانتهاء إلى العالم الآخر , الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافاً كاملاً . ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله:
(إنه كان حليماً غفوراً). . (حليماً) يمهل الناس , ولا ينهي هذا العالم بهم , ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم. ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد .(غفوراً) لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا , بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيراً. وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود .
انطباق سنة الله المطردة على الكفار
والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا الله عليه, ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد, وفساد في الأرض. وتحذير لهم من سنة الله التي لا تتخلف, ولا تبديل فيها ولا تحويل:
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم. فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً. استكباراً في الأرض ومكر السيئ - ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله - فهل ينظرون إلا سنة الأولين ? فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً . . )
ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة ; وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء سلوكهم ما يرون ; وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم , وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به. وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود ; ويقسمون بالله حتى ما يدعون مجالاً للتشديد في القسم: (لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم). . يعنون اليهود . يعرضون بهم بهذا التعبير ولا يصرحون ! ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم . . يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلاء القوم في جاهليتهم . ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق الله أمنيتهم , وأرسل فيهم نذيراً: (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً . استكباراً في الأرض ومكر السيىء ! . .). وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم: استكباراً في الأرض ومكر السيئ. والقرآن يكشفهم هذا الكشف , ويسجل عليهم هذا المسلك. ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم , تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . . ). فما يصيب مكرهم السيئ أحداً إلا أنفسهم ; وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم. وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن ? إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم , وهو معروف لهم. وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد: (فلن تجد لسنة الله تبديلاً , ولن تجد لسنة الله تحويلاً). .
دعوة الكفار للإعتبار من السابقين
والأمورلا تمضي في الناس جزافاً ; والحياة لا تجري في الأرض عبثاً ; فهناكنواميسثابت ة تتحقق, لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة, ويعلمهاللناس, كي لا ينظروا الأحداث فرادى, ولا يعيشواالحياة غافلين عن سننها الأصيلة, محصورين في فترة قصيرة منالزمان, وحيز محدود من المكان. ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة, وسنن الوجود,فيوجههمد ئماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيماوقعللأجيال قبلهم ; ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس.وهذهال ولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أنسنةالله لا تتبدل ولا تتحول:
(أَوَلَمْيَسِير وا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَمِنقَب ْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُلِيُعْجِ زَهُمِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَعَلِيماًقَ دِيراً (44))
والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ; والوقوف على مصارع الغابرين, وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه. . كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى . . ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين, وآثار الذاهبين. وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها , فلا تقف. وإذا وقفت لا تحس. وإذا أحست لا تعتبر. وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة. وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية. وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم, الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ; لا رابط لها, ولا قاعدة تحكمها. والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس. وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم. أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى. القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ; والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين: (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض). . ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض أسانيدها: (إنه كان عليماً قديراً). . يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ; وتقوم قدرته إلى جانب علمه. فلا يند عن علمه شيء, ولا يقف لقدرته شيء. ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه: (إنه كان عليماً قديراً). .
حلم الله بالناس وتأخير حسابهم ليوم القيامة
وأخيراً يجيء ختام السورة , يكشف عن حلم الله ورحمته إلى جانب قوته وقدرته ; ويؤكد أن إمهال الناس عن حلم وعن رحمة , لا يؤثر في دقة الحساب وعدل الجزاء في النهاية:
(وَلَوْيُؤَاخِذ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِندَابَّةٍوَلَ كِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْفَإِن َّاللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45)). .
إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله, ومن شر في الأرض وفساد, ومن ظلم في الأرض وطغيان. إن هذا كله لفظيع شنيع ولو يؤاخذ الله الناس به , لتجاوزهم - لضخامته وشناعته وبشاعته - إلى كل حي على ظهر هذه الأرض. ولأصبحت الأرض كلها غير صالحة للحياة إطلاقاً . لا لحياة البشر فحسب , ولكن لكل حياة أخرى !
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) ). . والتعبير على هذا النحو يبرز شناعة ما يكسب الناس وبشاعته وأثره المفسد المدمر للحياة كلها لو آخذهم الله به مؤاخذة سريعة. غير أن الله حليم لا يعجل على الناس: (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى). . يؤخرهم أفراداً إلى أجلهم الفردي حتى تنقضي أعمارهم في الدنيا. ويؤخرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدرة لهم حتى يسلموها إلى جيل آخر. ويؤخرهم جنساً إلى أجلهم المحدد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى. ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعاً . (فإذا جاء أجلهم). . وانتهى وقت العمل والكسب, وحان وقت الحساب والجزاء , فإن الله لن يظلمهم شيئاً: (فإن الله كان بعباده بصيراً). . وبصره بعباده كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم , لا تفوت منهم ولا عليهم كبيرة ولا صغيرة. هذا هو الإيقاع الأخير في السورة التي بدأت بحمد الله فاطر السماوات والأرض. (جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة) يحملون رسالة السماء إلى الأرض. وما فيها من تبشير وإنذار فإما إلى جنة وإما إلى نار. . وبين البدء والختام تلك الجولات العظام في تلك العوالم التي طوفت بها السورة. وهذه نهاية المطاف. ونهاية الحياة. ونهاية الإنسان . . [3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3)
(بخلاف ما ادعاه بعض الجهلة من المتصوفة !)
إعداد الدكتور أمل العلمي
في سورة النحل: الآيات 77-79
ﭧ ﭨ ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼالنحل: ٧٧ - ٧٩
(ولله غيب السماوات والأرض. وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب. إن الله على كل شيء قدير). . وقضية البعث إحدى قضايا العقيدة التي لقيت جدلا شديدا في كل عصر, ومع كل رسول. وهي غيب من غيب الله الذي يختص بعلمه. (ولله غيب السماوات والأرض) وإن البشر ليقفون أمام أستار الغيب عاجزين قاصرين , مهما يبلغ علمهم الأرضي , ومهما تتفتح لهم كنوز الأرض وقواها المذخورة. وإن أعلم العلماء من بني البشر ليقف مكانه لا يدري ماذا سيكون اللحظة التالية في ذات نفسه. أيرتد نفسه الذي خرج أم يذهب فلا يعود ! وتذهب الآمال بالإنسان كل مذهب , وقدره كامن خلف ستار الغيب لا يدري متى يفجؤه , وقد يفجؤه اللحظة. وإنه لمن رحمة الله بالناس أن يجهلوا ما وراء اللحظة الحاضرة ليؤملوا ويعملوا وينتجوا وينشئوا , ويخلفوا وراءهم ما بدؤوه يتمه الخلف حتى يأتيهم ما خبئ لهم خلف الستار الرهيب. والساعة من هذا الغيب المستور. ولو علم الناس موعدها لتوقفت عجلة الحياة , أو اختلت , ولما سارت الحياة وفق الخط الذي رسمته لها القدرة , والناس يعدون السنين والأيام والشهور والساعات واللحظات لليوم الموعود ! (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب). . فهي قريب . ولكن في حساب غير حساب البشر المعلوم. وتدبير أمرها لا يحتاج إلى وقت. طرفة عين. فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها (إن الله على كل شيء قدير) وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق , وانتفاضها , وجمعها , وحسابها , وجزاؤها . . كله هين على تلك القدرة التي تقول للشيء: كن. فيكون. إنما يستهول الأمر ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر , وينظرون بعين البشر , ويقيسون بمقاييس البشر . . ومن هنا يخطئون التصور والتقدير ! ويقرب القرآن الأمر بعرض مثل صغير من حياة البشر, تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم, وهو يقع في كل لحظة من ليل أو نهار:
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا, وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون). . وهو غيب قريب , ولكنه موغل بعيد. وأطوار الجنين قد يراها الناس, ولكنهم لا يعلمون كيف تتم, لأن سرها هو سر الحياة المكنون. والعلم الذي يدعيه الإنسان ويتطاول به ويريد أن يختبر به أمر الساعة وأمر الغيب , علم حادث مكسوب: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) ومولد كل عالم وكل باحث , ومخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا قريب قريب ! وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من الله بالقدر الذي أراده للبشر , وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب , في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية ; وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل , وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكنه والعمل. جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة (لعلكم تشكرون) حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله عليكم. وأول الشكر: الإيمان بالله الواحد المعبود. وعجيبة أخرى من آثار القدرة الإلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون:
(ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء , ما يمسكهن إلا الله . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). . ومشهد الطير مسخرات في جو السماء مشهد مكرور , قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب , وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ , ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب . وإن تحليقة طائر في جو السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه . فينتفض للمشهد القديم الجديد . . (ما يمسكهن إلا الله) بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها , وجعل الطير قادرة على الطيران , وجعل الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران ; وأمسك بها الطير وهي في جو السماء: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . . فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين , المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر. وهو يعبر عن إحساسه بروعة الخلق , بالإيمان والعبادة والتسبيح ; والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير , قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين , لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء. [1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1)
في سورة الملك: الآيات 19-21
ﭧ ﭨ ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﭼالملك: ١٩ - ٢١
بعدئذ ينتقل بهم من لمسة التهديد والنذير , إلى لمسة التأمل والتفكير . في مشهد يرونه كثيرا , ولا يتدبرونه إلا قليلا . وهو مظهر من مظاهر القدرة , وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف .
(أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ما يمسكهن إلا الرحمن , إنه بكل شيء بصير). . وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة, تنسينا بوقوعها المتكرر, ما تشي به من القدرة والعظمة. ولكن تأمل هذا الطير , وهو يصف جناحيه ويفردهما , ثم يقبضهما ويضمهما , وهو في الحالين: حالة الصف الغالبة , وحالة القبض العارضة يظل في الهواء , يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة ; ويأتي بحركات يخيل إلى الناظر أحيانا أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع ! تأمل هذا المشهد, ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة بنوعه, لا يمله النظر, ولا يمله القلب. وهو متعة فوق ما هو مثار تفكير وتدبر في صنع الله البديع, الذي يتعانق فيه الكمال والجمال ! والقرآن يشير بالنظر إلى هذا المشهد المثير: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ?). . ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير: (ما يمسكهن إلا الرحمن). . والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب , الملحوظ فيه كل صغيرة وكبيرة , المحسوب فيه حساب الخلية والذرة . . النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير, لتتم هذه الخارقة وتتكرر, وتظل تتكرر بانتظام. والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لا تكل , وعنايته الحاضرة التي لا تغيب. وهي التي تحفظ هذه النواميس أبدا في عمل وفي تناسق وفي انتظام. فلا تفتر ولا تختل ولا تضطرب غمضة عين إلى ما شاء الله: (ما يمسكهن إلا الرحمن). . بهذا التعبير المباشر الذي يشي بيد الرحمن تمسك بكل طائر وبكل جناح, والطائر صاف جناحيه أو حين يقبض , وهو معلق في الفضاء ! (إنه بكل شيء بصير). . يبصره ويراه . ويبصر أمره ويخبره . ومن ثم يهيئ وينسق , ويعطي القدرة , ويرعى كل شيء في كل لحظة رعاية الخبير البصير. وإمساك الطير في الجو كإمساك الدواب على الأرض الطائرة بما عليها في الفضاء. كإمساك سائر الأجرام التي لا يمسكها في مكانها إلا الله. ولكن القرآن يأخذ بأبصار القوم وقلوبهم إلى كل مشهد يملكون رؤيته وإدراكه ; ويلمس قلوبهم بإيحاءاته وإيقاعاته. وإلا فصنعة الله كلها إعجاز وكلها إبداع , وكلها إيحاء وكلها إيقاع. وكل قلب وكل جيل يدرك منها ما يطيقه, ويلحظ منها ما يراه. حسب توفيق الله. ثم يلمس قلوبهم لمسة أخرى تعود بهم إلى مشهد البأس والفزع من الخسف والحاصب , بعد أن جال بهم هذه الجولة مع الطير السابح الآمن. فيردد قلوبهم بين شتى اللمسات عودا وبدءا كما يعلم الله من أثر هذا الترداد في قلوب العباد:
(أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ? إن الكافرون إلا في غرور). . وقد خوفهم الخسف وخوفهم الحاصب , وذكرهم مصائر الغابرين الذين أنكر الله عليهم فأصابهم التدمير. فهو يعود ليسألهم: من هو هذا الذي ينصرهم ويحميهم من الله , غير الله ? من هو هذا الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن ? (إن الكافرون إلا في غرور). . غرور يهيئ لهم أنهم في أمن وفي حماية وفي اطمئنان , وهم يتعرضون لغضب الرحمن وبأس الرحمن , بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن. ولمسة أخرى في الرزق الذي يستمتعون به , وينسون مصدره , ثم لا يخشون ذهابه , ثم يلجون في التبجح والإعراض:
(أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور). . ورزق البشر كله - كما سلف - معقود بإرادة الله في أول أسبابه, في تصميم هذا الكون وفي عناصر الأرض والجو وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقا, ولا تتعلق بعملهم بتاتا. فهي أسبق منهم في الوجود , وهي أكبر منهم في الطاقة , وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله. فمن يرزق البشر إن أمسك الماء , أو أمسك الهواء , أو أمسك العناصر الأولى التي منها ينشأ وجود الأشياء ? إن مدلول الرزق أوسع مدى وأقدم عهدا وأعمق جذورا مما يتبادر إلى الذهن عندما يسمع هذه الكلمة. ومرد كل صغيرة وكبيرة فيه إلى قدرة الله وقدره , وإرساله للأسباب وإمساكها حين يشاء. وفي هذا المدلول الكبير الواسع العميق تنطوي سائر المدلولات القريبة لكلمة الرزق, مما يتوهم الإنسان أنها من كسبه وفي طوقه, كالعمل, والإبداع, والإنتاج . . وكلها مرتبطة بقيام الأسباب والعناصر الأولى من جهة ومتوقفة على هبة الله للأفراد والأمم من جهة أخرى. فأي نفس يتنفسه العامل , وأي حركة يتحركها , إلا من رزق الله , الذي أنشأه , ومنحه المقدرة والطاقة , وخلق له النفس الذي يتنفسه , والمادة التي تحترق في جسده فتمنحه القدرة على الحركة ? وأي جهد عقلي يبذله مخترع إلا وهو من رزق الله الذي منحه القدرة على التفكير والإبداع ? وأي إنتاج ينتجه عامل أو مبدع إلا في مادة هي من صنع الله ابتداء, وإلا بأسباب كونية وإنسانية هي من رزق الله أصلا ? . . (أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ?!). . (بل لجوا في عتو ونفور). والتعبير يرسم خدا مصعرا, وهيئة متبجحة, بعد تقريره لحقيقة الرزق, وأنهم عيال على الله فيه , وأقبح العتو والنفور , والتبجح والتصعير , ما يقع من العيال في مواجهة المطعم الكاسي , الرازق العائل وهم خلو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم. وهم بعد ذلك عاتون معرضون وقحاء ! وهو تصوير لحقيقة النفوس التي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات, وفي إعراض نافر, وتنسى أنها من صنع الله, وأنها تعيش على فضله, وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئا على الإطلاق ! [2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2)
في سورة فاطر: الآيات 39-45
ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼفاطر: ٣٩ - ٤٥
خضوع الكون والإنسان لله وسنته المطردة ونفيالشركاء:
هذا المقطع الأخير في السورة يشتمل على جولات واسعة المدى كذلك , ولمسات للقلب وإيحاءات شتى: جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة , يخلف بعضها بعضاً. وجولة في الأرض والسماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله. وجولة في السماوات والأرض كذلك لرؤية يد الله القوية القادرة تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا. وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم , ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً . وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة الله الجارية . . ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة). وفضل الله العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الأخذ المدمر المبيد . .
استخلاف الله للناس في الأرض:
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض . فمن كفر فعليه كفره . ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا. ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً).
إن تتابع الأجيال في الأرض, وذهاب جيل ومجيء جيل, ووراثة هذا لذاك, وانتهاء دولة وقيام دولة, وانطفاء شعلة واتقاد شعلة. وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور . . إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة, وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين, يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم, كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم. وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار, وتقلب الصولجان, وتديل الدول, وتورث الملك, وتجعل من الجيل خليفة لجيل. وكل شيء يمضي وينتهي ويزول, والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول. ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي, فلا يخلد ولا يبقى. من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ; وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل, وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل. من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثراءه القليل, ويترك وراءه الذكر الجميل, ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير. هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر , حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور , والطلوع والأفول , والدول الدائلة , والحياة الزائلة , والوراثة الدائبة جيلاً بعد جيل: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض). . وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر, يذكرهم بفردية التبعة, فلا يحمل أحد عن أحد شيئاً, ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً ; ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال, وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف: (فمن كفر فعليه كفره. ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً . ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً). والمقت أشد البغض . ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره ? وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران ?!
نفي الشركاء العجزة عن الله
والجولة الثانية في السماوات والأرض, لتقصِّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون الله, والسماوات والأرض لا تحس لهم أثراً, ولا تعرف عنهم خبراً:
(قل:أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه ? بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً).
والحجة واضحة والدليل بين . فهذه الأرض بكل ما فيها ومن فيها. هذه هي مشهودة منظورة . أي جزء فيها أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحداً - غير الله - خلقه وأنشأه ! إن كل شيء يصرخ في وجه هذه الدعوى لو جرؤ عليها مدع. وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو الله ; وهو يحمل آثار الصنعة التي لا يدعيها مدع , لأنه لا تشبهها صنعة , مما يعمل العاجزون أبناء الفناء !
(أم لهم شرك في السماوات ?). . ولا هذه من باب أولى ! فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه الآلهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات , ولا مشاركة في ملكية السماوات. كائنة ما كانت. حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملائكة. . فقصارى ما كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلاغهم خبر السماء. أو يستشفعوا بالملائكة عند الله. ولم يرتق ادعاؤهم يوماً إلى الزعم بأن لهم شركاً في السماء !
(أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه ?). . وحتى هذه الدرجة - درجة أن يكون الله قد آتى هؤلاء الشركاء كتابا فهم مستيقنون منه , واثقون بما فيه - لم يبلغها أولئك الشركاء المزعومون . . والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال الإنكاري موجهاً إلى المشركين أنفسهم - لا إلى الشركاء - فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه من الله فهم على بينة منه وبرهان. وليس هذا صحيحاً ولا يمكن أن يدعوه. وعلى هذا المعنى يكون هناك إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من الله بيّن. وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق . وليس لهم من هذا شيء يدعونه ; بينما الرسول [ ص ] قد جاءهم بكتاب من عند الله بيّن. فما لهم يعرضون عنه, وهو السبيل الوحيد لاستمداد العقيدة ?!
(بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً). . والظالمون يعد بعضهم بعضاً أن طريقتهم هي المثلى ; وأنهم هم المنتصرون في النهاية . وإن هم إلا مخدوعون مغرورون , يغر بعضهم بعضاً , ويعيشون في هذا الغرور الذي لا يجدي شيئاً . .
تدبير الله للسموات والأرض وقيامه عليهما
والجولة الثالثة - بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض - تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك:
(إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . إنه كان حليماً غفوراً). .
ونظرة إلى السماوات والأرض ; وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود. وكلها قائمة في مواضعها , تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها , لا تختل , ولا تخرج عنها , ولا تبطىء أو تسرع في دورتها , وكلها لا تقوم على عمد , ولا تشد بأمراس , ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك . . نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول. ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها , واختلت وتناثرت بدداً , فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبداً. وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيراً لنهاية هذا العالم . حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر ; ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه. وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا. والانتهاء إلى العالم الآخر , الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافاً كاملاً . ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله:
(إنه كان حليماً غفوراً). . (حليماً) يمهل الناس , ولا ينهي هذا العالم بهم , ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم. ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد .(غفوراً) لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا , بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيراً. وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود .
انطباق سنة الله المطردة على الكفار
والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا الله عليه, ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد, وفساد في الأرض. وتحذير لهم من سنة الله التي لا تتخلف, ولا تبديل فيها ولا تحويل:
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم. فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً. استكباراً في الأرض ومكر السيئ - ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله - فهل ينظرون إلا سنة الأولين ? فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً . . )
ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة ; وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء سلوكهم ما يرون ; وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم , وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به. وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود ; ويقسمون بالله حتى ما يدعون مجالاً للتشديد في القسم: (لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم). . يعنون اليهود . يعرضون بهم بهذا التعبير ولا يصرحون ! ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم . . يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلاء القوم في جاهليتهم . ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق الله أمنيتهم , وأرسل فيهم نذيراً: (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً . استكباراً في الأرض ومكر السيىء ! . .). وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم: استكباراً في الأرض ومكر السيئ. والقرآن يكشفهم هذا الكشف , ويسجل عليهم هذا المسلك. ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم , تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . . ). فما يصيب مكرهم السيئ أحداً إلا أنفسهم ; وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم. وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن ? إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم , وهو معروف لهم. وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد: (فلن تجد لسنة الله تبديلاً , ولن تجد لسنة الله تحويلاً). .
دعوة الكفار للإعتبار من السابقين
والأمورلا تمضي في الناس جزافاً ; والحياة لا تجري في الأرض عبثاً ; فهناكنواميسثابت ة تتحقق, لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة, ويعلمهاللناس, كي لا ينظروا الأحداث فرادى, ولا يعيشواالحياة غافلين عن سننها الأصيلة, محصورين في فترة قصيرة منالزمان, وحيز محدود من المكان. ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة, وسنن الوجود,فيوجههمد ئماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيماوقعللأجيال قبلهم ; ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس.وهذهال ولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أنسنةالله لا تتبدل ولا تتحول:
(أَوَلَمْيَسِير وا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَمِنقَب ْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُلِيُعْجِ زَهُمِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَعَلِيماًقَ دِيراً (44))
والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ; والوقوف على مصارع الغابرين, وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه. . كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى . . ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين, وآثار الذاهبين. وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها , فلا تقف. وإذا وقفت لا تحس. وإذا أحست لا تعتبر. وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة. وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية. وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم, الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ; لا رابط لها, ولا قاعدة تحكمها. والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس. وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم. أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى. القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ; والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين: (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض). . ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض أسانيدها: (إنه كان عليماً قديراً). . يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ; وتقوم قدرته إلى جانب علمه. فلا يند عن علمه شيء, ولا يقف لقدرته شيء. ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه: (إنه كان عليماً قديراً). .
حلم الله بالناس وتأخير حسابهم ليوم القيامة
وأخيراً يجيء ختام السورة , يكشف عن حلم الله ورحمته إلى جانب قوته وقدرته ; ويؤكد أن إمهال الناس عن حلم وعن رحمة , لا يؤثر في دقة الحساب وعدل الجزاء في النهاية:
(وَلَوْيُؤَاخِذ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِندَابَّةٍوَلَ كِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْفَإِن َّاللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45)). .
إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله, ومن شر في الأرض وفساد, ومن ظلم في الأرض وطغيان. إن هذا كله لفظيع شنيع ولو يؤاخذ الله الناس به , لتجاوزهم - لضخامته وشناعته وبشاعته - إلى كل حي على ظهر هذه الأرض. ولأصبحت الأرض كلها غير صالحة للحياة إطلاقاً . لا لحياة البشر فحسب , ولكن لكل حياة أخرى !
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) ). . والتعبير على هذا النحو يبرز شناعة ما يكسب الناس وبشاعته وأثره المفسد المدمر للحياة كلها لو آخذهم الله به مؤاخذة سريعة. غير أن الله حليم لا يعجل على الناس: (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى). . يؤخرهم أفراداً إلى أجلهم الفردي حتى تنقضي أعمارهم في الدنيا. ويؤخرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدرة لهم حتى يسلموها إلى جيل آخر. ويؤخرهم جنساً إلى أجلهم المحدد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى. ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعاً . (فإذا جاء أجلهم). . وانتهى وقت العمل والكسب, وحان وقت الحساب والجزاء , فإن الله لن يظلمهم شيئاً: (فإن الله كان بعباده بصيراً). . وبصره بعباده كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم , لا تفوت منهم ولا عليهم كبيرة ولا صغيرة. هذا هو الإيقاع الأخير في السورة التي بدأت بحمد الله فاطر السماوات والأرض. (جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة) يحملون رسالة السماء إلى الأرض. وما فيها من تبشير وإنذار فإما إلى جنة وإما إلى نار. . وبين البدء والختام تلك الجولات العظام في تلك العوالم التي طوفت بها السورة. وهذه نهاية المطاف. ونهاية الحياة. ونهاية الإنسان . . [3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3)