المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسائل في زكاة الفطر دراسة حديثية أصولية فقهية لفضيلة الشيخ/ جلال بن علي السلمي



الوبراني
2010-08-30, 05:37 PM
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه مسائل متعلقة بزكاة الفطر يكثر السؤال عنها ، وتشتد الحاجة إليها ، رأيت إيضاحها وبيانها رجاء أن ينفع الله بها ، وقد سرت فيها على طريقتي المعتادة أذكر أقوال أهل العلم في المسألة ، ودليل كل قول ، ومأخذه ، وما يرد عليه ، كل ذلك إن وجد ، ثم أرجح ما أعتقده راجحا بالدليل ، ولم أستوعب كل المسائل الواردة في الباب ، بل اقتصرت على الأهم والأشهر ...


.............................. .............................. ...................

مسـ(1)ـألة : حكمها :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم زكاة الفطر على قولين :
القول الأول : أنها واجبة ، وهذا مذهب جمهور أهل العلم : الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية .
[ انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 69 ) ، مواهب الجليل ( 3 / 255 ) ، المجموع ( 6 / 103 ) ، المغني ( 4 / 281 ) ، المحلى ( 6 / 118 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
- ما أخرجه الشيخان [ خ ( 1151 ) ، م ( 984 ) ] عن ابن عمر t، قال : " فرض رسول الله r صدقة الفطر صاعا من شعير ،أو صاعا من تمر على الصغير والكبير ، والحر والمملوك " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " فرض " ، والقاعدة في الأصول : [ أن لفظ الفرض يدل على الوجوب ] ، ومأخذ ذلك اللغة .
وأجيب :بأن المراد بقول ابن عمر رضي الله عنهما " فرض " : أي قدر ، والفرض في اللغة يأتي بمعنى التقدير ، قال تعالى : فنصف ما فرضتم أي قدرتم من المهر .
ونوقش من وجهين :
- أن الفرض في عرف الشارع نقل إلى الوجوب فيجب الحمل عليه ، لأن القاعدة في الأصول : [ إذا تعارضت الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية قدمت الشرعية ] .
[ انظر : إحكام الأحكام لابن دقيق العيد ص : 388 ] .
- أنه قد جاء في رواية عند الشيخين [ خ ( 1053 ) ، م ( 2335 ) ] بلفظ : " أمر " ، وبهذا ينتفي الاحتمال الذي ذكروه .
- ما أخرجه أبو داود ( 1609 ) وابن ماجه ( 1827 ) عن ابن عباس ، قال : " فرض رسول الله r زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة ، فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة ، فهي صدقة من الصدقات " .
وجه الاستدلال بالحديث : يقال فيه ما قيل في سابقه ، ويرد عليه من المناقشة ما تقدم ...
- الإجماع حكاه ابن المنذر رحمه الله تعالى [ الإجماع ص 49 ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن الإجماع حجة في إثبات الأحكام ] .
وأجيب : بأنه ليس في المسألة إجماع ، فالخلاف موجود على ما سوف يأتي بيانه ، والقاعدة في الأصول : [ لا ينعقد الإجماع مع وجود المخالفة ] .
ونوقش : بأن المخالفة متأخرة ، فالمقصود إجماع الصحابة ، والقاعدة في الأصول : [ أن الخلاف لا يرفع الإجماع ] .
ورد : بأن غاية ما فيه أنه قول البعض وسكوت البعض ، والقاعدة في الأصول : [ لا ينعقد الإجماع إلا بقول الجميع أو فعلهم ] ، وبعبارة أخرى : [ أن الإجماع السكوتي ليس بحجة في إثبات الأحكام ] ، وقد أحسن الإمام إسحاق رحمه الله حين قال في المسألة هي كالإجماع بين أهل العلم [ المغني ( 4 /281 ) ] ، ولم يجزم بدعوى الإجماع كما فعل ابن المنذر .
القول الثاني : أنها مستحبة ، وبهذا قال أشهب من المالكية وابن اللبان من الشافعية وبعض أهل الظاهر ، وعزاه النووي في شرح مسلم إلى داود بن علي الظاهري في آخر أمره ، وفي المحلى أن أبا سليمان دود بن علي يقول بالوجوب ، وحكي القول به عن إبراهيم بن علية ، وأبو بكر بن الأصم من المعتزلة .
[ انظر : فتح الباري لابن حجر ( 3 / 291 ) ، شرح مسلم للنووي ( 7 / 58 ) ، المحلى لابن حزم ( 6 / 118 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
- ما أخرجه النسائي ( 2507 ) وابن ماجه ( 1828 ) من حديث قيس بن سعد t ، قال : " أمرنا رسول الله r بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة ، لم يأمرنا ، ولم ينهنا ، ونحن نفعله " .
وجه لاستدلال بالحديث : أن النبي r ترك أمرهم بها ، وهذا دليل على نسخ وجوبها .
وأجيب : بأن القاعدة في الأصول : [ أن النسخ لا يثبت بالاحتمال ] ، وبعبارة أخرى : [ الأصل في النصوص الإحكام ] ، فيحتمل أن النبي r قد اكتفى بالأمر الأول ، والقاعدة في الأصول : [ إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال ] ، ونزول فرض من الفرائض لا يقتضي سقوط فرض آخر .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض الأقوال في المسألة ، وأدلة كل قول ، أن الراجح في المسألة القول الأول ، وذلك لسلامة بعض أدلته من المناقشة ، وعدم سلامة أدلة الأقوال الأخرى .


.............................. .............................. ..................

مسـ(2)ـألة : حكمها في حق أهل البادية :
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنها واجبة في حقهم ، وبهذا قال أكثر أهل العلم .
[ انظر : المغني ( 4 / 289 ) ] .
ودليلهم في ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنه ، قال : " فرض رسول الله r صدقة الفطر صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر على الصغير والكبير ، والحر والمملوك " .
وجه الاستدلال بالحديث : أما الوجوب فقد تقدم تقريره ، وأما وجه كونه شاملاً لأهل البادية فمن قوله : " الصغير والكبير " ، فهذا مفرد محلى بـ أل الجنسية ، والقاعدة في الأصول : [ أن أل الجنسية تفيد عموم مدخولها ] ، وعليه فيشمل كل كبير وصغير من أهل البادية وغيرهم .
القول الثاني : أنها لا تجب عليهم ، وبهذا قال عطاء والزهري وربيعة ، وحكاه ابن رشد رحمه الله عن الليث .
[ المغني ( 4 / 289 ) ، بداية المجتهد ( 2 / 661 )] .
دليلهم : لا أعرف لهم دليلا فيما ذهبوا إليه .
قال ابن رشد رحمه الله في بداية المجتهد ( 2 / 661 ) : " ولا حجة له " .
الترجيح :
الراجح في المسألة القول الأول لعموم حديث ابن عمر t ولا مخصص .


.............................. .............................. ...................

مسـ(3)ـألة : زكاة الفطر عن المرأة المتزوجة على من تجب :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنها تجب على المرأة نفسها ، وهذا مذهب الحنفية ، والظاهرية ، وبه قال الثوري وابن المنذر .
[ انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 72 ) ، المحلى ( 6 / 136 ) ، المغني ( 4 / 302 ) ].
ودليلهم في ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنه ، قال : " فرض رسول r صدقة الفطر صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر على الصغير والكبير ، والحر والمملوك " .
وجه الاستدلال بالحديث : أما الوجوب فقد تقدم تقريره ، أما وجه كونه متعلق بالزوجة نفسها فمن قوله : " على الذكر والأنثى " ، فظـاهر اللفظ أن الوجوب متعلق بالأنثى بذاتها كما هو متعلق بالذكر ، والقاعدة في الأصول : [ يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها ] .
وأجيب : بأن المراد عن الأنثى ، لما سوف يأتي بيانه إن شاء الله .
ونوقش : بأن هذا تأويل ، والقاعدة في الأصول : [ أنه لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا بدليل ] ، وما ذكروه لا يصلح دليلا على ما سوف يأتي تقريره إن شاء الله .
القول الثاني : أنها تجب على زوجها ، وهذا مذهب المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وبه قال إسحاق .
[ انظر : مواهب الجليل ( 3 / 265 ) ، المجموع ( 6 / 113 ) ، المغني ( 4 / 302 ) ] .
دليلهم في ذلك :
1 - ما أخرج الدارقطني في السنن ( 220 ) ومن طريقه البيهقي ( 4 / 161 ) , من طريق ثنا القاسم بن عبد الله بن عامر بن زرارة , حدثنا عمير بن عمار الهمداني , ثنا الأبيض بن الأغر , حدثني الضحاك بن عثمان , عن نافع , عن ابن عمر , قال : " أمر رسول الله r بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " ممن تمونون " ، فظاهر الحديث بل قريب من النص أنه يجب عليه إخراج الزكاة عمن ينفق عليه .
وأجيب : بأن الحديث ضعيف في إسناده القاسم بن عبد الله ليس بالقوي قاله الدارقطني ، والقاعدة في الأصول : [ أن ضعف الراوي يقتضي رد خبره ] .
ونوقش : بأنه قد أخرجه الدارقطني من طريق إسماعيل بن همام , حدثني علي بن موسى الرضا , عن أبيه , عن جده , عن آبائه به مرفوعا .
وردت المناقشة : بأن في إسناده إسماعيل بن همام الشيعي مجهول ، والقاعدة في الأصول : [ أن جهالة الراوي تقتضي ضعف الحديث ] .
واحتج الشافعي بما أخرج من طريق إبراهيم بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، أن رسول الله r " فرض زكاة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى ممن تمونون " .
ويجاب عنه من وجهين :
- أنه مرسل ، والقاعدة في الأصول : [ أن الحديث المرسل ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
- أنه من رواية إبراهيم بن محمد بن أبي يحي الأسلمي وهو كذاب كما قاله غير واحد من الأئمة [ انظر : تهذيب التهذيب ( 1 / 83 ) ] .
قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله في المحلى ( 6 / 137 ) : " وفي هذا المكان عجب عجيب ! ، وهو أن الشافعي لا يقول بالمرسل ، ثم أخذها هنا بأنتن مرسل في العالم من رواية ابن أبي يحيى ! " .
وفي طرح التثريب للعراقي رحمه الله ( 4 / 55 ) : " وعبر ابن حزم هنا بعبارة بشعة فقال ....ولم ينفرد به ابن أبي يحيى ، فقد رواه غيره ، وقد روي من حديث ابن عمر أيضا كما تقدم ، ثم إن المعتمد القياس على النفقة ، مع ما انضم إلى ذلك من فعل ابن عمر راوي الحديث ، ففي الصحيحين عنه أنه كان يعطي عن الصغير والكبير ، قال نافع : حتى إن كان ليعطي عن بنيه " .
قلت : فعل ابن عمر رضي الله عنه لا يدل على الوجوب ، وهذا هو محل البحث ..
2 – القياس : أي قياس زكاة الفطر على النفقة .
وأجيب عنه : بأنه قياس معارض للنص ( فساد الاعتبار ) ، والقاعدة في الأصول : [ أنه إذا تعارض النص والقياس قدم النص ] .
وجواب آخر : أنه قياس مع الفارق ، ووجه الفرق : أنهم قالوا بأن الرجل إذا أعسر وكانت زوجته أمة فإنه يجب على سيدها أن يخرج عنها صدقة الفطر ولم يقولوا ذلك في النفقة ، وقالوا أيضا : لا يجب على المسلم إخراج صدقة الفطر عن زوجته الكتابية مع أنه يجب عليه نفقتها ، والقاعدة في الأصول : [ أن الفارق المؤثر قادح في صحة القياس ] .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض الأقوال وأدلتها أن الراجح في هذه المسألة القول الأول ، لظاهر حديث ابن عمر ، وعدم ثبوت ما يقتضي العدول عنه .


.............................. .............................. ...................

مسـ(4)ـألة : زكاة الفطر عن الصغير على من تجب :
قلت اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنها واجبة على من ينفق عليه ، وهذا مذهب الجمهور : الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة .
[ انظر : المصادر السابق ] .
القول الثاني : أنها واجبة عليه ، وهذا مذهب الظاهرية .
[ انظر : المحلى ( 6 / 137 ) ] .
ويقال في الاستدلال نظير ما سبق في المسألة التي قبلها ، وعليه فالراجح في المسألة القول الثاني لظاهر لحديث ابن عمر t ، والقاعدة في الأصول : [ يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها ، ولا يجوز تأويلها إلا بدليل ] ، ولا دليل .


.............................. .............................. ...................

مسـ(5)ـألة : هل تجب زكاة الفطر عن الجنين :
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنها لا تجب عنه ، وبهذا قال أكثر أهل العلم .
[ انظر : المغني ( 4 / 316 ) ].
دليلهم : أنه لا يصدق عليه اسم الصغير لا لغة ولا عرفا ، والأصل عدم الوجوب .
[ انظر : فتح الباري ( 3 / 369 ) ] .
القول الثاني : أنها واجبة عنه ، وبهذا قال الظاهرية ، وأحمد في رواية .
[ انظر : المحلى ( 6 / 132 ) ، المغني ( 4 / 316 ) ].
دليلهم : عموم حديث ابن عمر t المتقدم ، حيث جاء فيه : " على الكبير والصغير " ، فلفظ الصغير مفرد محلى بـ أل الجنسية ، والقاعدة في الأصول : [ أن أل الجنسية تفيد العموم ] ، واسم الصغير لغة صادق عليه بعد نفخ الروح ، إذ الصغير في اللغة مقابل الكبير ، والكبر نسبي ، فهو أصغر من المولود وهكذا .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض القولين أن الراجح في المسألة القول الثاني ، لعموم حديث ابن عمر t .


.............................. .............................. ...................

مسـ(6)ـألة : زكاة الفطر عن العبد على من تجب :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنها تجب على العبد ، وبهذا قال داود الظاهري رحمه الله .
[ انظر : المحلى ( 6 / 133 ) ] .
دليله في ذلك : حديث ابن عمر t السابق ، وفيه : " على الحر والمملوك " ، فظاهر اللفظ أن الوجوب متعلق بالمملوك بذاته كما هو متعلق بالحر ، والقاعدة في الأصول : [ يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها ] ، وعليه فيجب على السيد أن يمكنه من كسبها كما يجب عليه أن يمكنه من صلاة الفرض .
القول الثاني : أنها تجب على السيد ، وهذا مذهب الجهور : الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، وبه قال ابن حزم رحمه الله .
[ انظر : المصادر السابقة ] .
ودليلهم : ما أخرج مسلم في الصحيح ( 982 ) عن أبي هريرة t مرفوعا : " ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر " ، فهذا الحديث صريح في وجوبها على السيد ، وعليه فيؤول قوله في حديث ابن عمر t: " على الحر و المملوك " ، أي عن المملوك .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض القولين وأدلتهما أن الراجح في المسألة القول الثاني لأن حديث أبي هريرة t صريح أو كالصريح في وجوبها على السيد .


.............................. .............................. ....................

الوبراني
2010-08-30, 05:39 PM
مسـ(7)ـألة : وقت وجوبها :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في وقت وجوبها على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن وقت وجوبها هو طلوع الفجر من يوم الفطر ، وهذا مذهب الحنفية ، والمالكية في قول ، والظاهرية ، وبه قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية .
[ انظر : بدائع الصنائع للكاساني ( 2 / 74 ) ، مواهب الجليل للحطاب ( 3 / 259 ) ، المحلى لابن حزم ( 6 / 142 ) ، الإنصاف للمرداوي ( 3 / 176 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1 - ما أخرجه مسلم في الصحيح ( 984 ) عن ابن عمر t : " أن رسول الله r فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس... " .
وجه الاستدلال بالحديث : أن النبي r أضاف الصدقة إلى الفطر ؛ لأنها تجب به ، والفطر إنما يكون بطلوع الفجر من يوم العيد لا بغروب الشمس من آخر أيام رمضان ، إذ إن الليل ليس محلا للصيام لا في رمضان ، ولا في غيره .
وأجيب : بأنه قال الفطر من رمضان ، ورمضان يخرج بغروب شمس آخر أيامه .
2 - ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152 ) من حديث ابن عمر - t - : أن رسول r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
وجه الاستدلال بالحديث : أن النبي r أمر بإغناء الفقراء في يوم العيد ، واليوم يبدأ بطلوع الفجر لا بغروب الشمس من اليوم الذي قبله .
وأجيب : بأن الحديث ضعيف في إسناده أبو معشر نجيح السندي ، وهو ضعيف سيء الحفظ ، والقاعدة في الأصول : [ أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره ] .
3 – القياس : أي قياس زكاة الفطر على الأضحية بجامع أن كلا منهما قربة متعلقة بيوم العيد ، والحكم وجوب تعلقها بنهار العيد دون ليلته .
وأجيب : بأنه قياس شبه ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ أن قياس الشبه ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
القول الثاني : أن وقت وجوبها هو غروب الشمس من آخر يوم في رمضان ، وهذا مذهب المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
[ انظر : مواهب الجليل للحطاب ( 3 / 259 ) ، المجموع للنووي ( 6 / 125) ، كشاف القناع للبهوتي ( 2 / 290 ) ] .
واستدلوا بما يلي :
1 - ما أخرجه مسلم في الصحيح ( 984 ) عن ابن عمر t : " أن رسول الله r فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس... " .
وجه الاستدلال بالحديث : أن النبي r أضاف الصدقة إلى الفطر ؛ لأنها تجب به ،والفطر من رمضان لا يكون إلا بغروب الشمس من ليلة العيد .
2 - ما أخرجه أبو داود ( 1609 ) وابن ماجه ( 1827 ) عن ابن عباس t ، قال : " فرض رسول الله r زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة ، فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة ، فهي صدقة من الصدقات " .
وجه الاستدلال بالحديث :أن النبي r أضاف الصدقة إلى الفطر ، فكانت واجبة به ، لأن الإضافة تقتضي الاختصاص ، وأول فطر يقع من جميع رمضان بمغيب الشمس من ليلة الفطر .
وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث والذي قبله : بأن وقت الفطر هو طلوع الفجر من يوم العيد لأن كل ليلة كان يفطر ، ثم يصبح صائما .
ونوقش : بأن ذلك فطر من أحد أيام رمضان لا من رمضان كله ، وعليه فهو دليل معتمد .
القول الثالث : أنها تجب بطلوع الشمس من يوم العيد ، وهذا قول عند المالكية .
[ انظر : مواهب الجليل للحطاب ( 3 / 259 ) ] .
ودليلهم :
القياس : أي قياسها على صلاة العيد بجامع أنهما نسك متعلق بيوم العيد .
وأجيب عنه : بأنه قياس شبه ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ أن قياس الشبه ليس بحجة في إثبات الأحكام ] ، ثم إنه قياس معارض للنص ، وهذا ما يسمى بفساد الاعتبار ، والقاعدة في الأصول : [ أن فساد الاعتبار قادح في صحة القياس ] .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض الأقوال في المسألة ، وأدلة كل قول ، أن الراجح في المسألة القول الثاني ، وذلك لسلامة بعض أدلته من المناقشة ، وعدم سلامة أدلة الأقوال الأخرى .
ثمرة الخلاف :
إذا عَتُق العبد قبل الغروب فتجب عليه فطرته ، وكذا إذا مات المرء قبل الغروب فإنه لا تجب عليه ، وهكذا .


.............................. .............................. ...................

مسـ(8)ـألة : تعجيلها قبل وقت وجوبها :
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في هذه المسألة على أربعة أقوال :
القول الأول : أنه لا يجوز تعجيلها قبل وقت وجوبها مطلقا ، وبهذا قال المالكية في رواية ، والظاهرية ، والحسن بن زياد من الحنفية .
[ انظر : التاج والإكليل ( 3 / 170 ) ، المحلى ( 4 / 261 ) ، بدائع الصنائع ( 2 / 74 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- ما أخرجه الشيخان [ خ ( 1053 ) ، م ( 2335 ) ] من حديث ابن عمر t : " أن رسول الله r أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : ( أمر ... ) ، فهذا أمر منه r بأدائها في ذلك الوقت ( قبل خروج الناس إلى صلاة العيد ) ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر بالشـيء نهي ضده] ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي المطلق للتحريم ] ، وعليه فتعجيلها قبل هذا الوقت محرم .
وأجيب عنه :
بأن النهي الإلتزامي المستفاد من حكاية الأمر النبوي مصروف من التحريم إلى الكراهة ، والصارف له إجماع الصحابة على جواز أدائها قبل الفطر بيوم أو يومين ، حيث جاء عن ابن عمر t في البخاري ( 1511 ) : وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين ، والقاعدة في الأصول - عند جماعة - : [ أن قول الصحابي : كانوا يفعلون إذا لم يضفه إلى زمن النبي r يعد إجماعا ] ، [ انظر : البدر الطالع للمحلي ( 2 / 125 ) ] ، والقاعدة في الأصول :[ أن الإجماع حجة في إثبات الأحكام] .
قال موفق الدين ابن قدامة - رحمه الله – في المغني : ( 4 / 301 ) : " فأما تقديمها بيوم أو يومين فجائز ، لما روى البخاري بإسناده عن ابن عمر t قال : فرض رسول الله r صدقة الفطر من رمضان - وقال في آخره - وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين ، وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا ".
ونوقش هذا الجواب من وجوه :
- أنه لا يسلم بأن قول الصحابي كنا نفعل إذا لم يضفه إلى زمن النبي r يعد إجماعا، وذلك لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أنه لا يدل على فعل جميع الأمة، بل جماعةٍ منهم، والقاعدة في الأصول- على الصحيح-: [أن الإجماعَ المعتبرَ في إثبات الأحكام قولُ جميع الأمة أو فعلها ].
الأمر الثاني:أن نقله أحادي ، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن الإجماع لا يثبت بخبر واحد].
- أن ما جاء في البخاري بلفظ : " كانوا يعطون ... " ليس من كلام ابن عمر t كما فهم ابنُ قدامة رحمه الله ، بل من كلام نافعٍ مولاه ، ويدل على ذلك سياق الحديث ، حيث جاء بلفظ : " فكان ابن عمر يعطي عن الصغير ، والكبير ، حتى إن كان ليعطي عن بني ، وكان ابن عمر t يعطيها الذين يقبلونها ، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين " ، وعندهم أن قول التابعي كانوا يفعلون لا يفيد الإجماع .
قال أبو حامد الغزالي - رحمه الله – في المستصفى ( 1 / 131 ) : " وأما قول التابعي: كانوا يفعلون، لا يدل على فعل جميع الأمة بل على البعض، فلا حجة فيه إلا أن يصرحَ بنقله عن أهل الإجماع فيكون نقلا للإجماع ".
- ليس في كلام نافع - رحمه الله – بيان المُعطى ، وأنهم الفقراء حتى يقال بجواز التعجيل ، وعليه فيحتمل أن يكون الدفع لعامل الزكاة ، وهو - أي : عامل الزكاة – يدفعها إلى الفقير قبل خروج الناس إلى صلاة العيد ، والقاعدة في الأصول : [ أن الاحتمال المساوي يسقط الاستدلال ] ، وعند ابن خزيمة ( ‏2230‏ ) بسند صحيح عن أيوب السختياني أنه قال لنافع : متى كان ابن عمر يعطي الصاع ؟ قال : إذا قعد العامل ، قلت : متى كان العامل يقعد ؟ قال : قبل الفطر بيوم أو يومين .
2- ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152 ) من حديث ابن عمر t : أن رسول r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : ( أغنوهم ) ، فهذا أمر منه r بإغناء الفقراء في ذلك اليوم ( يوم العيد ) ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر بالشـيء نهي ضده] ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي المطلق للتحريم ] ، وتعجيلها قبل يوم العيد يفوت الإغناء ، وعليه فيكون حراماً .
وأجيب عنه من جهتين :
الجهة الأولى : الثبوت :
فهذا الحديث ليس بثابت - مردود – في إسناده أبو معشر نجيح السندي ، وهو سيء الحفظ [ انظر : تهذيب التهذيب ( 4 / 215 ) ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره ] .
الجهة الثانية : الدلالة :
فلا يسلم بأن تعجيلها عن وقتها يفوت الإغناء المأمور به ، ولاسيما إذا كان الوقت يسيراً كاليوم واليومين .
3 – القياس : أي قياس زكاة الفطر على الأضحية بجامع أن كلا منهما عبادة تجب في يوم عيد ، والأضحية لا يجوز تقديمها عن يوم النحر ، فكذلك زكاة الفطر لا يجوز تقديمها عن يوم الفطر ، والقاعدة في الأصول : [ أن القياس حجة في إثبات الأحكام ] .
[ انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 75 )] .
وأجيب عن هذا القياس من وجوه :
- أن هذا القياس غير منصوص على علته ، والقاعدة في الأصول -على الصحيح - : [ أن القياس غير المنصوص على علته ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
( فائدة أصولية )
بيان نوع القياس :
* هذا القياس قياسُ دلالة ، الجامع فيه هو الحكم : ( وجوب الفعل في ذلك الوقت).
* ضابط قياس الدلالة عند الأصوليين : "أن يجمع بين الفرع والأصل بدليل العلة ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة فيلزم اشتراكها في الحكم ظاهرا". [ انظر : روضة الناظر ( 3 /874 ) ] .
ودليل العلة ثلاثة أشياء : اللازم ، والحكم ، والأثر .
[ انظر : البدر الطالع للجلال المحلي ( 2 / 310 ) ] .
- أن هذا القياسَ فاسدُ الاعتبار ، إذ هو معارِضٌ لإجماع الصحابة على جواز تقديمها قبل الفطر بيوم أو يومين ، والقاعدة في الأصول : [ أن فساد الاعتبار قادحٌ في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ إذا تعارض الإجماع والقياس قدم الإجماع ] .
( بحث أصولي )
* حد فساد الاعتبار عند الأصوليين : أن يخالف القياس نصا أو إجماعا .
* ودفعه يكون بأحد أربعة أشياء : الطعن في الثبوت ، أو المعارضة ، أو منع الظهور ، أو التأويل .
[ انظر : جمع الجوامع مع شرحه البدر الطالع ( 2 / 292 وَ 294 ) ] .
ونوقش هذا الوجه : بعدم التسليم بوجود الإجماع كما سبق تقريره ، وعليه فلا يتوجه للقياسِ قادحُ فسادِ الاعتبار . ( الطعن في الثبوت ) .
- لا يسلم بوجوب الأضحية ، وهذا ما يسمى بقادح منع وجود الجامع في الفرع ، وهو نظير منع وجود الوصف فيه ، والقاعدة في الأصول : [ أن من شرط صحة القياس وجود دليل الوصف في الفرع ] ، وبعبارة أخرى : [ أن عدم وجود دليل الوصف في الفرع يقتضي فساد القياس ].
القول الثاني : أنه يجوز تعجيلها قبل وقت وجوبها مطلقاً ، وبهذا قال الحنفية .
[ انظر : بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ( 2 / 74 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- ما أخرجه الإمام البخاري في الصحيح عن نافع عن ابن عمر t" أنه كان يعطيها الذين يقبلونها ، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين" .
وجه الاستدلال بالأثر : من قوله : ( قبل الفطر بيوم أو يومين ) ، وهذا إطلاق في التقديم فيشمل ما إذا دخل رمضان وقبله !! .
قـال ابن نجيم الحنفي رحمه الله في البحر الرائق ( 2 / 445 ) : " لكنه وجد فيه دليل وهو حديث البخاري : " وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو بيومين "، وأطلق في التقديم فشمل ما إذا دخل رمضان وقبله " .
وأجيب عنه إضافة لما سبق ( أي : في مناقشة أدلة أصحاب القول الأول ) :
أن هذا الحديث حكاية عن فعل ، والقاعدة في الأصول : [ أن الفعل لا إطلاق له ] ، وهذا نظير القاعدة في الأصول : [ أن الفعل لا عموم له ] ، وحيثما وجد الاحتمال في زمان الفعل أو مكانه وقع الإجمال ، ووجب التوقف ، وعليه لو قال : كانوا يعطونها قبل الفطر وسكت لم يصح القول بأنه يدل على جواز التقديم مطلقا ، كيف وقد قيد الحكاية بقوله : بيوم أو يومين ، فهذه عجيبة من ابن نجيم رحمه الله تعالى !!.
2- القياس : أي قياس زكاة الفطر على زكاة المال بجامع أن كلا منهما حق واجب لله تعالى ، وزكاة المال يجوز تقديمها قبل تمام الحول بعد كمال النصاب فكذلك زكاة الفطر ، والقاعدة في الأصول : [ أن القياس حجة في إثبات الأحكام ] .
[ انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 74 ) ] .
وأجيب عنه من وجوه :
- أن هذا القياس غير منصوص على علته ، والقاعدة في الأصول -على الصحيح - : [ أن القياس غير المنصوص على علته ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
( فائدة أصولية )
في بيان نوع هذا القياس :
* هذا القياس قياسُ دلالة ، الجامع فيه الحكم : ( كونهما حق واجب لله تعالى ) ، وتقدم قريبا المراد بقياس الدلالة عند الأصوليين .
- أن هذا القياسَ فاسدُ الاعتبار ، إذ هو معارِضٌ لحديث ابن عمر t: " أن رسول الله r أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " ، والقاعدة في الأصول : [ أن فساد الاعتبار قادحٌ في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ إذا تعارض النص والقياس قدم النص ] .
- أن هذا قياسٌ على أصلٍ مخصوصٍ من الأصول ، وبعبارة أخرى : قياس على موضع الاستحسان ، ووجه ذلك : أن الأصل عدم جواز أداء الواجب قبل وجوبه ، لكن دل الدليل على جواز تقديم زكاة المال فخصصناه من الأصول ، والقاعدة في الأصول - عند الحنفية - : [ لا يجوز القياس على أصلٍ مخصوصٍ من الأصول ] ، ومأخذهم في ذلك : أن ما دلت عليه الأصول مقطوع بصحته ، وما يقتضيه القياس على المخصوص مظنون ، ولا يجوز إبطال ما يقطع بصحته بما تظن صحته ، ولا يقطع به ، وعليه فقد تناقض الحنفية في تقرير هذه المسألة ، ومن القواعد المقررة في علم الجدل : أن التناقض دليل بطلان المذهب .
[ انظر : ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي - رحمه الله - ص : 157 ] .
قال ابن الهمام الحنفي - رحمه الله – في شرح فتح القدير ( 2 / 42 ) : " يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الْقِيَاسُ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّبَبِ هُوَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَسُقُوطِ مَا سَيَجِبُ إذَا وَجَبَ بِمَا يُعْمَلُ قَبْلَ الْوُجُوبِ خِلَافُ الْقِيَاسِ فَلَا يَتِمُّ فِي مِثْلِهِ إلَّا السَّمْعُ " .
- أنه لا يسلم بجواز تعجيل زكاة المال ، لما أخرج أبو داود في السنن ( 1573 ) من حديث علي t مرفوعا : " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" ، وهذا نفي بمعنى النهي ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي المطلق للتحريم ] ، وهذا ما يسمى في الأصول بقادح : منعِ حكمِ الأصل ، والقاعدة في الأصول : [ لا يصح القياس على ما لم يثبت حكمه بالدليل ] .
( فائدة أصولية )
* الجواب عن هذا القادح يكون بأحد ثلاثة طرق :
1- التفسير ( أي تفسير الحكم بما يسلم به الخصم ) ، 2 – بيان موضع التسليم ( أي تسليم الخصم بفرع من فروع المسألة ) ، 3 – الدلالة ( أي أن ينصب الدليل على حكم الأصل ) .
[ انظر : ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي ص : 163 ] .
ونوقش هذا الوجه : بأنه قد قام الدليل على جواز تعجيلها ، ألا وهو حديث علي t عند الترمذي في السنن ( 678 ) : " أن النبي r تعجل من العباس زكاة سنتين " ، والقاعدة في الأصول : [ أن إقراره r يدل على الجواز ] . ( الجواب بواسطة الدلالة ) .
وردت هذه المناقشة : بأن هذا الحديث مردود ، في إسناده : حُجيّة بن عدي الكندي مجهول ، والقاعدة في الأصول : [ أن جهالة الراوي تقتضي رد خبره ] .
[ انظر : تهذيب التهذيب ( 1 / 366 ) ] .
- أنه ثمة فارق مؤثر بين زكاة المال وزكاة الفطر ، فزكاة المال المقصود منها إغناء الفقير بها في الحول كله ، فجاز إخراجها في جميعه ، وزكاة الفطر المقصود منها الإغناء في وقت مخصوص ، فلم يجز تقديمها قبل الوقت ، والقاعدة في الأصول : [ أن الفارق المؤثر قادح في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى القاعدة في الأصول : [ لا يصح القياس مع الفارق ] .
[ انظر : المغني لابن قدامة ( 4 / 301 ) ] .
القول الثالث : أنه يجوز تعجيلها قبل وقت وجوبها بيوم أو يومين ، وهذا مذهب المالكية في المشهور ، والحنابلة ، وبه قال الكرخي من الحنفية .
[ انظر : مواهب الجليل للحطاب المالكي ( 3 / 272 ) ، المغني لابن قدامة الحنبلي ( 4 / 300 ) ، بدائع الصنائع للكساني الحنفي ( 2 / 74 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- ما أخرجه البخاري ( 1511 ) عن نافع عن ابن عمر t قال : " فرض النبي r صدقة الفطر - أو قال : رمضان - على الذكر ، والأنثى ، والحر ، والمملوك صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، فعدل الناس به نصف صاع من بر ، فكان ابن عمر t يعطي التمر ، فأعوز أهل المدينة من التمر ، فأعطى شعيرا ، فكان ابن عمر t يعطي عن الصغير ، والكبير ، حتى إن كان ليعطي عن بني ، وكان ابن عمر t يعطيها الذين يقبلونها ، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين " .
وجه الاستدلال : أن ابن عمر t قال : " وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين " ، والقاعدة في الأصول - عند جماعة - : [ أن قول الصحابي : كانوا يفعلون إذا لم يضفه إلى زمن النبي r يعد إجماعا ] ، [ انظر : البدر الطالع للجلال المحلي ( 2 / 125 ) ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن الإجماع حجة في إثبات الأحكام ] .
وأجيب عنه من وجوه :
- لا يسلم بأن قول الصحابي كنا نفعل إذا لم يضفه إلى زمن النبي r يعد إجماعا، وذلك لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أنه لا يدل على فعل جميع الأمة، بل جماعة منهم، والقاعدة في الأصول- على الصحيح-: [أن الإجماع المعتبر في إثبات الأحكام قول جميع الأمة أو فعلها].
الأمر الثاني: أن نقله أحادي، والقاعدة في الأصول-على الصحيح-: [أن الإجماع لا يثبت بخبر واحد].
- أن ما جاء في البخاري بلفظ : " كانوا يعطون ... " ليس من كلام ابن عمر t ، بل من كلامِ نافعٍ مولاه ، وسياق الحديث يدل على ذلك ،وعندهم أن قول التابعي كانوا يفعلون لا يفيد الإجماع ، وتقدم النقل عن أبي حامد الغزالي - رحمه الله - .
- ليس في كلام نافع - رحمه الله – بيان المُعطى ، وأنهم الفقراء حتى يقال بجواز التعجيل ، وعليه فيحتمل أن يكون الدفع لعامل الزكاة ، وهو - أي : عامل الزكاة – يدفعها إلى الفقير قبل خروج الناس إلى صلاة العيد ، والقاعدة في الأصول : [ أن الاحتمال المساوي يسقط الاستدلال ] ، وعند ابن خزيمة ( ‏2230‏ ) بسند صحيح عن أيوب السختياني أنه قال لنافع : متى كان ابن عمر يعطي الصاع ؟ قال : إذا قعد العامل ، قلت : متى كان العامل يقعد ؟ قال : قبل الفطر بيوم أو يومين .
2- ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152 ) من حديث ابن عمر t : أن رسول r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : ( أغنوهم ... ) ، فهذا مطلق " نكرة في سياق الإثبات "، والقاعدة في الأصول : [ أن المطلق يصدق على جميع صوره ] ، والإغناء يحصل فيما إذا دفعها قبل الفطر بيوم أو يومين ، وبهذا يكون ممتثلا .
وأجيب عنه من جهتين :
الجهة الأولى : الثبوت :
فهذا الحديث ليس بثابت - مردود – في إسناده أبو معشر نجيح السندي ، وهو سيء الحفظ [ انظر : تهذيب التهذيب ( 4 / 215 ) ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره ] .
الجهة الثانية : الدلالة :
أن الحديث مطلق ، وقد عارضه حديث ابن عمر t : " أن رسول الله r أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبـل خـروج النـاس إلى الصلاة "، والقاعدة في الأصول: [يجب حمل المطلق على المقيد عند التعارض ] .
ويمكن أن يقلب الدليل عليهم من جهة أن الإغناء قد يحصل فيما إذا دفعها قبل الفطر بثلاثة أيام أو أربعة وهكذا ، وهم لا يقولون به .
3 - القياس :أي قياس زكاة الفطر على زكاة المال بجامع أن كلا منهما حق واجب لله تعالى ، وزكاة المال يجوز تقديمها قبل تمام الحول بعد كمال النصاب فكذلك زكاة الفطر ، والقاعدة في الأصول : [ أن القياس حجة في إثبات الأحكام ] .
[ انظر : المغني لابن قدامة ( 4 / 301 ) ] .
وأجيب عنه من وجوه ، تقدم ذكر بعضها في مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني ، ويزاد على ذلك هنا بأن هذا القياس يرد عليه قادح القلب ، وتقريره عند المعترض : لا يقال بالتقديم إلى يومين فقط ، كزكاة المال ، فإنها لا يقتصر تقديمها على اليومين ، والقاعدة في الأصول - عند جماعة - : [ أن القلب قادح في صحة القياس ].
( بحث أصولي )
* حد القلب عند الأصوليين في الاصطلاح : " أنه دعوى أن ما استدل به في المسألة على ذلك الوجه عليه لا له إن صح " .
[ انظر : جمع الجوامع مع شرحه البدر الطالع ( 2 / 278 ) ] .
* القلب عند الأصوليين ينقسم إلى قسمين :
1 / قلب لتصحيح مذهب المعترض إما مع إبطال مذهب المستدل أم لا .
2 / قلب لإبطال مذهب المستدل بالصراحة أو بالالتزام .
[ انظر : المصدر السابق ( 2 / 279 ) ] .
* القلب الذي قدح به في القياس السابق هو من القسم الثاني ( قلب لإبطال مذهب المستدل ) .
القول الرابع : أنه يجوز تعجيلها قبل وقت وجوبها من أول شهر رمضان ، وهذا مذهب الشافعية ، والحنابلة في رواية .
[ انظر : المجموع للنووي الشافعي ( 6 / 126 ) ، الإنصاف للمرداوي الحنبلي ( 3 / 177 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1 – ما أخرجه البخاري في الصحيح ( 2311 ) عن أبي هريرة t أنه قال : " وكلني رسول الله r بحفظ زكاة رمضان ... " الحديثَ ، وفيه : أن أبا هريرة t أمسك الشيطان ثلاث ليال ، وهو يأخذ من التمر .
وجه الاستدلال بالحديث : أن أبا هريرة t أخبر بأنه قد حفظ زكاة رمضان ثلاثة أيام ، أي من رمضان ، وعلم النبي r بذلك ، والقاعدة في الأصول : [ أن إقراره r يدل على الجواز ] ، فدل على جواز تعجيلها قبل الفطر بأكثر من يومين ، فيجوز من أول الشهر .
[ انظر : فتح الباري لابن حجر ( 3 / 176 ) ] .
وأجيب عنه من وجوه :
- أنه ليس في هذا الحديث تعجيلها من أول الشهر ، إذ الحادثة لم تقع لأبي هريرة t في شهرٍ ، بل في ثلاثة أيام .
- أنه ليس في هذا الحديث أنه أمسكه في رمضان فيحتمل أنه في شوال لعدم وجود المستحق ، والقاعدة في الأصول : [ إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال ] .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله – في الفتح ( 3 / 176 ) : " وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال ، وهو يأخذ من التمر ، فدل على أنهم كانوا يعجلونها ، وعكسه الجوزقي فاستدل به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر ، وهو محتمل للأمرين " .
- سلمنا جدلا أنه كان في رمضان ، فليس فيه الدفعُ للفقراء قبل يوم الفطر ، بل للإمام ، وهو وكيل عن الدافع يخرجها عنه يوم العيد .
2 – القياس : أي قياس تعجيلها من أول ليلة في رمضان على تعجيلها قبل وقت وجوبها بيوم أو يومين بجامع إخراجها في جزء منه .
[ انظر : مغني المحتاج للخطيب الشربيني ( 3 / 133 ) ] .
وأجيب عنه من وجهين :
- أن هذا القياس غير منصوص على علته ، والقاعدة في الأصول -على الصحيح- : [ أن القياس غير المنصوص على علته ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
( فائدة أصولية )
بيان نوع القياس :
* هذا القياس قياس شبه الجامع فيه ( الإخراج في جزء من رمضان ).
* ضابط قياس الشبه عند الأصوليين : " ما جمع فيه بين الفرع والأصل بوصف مع الاعتراف بأن ذلك الوصف ليس علة للحكم " .
[ انظر : المستصفى للغزالي ( 3 / 643 ) ] .
* سمي قياس الشبه بهذا الاسم لكون الجامع فيه يشبه الوصف المناسب من وجه ، ويشبه الوصف الطردي من وجه آخر .
[ انظر : شرح مختصر الروضة للطوفي ( 3 / 428 ) ] .
* اختلف الأصوليون في حجية قياس الشبه على قولين ، فذهب الجمهور إلى أنه حجة ، وخالف في ذلك الحنفية فقالوا بعدم الحجية ، واختار عدم الحجية جمع من المحققين منهم الإمام أبو إسحاق الشيرازي - رحمه الله - ، والحق عدم اعتباره في الديانة ، إذ هو أخذ بظن غير راجح ، وذلك ممنوع في الشريعة .
[ انظر : شرح التنقيح للقرافي ( ص 395 ) ، المحصول للفخر الرازي ( 5 / 203 ) ، شرح الكوكب للفتوحي ( 4 / 190 ) ، فواتح الرحموت لعبد العلي الأنصاري ( 2 / 529 ) ، التبصـرة للشيرازي ( ص : 458 ) ] .
- ( الوجه الثاني ) أن هذا القياسَ فاسدُ الاعتبار ، إذ هو معارِضٌ لحديث ابن عمر t : " أن رسول الله r أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " ، والقاعدة في الأصول : [ أن فسادَ الاعتبار قادحٌ في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ إذا تعارض النص والقياس قدم النص ] .
- أن هذا القياسَ قياسُ شبهٍ ، والقاعدة في الأصول - على الصحيح - : [ أن قياس الشبه ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض الأقوال في المسألة ، وأدلة كل قول ، أن الراجح في المسألة القول الأول ، وذلك لسلامة بعض أدلته من المناقشة ، وعدم سلامة أدلة الأقوال الأخرى .


.............................. .............................. ....................

الوبراني
2010-08-30, 05:42 PM
مسـ(9)ـألة : تأخيرها عن صلاة العيد :
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا يجوز تأخير إخراجها عن صلاة العيد ، وهذا مذهب الظاهرية ، وبه قال الحنابلة في رواية .
[ انظر : المحلى لابن حزم الظاهري ( 6 / 143 ) ، الإنصاف للمرداوي ( 3 / 187 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1 - ما أخرجه الشيخان [ خ ( 1053 ) ، م ( 2335 ) ] من حديث ابن عمر t : " أن رسول الله r أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " .
وجه الاستدلال بالحديث : أن النبي صلى r أمر بإخراجها قبل صلاة العيد ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر بالشـيء نهي عن ضده ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي المطلق للتحريم ] ، وعليه فتأخيرها عن صلاة العيد لا يجوز.
وأجيب : بأن الأمر الوارد في الحديث مصروف من الإيجاب إلى الندب ، والصارف له ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152 ) من حديث ابن عمر t : أن رسول r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
فهذا الحديث يدل على جواز إخراجها في جميع اليوم ، مأخذ الجواز من الأمر في قوله : أغنوهم ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر يقتضي الإذن والجواز ] ، ومأخذ كونه في جميع اليوم من قوله : اليوم ، فهذا مطلق ، والقاعدة في الأصول : [ أن المطلق يصدق على جميع أجزائه ] .
ونوقش هذا الجواب : بأن حديث الأمر بالإغناء ضعيف لا يثبت ، وقد تقدم بيان ذلك ، وعليه لا يصح أن يعارض به حديث الأمر بإخراجها قبل الصلاة ، إذ القاعدة في الأصول : [ أن التعارض فرع الثبوت ] .
وجواب آخر : على فرض ثبوت الأمر بالإغناء فغاية ما فيه الإطلاق في الوقت ، وحديث الأمر بإخراجها قبل الصلاة مقيد ، والقاعدة في الأصول : [ أنه يجب حمل المطلق على المقيد إذا تحدا في الحكم والسبب ] ، وهذا هو الحال هنا .
2 – ما أخرجه أبو داود ( 1609 ) وابن ماجه ( 1827 ) عن ابن عباس t ، قال : " فرض رسول الله r زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة ، فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة ، فهي صدقة من الصدقات " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " فهي صدقة من الصدقات " ، وقد قابل هذا اللفظ بقوله : " فهي زكاة مقبولة " ، فالسياق يدل على عدم وقوعها زكاةً إذا أخرت عن صلاة العيد ، والقاعدة في الأصول : [ أن دلالة السياق معتبرة ] ، وعليه فتأخيرها عن الصلاة لا يجوز ، إذ فيه تفويت لوجوب امتثال الأمر بإخراجها ، ونظير هذا ترتيب الأضحية على صلاة الإمام، لا على وقتها، وأن من ذبح قبل صلاة الإمام، لم تكن ذبيحته أضحيةً بل شاة لحم.
وأجيب : بأن المراد بقوله : " فهي صدقة من الصدقات " نقصان ثوابها ، فصارت كسائر الصدقات في الأجر .
القول الثاني : أنه يجوز تأخير إخراجها عن صلاة العيد ، ولا يجوز تأخيرها عن يومه ، وهذا مذهب المالكية ، والشافعية ، والحنابلة في مشهور مذهبهم ، وبه قال الحسن بن زياد من الحنفية .
[ انظر : مواهب الجليل للحطاب المالكي ( 3 / 267 ) ، نهاية المحتاج للرملي الشافعي ( 3 / 111 ) ، كشاف القناع للبهوتي الحنبلي ( 2 / 291 ) ، بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ( 2 / 74 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1 - ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152 ) من حديث ابن عمر t : أن رسول r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
وجه الاستدلال بالحديث :
الحديثُ يدل على جواز إخراجها في جميع اليوم ، أما مأخذ الجواز فمن الأمر في قوله : " أغنوهم "، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر يقتضـي الإذن والجواز ] ، وأما مأخذ كونه في جميع اليوم فمن قوله : " اليوم " ، فهذا مطلق ، والقاعدة في الأصول : [ أن المطلق يصدق على جميع أجزائه ] .
وأجيب عنه : بأن الحديث ضعيف كما تقدم ، والقاعدة في الأصول : [ أن الحديث الضعيف ليس بحجة في إثبات الأحكام ] ، وعلى فرض ثبوته فإن غاية مفاده الإطلاق في اليوم ، وحديث الأمر بإخراجها قبل صلاة العيد مقيد ، والقاعدة في الأصول : [ أنه يجب حمل المطلق على المقيد إذا اتحدا في الحكم والسبب ] ، وهذا هو الحال هنا .
2 - ما أخرجه الشيخان [ خ ( 1510 ) ، م ( 985 ) ] عن أبي سعيد الخدري t قال : " كنا نخرج على عهد رسول الله يوم العيد صاعا من طعام ... " .
وجه الاستدلال بالحديث : أن أبا سعيد الخدري أخبر بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في يوم العيد كله ، وأضاف ذلك إلى زمان النبي r ، والقاعدة في الأصول : [ أن قول الصحابي كنا نفعل إذا أضافه إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم يكون إقراراً ] ، [ انظر : البدر الطالع للجلال المحلي ( 2 / 125 ) ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن إقراره r يدل على الجواز ] .
وأجيب عنه من وجهين :
- لا يسلم بأن النبي r أقر على ذلك بمجرد هذه الصيغة ، فالقاعدة في الأصول- على الصحيح -: [أن وقوع الفعل في زمن النبي ﷺ إذا لم يقم دليل على حصوله بمحضـره، أو بلوغه له وإقراره، لا يدل على جواز ذلك الفعل] .
[انظر في ذلك: شرح اللمع للشيرازي (1/ 562)، تقريب الأصول للكلبي ص281، مفتاح الأصول للتلمساني ص591 ] .
- ليس في الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخرجونها بعد صلاة العيد ، فيحتمل أنهم كانوا يخرجونها يوم العيد قبل الصلاة ، والقاعدة في الأصول : [ إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال ] .
القول الثالث : يجوز تأخيرها عن صلاة العيد ، وعن يومه مطلقا ، وهذا مذهب الحنفية .
[ انظر : بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ( 2 / 74 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1 - ما أخرجه الشيخان [ خ ( 1503) ، م ( 984 ) ] عن ابن عمر t ، قال : " فرض رسول الله r زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير ... " الحديثَ .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " فرض رسول الله r زكاة الفطر " ، فهذا إيجاب مطلق عن الوقت ، فتجب في مطلق الوقت من غير تعيين ، إذ القاعدة في الأصول : [ يجب العمل بالمطلق على إطلاقه ] .
[ انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 74 ) ] .
وأجيب : أن هذا الإطلاق مقيد بقوله في آخر الحديث : "وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " ، والقاعدة في الأصول : [ أنه يجب حمل المطلق على المقيد إذا اتحدا في الحكم والسبب ] .
2 - القياس : أي قياسها على الزكاة بجامع أنها قربة مالية فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء ، وعليه فيجوز تأخيرها .
وأجيب عنه من وجوه :
- أن هذا القياس غير منصوص على علته ، والقاعدة في الأصول -على الصحيح- : [ أن القياس غير المنصوص على علته ليس بحجة في إثبات الأحكام ].
- أن هذا القياسَ قياسُ شبهٍ ، والقاعدة في الأصول - على الصحيح - : [ أن قياس الشبه ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
- أن هذا القياسَ فاسدُ الاعتبار ، إذ هو معارِضٌ لحديث ابن عمر t : " أن رسول الله r أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " ، والقاعدة في الأصول : [ أن فساد الاعتبار قادحٌ في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ إذا تعارض النص والقياس قدم النص ] .
- أنه لا تلازم بين عدم سقوطها إلا بالأداء ( اللغوي أي : الفعل ) وبين جواز تأخيرها ، فيحرم تأخيرها ، ويجب فعلها قضاءا.ً
الترجيح :
تبين لي بعد عرض الأقوال في المسألة ، وأدلة كل قول ، أن الراجح في المسألة القول الأول ، وذلك لسلامة بعض أدلته من المناقشة ، وعدم سلامة أدلة الأقوال الأخرى .


.............................. .............................. ....................

مسـ(10)ـألة : ما يجب إخراجه فيها جنساً :
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في هذه المسألة على أقوال أشهرها خمسة :
القول الأول : يجب إخراجها من التمر أو الشعير أو الزبيب أو البر ، ولا يجوز إخراجها من غيرها إلا بالقيمة ، وهذا مذهب الحنفية .
[ انظر : بدائع الصنائع للكاساني ( 2 / 72 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
أولاً : الدليل وجوب إخراجها من التمر والشعير :
- ما أخرجه الشيخان [ خ ( 1053 ) ، م ( 2335 ) ] من حديث ابن عمر t ، قال : " فرض رسول الله r زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير... " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " فرض " ، والقاعدة في الأصول : [ أن لفظ الفرض يدل على الوجوب ] ، وظاهر الخبر وجوب الاقتصار على التمر والشعير ، وعدم جواز إخراج غيرهما ، ولكن ورد حديث أبي سعيد الخدري t الدال على تجويز إخراجها من البر والزبيب .
ثانيا : الدليل على وجوب إخراجها من البر والزبيب :
- ما أخرجه الشيخان [ خ ( 1508 ) ، م ( 958 ) ] عن أبي سعيد الخدري t ، قال : " كنا نعطيها في زمان النبي r صاعا من طعام ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من زبيب " .
وجه الاستدلال بالحديث : أن أبا سعيد الخدري t أخبر بأنهم كانوا يعطونها على عهد رسول الله r من هذه الأصناف الأربعة ( الطعام أي البر ، والتمر ، والشعير ، والزبيب ) ، والقاعدة في الأصول : [ أن قول الصحابي كنا نفعل إذا أضافه إلى زمان النبي r يكون إقراراً ] ، [ انظر : البدر الطالع للجلال المحلي ( 2 / 125 ) ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن إقراره r يدل على الجواز ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن التخيير بين فعلين أحدهما قد ثبت وجوبه دليل على وجوب الآخر ] .
ثالثاً : الدليل على عدم جواز غيرها من الأصناف :
- حديث ابن عمر t السابق ، وفيه : " فرض رسول الله r زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير... " .
وجه الاستدلال بالحديث : أن النبي r أمر بإخراجها من هذه الأصناف ، لقوله : " فرض " ، وفي رواية عند البخاري ( 1507 ) : " أمــر " ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر بالشـيء نهي عن ضده ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي المطلق للتحريم ] .
رابعا : الدليل على جواز إخراج القيمة :
- ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152 ) من حديث ابن عمر t : أن رسول الله r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
وجه الاستدلال بالحديث :
أن النبي r أمر بالإغناء في قوله : " أغنوهم " ، والإغناء يحصل بالقيمة ، بل هو آكد حصول بها ، والقاعدة في الأصول : [ أن المطلق يصدق على جميع صوره ] .
[ انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 72 ) ] .
- ما أخرجه الدارقطني في السنن ( 2 / 86 ) عن طاووس , قال : قال معاذ بن جبل لأهل اليمن : " ائتوني بخـميـس أو لبيس آخذ منكم في الصدقة فهو أهون عليكم وخـير للمهاجرين بالمـدينـة " ( ذكره البخاري تعليقا باب العرض في الزكاة ( 2 / 116 ) ).
وجه الاستدلال بالحديث : أن هذا فعل من معاذ بن جبل t ، وقد كان في زمان النبي r ، والغالب أن مثل هذا لا يخفى على النبي r ، والقاعدة في الأصول - عند جماعة - : [ أن وقوع الفعل في زمان النبي r دليل على جوازه ] .
- القياس : أي قياس صدقة الفطر على زكاة المال بجامع أنها قربة مالية معقولة المعنى والحكم جواز إخراج القيمة فيها .
مناقشة أدلة الحنفية :
أجيب عن الفقرة ثانيا : بأنه لا يسلم بأن النبي r أقر على ذلك بمجرد هذه الصيغة ( كنا نعطيها ) ، فالقاعدة في الأصول- على الصحيح -: [أن وقوع الفعل في زمن النبي ﷺ إذا لم يقم دليل على حصوله بمحضره، أو بلوغه له وإقراره، لا يدل على جواز ذلك الفعل] .
[انظر في ذلك: شرح اللمع للشيرازي (1/ 562) ، تقريب الأصول لابن جزيء ص281 ، مفتاح الأصول للتلمساني ص591 ] .
ومن الجواب عن هذه الفقرة أيضا : أنه ليس في حديث أبي سعيد t ذكر البر بل غاية ما فيه ذكر الطعام ، والطعام في اللغة : البر وكل ما يطعم [ انظر : القاموس ] ، وتعيين أحد الاحتمالين من غير دليل تحكم ، وهو ممنوع ! .
ونوقش هذا : بأن الطعام جاء في الحديث معطوفاً على التمر والشعير والزبيب ، والقاعدة في الأصول : [ أن العطف يقتضي المغايرة ] .
[ انظر : معالم السنن للخطابي ( 2 / 219 ) ] .
ومناقشة أخرى : أن الغالب في عرفهم استعمال الطعام في البر ، والقاعدة في الأصول : [ يجب حمل اللفظ على الحقيقة العرفية في زمن الخطاب ] .
[ انظر : فتح الباري لابن حجر ( 3 / 295 ) ] .
وردت المناقشة : بأن الحديث قد جاء في رواية عند البخاري ( 1510 ) بلفظ : " كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ " .
وعليه فيكون ذكر الطعام في الرواية الأولى من باب الإجمال ، والتفسير حاصل بما بعده ، هذا وقد جاء في رواية عند الطحاوي ( 1993 ) : لا نخرج غيره .
وردت المناقشة الأخرى : بأنه قد جاء في تمام حديث أبي سعيد الخدري t عند البخاري ( 1508 ) : " فلما جاء معاوية وجاءت السمراء ، قال : أرى مدا من هذا يعدل مدين " ، وهذا يدل على أنها لم تكن قوتا لهم ، فكيف تجعل حقيقة عرفية للطعام عندهم ، هذا بعيد جداً .
[ انظر : فتح الباري لابن حجر ( 3 / 296 ) ] .
وأجيب عن الفقرة ثالثا : بأنه قد ورد في حديث أبي سعيد الخدري t ذكر الأقط [ خ ( 1506 ) ، م ( 985 ) ] ، فلماذا لم يقولوا به ؟!! .
قال الكاساني في بدائع الصنائع ( 2 / 73 ) : " وقال مالك يجوز أن يخرج صاعا من أقط ، وهذا غير سديد ؛ لأنه غير منصوص عليه من وجه يوثق به ، وجواز ما ليس منصوصا عليه لا يكون إلا باعتبار القيمة كسائر الأعيان التي لم يقع التنصيص عليها من النبي r " .
قلت : الحديث أخرجه الشيخان بإسناد كالشمس ، وكلام الكاساني رحمه الله ليس بشيء .
قال القرافي في الذخيرة ( 3 / 169 ) : " ومنع ح [ يعني أبا حنيفة ] إخراج الأقط إلا بالقيمة وأن يكون أصلا قياسا على القث الذي هو حب الغاسول ، وجوابه : أنه وارد في النص فيكون القياس قبالته فاسدا ، سلمنا صحته لكن الفرق أن الأقط يقتات مع الإدخار كالتمر بخلاف القث ".
وأجيب عن الفقرة رابعا : بأن حديث : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " ، حديث ضعيف ، وقد تقدم بيان وجه ضعفه ، والقاعدة في الأصول : [ أن الحديث الضعيف ليس بحجة في إثبات الأحكام ] ، ثم لو ثبت فلا دلالة فيه على جواز إخراج القيمة لأن الأمر بالإغناء جاء مطلقا ، وقد عارضه حديث ابن عمر t السابق ، والذي فيه الأمر بإخراج الصاع من التمر أو الشعير ، والقاعدة في الأصول :[ أنه يجب حمل المطلق على المقيد عند التعارض إذا اتحدا في الحكم والسبب ] ، والقول بأن إخراج القيمة آكد في حصول الإغناء فيه نظر من جهة أن المال يتطلع إليه كل أحد ، ومن ثم فقد تقع في غير محلها ( أي الفقير ) ، فلا يحصل إغناؤه .
وأجيب عن حديث معاذ بن جبل t من جهتين :
الأولى : الثبوت : فهو حديث ضعيف ، وجه ذلك : أن طاووسا لم يدرك معاذ بن جبل t ، قاله الدارقطني [ السنن ( 2 / 86 ) ] ، فيكون منقطعا ، والقاعدة في الأصول : [ أن الانقطاع في الخبر يقتضي رده ] .
الثانية : الدلالة : وردت دلالة الخبر من وجوه :
- أنه لا دليل على أن هذه الواقعة كانت في زمان النبي r ، فيحتمل أنها بعد وفاته r ، والقاعدة في الأصول : [ إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال ] ، وعليه فهو اجتهاد منه t ، وقد عارض النصوص الدالة على عدم جواز إخراج القيمة ، والقاعدة في الأصول : [ أن النص مقدم على قول الصحابي عند التعارض ] .
- فرضنا جدلا أن هذا الفعل كان واقعاً في زمانه r ، فإنه لا دليل على إطلاعه عليه ، وإقراره عليه ، ومجرد وقوعه في زمانه لا يدل على الجواز ، فالقاعدة في الأصول على - الصحيح - : [أن وقوع الفعل في زمن النبي ﷺ إذا لم يقم دليل على حصوله بمحضره، أو بلوغه له وإقراره، لا يدل على جواز ذلك الفعل] . ( انظر دليل القاعدة في تطبيقات أصولية ص : 158 ) .
- أنه قد جاء في بعض الروايات الجزية بدل الصدقة كما قال البيهقي ، والقاعدة في الأصول : [ إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال ] ، بل قال القاضي عبد الوهاب المالكي أنهم كانوا يطلقون لفظ الصدقة على الجزية وبهذا يقوى احتمال كونه في الجزية .
ونوقش هذا : بأنه قد جاء في بعض الروايات أنه قال : " مكان الشعير والذرة " ، وإنما كانت الجزية تؤخذ من النقدين فدل على أن المراد الزكاة لا الجزية .
[ انظر : فتح الباري لابن حجر ( 3 / 247 ) ] .
أما القياس فالجواب عنه من عدة وجوه :
- أن هذا القياس غير منصوص على علته ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ أن القياس غير المنصوص على علته ليس بحجة في إثبات الأحكام ].
- أن هذا القياسَ قياسُ شبهٍ ، والقاعدة في الأصول - على الصحيح - : [ أن قياس الشبه ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
- أن هذا القياسَ فاسدُ الاعتبار ، إذ هو معارِضٌ لحديث ابن عمر t: " فرض رسول الله r زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير... " ، والقاعدة في الأصول : [ أن فساد الاعتبار قادحٌ في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ إذا تعارض النص والقياس قدم النص ] .
- أنه لا يسلم بجواز إخراج القيمة في زكاة المال ، لقوله تعالى : ( خذ من أموالهم ... ) ، وقوله r : " في كل أربعين شاة شاة " ، وغيرها من النصوص ، وهذا ما يسمى في الأصول بقادح : منعِ حكمِ الأصل ، والقاعدة في الأصول : [أنه لا يصح القياس على ما لم يثبت حكمه بالدليل ] .
* قال الإمام أبو سليمان الخطابي - رحمه الله - في معالم السنن ( 2 / 219 ) عند كلامه على حديث أبي سعيد t : " وفي الحديث دليل على أن إخراج القيمة لا يجوز ، وذلك لأنه ذكر أشياء مختلفة القيم فدل على أن المراد بها الأعيان لا قيمتها ".
القول الثاني : يجب إخراجها من غالب قوت البلد ، سواء كان من المنصوص أو غيره ، وهذا مذهب المالكية ، والحنابلة في رواية .
[ انظر : الشرح الكبير للدردير ( 1 / 504 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
- ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152) من حديث ابن عمر t : أن رسول r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
وجه الاستدلال بالحديث :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإغناء في قوله : " أغنوهم " ، والإغناء يحصل بالقوت ، والقاعدة في الأصول : [ أن المطلق يصدق على جميع صوره ] .
[ انظر : المغني ( 4 / 293 ) ] .
- القياس : أي قياس غير المنصوص مما يقتات على المنصوص بجامع غلبة الإقتيات في كلٍ ، والحكم جواز الإخراج .
مناقشة أدلة المالكية :
بالنسبة لحديث : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " ، فهذا الحديث ضعيف ، وقد تقدم بيان وجه ضعفه ، والقاعدة في الأصول : [ أن الحديث الضعيف ليس بحجة في إثبات الأحكام ] ، ثم لو ثبت فلا دلالة فيه على جواز إخراج غالب القوت ؛ لأن الأمر بالإغناء جاء مطلقا ، وقد عارضه حديث ابن عمر t السابق ، والذي فيه الأمر بإخراج الصاع من التمر أو الشعير ، والقاعدة في الأصول :[ أنه يجب حمل المطلق على المقيد عند التعارض إذا اتحدا في الحكم والسبب ] ، وهذا هو الحال هنا .
قال ابن قدامة في المغني ( 4 / 293 ) : " والإغناء يحصل بالإخراج من المنصوص عليه ، فلا منافاة بين الخبرين لكونهما جميعا يدلان على وجوب الإغناء بأداء أحد الأجناس المفروضة " .
أما القياس فيجاب عنه من وجوه :
- أن هذا القياس غير منصوص على علته ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ أن القياس غير المنصوص على علته ليس بحجة في إثبات الأحكام ].
- أن هذا القياسَ فاسدُ الاعتبار ، إذ هو معارِضٌ لحديث ابن عمرt: " فرض رسول الله r زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير... " ، والقاعدة في الأصول : [ أن فساد الاعتبار قادحٌ في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ إذا تعارض النص والقياس قدم النص ] .
- أن هذا القياسَ قياسٌ بعلة تعود على الأصل بالإبطال ، وجه ذلك : أن تعليل وجوب التمر والشعير ... بكونه غالب القوت ، مجوز لإخراج غيرها ، ومفضٍ إلى عدم وجوبها على التعيين ، والقاعدة في الأصول : [ لا يجوز التعليل بعلة تعود على الأصل بالإبطال ] ، وقد حكي الاتفاق على ذلك .
[ انظر : تيسير التحرير ( 4 / 31 ) ، مختصر ابن الحاجب ( 2 / 228 ) ، البدر الطالع ( 2 / 208 ) ، شرح الكوكب ( 4 / 80 ) ] .
- أنه لا يسلم بوجود وصف الإقتيات في الزبيب والأقط بالنسبة لأهل المدينة ، وقد ورد في الحديث ذكرهما منسوقا بـ أو الدالة على التخيير ، والقاعدة في الأصول : [ أن عدم وجود الوصف في الأصل قادح في صحة القياس ] . ( قادح منع وجود الوصف في الفرع ) .
قال ابن قدامة في المغني ( 4 / 295 ) : " ويدل على ما ذكرنا أنه خيّر بين التمر والزبيب والأقط ، ولم يكن الزبيب والأقط قوتا لأهل المدينة ، فدل على أنه لا يعتبر أن يكون قوتا للمخرج " .
- أنهم لا يقولون بجواز إخراج الخبز في الفطرة [ انظر : الذخيرة للقرافي ( 3 / 170 )] مع أنه من غالب قوتهم ، وهذا ما يسمى بقادح النقض ، والقاعدة في الأصول : [ أن النقض قادح في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ لا يصح القياس على العلة المنقوضة ] .
[ انظر : المحلى لابن حزم ( 6 / 119 ) ] .
وقد يناقش هذا : بأنهم يعتبرون وصفا آخر مع كونه غالب القوت ، وهو كونه مدخراً ، وعليه فالعلة مركبة لا بسيطة ، والخبز ليس مما يدخر .
[ انظر : الذخيرة للقرافي ( 3 / 169 ) ] .
القول الثالث : يجب إخراجها من المعشر ، وكذا الأقط في الأظهر ، وفي معناه اللبن والجبن ، وهذا مذهب الشافعية .
[ انظر : مغني المحتاج للخطيب الشربيني ( 2 / 117 ) ] .
* المعشر : ما يجب فيه العشر أو نصفه ، وضابطه عندهم : كل مدخر مقتات .
[ انظر : المجموع للنووي ( 5 / 438 ) ] .
* اختلف الشافعية في الأقط على قولين ، الأول: يجزئ ؛ لحديث أبي سعيد في الصحيحين ، والثاني : لا يجزئ ؛ لأنه من غير المعشرات .
[ انظر : مغني المحتاج ( 2 / 117 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
أولا : الدليل على جواز إخراج التمر والشعير والزبيب :
- ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر t وأبي سعيد t ، وتقدم تقرير الاستدلال بهما ، ومناقشة ما هو محل للمناقشة .
ثانيا : الدليل على جواز إخراج غير التمر والشعير والزبيب من المعشرات :
- القياس : أي قياس غير المنصوص عليه من المعشرات على المنصوص عليه بجامع الاقتيات في كل ، والقاعدة في الأصول : [ أن القياس حجة في إثبات الأحكام ] .
ثالثا : الدليل على جواز إخراج الأقط على قول بجواز إخراجه :
- ما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد t ، وتقدم تقرير وجه الاستدلال به ، والجواب عنه .
رابعا : الدليل على جواز إخراج اللبن والجبن على القول بجواز إخراجهما :
- إلحاق اللبن والجبن بالأقط المنصوص عليه من باب أولى لأنهما أكمل منه ، [ انظر : المجموع للنووي ( 6 / 130 ) ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن الإلحاق الأولوي حجة في إثبات الأحكام ] .
مناقشة أدلة الشافعية :
الجواب عن دليل الفقرة أولا تقدم ، فحديث أبي سعيد ليس مسنداً ، إذ لا دليل فيه على أن النبي r قد علم به .
الجواب عن دليل الفقرة ثانيا من وجوه :
- أن هذا القياس غير منصوص على علته ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ أن القياس غير المنصوص على علته ليس بحجة في إثبات الأحكام ].
- أن هذا القياسَ فاسدُ الاعتبار ، إذ هو معارِضٌ لحديث ابن عمر t : " فرض رسول الله r زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير... " ، والقاعدة في الأصول : [ أن فساد الاعتبار قادحٌ في صحة القياس ] ، وبعبارة أخرى : [ إذا تعارض النص والقياس قدم النص ] .
- أنه لا يسلم بوجود وصف الإقتيات في الزبيب والأقط بالنسبة لأهل المدينة ، وقد ورد في الحديث ذكرهما منسوقا بـ أو الدالة على التخيير ، والقاعدة في الأصول : [ أن عدم وجود الوصف في الأصل قادح في صحة القياس ] . ( قادح منع وجود الوصف في الفرع ) .
الجواب عن دليل الفقرة ثالثا تقدم تقريره ، وسبق أن للشافعية قول بعدم جواز إخراجه ، قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله في سياق ذكره لمخالفة الطوائف لحديث أبي سعيد t ( 6 / 126 ) : " وأما الشافعي فأشهر أقواله أن الأقط لا يجزئ ، وأجاز إخراج ما منعت هذه الأخبار من إخراجه ، مما لم يذكر فيها من الذرة وغير ذلك " .
الجواب عن دليل الفقرة رابعا أن هذا الإلحاق ممنوع لوجود الفارق المؤثر ، وهو عدم الإدخار ، ويقتضي هذا نقض علة القياس وهي الإدخار والإقتيات ، والقاعدة في الأصول : [ لا يصح القياس على العلة المنقوضة ] .
القول الرابع : يجب إخراجها من التمر أو الشعير أو الزبيب أو الأقط أو البر ، ولا يجوز إخراجها من غيرها إلا إذا تعذر إخراجها فيدفع مما يقوم مقامها ، وهذا مذهب الحنابلة .
[ انظر : المغني لابن قدامة ( 4 / 292 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
أولا : الدليل على وجوب إخراجها من التمر ، أوالشعير ، أوالأقط ، أو الزبيب ، أو البر :
- ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله عنهما ، وتقدم تقرير الاستدلال بهما ، ومناقشة ما هو محل للمناقشة .
ثانيا : الدليل على عدم جواز إخراج غيرها مع التمكن من إخراجها :
- ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر t ، قال : " فرض رسول الله r زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير" .
وقد تقدم تقرير وجه الاستدلال به .
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني ( 4 / 293 ) : " وذلك لأن ذكر الأجناس بعد ذكر الفرض تفسير للمفروض ، فما أضيف إلى المفسر يتعلق بالتفسير ، فتكون هذه الأجناس مفروضة ، فيتعين الإخراج منها " .
- القياس : أي قياس صدقة الفطر على زكاة المال بجامع أنها قربة مالية ، والحكم عدم جواز إخراجها من غير جنسها المحدد شرعا .
[ انظر : المغني ( 4 / 293 ) ] .
مناقشة أدلة الحنابلة :
تقدم الجواب عن حديث أبي سعيد الخدري t وأنه ليس بمسند ، وتقدم أنه لا دليل على أن المراد بلفظ الطعام الوارد فيه هو البر ، وعليه فلا يستقيم تقرير الحنابلة في إثبات جواز غير التمر والشعير .
أما الجواب عن الفقرة ثانيا فيقال فيه : ليس في حديث ابن عمر t ذكر لسائر الأصناف التي قالوا بجوازها بل غاية ما فيه وجوب إخراج التمر أو الشعير فقط .
أما القياس الذي استندوا إليه فيجاب عنه من وجوه :
- أنه قياس بعلة غير منصوصة ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ أن القياس بالعلة غير المنصوصة ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
- أنه قياس شبه ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ أن قياس الشبه ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
تنبيه : لا دليل للحنابلة في القول بجواز إخراج غير المنصوص عند تعذر المنصوص ، والأدلة التي استدلوا بها على عدم جواز إخراج غير المنصوص مع التمكن ترد عليهم في هذه الحال .
القول الخامس : يجب إخراجها من التمر أو الشعير ، ولا يجوز إخراجها من غيرهما ، وهذا مذهب الظاهرية .
[ انظر : المحلى لابن حزم ( 6 / 118 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
- بما جاء في الصحيح من حديث ابن عمر t ، قال : " أمر رسول الله r بزكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير" .
وجه الاستدلال بالحديث من قوله : " أمر " ، فهذا أمر من النبي r بإخراج صاع من تمر أو صاع من شعير ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر المطلق للوجوب ] ، وعليه فيجب في الفطرة إخراج صاع من تمر أو صاع من شعير على التخيير ( واجب مخير ) ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي المطلق للتحريم ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ] ، وعليه فيحرم إخراج غير التمر والشعير ولا يجزئ .
وفي البخاري ( 1511) عن نافع رحمه الله قال : " كان ابن عمر t يعطي التمر ، فأعوز أهل المدينة من التمر ، فأعطى شعيرا " .
مناقشة أدلة الظاهرية :
أجيب عن الاستدلال بحديث ابن عمر t بأن حديث أبي سعيد الخدري t جاء عند النسائي ( 2511 ) في السنن بلفظ : " فرض رسول الله r صدقة الفطر صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من أقط " ، وهذا يدل على عدم الاقتصار على التمر والشعير .
ورد من وجهين :
الأول : أن هذا الحديث ليس بثابت في إسناده : الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب الدوسي ، وهو ضعيف ،والقاعدة في الأصول : [ أن ضعف الراوي يقتضي رد خبره ].
الثاني : أنه ليس فيه إلا الأقط لا سائر ما يجيزون .
[ لنظر : المحلى لابن حزم ( 6 / 120 ) ] .
ونوقش الرد : بأن الحارث بن عبد الرحمن ثقة ، قال أبو زرعة : ليس به بأس ، [ انظر : تهذيب التهذيب ( 1 / 333 ) ] ، وهذا ضرب من التوثيق ، قال السخاوي في فتح المغيث ( 1 / 341 ) : " ونحوه قول أبي زرعة الدمشقي : قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم - يعني الذي كان في أهل الشام كأبي حاتم في أهل المشرق - ما تقول في علي بن حوشب الفزاري ، قال لا بأس به ، قال: فقلت، ولم لا تقول ثقة ، ولا نعلم إلا خيراً ، قال: قد قلت لك إنه ثقة " .
وأما قول أبي حاتم : يروي عنه الدراوردي أحاديث منكرة ، ليس بالقوي [ تهذيب التهذيب ( 1 / 333 )] فإنه ليس بقادح في روايته ، لأن الحمل في الأحاديث المنكرة قد يكون على الدراوردي ، ثم إن أبا حاتم لم يبين وجه النكارة ، وعليه فهو من الجرح غير المفسر ، والقاعدة في الأصول : [ أن التعديل مقدم على الجرح غير المفسر عند التعارض ] ، وقوله ليس بالقوي ليس من الجرح كما قرره غير واحد من أهل الحديث ، قال الذهبي رحمه الله في الموقظة ( ص 82 ) : " وقد قيل في جَمَاعاتٍ : ليس بالقويِّ ، واحتُجَّ به . وهذا النَّسائيُّ قد قال في عِدَّةٍ : ليس بالقويّ ، ويُخرِجُ لهم في (( كتابه )) ، قال : قولُنا : ( ليس بالقوي ) ليس بجَرْحٍ مُفْسِد ... وبالاستقراءِ إذا قال أبو حاتم : ( ليس بالقوي ) ، يُريد بها : أنَّ هذا الشيخ لم يَبلُغ درَجَة القويِّ الثَّبْت " .
قلت : وعليه فيشرع إخراج الأقط في زكاة الفطر ، لورود الأمر به في هذا الخبر .
( فائدة حديثية )
الحديث عند النسائي في إسناده محرز بن الوضاح المروزي قال عنه الحافظ في التقريب ( ص : 924 ) : مقبول ، ومن المعلوم أن الحافظ يقصد بذلك حيث توبع ، وإلا فلين الحديث كما بين ذلك في المقدمة ( ص 81 ) ، وفي حكمه عليه بأنه مقبول نظر ، والصواب أنه ثقة ، قال محمود بن غيلان المروزي : حدثنا محرز بن الوضاح وكان ثقة ، وقال مصعب بن بشير : حدثنا محرز ، وكان جارنا في السوق ، وكان ما علمته صدوقا .
[ انظر : تهذيب التهذيب ( 4 / 33 ) ] .
وأجيب عن دليل الظاهرية أيضا : بأنه قد جاء عند أبي داود في السنن ( 1619 ) عن ثعلبة بن أبي صعير : قال رسول الله r : " صاع من بر ، أو قمح على كل اثنين صغير أو كبير ، حر أو عبد ، ذكر أو أنثى ، أما غنيكم فيزكيه الله ، وأما فقيركم ، فيرد الله تعالى عليه أكثر مما أعطى " .
ففي هذا دليل على جواز إخراجها من غير التمر والشعير .
ورد هذا من وجهين :
الأول : أن هذا الحديث ليس بثابت في إسناده : النعمان بن راشد الجزري ، وهو سيء الحفظ ، والقاعدة في الأصول : [ أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره ].
[ انظر : تهذيب التهذيب ( 4 / 230 ) ] .
الثاني : أنه ليس فيه إلا البر لا سائر ما يجيزون ، وجاء عند الدارقطني في السنن ( 2 / 129 ) بلفظ : " صاعا من بر أو قمح " ، والحنفية يقولون بإجزاء نصف الصاع من البر .
وأجيب عن دليل الظاهرية أيضا : بأنه قد جاء عند أبي داود في السنن ( 1620 ) عن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله عن النبي r : " أنه أمر بصدقة الفطر صاع تمر ، أو صاع شعير ، عن كل رأس ، أو صاع بر ، أو قمح بين اثنين " .
ورد هذا بأنه من رواية عبد الله بن ثعلبة عن النبي r ، ولم يسمع منه فيكون مرسلا [ تهذيب التهذيب ( 2 / 311 ) ]، والقاعد في الأصول : [ أن المرسل ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض الأقوال في المسألة ، وأدلة كل قول ، أن الراجح في المسألة القول بأن الفطرة واجبة وجوبا مخيرا من ثلاثة أصناف فقط ، وهي : التمر , أو الشعير ، أو الأقط ، والله أعلم .


.............................. .............................. ....................

مسـ(11)ـألة : ما يجب إخراجه فيها قدرا :
تحت هذه المسألة فروع :
الفرع الأول : مقدار ما يجب إخراجه بالصاع :
يجب إخراج زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط ، ولا يجوز إخراج أقل من الصاع ، ودليل ذلك حديثا ابن عمر وأبي سعيد رضي الله عنهما حيث جاءا بصيغة الأمر ، والقاعدة في الأصـول : [ أن الأمر المطلق للوجوب ] ،والقاعدة في الأصـول : [ أن الأمر بالشـيء نهي عن ضده ] .
الفرع الثاني : إخراج الصاع من مجموع أجناس :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : لا يجوز إخراج الصاع من مجموع أجناس ، وهذا مذهب الشافعية ، الظاهرية .
[ انظر : الحاوي للماوردي ( 3 / 386 ) ، المحلى لابن حزم ( 6 / 137 ) ] .
استدلوا على ذلك بما يلي :
- ما جاء في الصحيح عن ابن عمر t قال : " أمر رسول الله r بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير ... " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " أمر " ، فهذا أمر من النبي r بإخراج صاع كامل من تمر أو صاع كامل من شعير ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر المطلق للوجوب ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن النهي المطلق للتحريم ] ، وعليه يحرم إخراج صاع من مجموع أجناس .
القول الثاني : أنه يجوز إخراج الصاع من مجموع أجناس ، وهذا مذهب الحنفية ، والحنابلة .
[ انظر : رد المحتار لابن عابدين ( 2 / 400 ) ، شرح المنتهى للبهوتي ( 1 / 442 ) ] .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
- القياس على فطرة العبد المشترك فإنه يجوز أن تكون من أجناس متعددة ، فكذلك غيرها .
وأجيب : لا يسلم بأن فطرة العبد يجوز إخراجها من أجناس ، منع حكم الأصل ، بل يجب أن تكون من جنس واحد لظاهر الخبر .
ثم إنه قياس في مقابلة نص ، فهو فاسد الاعتبار ، والقاعدة في الأصول : [ أن النص مقدم على القياس عند التعارض ] .
الترجيح :
تبين لي بعد عرض القولين وأدلتها أن الراجح في المسألة القول الأول لسلامة دليله من المناقشة .
الفرع الثالث : إخراج الزيادة على الصاع :
ذهب بعض المالكية إلى أن إخراج الزيادة عن الصاع بدعة مطلقا [ الشرح الكبير للدردير ( 1 / 508 ) ] ، والتحقيق أن إخراج أكثر من الصاع في الفطرة لا يخلو من حالين :
- أن يقصد التطوع بالزيادة فهذا جائز ، بل مستحب ، إذ هي ضرب من الصدقة.
- أن يقصد أن الزيادة من الفطرة فهذا غير جائز ، بدعة محدثة ، وفي الصحيح مرفوعا : " كل بدعة ضلالة " .


.............................. .............................. ...................

مسـ(12)ـألة :مصرفها :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :أنها تدفع للأصناف الثمانية الذين تدفع لهم زكاة المال ، وهذا مذهب الشافعية ، والحنابلة ، والظاهرية .
[ انظر : المجموع للنووي ( 6 / 185 ) ، المغني ( 4 / 314 ) ، المحلى لابن حزم ( 6 / 143 ) ] .
استدلوا بما يلي :
1 – قوله تعالى : ) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( .
وجه لاستدلال بالآية : من قوله : " الصدقات " ، فهذا جمع محلى بـ أل الجنسية ، والقاعدة في الأصول : [ أن أل الجنسية تفيد عموم مدخولها ] ، وعليه فالآية تشمل صدقة الفطر .
وأجيب : بأن أل في الآية للعهد ، والمراد صدقة الأموال ، والدليل على ذلك سياق الآيات فقبلها قوله تعالى : ) وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ، وهي هنا صدقات الأموال دون صدقات الأبدان باتفاق المسلمين .
[ انظر : مجموع الفتاوى ( 25 / 76 ) ] .
ونوقـش : بأن الأصل أن أل للعموم وحملها على العهد على خلاف الظاهر ، والقاعدة في الأصـول : [ يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل ] ، وما ذكر من السياق لا يقوى على صرف الظاهر ، إذ لا تعارض بينهما ، فلا مانع من حمل الآية على العموم .
2 - ما أخرجه أبو داود في السنن ( 1630 ) عن زياد بن الحارث الصُدائي قال : أتيت رسول الله r فبايعته ، فذكر حديثا طويلا قال :فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له رسول الله r : " إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " .
وجه الاستدلال : يقال فيه مثل ما قيل في الآية .
وأجيب عنه : بأنه حديث ضعيف في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف ، سيء الحفظ [ تهذيب التهذيب ( 2 / 506 ) ] ، والقاعدة في الأصول : [ أن سوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره ] .
3 – القياس : أن صدقة الفطر زكاة فأشبهت زكاة المال .
وأجيب عنه : بأنه قياس شبه ، والقاعدة في الأصول : [ أن قياس الشبه ليس بحجة في إثبات الأحكام ] .
القول الثاني : أنها تدفع للفقراء والمساكين دون غيرهم ، وهذا مذهب الحنفية ، والمالكية .
[ انظر : المبسوط للسرخسي ( 3 / 107 ) ، مواهب الجليل للحطاب ( 3 / 272 ) ] .
1 - ما أخرجه أبو داود ( 1609 ) وابن ماجه ( 1827 ) عن ابن عباس ، قال : " فرض رسول الله r زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة ، فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة ، فهي صدقة من الصدقات " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " فرض ... طعمة للمساكين " ، فالنبي r فرض إخراجها للمساكين ، والقاعدة في الأصول : [ أن لفظ الفرض يفيد الوجوب ] ، وهذا الحديث خاص والآية عامة ، والقاعدة في الأصول : [ إذا تعارض العام والخاص قدم الخاص ].
وأجيب : بأن الحديث لا ينفي دفعها لغير المساكين ، والقاعدة في الأصول : [ أن ورود الخاص بحكم لا يخالف العام لا يقتضي التخصيص ] .
وفيه بحث تخصيص العام بالمفهوم اللقبي ، والقاعدة في الأصول على الصحيح : [ لا يجوز تخصيص العام بالمفهوم اللقبي ] .
2 - ما أخرجه ابن عدي في الكامل ( 7 / 55 ) ، والدارقطني في السنن ( 2 / 152) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول r قال : "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " .
وجه الاستدلال بالحديث : من قوله : " أغنوهم " ، والضمير في قوله أغنوهم يعود إلى الفقراء ، فهذا أمر منه r بدفعها إلى الفقراء ، والقاعدة في الأصول : [ أن الأمر المطلق للوجوب ] ، فيجب دفها لهم ليتحقق الامتثال .
وأجيب : بأن هذا الحديث ضعيف في إسناده أبو معشر سيء الحفظ ، والقاعدة في الأصول : [ أن سوء حفظ الراوي يقتضـي رد خبره ] ، وعلى فرض ثبوته فإن غاية ما فيه أنه يجب دفعها للفقراء ، وهذا لا ينفي جواز دفعها لغيرهم على ما تقدم في الجواب عن حديث ابن عباس t.
الترجيح :
تبين لي بعد عرض الأقوال في المسألة ، وأدلة كل قول ، أن الراجح في المسألة القول الأول ، وذلك لسلامة بعض أدلته من المناقشة ، وعدم سلامة أدلة الأقوال الأخرى .


.............................. .............................. ....................


كتبه / جلال بن علي حمدان السلمي


مكة المكرمة



19 / 9 / 1431 هـ

أبو همام السعدي
2010-09-14, 11:47 PM
ما شاء الله تبارك الله .... ما أجمل كلام الشيخ -جزاه الله خيرا- وما أجمل مناقشته للأدلة . وعرضها على القواعد الأصولية.

مقال نافع جزيت خيرا أخي " الوبراني " .

أبو الهمام البرقاوي
2010-09-14, 11:54 PM
أصولي نحرير حفظه الله وأطال عمره

أبو أنس الشامي
2010-09-14, 11:59 PM
فعلا بحثٌ متعوب عليه ، ويظهر في كاتبه حفظه الله الدقه والمنهجية في البحث زاده الله علما ...
وجزاك الله خيرا أخي على النقل الموفق ...
وكذا من بعث لي بالرابط ..

الأمين
2010-09-15, 12:20 AM
جزيت خيرا أيها الناقل ، ولو أرفقت البحث في ملف " وورد " بهذا التنسيق و التريب واللون، فهو نافع ، وبحوث الشيخ جلال بمثابة تمرينٍ منشطٍ لعضلات الأصول في أدمغة طلبة العلم . وفق الله الجميع و رزقنا الإخلاص والقبول في القول والعمل .

معاذ احسان العتيبي
2010-09-15, 03:28 PM
جزيت خيرا أيها الناقل ، ولو أرفقت البحث في ملف " وورد " بهذا التنسيق و التريب واللون، فهو نافع ، وبحوث الشيخ جلال بمثابة تمرينٍ منشطٍ لعضلات الأصول في أدمغة طلبة العلم . وفق الله الجميع و رزقنا الإخلاص والقبول في القول والعمل .

صدقتَ , وليتَ يُفعلُ ما طلبتَ , وفي كل ما كتب الشيخ وسطر .

حنفى شعبان
2010-09-15, 09:59 PM
هل للاخ الكريم أبحاث على نفس هذا النفس العاطر الزكى ؟(جزيت كل الخير)

الوبراني
2011-08-14, 10:12 PM
نعم له كتاب تطبيقات أصولية ، وهو موجود على موقع صيد الفوائد على شكل وورد ، يمكن تحميله من هناك . وله مقالات أخرى موجودة على الشبكة ستجمع إن شاء الله تعالى تحت عنوان : تطبيقات أصولية ( الجزء الثاني ) .

الوبراني
2011-08-20, 03:41 PM
للرفع والنفع .