القارئ المليجي
2010-09-26, 10:50 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأفاضل ،
حول تفسير قوله - سبحانه وتعالى -: قوله - سبحانه - في الآية (76): {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
يقول الشيخ/ عبد الرحمن بن محمد الدوسري - رحمه الله - في كتابه "صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم" المجلد الخامس:
لما حثَّ الله المؤمنين في الآية السابقة على الجهاد والقتال بكلِّ حرارة، وأوضح لهم بعض العِلَل الدَّاعية إلى وجوبه وتحتيمه، وهي استضعاف المسلمين وفتنتهم عن دِينهم، والمحاولة الشِّريرة لمصادرة عقولهم وعقيدتهم، وأنَّ مَن يُسمَّوْن بالمواطنين يجب قتالهُم إذا ظلموا المسلمين لهذا الغرض الخبيث، واعتبار الوطن دار حرب مهما كانت قداسته إذا كان أهلُه على هذه الحال الكافرة؛ إذْ لا موطن أقدس من مكَّة المكرمة، وأشرف وأحبَّ عند الله ورسوله، فلما تلوَّثَت بالكفر أوجب الله سفْكَ الدَّم فيها لأعداء المعتنِقين دينَه، والذين يصدُّون عن سبيله، فلا تُعِيذهم مكَّة، ولا تحميهم قداستُها بما فيها الكعبة؛ ولهذا أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقتل المتعلِّقين بأستار الكعبة من الكفَّار يوم الفتح؛ إعلامًا لأمَّته إلى يوم القيامة بأنَّ حرمة دين الله الإسلام الصَّحيح أعظم من حرمة الكعبة، وأنَّها لا تُعِيذ الكفَّار والمؤْذِين لمعتنقي الإسلام الحقيقي، وقد ورَد الحديث بأنَّ حرمة المؤمن عند الله أعظم منها، فإذا كانت "مكة" ليست موطنًا للمؤمنين إذا سَيطر عليها الكفَّار، وتسَلَّطوا على المؤمنين، بل كانت دار حرب يجب على المسلمين غَزْوُها وقتال أهلها، فكيف بما سِوَاها من كلِّ بلد لا يَحكم بحكم الإسلام ويُساء إلى المسلمين فيه، أو يُفتَن أولادهم عن الإسلام بسوء التَّربية ووسائل التوجيه الأخرى؟ لا شكَّ أن البلدة المحكومة بغير حكم الإسلام والتي يُفتن فيها المسلمون فتنة حسِّية، أو يُفتن فيها أولادهم فتنة معنوية بمناهج التربية والتعليم وسائر أنواع البثِّ والتوجيه المخالِف للإسلام وأخلاقه، إنَّها بهذه الحال "دار حرب" ولو كانت مسْقطَ رؤوسهم، فليست موطنًا للمسلمين، ولا يجب عليهم الدِّفاع عنها، وإنما وطن المُسْلِم الذي يجب عليه الدِّفاع عنه والجهادُ من أجْلِه هو البلد الذي تُقَام فيه شريعة الله، وتُرفع فيه رؤُوس المؤمنين.
وجميع التصوُّرات المخالفة لهذا فهي تصوُّرات جاهلية شيطانية؛ ولهذا جاءت هذه الآية السادسة والسبعون من سورة النساء تَرْسم الأهداف، وتوضِّح الدَّوافع والغايات، وتبيِّن للمكلَّفين أنَّ العبرة ليست بصورة الجهاد والقتال، وإنَّما العبرة بمقاصدهما والبواعثِ عليهما؛ فإنَّ القتال في حدِّ ذاته شيءٌ قبيح مستَبْشَع، ولا يُجِيز العقل السَّليم والشرع العادل ما كان قبيحًا إلاَّ لإزالة ما هو أقبح منه من الظُّلم والشُّرور، ومقابلة نِعَم الله بالكفر، والأمور بمقاصدها وغاياتها.
فلهذا كشف الله الفوارق والشُّبهات عن قتال الفريقين في قوله - سبحانه -: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]؛ يعني أنَّ المؤْمِنين الصادقين يُخْلِصون مقاصدهم لله في القتال؛ إيقانًا بوعده ووعيده، فيقاتِلُون في سبيل الله لإعلاء كلمته، وتحقيق منهجه، وتحكيم شريعته التي شرَعَها لعباده، وقصَر تحاكُمَهم عليها، وإقامة العدل الذي أمر بإقامته، ورعاية الأمانات التي أمَر بِحُسن رعايتها، والقوَّة في أدائها، ومن أعظمها حَمْل رسالته ونور هدايته، وأخْذُ كتابه بقوَّة، فإنَّ هذا سبيلُ الله في الذي يقاتِل المسْلِمون فيه، مِن أجْلِ تحقيقه، مستَنِدين إلى ولاية الله - سبحانه - وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا، نِعْم المولى ونعم النصير.
وأمَّا الذين كفروا فَلِجحودهم لله، أو إنكارِهم وحدانيته وتكذيبهم برسوله وما نزل عليه من الحقِّ، وإلحادهم في أسمائه - سبحانه وتعالى - فإنهم يُقاتِلون في سبيل الطَّاغوت كما يَسْعون في سبيل الطَّاغوت بجميع نواحي سُلوكهم؛ لأنَّ جميع اتِّجاهاتهم وأهدافهم للشَّيطان الذي يتفرَّع من عبادته عبادةُ جميع أنواع الطواغيت، فهم مستَنِدون إلى الشيطان، وقتالهُم في سبيل الطاغوت على اختلاف أنواعه؛ طاغوت الأصنام الصامتة أو النَّاطقة، أو طاغوت المبادِئ الأرضية أو المبادئ العصبيَّة أو المذاهب المادِّية أو طاغوت الظُّلم والتسَلُّط، أو طاغوت الاعتداء والتوسُّع، أو طاغوت الطَّمع والشَّهوات وغير ذلك من طواغيت الأنانيات.
ففي هذه الآية أوضحُ دليل على أنَّ من كان هدفُه في جهاده أو أيِّ فِعْل من أفعاله غيرَ مرضاة الله، فإنَّ قتاله وسائرَ أعماله في سبيل الطاغوت؛ وذلك لانحرافه في مقاصده ونواياه عن سبيل الله ومرضاته؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - حصَر أعمال المكلَّفين في هذا التقسيم بهذه الآية الكريمة في هاتَيْن السَّبيلين اللَّتين لا ثالث لهما، وليس بينهما حلولٌ ولا أَنْصافُ حلول؛ فإمَّا في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت لا محالة، فمَن كانت أهدافُه ومقاصده في جهاده وقتاله وسائر حركاته وأعماله نصرةَ دين الله، وما نَزل من الحقِّ، وحَمْلَ رسالة الله وتوزيعَ هدايته، والعملَ على تحكيم شريعته وإعلاءِ كلمته، ونصرةَ المؤمنين ورفْعَ مستواهم، والقيامَ باستنقاذ المستضعفين من الرِّجال والنِّساء والولدان من براثن الظَّلَمة المتهوِّرين الذين يَكُون الرِّجال أمام إرهابهم كالنِّساء والولدان في الضَّعف، والقيام بِقَمْع المفْتَرين على الله، والمتطاولين على ألوهيَّته في الأرض بالتشريعات الخبيثة المُبِيحة لما حرَّم الله، والمرخِّصة لأعراض عباده، والحامية لشخصيَّاتهم بالمقوِّيات المهْلِكة، فإنَّ المُجاهِد والمقاتل في هذه السَّبيل والذي يعمل على قَمْع هؤلاء أو إزالة سُلطانهم، هو في سبيل الله، لإبقائه مرضاته في هذه الأعمال.
وأمَّا المُجاهد والمقاتل الذي يَقصد بَسْط نفوذه الشخصي على أهل المُدُن والأقاليم، أو يقصد بَسْط مذْهب مادِّي من المذاهب الماركسية ونحوها، فإنَّه في سبيل الطاغوت ومن المستَنِدين إلى الشياطين، وكذلك المجاهد والمقاتِل منتصرًا لِنَعرة عصبيَّة من سائر القوميَّات والوطنيات التي نبَشَها اليهود، فإنَّ هذا والذي قبله من أبغض الناس إلى الله؛ لأنَّه سَنَّ في الإسلام سُنَّة الجاهلية، فهو من المنصوص عليهم بذلك في الحديث الذي صحَّحه البخاري، ومَن يجاهد أو يقاتل لدَحْض خَصْمه السياسي المزاحِم له في الملك أو الاقتصاد، فهو في سبيل الطاغوت أيضًا كالمجاهد لتوسيع حدوده وسلطانه، وعلى هذا فالميت أو المقتول تحت رايات الذين أهدافهم في سبيل الله فهو الشَّهيد الحائز على وعد الله للشهداء.
وأما الميت أو المقتول تحت رايات المقاتِلين لأهداف مادِّية أو أغراض شخصية أو توسُّعية؛ لِبَسْط نفوذهم فليس بشهيد، ولا يجوز تسميته شهيدًا كما هو المصْطَلَح القوميُّ الجاهلي الجديد، وأمَّا الذي يجاهد ويقاتل من أجْل استرجاع وطنه المغتَصَب من الكفار، فهو على حسب مقاصده في حُكْمه لبلاده إذا استرجَعَها، فإنْ كان يقصد بتحريرها إعلاءَ كلمة الله بتحكيم شريعته وقَمْع المفترين عليه، وإنقاذ المسلمين المستضعفين وإعزازهم، ورَفْعِ مستواهم وإزاحة المَظَالم عنهم، فجِهاده وقتاله في سبيل الله، وإن كان يَقصد إقامة حُكم علماني يَسِير على مناهج الإفرنج، أو حكم مادِّي يسير على المناهج الماركسية ونحوها، من مخالفة حكم الله، فإنَّ قتاله في سبيل الطاغوت بتحكيمه الشياطينَ في التشريعات ومناهج التَّربية وغيرها، ولإذلال المسلمين والزيادة في ظلمهم وإرهابهم وإعدام قادَتِهم كما حصل فعلاً في أكثرَ مِن بلد إسلامي عانَى المسلمون بعد تحرُّره من الظُّلم وإهدار الكرامة ما لم يعانوه من الكُفَّار؛ وذلك لاستلام أفراخ الشُّيوعيِّين زمام القيادة أوَّلاً ثم تقاليد الحكم ثانيًا، وهذه مصيبة عمَّت بها البَلْوى، فينبغي للمسلمين أن يكون اهتمامهم بشأن القيادة قبل كلِّ شيء؛ حتى لا تَضِيع جهودهم لأعداء الله وأعدائهم، ويكون عمَلُهم في سبيل الطَّاغوت والشيطان، فإنَّ في هذه الآية أعظمَ تربية لهم وتعليمٍ يَقِيهم سوء المصير، سواءٌ كان من الخنوع للكفار أو الانخداع بأفراخهم وأذيالهم من حمَلَة الشهادات العلميَّة المادِّية المفْسِدة لتفكيرهم واعتقاداتهم وتصوُّراتهم التي يساوون فيها الكُفَّار أو يكونون شرًّا منهم في معاملة المسلمين، كما هو الواقع.
فالله - سبحانه وتعالى - يقوِّي عزائم المسلمين المؤمنين بهذه الآية مبيِّنًا مَيْزتهم بين جميع الناس بدون شهادات مادِّية؛ لأنَّ أهدافهم خالية من جميع الأنانيات ومُخْلِصة لله، فهم يقاتلون في سبيل الله محضًا لصالح الإنسانية وتحريرها من استِعْباد الظَّلَمة والطواغيت، بخلاف الكفَّار فاسدي المقاصد والأعمال، أهل الاستغلال والاستعباد والظلم والإرهاب والطَّمع والشهوات، وبعدَما يوضِّح الله الفَرْق العظيم بين حُسْن مقْصد المؤمنين وسوء مقاصد الكافرين، ويشجِّع الله المؤمنين على قتال الكافرين، ويقوِّيهم ويحرِّضهم، ويُسقِط الكفار من أعينهم، وينقصُهم عندهم حيث يَصِفهم بأنهم أولياءُ الشيطان المخذول الرَّجيم المرجوم هو ومن تولاَّه؛ إشعارًا بسوء عاقبتهم؛ لأنَّ من كان وليُّه الشَّيطانَ فحظُّه الخسران المُحقَّق؛ لأنَّ المقاتِل في سبيل الطاغوت فهو في سبيل الشيطان المخذول المغلوب...
وجزاكم الله خيرا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأفاضل ،
حول تفسير قوله - سبحانه وتعالى -: قوله - سبحانه - في الآية (76): {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
يقول الشيخ/ عبد الرحمن بن محمد الدوسري - رحمه الله - في كتابه "صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم" المجلد الخامس:
لما حثَّ الله المؤمنين في الآية السابقة على الجهاد والقتال بكلِّ حرارة، وأوضح لهم بعض العِلَل الدَّاعية إلى وجوبه وتحتيمه، وهي استضعاف المسلمين وفتنتهم عن دِينهم، والمحاولة الشِّريرة لمصادرة عقولهم وعقيدتهم، وأنَّ مَن يُسمَّوْن بالمواطنين يجب قتالهُم إذا ظلموا المسلمين لهذا الغرض الخبيث، واعتبار الوطن دار حرب مهما كانت قداسته إذا كان أهلُه على هذه الحال الكافرة؛ إذْ لا موطن أقدس من مكَّة المكرمة، وأشرف وأحبَّ عند الله ورسوله، فلما تلوَّثَت بالكفر أوجب الله سفْكَ الدَّم فيها لأعداء المعتنِقين دينَه، والذين يصدُّون عن سبيله، فلا تُعِيذهم مكَّة، ولا تحميهم قداستُها بما فيها الكعبة؛ ولهذا أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقتل المتعلِّقين بأستار الكعبة من الكفَّار يوم الفتح؛ إعلامًا لأمَّته إلى يوم القيامة بأنَّ حرمة دين الله الإسلام الصَّحيح أعظم من حرمة الكعبة، وأنَّها لا تُعِيذ الكفَّار والمؤْذِين لمعتنقي الإسلام الحقيقي، وقد ورَد الحديث بأنَّ حرمة المؤمن عند الله أعظم منها، فإذا كانت "مكة" ليست موطنًا للمؤمنين إذا سَيطر عليها الكفَّار، وتسَلَّطوا على المؤمنين، بل كانت دار حرب يجب على المسلمين غَزْوُها وقتال أهلها، فكيف بما سِوَاها من كلِّ بلد لا يَحكم بحكم الإسلام ويُساء إلى المسلمين فيه، أو يُفتَن أولادهم عن الإسلام بسوء التَّربية ووسائل التوجيه الأخرى؟ لا شكَّ أن البلدة المحكومة بغير حكم الإسلام والتي يُفتن فيها المسلمون فتنة حسِّية، أو يُفتن فيها أولادهم فتنة معنوية بمناهج التربية والتعليم وسائر أنواع البثِّ والتوجيه المخالِف للإسلام وأخلاقه، إنَّها بهذه الحال "دار حرب" ولو كانت مسْقطَ رؤوسهم، فليست موطنًا للمسلمين، ولا يجب عليهم الدِّفاع عنها، وإنما وطن المُسْلِم الذي يجب عليه الدِّفاع عنه والجهادُ من أجْلِه هو البلد الذي تُقَام فيه شريعة الله، وتُرفع فيه رؤُوس المؤمنين.
وجميع التصوُّرات المخالفة لهذا فهي تصوُّرات جاهلية شيطانية؛ ولهذا جاءت هذه الآية السادسة والسبعون من سورة النساء تَرْسم الأهداف، وتوضِّح الدَّوافع والغايات، وتبيِّن للمكلَّفين أنَّ العبرة ليست بصورة الجهاد والقتال، وإنَّما العبرة بمقاصدهما والبواعثِ عليهما؛ فإنَّ القتال في حدِّ ذاته شيءٌ قبيح مستَبْشَع، ولا يُجِيز العقل السَّليم والشرع العادل ما كان قبيحًا إلاَّ لإزالة ما هو أقبح منه من الظُّلم والشُّرور، ومقابلة نِعَم الله بالكفر، والأمور بمقاصدها وغاياتها.
فلهذا كشف الله الفوارق والشُّبهات عن قتال الفريقين في قوله - سبحانه -: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]؛ يعني أنَّ المؤْمِنين الصادقين يُخْلِصون مقاصدهم لله في القتال؛ إيقانًا بوعده ووعيده، فيقاتِلُون في سبيل الله لإعلاء كلمته، وتحقيق منهجه، وتحكيم شريعته التي شرَعَها لعباده، وقصَر تحاكُمَهم عليها، وإقامة العدل الذي أمر بإقامته، ورعاية الأمانات التي أمَر بِحُسن رعايتها، والقوَّة في أدائها، ومن أعظمها حَمْل رسالته ونور هدايته، وأخْذُ كتابه بقوَّة، فإنَّ هذا سبيلُ الله في الذي يقاتِل المسْلِمون فيه، مِن أجْلِ تحقيقه، مستَنِدين إلى ولاية الله - سبحانه - وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا، نِعْم المولى ونعم النصير.
وأمَّا الذين كفروا فَلِجحودهم لله، أو إنكارِهم وحدانيته وتكذيبهم برسوله وما نزل عليه من الحقِّ، وإلحادهم في أسمائه - سبحانه وتعالى - فإنهم يُقاتِلون في سبيل الطَّاغوت كما يَسْعون في سبيل الطَّاغوت بجميع نواحي سُلوكهم؛ لأنَّ جميع اتِّجاهاتهم وأهدافهم للشَّيطان الذي يتفرَّع من عبادته عبادةُ جميع أنواع الطواغيت، فهم مستَنِدون إلى الشيطان، وقتالهُم في سبيل الطاغوت على اختلاف أنواعه؛ طاغوت الأصنام الصامتة أو النَّاطقة، أو طاغوت المبادِئ الأرضية أو المبادئ العصبيَّة أو المذاهب المادِّية أو طاغوت الظُّلم والتسَلُّط، أو طاغوت الاعتداء والتوسُّع، أو طاغوت الطَّمع والشَّهوات وغير ذلك من طواغيت الأنانيات.
ففي هذه الآية أوضحُ دليل على أنَّ من كان هدفُه في جهاده أو أيِّ فِعْل من أفعاله غيرَ مرضاة الله، فإنَّ قتاله وسائرَ أعماله في سبيل الطاغوت؛ وذلك لانحرافه في مقاصده ونواياه عن سبيل الله ومرضاته؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - حصَر أعمال المكلَّفين في هذا التقسيم بهذه الآية الكريمة في هاتَيْن السَّبيلين اللَّتين لا ثالث لهما، وليس بينهما حلولٌ ولا أَنْصافُ حلول؛ فإمَّا في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت لا محالة، فمَن كانت أهدافُه ومقاصده في جهاده وقتاله وسائر حركاته وأعماله نصرةَ دين الله، وما نَزل من الحقِّ، وحَمْلَ رسالة الله وتوزيعَ هدايته، والعملَ على تحكيم شريعته وإعلاءِ كلمته، ونصرةَ المؤمنين ورفْعَ مستواهم، والقيامَ باستنقاذ المستضعفين من الرِّجال والنِّساء والولدان من براثن الظَّلَمة المتهوِّرين الذين يَكُون الرِّجال أمام إرهابهم كالنِّساء والولدان في الضَّعف، والقيام بِقَمْع المفْتَرين على الله، والمتطاولين على ألوهيَّته في الأرض بالتشريعات الخبيثة المُبِيحة لما حرَّم الله، والمرخِّصة لأعراض عباده، والحامية لشخصيَّاتهم بالمقوِّيات المهْلِكة، فإنَّ المُجاهِد والمقاتل في هذه السَّبيل والذي يعمل على قَمْع هؤلاء أو إزالة سُلطانهم، هو في سبيل الله، لإبقائه مرضاته في هذه الأعمال.
وأمَّا المُجاهد والمقاتل الذي يَقصد بَسْط نفوذه الشخصي على أهل المُدُن والأقاليم، أو يقصد بَسْط مذْهب مادِّي من المذاهب الماركسية ونحوها، فإنَّه في سبيل الطاغوت ومن المستَنِدين إلى الشياطين، وكذلك المجاهد والمقاتِل منتصرًا لِنَعرة عصبيَّة من سائر القوميَّات والوطنيات التي نبَشَها اليهود، فإنَّ هذا والذي قبله من أبغض الناس إلى الله؛ لأنَّه سَنَّ في الإسلام سُنَّة الجاهلية، فهو من المنصوص عليهم بذلك في الحديث الذي صحَّحه البخاري، ومَن يجاهد أو يقاتل لدَحْض خَصْمه السياسي المزاحِم له في الملك أو الاقتصاد، فهو في سبيل الطاغوت أيضًا كالمجاهد لتوسيع حدوده وسلطانه، وعلى هذا فالميت أو المقتول تحت رايات الذين أهدافهم في سبيل الله فهو الشَّهيد الحائز على وعد الله للشهداء.
وأما الميت أو المقتول تحت رايات المقاتِلين لأهداف مادِّية أو أغراض شخصية أو توسُّعية؛ لِبَسْط نفوذهم فليس بشهيد، ولا يجوز تسميته شهيدًا كما هو المصْطَلَح القوميُّ الجاهلي الجديد، وأمَّا الذي يجاهد ويقاتل من أجْل استرجاع وطنه المغتَصَب من الكفار، فهو على حسب مقاصده في حُكْمه لبلاده إذا استرجَعَها، فإنْ كان يقصد بتحريرها إعلاءَ كلمة الله بتحكيم شريعته وقَمْع المفترين عليه، وإنقاذ المسلمين المستضعفين وإعزازهم، ورَفْعِ مستواهم وإزاحة المَظَالم عنهم، فجِهاده وقتاله في سبيل الله، وإن كان يَقصد إقامة حُكم علماني يَسِير على مناهج الإفرنج، أو حكم مادِّي يسير على المناهج الماركسية ونحوها، من مخالفة حكم الله، فإنَّ قتاله في سبيل الطاغوت بتحكيمه الشياطينَ في التشريعات ومناهج التَّربية وغيرها، ولإذلال المسلمين والزيادة في ظلمهم وإرهابهم وإعدام قادَتِهم كما حصل فعلاً في أكثرَ مِن بلد إسلامي عانَى المسلمون بعد تحرُّره من الظُّلم وإهدار الكرامة ما لم يعانوه من الكُفَّار؛ وذلك لاستلام أفراخ الشُّيوعيِّين زمام القيادة أوَّلاً ثم تقاليد الحكم ثانيًا، وهذه مصيبة عمَّت بها البَلْوى، فينبغي للمسلمين أن يكون اهتمامهم بشأن القيادة قبل كلِّ شيء؛ حتى لا تَضِيع جهودهم لأعداء الله وأعدائهم، ويكون عمَلُهم في سبيل الطَّاغوت والشيطان، فإنَّ في هذه الآية أعظمَ تربية لهم وتعليمٍ يَقِيهم سوء المصير، سواءٌ كان من الخنوع للكفار أو الانخداع بأفراخهم وأذيالهم من حمَلَة الشهادات العلميَّة المادِّية المفْسِدة لتفكيرهم واعتقاداتهم وتصوُّراتهم التي يساوون فيها الكُفَّار أو يكونون شرًّا منهم في معاملة المسلمين، كما هو الواقع.
فالله - سبحانه وتعالى - يقوِّي عزائم المسلمين المؤمنين بهذه الآية مبيِّنًا مَيْزتهم بين جميع الناس بدون شهادات مادِّية؛ لأنَّ أهدافهم خالية من جميع الأنانيات ومُخْلِصة لله، فهم يقاتلون في سبيل الله محضًا لصالح الإنسانية وتحريرها من استِعْباد الظَّلَمة والطواغيت، بخلاف الكفَّار فاسدي المقاصد والأعمال، أهل الاستغلال والاستعباد والظلم والإرهاب والطَّمع والشهوات، وبعدَما يوضِّح الله الفَرْق العظيم بين حُسْن مقْصد المؤمنين وسوء مقاصد الكافرين، ويشجِّع الله المؤمنين على قتال الكافرين، ويقوِّيهم ويحرِّضهم، ويُسقِط الكفار من أعينهم، وينقصُهم عندهم حيث يَصِفهم بأنهم أولياءُ الشيطان المخذول الرَّجيم المرجوم هو ومن تولاَّه؛ إشعارًا بسوء عاقبتهم؛ لأنَّ من كان وليُّه الشَّيطانَ فحظُّه الخسران المُحقَّق؛ لأنَّ المقاتِل في سبيل الطاغوت فهو في سبيل الشيطان المخذول المغلوب...
وجزاكم الله خيرا