أبو ناصر المدني
2010-04-02, 02:33 PM
مقدمات في دراسة
مقدمات في دراسة الفقه
المقدمة الأولى
أن فهم السلف حجة في الشريعة كلها في باب الاعتقاد والسلوك أي التعبد والمعاملات والفقه كما قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } , قوله : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } , عام في اتباع غير سبيلهم في الاعتقاد والفقه وغير ذلك من الدين .
وقوله تعالى :{ فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به فقد اهتدوا } , عامٌ في كل ما يؤمَنُ به مما جاء اللهبه في الاعتقاد والفقه وغير ذلك من الدين .
_ ويتفرع عن هذا عدة أمور :-
الأمر الأول: -حجية الإجماع, لأن معنى الإجماع هو :" اتفاق فقهاء الإسلام على حكم شرعي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ". وأول من يدخل في فقهاء الإسلام: السلف والتابعين لهم بإحسان , وسيأتي الكلام على الإجماع.
الأمر الثاني: -أن أقوال الصحابة حجة بشروطه كما سيأتي فإن أول من يدخل في قوله :{ ويتبع غير سبيل المؤمنين }الصحابة.
الأمر الثالث: - عدم جواز إحداث قول جديد في الدين, ومن ذلك الفقه وهذا الإحداث له صور ثلاثة: -
الصورة الأولى: -أن يأتي بقول جديد لم يُسَبق إليه.
الصورة الثانية: -أن يختلف العلماء على قولين فيحدث قولاً ثالثاً.
الصورة الثالثة: -أن يختلف العلماء على قولين فيأتي بقول ثالث ملفَّق لا يرفع القولينجميعاً بل يأخذ من كل قولٍ جزءاً.
كل هذه الصور الثلاثة داخلة في إحداث قول جديد .
المقدمة الثانية
حجية الإجماع
الأدلة كثيرة على حجية الإجماع :
_ من ذلك قوله تعالى : {ويتبع غير سبيل المؤمنين } , وجه الدلالة من الآية أن الله علَّق الذم على مخالفة سبيل المؤمنين فدل هذا على وجوب اتباع سبيلهم وهو الإجماع , وذلك أنه إذا لم يعرف في المسألة إلا قول واحد لأهل العلم من الصحابة ومن بعدهم فهذا هو سبيل المؤمنين .
_ الدليل الثاني قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} , وجه الدلالة : أن العلماء إذا لم يتنازعوا فهو حجة يجب العمل بها , بخلاف ما إذا اختلفوا فإنهم يبحثون عن الدليل .
_ مسألة:الإجماع حجة متى ما وقع , سواء وقع بعد خلاف أو كان الخلاف بعده , لأن الأدلة ذكرت حجية الإجماع ولم تفرق بين إجماع قبله خلاف أو إجماع بعده خلاف.
_ مسألة:الإجماع نوعان :
النوع الأول :إجماع قطعي .
النوع الثاني :إجماع ظني .
_ أما الإجماع القطعي فهو : ما كان مبنياً على نص , كقوله تعالى :{ وأقيموا الصلاة } ,فأجمع العلماء على وجوب الصلاة .
_ أما الإجماع الظني فهو : الإجماع القائم على الاستقراء والتتبع , فإذا استقرأ عالمٌ مسألةً فحكى إجماعاً وكان العالم واسع الإطلاع فإن الأصل صحة ما حكاه من الإجماع , وهذا هو المسمى بالإجماع الظني أي هو إجماع من باب الظن الغالب , والظن الغالب حجة في الشريعة في باب الاعتقاد والفقه خلافاً للمتكلمين في باب الاعتقاد .
_ مسألة : -إذا حكى عالم صاحب استقراء _ كابن المنذر وابن قدامة والنووي ومن باب أولى كالإمام أحمد _ إجماعاً فالأصل قبول إجماعه حتى يتبين خرمه , ثم إذا وقفت على عالم خالف فلا تتعجل في زعم الإجماع مخروماً لأنه قد يكون بعد انعقاد الإجماع .
كمثلقول داود الظاهري ومن تبعه بجواز مس القران لمن عليه حدث أصغر , فإن أول من خالف وقال بجواز مس القران لمن عليه حدث أصغر هو : داود الظاهري . كما أفاده ابن قدامة , فعليه خلاف داود بعد إجماع فلا يعتد به .
_ ولابد أيضاً من النظر فيمن خالف الإجماع فقد يكون الإجماع منعقداً بعد خلاف .
كما اختلف التابعون في الخروج على السلطان الفاسق ثم انعقد الإجماع كما أفاده النووي والقاضي عياض وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر .
ومن أمثلة ذلك :
_ جماع الرجل زوجته من غير إنزال , كان فيه خلاف كما أشار للخلاف البخاري في ( صحيحه ) ثم انعقد الإجماع كما يدل عليه كلام ابن المنذر .
_ مسألة :-إن لدليل الإجماع مزية على بقية الأدلة وهذه المزية أنه لا يكون إلا " قطعي الدلالة " ونصَّ على ذلك الغزالي في ( المستصفى ) , لذلك مسائل الاعتقاد التي لم يختلف فيها أهل السنة قطعية في دلالتها ومن ها هنا لم يسُغ الخلاف فيها .
_ مسألة :-ما من إجماع إلا وهو مستند إلى نص ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شاذة كما قاله الآمدي , لكن لا يشترط في الاحتجاج بالإجماع أن يعرف مستنده وإنما يكفي ثبوت الإجماع فإن عرفنا مستنده كان أكمل .
_ مسألة : -أول من خالف في حجية الإجماع هو النظام المعتزلي وتبعه من تبعه , كما أفاده ابن قدامة في ( روضة الناظر ) وابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) , وقد أخطأ خطأً كبيراً من ظن أن الإمام أحمد إمام أهل السنة لا يرى حجية الإجماع وذلك أنه رحمه الله تعالى قد حكى الإجماع في مسائل كثيرة :
_ كما حكى الإجماع على أن الدم نجس .
_ وحكى الإجماع على أن أطفال المؤمنين في الجنة .
_ وحكى الإجماع على أن الميت ينتفع ببعض أعمال الحي .
_ وحكى الإجماع على أن الاعتكاف سنة . الخ
فإن قيل على ماذا توجه كلمة الإمام أحمد لما قال : " من ادعى الإجماع فهو كاذب " فيقال : أحسن ما يحمل عليه , ما ذكره بعض الحنابلة من أن هذا محمول على من ليس أهلاً لحكاية الإجماع فتعجَّلَ وحكى الإجماع , وهذا ظاهر كلام ابن القيم في ( أعلام الموقعين ) وهو أحد توجيهات أبي يعلى في كتاب ( العدة ) .
المقدمة الثالثة
مذهب الصحابي حجة وكل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على حجية مذهب الصحابي إذ القول بحجية مذهب الصحابي مشروط بشرطين : -
الشرط الأول :-أن لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة .
الشرط الثاني :-أن لا يخالفه صحابي آخر .
وهذان الشرطان مجمع عليهما .
فإذا لم يخالف الصحابي صحابياً آخر فإن قوله يكون حجة لأنه صورة من صور الإجماع , وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه ( أعلام الموقعين ) ستة وأربعين دليلاً على حجية قول الصحابي .
_ مسألة : -كثيراً ما يشكل هل هذا القول مخالف للنص أم ليس مخالفاً له وإنما من باب بيان النص كتخصيص العام وتقييد المطلق وتبيين المجمل .
والضابط في التفريق بين المخالفة التي ليست من باب البيان والمخالفة والتي هي من باب بيان النص وتفسيره هو: أن ينظر هل خالف هذا الصحابي صحابي آخر أو لا ؟
فإن لم يخالفه صحابي آخر فهذا من باب تفسير النص وبيانه , كأن يكون تخصيصاً لعام أو تقييداً لمطلق أو تبييناً لمجمل أفاد هذا الضابط ابن القيم – رحمه الله – في كتابه ( أعلام الموقعين ) واستدل على هذا الضابط بقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} , وجه الدلالة : أنه لو كان قول الصحابي مخالفاً للنص من كل وجه لكان تعبداً لله بخلاف ما يريد الله وهذا منكر من هذا الوجه فلابد أن يوجد من ينكر عليه من الصحابة ومحال أن يُنقل القول المنكر دون القول المعروف .
أمثلة :-
وعلى هذا التأصيل أمثلة كثيرة :-
المثال الأول : -ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام , صام عنه وليه " وثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه خصصه بصيام النذر وعموم النص يقتضي أن يكون لكل صيام , لكن لمّا أفتى ابن عباس بأنه في صيام النذر صار خاصاً به وهذا من تخصيص الصحابي للنص العام .
المثال الثاني : -قال الله عز وجل: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }, ظاهر هذه الآية أنه يقضي فقط من غير إطعام لو أخَّر القضاء إلى رمضان الذي بعده , وقد ذهب جمع منالصحابة إلى أنه إذا أخره إلى رمضان الذي بعده فإنه يطعم , ثبت هذا عن أبي هريرة وغيره .
المثال الثالث : -ظاهر الآية السابقة أنه لا يفرق بين المفرِّط ولا غير المفرِّط فمن أخَّر القضاء إلى رمضان الآخر , وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه فرَّق بينهما , وفي كلا هذين المثالين أي الثاني والثالث قول الصحابي خصص العام .
المثال الرابع : -استحبت الشريعة صيام التطوع كيوم الاثنين والخميس ويوم عاشوراء وعرفة , وظاهر النصوص لم تشترط أن لا يكون بقي عليه شيء من الفرض , وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه كما عند عبد الرزاق أنه قال : " إبدأ بما فرض الله " , فعليه لا يصح أن يصوم نفلاً وعليه فرض لم يقضِه .
المثال الخامس :-بيَّن القران والسنة نواقض الوضوء , ومما لم يذكر في القران والسنة : أن خروج الدم الكثير وكذا القيء الكثير ناقض , لكن أفتى بذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن عمر رضي الله عنهما وغيره .
المثال السادس : -بينت الأدلة من الكتاب والسنة نواقض الوضوء , ولم تذكر من نواقض الوضوء تغسيل الميت , وقد ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما عند عبد الرزاق أنه أوجب الوضوء على من غسَّل الميت .قال ابن قدامة في المغني: ليس له مخالف .
المثال السابع : -ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر المواقيت الأربعة قال : " هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحج أو العمرة " مفهوم المخالفة من هذا النص أن من أراد دخول الحرم ولم يُرِد الحج أو العمرة فإنه يدخل حلالاً من غير إحرام , لكن ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما عند الشافعي وغيره : أنه كان يَرُدّ من أراد أن يدخل الحرم ولو كان حلالاً غير مُحرِم . قال ابن تيمية في " شرح العمدة " : " وليس لابن عباس مخالف "
فعلى هذا يقال: إنه ليس للحديث مفهوم مخالفة لأمرين:
الأمر الأول :-أن هذا المفهوم خرج مخرج الغالب وقد أجمع العلماء على أن ما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كما ذكر شيخ الإسلام .
الأمر الثاني :-أن هذا المفهوم في حديث ابن عباس مخالف للمنطوق من قول ابن عباس , وإذا عارض المنطوق المفهوم قُدِّم المنطوق .
المثال الثامن :-ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء " ظاهر هذا النص أنه للتحريم لكن ثبت عند ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب رضي الله عنه : أنه استيقظ من النوم فغمس يده في موضئته قبل أن يغسلها . فدل هذا على أن النهي ليس للتحريم .
المثال التاسع :-أجمع العلماء على أن استقبال القبلة بالبدن شرط لصحة الصلاة قال تعالى: { فول وجهك شطر المسجد الحرام }, وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " الحديث , دلت الآية والحديث على أن من لم يستقبل القبلة ببدنه ولو قليلاً تبطل صلاته , وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أرعف في الصلاة ثم خرج وتوضأ ثم رجع وبنى على صلاته ولم يتكلم . قال الطحاوي : " وليس لابن عمر مخالف ". وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية.
_ مسألة :-ولقائل أن يقول إننا إذا جعلنا قول الصحابي حجة فقد جعلناه بمنزلة الكتاب والسنة أي أنه مصدر معصوم , ولازم هذا أنه لا يخطئ , وقد تقرر أن الصحابي قد يخالفه صحابي آخر فيكون أحدهما مخطئاً ولو كان الصحابي معصوماً لما قال قولاً مخالفاً للحق ولما اختلف الصحابة , وهذا من أقوى ما تمسك به القائلون بأن قول الصحابي ليس حجة وكثير منهم من المتكلمين .
والجواب على هذا أن يقال : إن القول بحجية مذهب الصحابي ليس معناه أنهم حجة لذاته فليس قول الصحابي حجة لذاته وإنما لما انضاف إليه من أن قوله الذي لم يخالفه فيه صحابي آخر هو صورة من صور نقل إجماعهم فرجعت الحجية إلى إجماعهم لا إلى ذواتهم وأفرادهم . أفاد هذا الإمام ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين " وهو رد على ابن حزم وعلى بعض المتكلمين كالغزالي .
تنبيه :-حجية قول الصحابي من باب الظن الغالب ويتفاوت في درجة هذا الظن الغالب لكن أقله أقل الظن الغالب وقد يصل إلى درجة القطع بحسب القرائن .
مسألة :-إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين أو أكثر فنرجح بين أقوالهم بأن نأخذ الأشبه بالكتاب والسنة والقياس الصحيح فإن الحق في أحد أقوالهم ولا يتعداهم إلى غيرهم . ذكر هذا الشافعي والإمام أحمد , مع التنبه إلى أن الخلاف بينهم قليل فالأصل في أقوالهم أنها غير مختلفة لذا إذا استطعت أن تجمع بين أقوالهم بأن لا يكون بينهم خلاف هو أولى من إثبات الخلاف بينهم . أفاد هذا ابن تيمية في " شرح العمدة " وأشار إليه ابن قدامة في : " المغني " .
أمثلة على اختلاف الصحابي:
المثال الأول :اختلف الصحابة في زكاة الحلي المستعمل من الذهب والفضة فذهب خمسة من الصحابة إلى أنه لا زكاة في الحلي المستعمل كعائشة وأسماء وأنس وجابر وابن عمر وخالف اثنان من الصحابة وهما عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعاً فلابد من الترجيح بين هذين القولين .
_ والأشبه بالكتاب والسنة – والله أعلم – هو قول الخمسة , وذلك أن هدي الشريعة وطريقتها : أن ما أُعِدَّ للاستعمال والقُنْية لا زكاة فيه كدابَّة الرجل ومنزله وهكذا , وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة " , والحلي المستعمل هو من جنس ما اتخذ للقنية فعليه لا يزكى .
المثال الثاني :-اختلف الصحابة في صلاة الرواتب في السفر على قولين :
القول الأول :تصلى الرواتب مطلقاً سواء راتبة الليل أو النهار , وهذا قول جماهير الصحابة كابن عباس وغيره.
القول الثاني :تصلى راتبة الليل دون راتبة النهار وهذا قول عبد الله بن عمر .
_ والأشبه بالسنة هو القول بأنها تصلى راتبة الليل والنهار مطلقاً في السفر لأنه على قول عبد الله بن عمر لا تصلى راتبة الفجر , وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في سفر كما في حديث أبي قتادة في " صحيح مسلم " وحديث أبي هريرة في " صحيح مسلم " , فعليه تكون السنة صلاة الرواتب مطلقاً في السفروعلى هذا أئمة المذاهب الأربعة .
والقول بأنها تصلى راتبة الفجر دون بقية الرواتب قول محدث بعد الصحابة .
المثال الثالث :-اختلف الصحابة عند قضاء الحاجة في استقبال القبلة واستدبارها , والذي رأيته ثابتاً عنهم قولان :
القول الأول :-أن الاستقبال والاستدبار لا يجوز في البنيان والصحراء كما هو قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
القول الثاني :-أنه جائز في البنيان دون الصحراء كما هو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما , والأشبه بالسنة هو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال مستدبر القبلة في البنيان , أما من فرق بين الاستقبال والاستدبار إلى آخر الأقوال الثمانية فهي – فيما رأيت – محدثة بعد الصحابة .
مسألة :-إذا اختلف الصحابة ولم نقف على دليل يرجح قول أحدهم فإنه إذا كان في أحد المختلفين أحد من الخلفاء الراشدين فإن قول أحد الخلفاء الراشدين مقدَّم على قول بقية الصحابة , لما ثبت عند الترمذي وغيره من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مقدم على قول عثمان وعلي رضي الله عنهما , لما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا " , ذكر هذا التفصيل الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) , وذكر نحواً منه الإمام ابن رجب في كتابه ( جامع العلوم والحكم ) , ونص الإمام الشافعي والإمام أحمد على تقديم قول الخلفاء الراشدين على غيرهم .
أمثلة :-
المثال الأول :-اختلف الصحابة على قولين في قراءة الجنب للقران من حفظه فذهب ابن عباس كما هو معلق في ( صحيح البخاري ) إلى أن الجنب يقرأ القران قال : " لا بأس للجنب أن يقرأ القران " وخالفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما عند البيهقي في كتابه ( الخلافيات ) بإسناد صحيح , وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما خرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قال : " أما الجنب فلا ولو آية " .
والصواب في هذه المسألة عدم قراءة الجنب لأنه قول بعض الخلفاء الراشدين.
المثال الثاني :-اختلف الصحابة على قولين في قتل الساحر :
القول الأول :-أن الساحر يقتل مطلقاً من غير استتابة وهذا قول عمر كما خرجه أبوعبيد في كتاب ( الأموال ) وهو قول جندب الخير , كما رواه البخاري في ( التاريخ الكبير ) وهو قول حفصة .
القول الثاني :-أن الساحر لا يقتل ونَسَبَ الشافعيُّ هذا القول إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها , كما أخرجه عبد الرزاق .
والصواب أنه يقتل من غير استتابة لأن هذا قول عمر وهو من الخلفاء الراشدين.
فائدة :-من اعتبار فهم السلف اعتبار أقوال وأفهام التابعين فإنه إذا كان أرفع ما في الباب قول التابعين , ُقدِّم قولهم واحتُجَّ به , ويدل على هذا صنيع الإمام أحمد في الفقه في مسائل كثيرة , وقد قال الإمام الشافعي : " قلت في هذه المسألة تقليداً لعطاء " , ونسب الإمام ابن القيم هذا القول _ أي الاحتجاج بفهم التابعين في تفسير القران _ إلى الإمام الشافعي والإمام أحمد , والقول بحجية قول التابعين إذا لم يُعلم بينهم خلاف قول صحيح وذلك أن كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على هذا , وأيضاً كل دليل يدل على عدم إحداث قول جديد يدل على هذا , وذلك أن من أراد أن يخالف قول التابعين في مسألة فقهية أو غيرها من مسائل الدين يطالب بالسلف أي بسلفه فيما اختاره من قول مخالف لهذا التابعي فإنه إن لم يُثبِت ذلك وقع في قول محدث , ومما يدل على عدم جواز الإحداث في الدين هو كل دليل يدل على حجية الإجماع , وكذا كل دليل يدل على حرمة الإحداث في الدين , وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم جواز الإحداث في الدين بما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
أمثلة:-
المثال الأول:ذهب الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله إلى أن تفسير قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }. قال : المقام المحمود هو : إقعاد الله نبيه صلى الله عليه وسلم معه على العرش . وقد صحح هذا الأثر الإمام ابن تيمية كما في كتاب ( درء تعارض العقل والنقل ) , والذهبي في كتاب ( العرش ) بل قالوا : هو ثابت عن مجاهد بلا شك .
وصنيع الأئمة يدل على تصحيحهم لهذا الأثر كالإمام أحمد وابنه عبد الله وغيرهما .
ومجاهد ليس له مخالف من التابعين ولا من بعدهم من أئمة السنة الأولين, كما حكى الإجماع جمع من الأولين من أئمة السنة فعليه يكون قول مجاهد حجة.
تنبيه :تفسير مجاهد المقام المحمود بإقعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه على العرش لا ينافي تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود بالشفاعة إذ هو يشفع ويقعد على العرش فيقعد على العرش ثم يشفع صلى الله عليه وسلم كما يستفاد من كلام ابن جرير أنه لا تنافي بينهما , ومن كلام الشيخ محمد بن إبراهيم في " فتاواه ".
المثال الثاني : دلت السنة على اشتراط الموالاة في الوضوء كما ثبت عند الإمام أحمد وأبي داود من حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يعيد الوضوء والصلاة "
تنازع العلماء في مقدار هذه الموالاة :
_ منهم من قال إنها تقدر بالعرف .
_ ومنهم من قال إنها تقدر بمقدار " أن لا يجف العضو الذي قبله " وهو الصواب لأنه قول قتادة –رحمه الله-.
مسألة :ضعُفَ في هذا الباب الذي هو فهم الصحابة والسلف طائفتان :
الطائفة الأولى : أهل الرأي واشتهر هذا الإطلاق على حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وعلى الحنفية عموماً , وضعْفُ أهل الرأي في هذا الباب بسبب جهلهم بالآثار فتوسعوا في القول بالرأي .
والرأي قسمان :
القسم الأول :رأي مذموم , وهو الرأي المخالف للدليل من الكتاب والسنة أو فهم السلف ...الخ
القسم الثاني :الرأي المحمود وهو الرأي الذي يؤيد الشرع من الكتاب والسنة أو الرأي الذي يقال في النوازل والمسائل التي ليس فيها دليل منصوص من الكتاب والسنة أو غيرها من الأدلة , هذا ملخص ما أفاده ابن تيمية في كتابه ( بيان الدليل في بطلان التحليل ) .
الطائفة الثانية :وهم أهل الظاهر وإمام هذا المدرسة : داود بن علي الظاهري , وأكثر وأقوى من أشهرها ابن حزم لا سيما في كتابه ( المحلى ) وكتابه ( أصول الأحكام ) , وهذه المدرسة شدد السلف التحذير منها في الفقه ثم في الاعتقاد على داود وابن حزم , إلا أن خطأهم في الاعتقاد لا تمثله المدرسة الظاهرية فهو أخطاء أفراد وأساس أخطائها هو في باب الفقه , والسلف حذروا من الظاهرية في هذا الباب كما حذروا من أصحاب الرأي المذموم .
_ وتحذير السلف منهم يرجع إلى أمور :
الأمر الأول :الجمود على الظاهر وعدم النظر في المعاني , وهم بهذا جعلوا المقصود تبعاً والمتبوع قصداً , وذلك أن الألفاظ قوالب للمعاني والمعنى هو المقصود واللفظ مراد لغيره وهو بيان المعنى , حتى من تكلفاتهم في هذا الباب أن ابن حزم يقول : " لولا ما جاء من النصوص من الأمر بالإحسان إلى الوالدين لكان قوله تعالى : ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼالإسراء: ٢٣لا يدل على منع ضرب الوالدين وإنما على حرمة قول " أف " وحده " .
تنبيه :ليس المذموم التمسك بالظاهر فإن أهل السنة مجمعون على التمسك بظاهر النص وأنه حجة ولهذا شنعوا على أهل التأويل , وإنما المذموم هو الجمود على الظاهر بحيث إنه إذا تبين أن النص يدل على معنى , ترك المعنى الذي يدل عليه النص وجمد على ظاهر اللفظ . ذكره ابن القيم في ( إعلام الموقعين ).
الأمر الثاني :عدم اعتدادهم بفهم السلف , وهذا من أشد ما عند الظاهرية بل ترى ابن حزم يصرح بأنه لا خلاف بين الصحابة ثم بعد ذلك يخالف , ومن آثار هذا الأصل عندهم أنهم جوزوا إحداث قول جديد كما أن هذا هو مذهب داود والظاهرية من بعده كابن حزم , وقد أنكر هذا عليهم ابن رجب في ( فضل علم السلف على علم الخلف ).
الأمر الثالث :عدم اعتداداهم بالقياس الصحيح , وأول من أنكر حجية القياس هو النظام المعتزلي كما ذكره ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) وإلا فإن علماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان مجمعون على الاحتجاج بالقياس كما نقل الإجماع المزني وغيره , وأدلة حجية القياس الصحيح كثيرة . ذكر هذا الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين )
وبسببه قال النووي : " لا يعتد بخلاف الظاهرية " , وهذا فيه نظر -كما سيأتي – أي في سبب عدم الاعتداد بخلافهم .
تنبيه:شغّب الظاهرية على دليل القياس بأمور أشهرها أمران وطريقتان:
الطريقة الأولى :أن الله أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة قال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } , ولم يأمرنا بالرجوع إلى غيرهما كالقياس وغيره .
والجواب على هذا أن يقال : إن الذي أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة هو الذي أمرنا بالقياس , وذلك أن كل ما دل عليه الكتاب والسنة فهو حجة ومن ذلك القياس الصحيح لقوله تعالى: { فاعتبروا يا أولي الأبصار }, وكقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن امرأة قالت : يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء " في هذا الحديث استعمل النبي صلى الله عليه وسلم دليل القياس .
ثم إن لازم استدلال الظاهرية في رد الاحتجاج بالقياس الصحيح بقولهم إن الحجة في الكتاب والسنة فحسب د الاحتجاج بالإجماع وهذا من أقوال أهل البدع كما تقدم ذكره .
الطريقة الثانية:النصوص الكثيرة عن السلف في ذم الرأي والقياس كما أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن ابن سيرن : أول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس . يريد قول إبليس : { خلقتني من نار وخلقته من طين } "
والجواب على هذا أن يقال : إن إنكار السلف حق وهو إنكار للرأي المذموم والقياس الفاسد لا مطلق الرأي والقياس , إذ هم احتجوا بالقياس في مواضع كثيرة .
الأمر الرابع:التوسع في الاستصحاب أي البراءة الأصلية فكثيراً ما يتوسع الظاهرية في هذا لذا كثيراً ما يردد ابن حزم: { وما كان ربك نسيا } , ذكر هذا الوجه ابن القيم في ( إعلام الموقعين )
تنبيه :الاستصحاب حجة , فليس المذموم الاحتجاج به وإنما المذموم التوسع في الاحتجاج به فيقتصر الظاهري على دليل الكتاب والسنة وما عدا ذلك يرده احتجاجاً بالاستصحاب فسبب التوسع المذموم في الاستصحاب أي البراءة الأصلية هو إسقاطهم لدليل القياس وغيره من أدلة الشرع فإذا عارضت الظاهرية بدليل القياس الصحيح أو بفهم السلف أو بمعنى النص رد عليك بقوله تعالى: { وما كان ربك نسيا } .
الأمر الخامس :جعلهم الأصل في الشروط في باب المعاملات هو الحظر فعليه لا يقبلون شرطاً في باب المعاملات كالبيوع إلا بشرط منصوص في الشرع وإلا جعلوه شرطاً ملغياً وهذا خلاف ما عليه الأمة قبلهم من أن قاعدة المعاملات هي : " أن كل شرط ومعاملة هي على الحل ولا يمنع شيء من ذلك إلا إذا خالف النص " أي جاء النص بإلغائه أو منعه , ذكر هذا الإمام ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) .
الأمر السادس :توسعهم في العموم , فالعموم حجة بالإجماع وليس المذموم الاحتجاج بالعموم وإنما المذموم هو التوسع في الاحتجاج بالعموم فيقدمون العموم على السنة التركية وهو ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته من العبادات مع توفر الدواعي وانتفاء الموانع .
لهذه الأسباب والأمور الستة صار مذهب الظاهرية مذهباً مذموماً في باب الفقه , ومما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الخامس من ( منهاج السنة ) : " كل قول تفردت به الظاهرية فهو خطأ " وذلك أنهم إذا انفردوا بقول فقد صار قولهم قولاً محدثاً لأن الظاهرية متأخرون , وقد أشار إلى هذا الوجه ابن رجب في ( شرحه على البخاري " .
المقدمة الرابعة
التقليد : وهو أخذ قول العالم من غير معرفة لدليله.
وهو في الأصل مذموم إذ الأصل أننا مطالبون باتباعالدليل لقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }, وقوله : { ماذا أجبتم المرسلين }.
والناس في هذا الباب على طرفي نقيض, هذا من حيث الجملة:
_ فطائفة حرمت التقليد مطلقاً.
_ وطائفة أوجبته حتى أغلقت باب الاجتهاد.
فالطائفة الأولى هم الظاهرية ومن تأثر بهم.
والطائفة الثانية هم متعصبة المذاهب .
_ والوسط الذي عليه أئمة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن حكم التقليد يختلف باختلاف الناس:
_ فتارة يحرم , وهذا هو الأصل .
_ وتارة يجوز.
_ وتارة يجب.
أما الصورة التي يجب فيها فهو في حق العامي الذي لا يستطيع إدراك الدليل ووجه الدلالة قال الله فيهم : { فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
أما الصورةالتي يحرم فيها التقليد فهو لمن استطاع معرفة الدليل وبانت له الحجة فليس له أن يدع البرهان والدليل لقول أحد كائناً من كان وهذا بإجماع أهل العلم , قال الشافعي :" أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان "
أما الصورةالتي يجوز فيها التقليد فهو لمن كان عنده آلة اجتهاد ولكن ضاق عليه الوقت ولم يتيسر له النظر في المسألة فإنَّ له أن يقلد فيها , هذا ملخص ما قرره ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) وابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) .
تنبيهان :
التنبيه الأول :الناس من حيث الجملة مع النص والدليل أقسام ثلاثة :
القسم الأول :أهل الاجتهاد وهم الذين ينظرون في الأدلة ويرجحون بقواعد أهل العلم وعندهم آلة الاجتهاد , وهذا القسم هو أعلى هذه الأقسام وأفضلها , قال تعالى:{ لعلمه الذين يستنبطونه منهم }.
القسم الثاني :أهل الإتباع وهم الذين يأخذون بقول العالم مع معرفة دليله من غير نظر وترجيح بين الأدلة .
القسم الثالث :هم أهل التقليد وهم الذين يأخذون قول العالم الذي يثقون به من غير نظر في دليله , وهذا القسم الثالث ليس عالماً بالإجماع كما قاله الإمام ابن عبد البر , ولو عرف جميع أحكام الشرع.
فائدة :لا فرق في التقليد بين المسائل الفقهية والمسائل العقدية والذين فرقوا بينهما هم المتكلمون لا سيما الأشاعرة الذين حرَّموا التقليد في باب الاعتقاد بل منهم من كفَّر المقلد في بعض مسائل الاعتقاد , والصواب أنه لا فرق بينهما وأن الشريعة واحدة في باب الاعتقاد والفقه , وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه ( النبوات ).
_ وأخطأ بعض أهل السنة وظن حرمة الاعتقاد بغير دليل في مسائل أصول التوحيد , واستدل بأن الكافر يقول في قبره إذا سئل عن ربه ونبيه وفي رواية المنافق يقول : " هاه هاه سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " قال : فدل هذا على وجوب معرفة الدليل في أصول مسائل التوحيد وأن التقليد فيها محرم , وهذا الذي قرره خطأ مخالف لما عليه أهل السنة وما ظنه دليلاً لا دلالة فيه , وذلك لما يلي :
الأمر الأول :أن مقتضى هذا الدليل أن المقلد في هذه المسائل يكون كافراً لا آثماً وهذا خلاف ما قرره من أنه يكون آثماً لا كافراً.
الأمر الثاني :أن سبب الإجابة في القبر في هذه المسائل الثلاث ليس العلم أو عدمه ولا إدراك الدليل أو عدمه
وإنما توفيق الله له بسبب إيمانه وإسلامه , لذا لو أن كافراً حفظ الأدلة قبل أن يموت لم يستطع الإجابة .
التنبيه الثاني :الاجتهاد لا يحدد بزمن لأن الشريعة دعت إليه ولم تحدد له زمناً فمن زعم أنه انغلق باب الاجتهاد في قرن كذا , أوفي قرن كذا فقد قال ما ليس له به علم وادعى ما لا دليل عليه , ثم إن لازم هذا الدور وذلك أن أول من قال بإغلاق باب الاجتهاد قوله هذا اجتهاد فهو اجتهد بأن حكم بأن الاجتهاد انغلق بابه وانتهى زمانه فعلى هذا اجتهد وليس أهلاً للاجتهاد .
_ ثم إن الاجتهاد يتجزأ وهذا هو قول المحققين من علماء الأصول ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فقد يكون الرجل مجتهداً في مسائل دون مسائل وأبواب دون أبواب والشرط لكل مجتهد أن تكون عنده آلة اجتهاد وهو أصول الفقه.
المقدمة الخامسة:
العلم مر بمراحل , كان في السابق كتاباً وسنة وبعد وقت الصحابة صار كتاباً وسنة مع أقوال الصحابة , وبعد وقت التابعين صار كتاباً وسنة وأقوال الصحابة والتابعين , فهو في ازدياد وكل ازدياد للعلم تصعيب للعلم , وهذا الازدياد من حيث الجملة نوعان :
النوع الأول:علوم آلة ووسائل لإدراك العلم , كعلم اللغة , وأصول الفقه , ومصطلح الحديث , ثم مع مرور الأيام أُدخِل في علم أصول الفقه ومصطلح الحديث ما ليس منه لا سيما علم أصول الفقه , فقد كثُرت فيه المباحث الكلامية .
النوع الثاني :أقوال لأهل العلم , إذ الحق والصواب واحد , وكل ما زاد على هذا القول الواحد فهو مما أُدخِل في العلم , وسبب زيادة الأقوال أن العلماء يتفاوتون في مداركهم , وأنه كلما بعُد عن نور النبوة وعصر النبوة قلّ هذا النور فيلتبس الحق , فيقول العالم قولاً خلاف الحق , وهذا معنى القول المأثور عن علي رضي الله عنه : " العلم نقطة كثرها الجاهلون " .
وفي مقابل هذا كله ضعفت المدارك من الحفظ والفهم , فقد كان العرب الأوائل أهل حفظ وأهل فهم , هذا بطبيعتهم كيف وقد ازداد في حق الصحابة والتابعين الهداية بنور الوحي فسهل الله عليهم تسهيلاً شرعياً لإدراك العلم الشرعي .
ويستفاد من هذا عدة فوائد :
الفائدة الأولى :أن العلم قد مر بمراحل .
_ منها أنه لم يكن العلم إلا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم , ثم ازداد فانضاف إليه كلام الصحابة , ثم ازداد فانضاف إليه كلام التابعين , ثم ازداد فانضاف إليه كلام أتباع التابعين , ثم ازداد فدونت المسائل وهو أن يُسأل العالم فيجيب فكثرت هذه المسائل فصعبت الإحاطة بها فاختُصرت هذه المسائل إلى أن وصل العلم في باب الفقه إلى متون مختصرة .
وفي باب العقائد ازداد الكلام في مسائل العقائد بسبب المخالفين , فكلما بعُد الزمان والعهد عن الزمن الأول كثرت البدع واشتدت فاحتاج العلماء للرد على هذه البدع وتأصيل قول أهل السنة في بيان خطأها , بالإضافة إلى أنه قد يزِل عالم سنة في باب الاعتقاد فيجتهد العلماء في بيان خطأه حتى لا يتبع , وقد يكون له أتباع فيكثر الرد عليهم , فعليه اتسع كلام أهل العلم في باب الاعتقاد فدونت كتب السنة وهي التي تجمع كلام أئمة السلف في مسائل الاعتقاد إلى أن دونت هذه المتون المختصرة كلمعة ( الاعتقاد ) , ( والواسطية ).
فعلى هذا إذا أراد طالب علم أن يدرس العلم سواء في باب الاعتقاد أو الفقه أو غيرهما فعليه أن يعرف مراحل وصول العلم إلينا فيسلك الجادة التي سلكها العلماء بأن يدرس المتون الفقهية بدليلها ثم يترقى إلى أن يجتهد فينظر في الأقوال وفي الأدلة , ومن طالبَ طلاب العلم بأن يتركوا دراسة هذه المتون سواء في باب الاعتقاد أو الفقه فقد أضر بهم وذلك لأمرين :
الأمر الأول: أنه لم يراع كثرة العلم عن ما كان عليه .
الأمر الثاني:أنه لم يراع ضعف مدارك الناس وأنها ضعفت عن ما كان عليه الأولون , لذا كثيرٌ ممن يخالفون جادة أهل العلم المسلوكة في دراسة العلم ضعُف في تحصيل العلم .
الفائدة الثانية :أن ما أُحدث من مدارس وقاعات , وعند الأولين من الرباط لتعلم العلم ليس من البدع , ومن ذلك ذكر الشروط والأركان والواجبات والمستحبات في مسائل الفقه , ومن ذلك تقسيم كتب الفقه إلى أبواب وفصول بل وتدوين العلم وكتابته سواء كان من كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان أو مسائل الفقه .
والسبب في عدم كون هذه من البدع أنه يشترط في الحكم على وسيلة بأنها بدعة أمران :
الأمر الأول :أن يكون المقتضي موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
الأمر الثاني :أن لا يكون هناك مانع يمنع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من اتخاذ هذه الوسيلة .
فإذا اجتمع هذان الأمران فإن اتخاذ هذه الوسيلة التي لم يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يكون من الوسائل البدعية , وإذا اختل أحد هذين الأمرين فلا تكون هذه الوسيلة بدعة . قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) و ( القواعد النورانية ) ومواضع من ( مجموع الفتاوى ).
إذا تبين هذا فإن ما سبق ذكره مما زيد في العلم ليس بدعة لأن مقتضي هذا الفعل لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لسببين :
السبب الأول :كثرة العلم .
السبب الثاني :ضعف المدارك . وقد نص على ضعف مداركنا من جهة الحفظ الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) والشاطبي في كتابه ( الموافقات )
المقدمة الخامسة
طلب علم الفقه عن طريق المتون الفقهية أنفع بكثير من طلب علم الفقه عن طريق أحاديث الأحكام وليس هذا لأن كلام الرجال أجل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله - وإنما لأسباب :
السبب الأول :أن كتب أحاديث الأحكام ذكرت نوعاً واحداً من الأدلة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم , فليس فيها ذكرٌ لدليل القران ولا الإجماع ولا القياس الصحيح ولا قول الصاحب إلخ , بخلاف المتون الفقهية فإنها ذكرت عدة مسائل وأحكام من دليل القران والسنة والإجماع والقياس الصحيح إلخ , فهي أشمل في ذكر المسائل مع التنبيه إلى أن الماتن قد يذكر قولاً مرجوحاً لظنه أنه راجح كما أن الناظر في الحديث قد يفهم فهماً مرجوحاً لظنه أنه الراجح .
السبب الثاني :أن المتون الفقهية تذكر المسائل مرتبة , فتجمع المسائل المتعلقة بالمياه في باب المياه , وكذا المسائل المتعلقة بالزكاة في كتاب الزكاة وهكذا , أما أحاديث الأحكام فإنها ليست كذلك , فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :" هو الطهور ماؤه الحل ميتته " هذا الحديث فيه ذكر لأحكام مياه البحر وأحكام صيد البحر فإن هذا الحديث ذكر الأحكام المتعلقة بالمياه والأحكام المتعلقة بباب الصيد والذبائح , لذا من درس الفقه على طريقة أحاديث الأحكام فإن المسائل لا تكون مرتبة ولا واضحة كمن يدرسها على طريقة المتون الفقهية .
السبب الثالث :أن المتون الفقهية أجمع لمسائل العلم من أحاديث الأحكام من جهة أنها تذكر مسائل كثيرة , وذلك لأن أدلة المتون الفقهية متنوعة ولأن فيها ذكراً لما أفتى به العلماء في النوازل في زمانهم .
السبب الرابع :أن المتون الفقيهة أدق في بيان الحكم المراد , فيعبرون بقولهم يجوز وله معنى عندهم , ويقولون يستحب , وله معنى عندهم , وهكذا , بخلاف المتون الحديثية , فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحكم وأهل العلم يتفقهون في هذا الدليل وفي غيره من الأدلة , لذا العمل مباشرة بما ظهر من الدليل دون النظر في الأدلة الأخرى وفهم السلف لهذا الدليل هذا خطأ .
السبب الخامس :أن المتون الفقهية مرتبة في ذكر الشروط والواجبات والمستحبات , ففي الوضوء مثلاً ذكروا فروضه ثم المستحبات , وهذا الترتيب لا يوجد في أحاديث الأحكام .
تنبيهان :
التنبيه الأول :كثيرٌ من الناس في دراسة المتون الفقهية على طرفي نقيض :
الطرف الأول :غالٍ فيها , وهو المتعصب لها ويتكلف تأويل الأدلة لتوافق ما ذكر الماتن وهذا خطأ كبير وهو سبب للفتنة والهلاك .
الطرف الثاني :وهم الجافون عن المتون الفقهية والمزهدون فيها والمعيبون لدراستها وهذا خطأ على ما تقدم ذكره , وكثيراً ما يشنع هؤلاء على الرجل إذا انتسب إلى مذهب كأن يقول : أنا حنفي , أو مالكي , أو شافعي , أو حنبلي , والتشنيع على الإطلاق لا يصح وذلك أن من انتسب إلى مذهب :
_ من غير تعصب له .
_ ولحاجة دعت إلى ذلك .
بهذين القيدين فإنه لا يشنع عليه لأن هذا من باب الإخبار كما يخبر الرجل أنه من القبيلة الفلانية أو الأرض الفلانية , وقد أفاد معنى هذا الكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ونحن في هذا الزمن – والحمد لله – لا نحتاج للانتساب إلى أحد هذه المذاهب الأربعة إلا عند مواجهة طوائف من أهل البدع يريدون التشنيع علينا بأننا أتينا بمذهب جديد فنبين أننا تفقهنا على أحد هذه المذاهب الأربعة تأليفاً للهم وللناس , وهذا ما فعله الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
التنبيه الثاني :لا يصح الإفتاء والتعبد بما ذكرته المتون الفقهية , بخلاف أخذ فتوى العالم الموثوق سواءً كان حياً أو ميتاً , وذلك لأن أصحاب المتون الفقهية يكتبون ما هو راجح في مذهبهم بحسب ما يظهر لهم من أقوال أصحاب المذهب وإن كان قد يتعبد الله بخلاف ما كتب أما العالم الموثوق فإنه يذكر ما يراه راجحاً ومراداً لله ورسوله .
يتبع إن شاء الله .
مقدمات في دراسة الفقه
المقدمة الأولى
أن فهم السلف حجة في الشريعة كلها في باب الاعتقاد والسلوك أي التعبد والمعاملات والفقه كما قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } , قوله : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } , عام في اتباع غير سبيلهم في الاعتقاد والفقه وغير ذلك من الدين .
وقوله تعالى :{ فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به فقد اهتدوا } , عامٌ في كل ما يؤمَنُ به مما جاء اللهبه في الاعتقاد والفقه وغير ذلك من الدين .
_ ويتفرع عن هذا عدة أمور :-
الأمر الأول: -حجية الإجماع, لأن معنى الإجماع هو :" اتفاق فقهاء الإسلام على حكم شرعي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ". وأول من يدخل في فقهاء الإسلام: السلف والتابعين لهم بإحسان , وسيأتي الكلام على الإجماع.
الأمر الثاني: -أن أقوال الصحابة حجة بشروطه كما سيأتي فإن أول من يدخل في قوله :{ ويتبع غير سبيل المؤمنين }الصحابة.
الأمر الثالث: - عدم جواز إحداث قول جديد في الدين, ومن ذلك الفقه وهذا الإحداث له صور ثلاثة: -
الصورة الأولى: -أن يأتي بقول جديد لم يُسَبق إليه.
الصورة الثانية: -أن يختلف العلماء على قولين فيحدث قولاً ثالثاً.
الصورة الثالثة: -أن يختلف العلماء على قولين فيأتي بقول ثالث ملفَّق لا يرفع القولينجميعاً بل يأخذ من كل قولٍ جزءاً.
كل هذه الصور الثلاثة داخلة في إحداث قول جديد .
المقدمة الثانية
حجية الإجماع
الأدلة كثيرة على حجية الإجماع :
_ من ذلك قوله تعالى : {ويتبع غير سبيل المؤمنين } , وجه الدلالة من الآية أن الله علَّق الذم على مخالفة سبيل المؤمنين فدل هذا على وجوب اتباع سبيلهم وهو الإجماع , وذلك أنه إذا لم يعرف في المسألة إلا قول واحد لأهل العلم من الصحابة ومن بعدهم فهذا هو سبيل المؤمنين .
_ الدليل الثاني قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} , وجه الدلالة : أن العلماء إذا لم يتنازعوا فهو حجة يجب العمل بها , بخلاف ما إذا اختلفوا فإنهم يبحثون عن الدليل .
_ مسألة:الإجماع حجة متى ما وقع , سواء وقع بعد خلاف أو كان الخلاف بعده , لأن الأدلة ذكرت حجية الإجماع ولم تفرق بين إجماع قبله خلاف أو إجماع بعده خلاف.
_ مسألة:الإجماع نوعان :
النوع الأول :إجماع قطعي .
النوع الثاني :إجماع ظني .
_ أما الإجماع القطعي فهو : ما كان مبنياً على نص , كقوله تعالى :{ وأقيموا الصلاة } ,فأجمع العلماء على وجوب الصلاة .
_ أما الإجماع الظني فهو : الإجماع القائم على الاستقراء والتتبع , فإذا استقرأ عالمٌ مسألةً فحكى إجماعاً وكان العالم واسع الإطلاع فإن الأصل صحة ما حكاه من الإجماع , وهذا هو المسمى بالإجماع الظني أي هو إجماع من باب الظن الغالب , والظن الغالب حجة في الشريعة في باب الاعتقاد والفقه خلافاً للمتكلمين في باب الاعتقاد .
_ مسألة : -إذا حكى عالم صاحب استقراء _ كابن المنذر وابن قدامة والنووي ومن باب أولى كالإمام أحمد _ إجماعاً فالأصل قبول إجماعه حتى يتبين خرمه , ثم إذا وقفت على عالم خالف فلا تتعجل في زعم الإجماع مخروماً لأنه قد يكون بعد انعقاد الإجماع .
كمثلقول داود الظاهري ومن تبعه بجواز مس القران لمن عليه حدث أصغر , فإن أول من خالف وقال بجواز مس القران لمن عليه حدث أصغر هو : داود الظاهري . كما أفاده ابن قدامة , فعليه خلاف داود بعد إجماع فلا يعتد به .
_ ولابد أيضاً من النظر فيمن خالف الإجماع فقد يكون الإجماع منعقداً بعد خلاف .
كما اختلف التابعون في الخروج على السلطان الفاسق ثم انعقد الإجماع كما أفاده النووي والقاضي عياض وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر .
ومن أمثلة ذلك :
_ جماع الرجل زوجته من غير إنزال , كان فيه خلاف كما أشار للخلاف البخاري في ( صحيحه ) ثم انعقد الإجماع كما يدل عليه كلام ابن المنذر .
_ مسألة :-إن لدليل الإجماع مزية على بقية الأدلة وهذه المزية أنه لا يكون إلا " قطعي الدلالة " ونصَّ على ذلك الغزالي في ( المستصفى ) , لذلك مسائل الاعتقاد التي لم يختلف فيها أهل السنة قطعية في دلالتها ومن ها هنا لم يسُغ الخلاف فيها .
_ مسألة :-ما من إجماع إلا وهو مستند إلى نص ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شاذة كما قاله الآمدي , لكن لا يشترط في الاحتجاج بالإجماع أن يعرف مستنده وإنما يكفي ثبوت الإجماع فإن عرفنا مستنده كان أكمل .
_ مسألة : -أول من خالف في حجية الإجماع هو النظام المعتزلي وتبعه من تبعه , كما أفاده ابن قدامة في ( روضة الناظر ) وابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) , وقد أخطأ خطأً كبيراً من ظن أن الإمام أحمد إمام أهل السنة لا يرى حجية الإجماع وذلك أنه رحمه الله تعالى قد حكى الإجماع في مسائل كثيرة :
_ كما حكى الإجماع على أن الدم نجس .
_ وحكى الإجماع على أن أطفال المؤمنين في الجنة .
_ وحكى الإجماع على أن الميت ينتفع ببعض أعمال الحي .
_ وحكى الإجماع على أن الاعتكاف سنة . الخ
فإن قيل على ماذا توجه كلمة الإمام أحمد لما قال : " من ادعى الإجماع فهو كاذب " فيقال : أحسن ما يحمل عليه , ما ذكره بعض الحنابلة من أن هذا محمول على من ليس أهلاً لحكاية الإجماع فتعجَّلَ وحكى الإجماع , وهذا ظاهر كلام ابن القيم في ( أعلام الموقعين ) وهو أحد توجيهات أبي يعلى في كتاب ( العدة ) .
المقدمة الثالثة
مذهب الصحابي حجة وكل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على حجية مذهب الصحابي إذ القول بحجية مذهب الصحابي مشروط بشرطين : -
الشرط الأول :-أن لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة .
الشرط الثاني :-أن لا يخالفه صحابي آخر .
وهذان الشرطان مجمع عليهما .
فإذا لم يخالف الصحابي صحابياً آخر فإن قوله يكون حجة لأنه صورة من صور الإجماع , وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه ( أعلام الموقعين ) ستة وأربعين دليلاً على حجية قول الصحابي .
_ مسألة : -كثيراً ما يشكل هل هذا القول مخالف للنص أم ليس مخالفاً له وإنما من باب بيان النص كتخصيص العام وتقييد المطلق وتبيين المجمل .
والضابط في التفريق بين المخالفة التي ليست من باب البيان والمخالفة والتي هي من باب بيان النص وتفسيره هو: أن ينظر هل خالف هذا الصحابي صحابي آخر أو لا ؟
فإن لم يخالفه صحابي آخر فهذا من باب تفسير النص وبيانه , كأن يكون تخصيصاً لعام أو تقييداً لمطلق أو تبييناً لمجمل أفاد هذا الضابط ابن القيم – رحمه الله – في كتابه ( أعلام الموقعين ) واستدل على هذا الضابط بقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} , وجه الدلالة : أنه لو كان قول الصحابي مخالفاً للنص من كل وجه لكان تعبداً لله بخلاف ما يريد الله وهذا منكر من هذا الوجه فلابد أن يوجد من ينكر عليه من الصحابة ومحال أن يُنقل القول المنكر دون القول المعروف .
أمثلة :-
وعلى هذا التأصيل أمثلة كثيرة :-
المثال الأول : -ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام , صام عنه وليه " وثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه خصصه بصيام النذر وعموم النص يقتضي أن يكون لكل صيام , لكن لمّا أفتى ابن عباس بأنه في صيام النذر صار خاصاً به وهذا من تخصيص الصحابي للنص العام .
المثال الثاني : -قال الله عز وجل: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }, ظاهر هذه الآية أنه يقضي فقط من غير إطعام لو أخَّر القضاء إلى رمضان الذي بعده , وقد ذهب جمع منالصحابة إلى أنه إذا أخره إلى رمضان الذي بعده فإنه يطعم , ثبت هذا عن أبي هريرة وغيره .
المثال الثالث : -ظاهر الآية السابقة أنه لا يفرق بين المفرِّط ولا غير المفرِّط فمن أخَّر القضاء إلى رمضان الآخر , وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه فرَّق بينهما , وفي كلا هذين المثالين أي الثاني والثالث قول الصحابي خصص العام .
المثال الرابع : -استحبت الشريعة صيام التطوع كيوم الاثنين والخميس ويوم عاشوراء وعرفة , وظاهر النصوص لم تشترط أن لا يكون بقي عليه شيء من الفرض , وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه كما عند عبد الرزاق أنه قال : " إبدأ بما فرض الله " , فعليه لا يصح أن يصوم نفلاً وعليه فرض لم يقضِه .
المثال الخامس :-بيَّن القران والسنة نواقض الوضوء , ومما لم يذكر في القران والسنة : أن خروج الدم الكثير وكذا القيء الكثير ناقض , لكن أفتى بذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن عمر رضي الله عنهما وغيره .
المثال السادس : -بينت الأدلة من الكتاب والسنة نواقض الوضوء , ولم تذكر من نواقض الوضوء تغسيل الميت , وقد ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما عند عبد الرزاق أنه أوجب الوضوء على من غسَّل الميت .قال ابن قدامة في المغني: ليس له مخالف .
المثال السابع : -ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر المواقيت الأربعة قال : " هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحج أو العمرة " مفهوم المخالفة من هذا النص أن من أراد دخول الحرم ولم يُرِد الحج أو العمرة فإنه يدخل حلالاً من غير إحرام , لكن ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما عند الشافعي وغيره : أنه كان يَرُدّ من أراد أن يدخل الحرم ولو كان حلالاً غير مُحرِم . قال ابن تيمية في " شرح العمدة " : " وليس لابن عباس مخالف "
فعلى هذا يقال: إنه ليس للحديث مفهوم مخالفة لأمرين:
الأمر الأول :-أن هذا المفهوم خرج مخرج الغالب وقد أجمع العلماء على أن ما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كما ذكر شيخ الإسلام .
الأمر الثاني :-أن هذا المفهوم في حديث ابن عباس مخالف للمنطوق من قول ابن عباس , وإذا عارض المنطوق المفهوم قُدِّم المنطوق .
المثال الثامن :-ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء " ظاهر هذا النص أنه للتحريم لكن ثبت عند ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب رضي الله عنه : أنه استيقظ من النوم فغمس يده في موضئته قبل أن يغسلها . فدل هذا على أن النهي ليس للتحريم .
المثال التاسع :-أجمع العلماء على أن استقبال القبلة بالبدن شرط لصحة الصلاة قال تعالى: { فول وجهك شطر المسجد الحرام }, وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " الحديث , دلت الآية والحديث على أن من لم يستقبل القبلة ببدنه ولو قليلاً تبطل صلاته , وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أرعف في الصلاة ثم خرج وتوضأ ثم رجع وبنى على صلاته ولم يتكلم . قال الطحاوي : " وليس لابن عمر مخالف ". وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية.
_ مسألة :-ولقائل أن يقول إننا إذا جعلنا قول الصحابي حجة فقد جعلناه بمنزلة الكتاب والسنة أي أنه مصدر معصوم , ولازم هذا أنه لا يخطئ , وقد تقرر أن الصحابي قد يخالفه صحابي آخر فيكون أحدهما مخطئاً ولو كان الصحابي معصوماً لما قال قولاً مخالفاً للحق ولما اختلف الصحابة , وهذا من أقوى ما تمسك به القائلون بأن قول الصحابي ليس حجة وكثير منهم من المتكلمين .
والجواب على هذا أن يقال : إن القول بحجية مذهب الصحابي ليس معناه أنهم حجة لذاته فليس قول الصحابي حجة لذاته وإنما لما انضاف إليه من أن قوله الذي لم يخالفه فيه صحابي آخر هو صورة من صور نقل إجماعهم فرجعت الحجية إلى إجماعهم لا إلى ذواتهم وأفرادهم . أفاد هذا الإمام ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين " وهو رد على ابن حزم وعلى بعض المتكلمين كالغزالي .
تنبيه :-حجية قول الصحابي من باب الظن الغالب ويتفاوت في درجة هذا الظن الغالب لكن أقله أقل الظن الغالب وقد يصل إلى درجة القطع بحسب القرائن .
مسألة :-إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين أو أكثر فنرجح بين أقوالهم بأن نأخذ الأشبه بالكتاب والسنة والقياس الصحيح فإن الحق في أحد أقوالهم ولا يتعداهم إلى غيرهم . ذكر هذا الشافعي والإمام أحمد , مع التنبه إلى أن الخلاف بينهم قليل فالأصل في أقوالهم أنها غير مختلفة لذا إذا استطعت أن تجمع بين أقوالهم بأن لا يكون بينهم خلاف هو أولى من إثبات الخلاف بينهم . أفاد هذا ابن تيمية في " شرح العمدة " وأشار إليه ابن قدامة في : " المغني " .
أمثلة على اختلاف الصحابي:
المثال الأول :اختلف الصحابة في زكاة الحلي المستعمل من الذهب والفضة فذهب خمسة من الصحابة إلى أنه لا زكاة في الحلي المستعمل كعائشة وأسماء وأنس وجابر وابن عمر وخالف اثنان من الصحابة وهما عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعاً فلابد من الترجيح بين هذين القولين .
_ والأشبه بالكتاب والسنة – والله أعلم – هو قول الخمسة , وذلك أن هدي الشريعة وطريقتها : أن ما أُعِدَّ للاستعمال والقُنْية لا زكاة فيه كدابَّة الرجل ومنزله وهكذا , وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة " , والحلي المستعمل هو من جنس ما اتخذ للقنية فعليه لا يزكى .
المثال الثاني :-اختلف الصحابة في صلاة الرواتب في السفر على قولين :
القول الأول :تصلى الرواتب مطلقاً سواء راتبة الليل أو النهار , وهذا قول جماهير الصحابة كابن عباس وغيره.
القول الثاني :تصلى راتبة الليل دون راتبة النهار وهذا قول عبد الله بن عمر .
_ والأشبه بالسنة هو القول بأنها تصلى راتبة الليل والنهار مطلقاً في السفر لأنه على قول عبد الله بن عمر لا تصلى راتبة الفجر , وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في سفر كما في حديث أبي قتادة في " صحيح مسلم " وحديث أبي هريرة في " صحيح مسلم " , فعليه تكون السنة صلاة الرواتب مطلقاً في السفروعلى هذا أئمة المذاهب الأربعة .
والقول بأنها تصلى راتبة الفجر دون بقية الرواتب قول محدث بعد الصحابة .
المثال الثالث :-اختلف الصحابة عند قضاء الحاجة في استقبال القبلة واستدبارها , والذي رأيته ثابتاً عنهم قولان :
القول الأول :-أن الاستقبال والاستدبار لا يجوز في البنيان والصحراء كما هو قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
القول الثاني :-أنه جائز في البنيان دون الصحراء كما هو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما , والأشبه بالسنة هو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال مستدبر القبلة في البنيان , أما من فرق بين الاستقبال والاستدبار إلى آخر الأقوال الثمانية فهي – فيما رأيت – محدثة بعد الصحابة .
مسألة :-إذا اختلف الصحابة ولم نقف على دليل يرجح قول أحدهم فإنه إذا كان في أحد المختلفين أحد من الخلفاء الراشدين فإن قول أحد الخلفاء الراشدين مقدَّم على قول بقية الصحابة , لما ثبت عند الترمذي وغيره من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مقدم على قول عثمان وعلي رضي الله عنهما , لما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا " , ذكر هذا التفصيل الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) , وذكر نحواً منه الإمام ابن رجب في كتابه ( جامع العلوم والحكم ) , ونص الإمام الشافعي والإمام أحمد على تقديم قول الخلفاء الراشدين على غيرهم .
أمثلة :-
المثال الأول :-اختلف الصحابة على قولين في قراءة الجنب للقران من حفظه فذهب ابن عباس كما هو معلق في ( صحيح البخاري ) إلى أن الجنب يقرأ القران قال : " لا بأس للجنب أن يقرأ القران " وخالفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما عند البيهقي في كتابه ( الخلافيات ) بإسناد صحيح , وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما خرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قال : " أما الجنب فلا ولو آية " .
والصواب في هذه المسألة عدم قراءة الجنب لأنه قول بعض الخلفاء الراشدين.
المثال الثاني :-اختلف الصحابة على قولين في قتل الساحر :
القول الأول :-أن الساحر يقتل مطلقاً من غير استتابة وهذا قول عمر كما خرجه أبوعبيد في كتاب ( الأموال ) وهو قول جندب الخير , كما رواه البخاري في ( التاريخ الكبير ) وهو قول حفصة .
القول الثاني :-أن الساحر لا يقتل ونَسَبَ الشافعيُّ هذا القول إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها , كما أخرجه عبد الرزاق .
والصواب أنه يقتل من غير استتابة لأن هذا قول عمر وهو من الخلفاء الراشدين.
فائدة :-من اعتبار فهم السلف اعتبار أقوال وأفهام التابعين فإنه إذا كان أرفع ما في الباب قول التابعين , ُقدِّم قولهم واحتُجَّ به , ويدل على هذا صنيع الإمام أحمد في الفقه في مسائل كثيرة , وقد قال الإمام الشافعي : " قلت في هذه المسألة تقليداً لعطاء " , ونسب الإمام ابن القيم هذا القول _ أي الاحتجاج بفهم التابعين في تفسير القران _ إلى الإمام الشافعي والإمام أحمد , والقول بحجية قول التابعين إذا لم يُعلم بينهم خلاف قول صحيح وذلك أن كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على هذا , وأيضاً كل دليل يدل على عدم إحداث قول جديد يدل على هذا , وذلك أن من أراد أن يخالف قول التابعين في مسألة فقهية أو غيرها من مسائل الدين يطالب بالسلف أي بسلفه فيما اختاره من قول مخالف لهذا التابعي فإنه إن لم يُثبِت ذلك وقع في قول محدث , ومما يدل على عدم جواز الإحداث في الدين هو كل دليل يدل على حجية الإجماع , وكذا كل دليل يدل على حرمة الإحداث في الدين , وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم جواز الإحداث في الدين بما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
أمثلة:-
المثال الأول:ذهب الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله إلى أن تفسير قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }. قال : المقام المحمود هو : إقعاد الله نبيه صلى الله عليه وسلم معه على العرش . وقد صحح هذا الأثر الإمام ابن تيمية كما في كتاب ( درء تعارض العقل والنقل ) , والذهبي في كتاب ( العرش ) بل قالوا : هو ثابت عن مجاهد بلا شك .
وصنيع الأئمة يدل على تصحيحهم لهذا الأثر كالإمام أحمد وابنه عبد الله وغيرهما .
ومجاهد ليس له مخالف من التابعين ولا من بعدهم من أئمة السنة الأولين, كما حكى الإجماع جمع من الأولين من أئمة السنة فعليه يكون قول مجاهد حجة.
تنبيه :تفسير مجاهد المقام المحمود بإقعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه على العرش لا ينافي تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود بالشفاعة إذ هو يشفع ويقعد على العرش فيقعد على العرش ثم يشفع صلى الله عليه وسلم كما يستفاد من كلام ابن جرير أنه لا تنافي بينهما , ومن كلام الشيخ محمد بن إبراهيم في " فتاواه ".
المثال الثاني : دلت السنة على اشتراط الموالاة في الوضوء كما ثبت عند الإمام أحمد وأبي داود من حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يعيد الوضوء والصلاة "
تنازع العلماء في مقدار هذه الموالاة :
_ منهم من قال إنها تقدر بالعرف .
_ ومنهم من قال إنها تقدر بمقدار " أن لا يجف العضو الذي قبله " وهو الصواب لأنه قول قتادة –رحمه الله-.
مسألة :ضعُفَ في هذا الباب الذي هو فهم الصحابة والسلف طائفتان :
الطائفة الأولى : أهل الرأي واشتهر هذا الإطلاق على حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وعلى الحنفية عموماً , وضعْفُ أهل الرأي في هذا الباب بسبب جهلهم بالآثار فتوسعوا في القول بالرأي .
والرأي قسمان :
القسم الأول :رأي مذموم , وهو الرأي المخالف للدليل من الكتاب والسنة أو فهم السلف ...الخ
القسم الثاني :الرأي المحمود وهو الرأي الذي يؤيد الشرع من الكتاب والسنة أو الرأي الذي يقال في النوازل والمسائل التي ليس فيها دليل منصوص من الكتاب والسنة أو غيرها من الأدلة , هذا ملخص ما أفاده ابن تيمية في كتابه ( بيان الدليل في بطلان التحليل ) .
الطائفة الثانية :وهم أهل الظاهر وإمام هذا المدرسة : داود بن علي الظاهري , وأكثر وأقوى من أشهرها ابن حزم لا سيما في كتابه ( المحلى ) وكتابه ( أصول الأحكام ) , وهذه المدرسة شدد السلف التحذير منها في الفقه ثم في الاعتقاد على داود وابن حزم , إلا أن خطأهم في الاعتقاد لا تمثله المدرسة الظاهرية فهو أخطاء أفراد وأساس أخطائها هو في باب الفقه , والسلف حذروا من الظاهرية في هذا الباب كما حذروا من أصحاب الرأي المذموم .
_ وتحذير السلف منهم يرجع إلى أمور :
الأمر الأول :الجمود على الظاهر وعدم النظر في المعاني , وهم بهذا جعلوا المقصود تبعاً والمتبوع قصداً , وذلك أن الألفاظ قوالب للمعاني والمعنى هو المقصود واللفظ مراد لغيره وهو بيان المعنى , حتى من تكلفاتهم في هذا الباب أن ابن حزم يقول : " لولا ما جاء من النصوص من الأمر بالإحسان إلى الوالدين لكان قوله تعالى : ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼالإسراء: ٢٣لا يدل على منع ضرب الوالدين وإنما على حرمة قول " أف " وحده " .
تنبيه :ليس المذموم التمسك بالظاهر فإن أهل السنة مجمعون على التمسك بظاهر النص وأنه حجة ولهذا شنعوا على أهل التأويل , وإنما المذموم هو الجمود على الظاهر بحيث إنه إذا تبين أن النص يدل على معنى , ترك المعنى الذي يدل عليه النص وجمد على ظاهر اللفظ . ذكره ابن القيم في ( إعلام الموقعين ).
الأمر الثاني :عدم اعتدادهم بفهم السلف , وهذا من أشد ما عند الظاهرية بل ترى ابن حزم يصرح بأنه لا خلاف بين الصحابة ثم بعد ذلك يخالف , ومن آثار هذا الأصل عندهم أنهم جوزوا إحداث قول جديد كما أن هذا هو مذهب داود والظاهرية من بعده كابن حزم , وقد أنكر هذا عليهم ابن رجب في ( فضل علم السلف على علم الخلف ).
الأمر الثالث :عدم اعتداداهم بالقياس الصحيح , وأول من أنكر حجية القياس هو النظام المعتزلي كما ذكره ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) وإلا فإن علماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان مجمعون على الاحتجاج بالقياس كما نقل الإجماع المزني وغيره , وأدلة حجية القياس الصحيح كثيرة . ذكر هذا الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين )
وبسببه قال النووي : " لا يعتد بخلاف الظاهرية " , وهذا فيه نظر -كما سيأتي – أي في سبب عدم الاعتداد بخلافهم .
تنبيه:شغّب الظاهرية على دليل القياس بأمور أشهرها أمران وطريقتان:
الطريقة الأولى :أن الله أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة قال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } , ولم يأمرنا بالرجوع إلى غيرهما كالقياس وغيره .
والجواب على هذا أن يقال : إن الذي أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة هو الذي أمرنا بالقياس , وذلك أن كل ما دل عليه الكتاب والسنة فهو حجة ومن ذلك القياس الصحيح لقوله تعالى: { فاعتبروا يا أولي الأبصار }, وكقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن امرأة قالت : يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء " في هذا الحديث استعمل النبي صلى الله عليه وسلم دليل القياس .
ثم إن لازم استدلال الظاهرية في رد الاحتجاج بالقياس الصحيح بقولهم إن الحجة في الكتاب والسنة فحسب د الاحتجاج بالإجماع وهذا من أقوال أهل البدع كما تقدم ذكره .
الطريقة الثانية:النصوص الكثيرة عن السلف في ذم الرأي والقياس كما أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن ابن سيرن : أول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس . يريد قول إبليس : { خلقتني من نار وخلقته من طين } "
والجواب على هذا أن يقال : إن إنكار السلف حق وهو إنكار للرأي المذموم والقياس الفاسد لا مطلق الرأي والقياس , إذ هم احتجوا بالقياس في مواضع كثيرة .
الأمر الرابع:التوسع في الاستصحاب أي البراءة الأصلية فكثيراً ما يتوسع الظاهرية في هذا لذا كثيراً ما يردد ابن حزم: { وما كان ربك نسيا } , ذكر هذا الوجه ابن القيم في ( إعلام الموقعين )
تنبيه :الاستصحاب حجة , فليس المذموم الاحتجاج به وإنما المذموم التوسع في الاحتجاج به فيقتصر الظاهري على دليل الكتاب والسنة وما عدا ذلك يرده احتجاجاً بالاستصحاب فسبب التوسع المذموم في الاستصحاب أي البراءة الأصلية هو إسقاطهم لدليل القياس وغيره من أدلة الشرع فإذا عارضت الظاهرية بدليل القياس الصحيح أو بفهم السلف أو بمعنى النص رد عليك بقوله تعالى: { وما كان ربك نسيا } .
الأمر الخامس :جعلهم الأصل في الشروط في باب المعاملات هو الحظر فعليه لا يقبلون شرطاً في باب المعاملات كالبيوع إلا بشرط منصوص في الشرع وإلا جعلوه شرطاً ملغياً وهذا خلاف ما عليه الأمة قبلهم من أن قاعدة المعاملات هي : " أن كل شرط ومعاملة هي على الحل ولا يمنع شيء من ذلك إلا إذا خالف النص " أي جاء النص بإلغائه أو منعه , ذكر هذا الإمام ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) .
الأمر السادس :توسعهم في العموم , فالعموم حجة بالإجماع وليس المذموم الاحتجاج بالعموم وإنما المذموم هو التوسع في الاحتجاج بالعموم فيقدمون العموم على السنة التركية وهو ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته من العبادات مع توفر الدواعي وانتفاء الموانع .
لهذه الأسباب والأمور الستة صار مذهب الظاهرية مذهباً مذموماً في باب الفقه , ومما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الخامس من ( منهاج السنة ) : " كل قول تفردت به الظاهرية فهو خطأ " وذلك أنهم إذا انفردوا بقول فقد صار قولهم قولاً محدثاً لأن الظاهرية متأخرون , وقد أشار إلى هذا الوجه ابن رجب في ( شرحه على البخاري " .
المقدمة الرابعة
التقليد : وهو أخذ قول العالم من غير معرفة لدليله.
وهو في الأصل مذموم إذ الأصل أننا مطالبون باتباعالدليل لقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }, وقوله : { ماذا أجبتم المرسلين }.
والناس في هذا الباب على طرفي نقيض, هذا من حيث الجملة:
_ فطائفة حرمت التقليد مطلقاً.
_ وطائفة أوجبته حتى أغلقت باب الاجتهاد.
فالطائفة الأولى هم الظاهرية ومن تأثر بهم.
والطائفة الثانية هم متعصبة المذاهب .
_ والوسط الذي عليه أئمة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن حكم التقليد يختلف باختلاف الناس:
_ فتارة يحرم , وهذا هو الأصل .
_ وتارة يجوز.
_ وتارة يجب.
أما الصورة التي يجب فيها فهو في حق العامي الذي لا يستطيع إدراك الدليل ووجه الدلالة قال الله فيهم : { فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
أما الصورةالتي يحرم فيها التقليد فهو لمن استطاع معرفة الدليل وبانت له الحجة فليس له أن يدع البرهان والدليل لقول أحد كائناً من كان وهذا بإجماع أهل العلم , قال الشافعي :" أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان "
أما الصورةالتي يجوز فيها التقليد فهو لمن كان عنده آلة اجتهاد ولكن ضاق عليه الوقت ولم يتيسر له النظر في المسألة فإنَّ له أن يقلد فيها , هذا ملخص ما قرره ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) وابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) .
تنبيهان :
التنبيه الأول :الناس من حيث الجملة مع النص والدليل أقسام ثلاثة :
القسم الأول :أهل الاجتهاد وهم الذين ينظرون في الأدلة ويرجحون بقواعد أهل العلم وعندهم آلة الاجتهاد , وهذا القسم هو أعلى هذه الأقسام وأفضلها , قال تعالى:{ لعلمه الذين يستنبطونه منهم }.
القسم الثاني :أهل الإتباع وهم الذين يأخذون بقول العالم مع معرفة دليله من غير نظر وترجيح بين الأدلة .
القسم الثالث :هم أهل التقليد وهم الذين يأخذون قول العالم الذي يثقون به من غير نظر في دليله , وهذا القسم الثالث ليس عالماً بالإجماع كما قاله الإمام ابن عبد البر , ولو عرف جميع أحكام الشرع.
فائدة :لا فرق في التقليد بين المسائل الفقهية والمسائل العقدية والذين فرقوا بينهما هم المتكلمون لا سيما الأشاعرة الذين حرَّموا التقليد في باب الاعتقاد بل منهم من كفَّر المقلد في بعض مسائل الاعتقاد , والصواب أنه لا فرق بينهما وأن الشريعة واحدة في باب الاعتقاد والفقه , وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه ( النبوات ).
_ وأخطأ بعض أهل السنة وظن حرمة الاعتقاد بغير دليل في مسائل أصول التوحيد , واستدل بأن الكافر يقول في قبره إذا سئل عن ربه ونبيه وفي رواية المنافق يقول : " هاه هاه سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " قال : فدل هذا على وجوب معرفة الدليل في أصول مسائل التوحيد وأن التقليد فيها محرم , وهذا الذي قرره خطأ مخالف لما عليه أهل السنة وما ظنه دليلاً لا دلالة فيه , وذلك لما يلي :
الأمر الأول :أن مقتضى هذا الدليل أن المقلد في هذه المسائل يكون كافراً لا آثماً وهذا خلاف ما قرره من أنه يكون آثماً لا كافراً.
الأمر الثاني :أن سبب الإجابة في القبر في هذه المسائل الثلاث ليس العلم أو عدمه ولا إدراك الدليل أو عدمه
وإنما توفيق الله له بسبب إيمانه وإسلامه , لذا لو أن كافراً حفظ الأدلة قبل أن يموت لم يستطع الإجابة .
التنبيه الثاني :الاجتهاد لا يحدد بزمن لأن الشريعة دعت إليه ولم تحدد له زمناً فمن زعم أنه انغلق باب الاجتهاد في قرن كذا , أوفي قرن كذا فقد قال ما ليس له به علم وادعى ما لا دليل عليه , ثم إن لازم هذا الدور وذلك أن أول من قال بإغلاق باب الاجتهاد قوله هذا اجتهاد فهو اجتهد بأن حكم بأن الاجتهاد انغلق بابه وانتهى زمانه فعلى هذا اجتهد وليس أهلاً للاجتهاد .
_ ثم إن الاجتهاد يتجزأ وهذا هو قول المحققين من علماء الأصول ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فقد يكون الرجل مجتهداً في مسائل دون مسائل وأبواب دون أبواب والشرط لكل مجتهد أن تكون عنده آلة اجتهاد وهو أصول الفقه.
المقدمة الخامسة:
العلم مر بمراحل , كان في السابق كتاباً وسنة وبعد وقت الصحابة صار كتاباً وسنة مع أقوال الصحابة , وبعد وقت التابعين صار كتاباً وسنة وأقوال الصحابة والتابعين , فهو في ازدياد وكل ازدياد للعلم تصعيب للعلم , وهذا الازدياد من حيث الجملة نوعان :
النوع الأول:علوم آلة ووسائل لإدراك العلم , كعلم اللغة , وأصول الفقه , ومصطلح الحديث , ثم مع مرور الأيام أُدخِل في علم أصول الفقه ومصطلح الحديث ما ليس منه لا سيما علم أصول الفقه , فقد كثُرت فيه المباحث الكلامية .
النوع الثاني :أقوال لأهل العلم , إذ الحق والصواب واحد , وكل ما زاد على هذا القول الواحد فهو مما أُدخِل في العلم , وسبب زيادة الأقوال أن العلماء يتفاوتون في مداركهم , وأنه كلما بعُد عن نور النبوة وعصر النبوة قلّ هذا النور فيلتبس الحق , فيقول العالم قولاً خلاف الحق , وهذا معنى القول المأثور عن علي رضي الله عنه : " العلم نقطة كثرها الجاهلون " .
وفي مقابل هذا كله ضعفت المدارك من الحفظ والفهم , فقد كان العرب الأوائل أهل حفظ وأهل فهم , هذا بطبيعتهم كيف وقد ازداد في حق الصحابة والتابعين الهداية بنور الوحي فسهل الله عليهم تسهيلاً شرعياً لإدراك العلم الشرعي .
ويستفاد من هذا عدة فوائد :
الفائدة الأولى :أن العلم قد مر بمراحل .
_ منها أنه لم يكن العلم إلا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم , ثم ازداد فانضاف إليه كلام الصحابة , ثم ازداد فانضاف إليه كلام التابعين , ثم ازداد فانضاف إليه كلام أتباع التابعين , ثم ازداد فدونت المسائل وهو أن يُسأل العالم فيجيب فكثرت هذه المسائل فصعبت الإحاطة بها فاختُصرت هذه المسائل إلى أن وصل العلم في باب الفقه إلى متون مختصرة .
وفي باب العقائد ازداد الكلام في مسائل العقائد بسبب المخالفين , فكلما بعُد الزمان والعهد عن الزمن الأول كثرت البدع واشتدت فاحتاج العلماء للرد على هذه البدع وتأصيل قول أهل السنة في بيان خطأها , بالإضافة إلى أنه قد يزِل عالم سنة في باب الاعتقاد فيجتهد العلماء في بيان خطأه حتى لا يتبع , وقد يكون له أتباع فيكثر الرد عليهم , فعليه اتسع كلام أهل العلم في باب الاعتقاد فدونت كتب السنة وهي التي تجمع كلام أئمة السلف في مسائل الاعتقاد إلى أن دونت هذه المتون المختصرة كلمعة ( الاعتقاد ) , ( والواسطية ).
فعلى هذا إذا أراد طالب علم أن يدرس العلم سواء في باب الاعتقاد أو الفقه أو غيرهما فعليه أن يعرف مراحل وصول العلم إلينا فيسلك الجادة التي سلكها العلماء بأن يدرس المتون الفقهية بدليلها ثم يترقى إلى أن يجتهد فينظر في الأقوال وفي الأدلة , ومن طالبَ طلاب العلم بأن يتركوا دراسة هذه المتون سواء في باب الاعتقاد أو الفقه فقد أضر بهم وذلك لأمرين :
الأمر الأول: أنه لم يراع كثرة العلم عن ما كان عليه .
الأمر الثاني:أنه لم يراع ضعف مدارك الناس وأنها ضعفت عن ما كان عليه الأولون , لذا كثيرٌ ممن يخالفون جادة أهل العلم المسلوكة في دراسة العلم ضعُف في تحصيل العلم .
الفائدة الثانية :أن ما أُحدث من مدارس وقاعات , وعند الأولين من الرباط لتعلم العلم ليس من البدع , ومن ذلك ذكر الشروط والأركان والواجبات والمستحبات في مسائل الفقه , ومن ذلك تقسيم كتب الفقه إلى أبواب وفصول بل وتدوين العلم وكتابته سواء كان من كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان أو مسائل الفقه .
والسبب في عدم كون هذه من البدع أنه يشترط في الحكم على وسيلة بأنها بدعة أمران :
الأمر الأول :أن يكون المقتضي موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
الأمر الثاني :أن لا يكون هناك مانع يمنع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من اتخاذ هذه الوسيلة .
فإذا اجتمع هذان الأمران فإن اتخاذ هذه الوسيلة التي لم يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يكون من الوسائل البدعية , وإذا اختل أحد هذين الأمرين فلا تكون هذه الوسيلة بدعة . قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) و ( القواعد النورانية ) ومواضع من ( مجموع الفتاوى ).
إذا تبين هذا فإن ما سبق ذكره مما زيد في العلم ليس بدعة لأن مقتضي هذا الفعل لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لسببين :
السبب الأول :كثرة العلم .
السبب الثاني :ضعف المدارك . وقد نص على ضعف مداركنا من جهة الحفظ الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) والشاطبي في كتابه ( الموافقات )
المقدمة الخامسة
طلب علم الفقه عن طريق المتون الفقهية أنفع بكثير من طلب علم الفقه عن طريق أحاديث الأحكام وليس هذا لأن كلام الرجال أجل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله - وإنما لأسباب :
السبب الأول :أن كتب أحاديث الأحكام ذكرت نوعاً واحداً من الأدلة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم , فليس فيها ذكرٌ لدليل القران ولا الإجماع ولا القياس الصحيح ولا قول الصاحب إلخ , بخلاف المتون الفقهية فإنها ذكرت عدة مسائل وأحكام من دليل القران والسنة والإجماع والقياس الصحيح إلخ , فهي أشمل في ذكر المسائل مع التنبيه إلى أن الماتن قد يذكر قولاً مرجوحاً لظنه أنه راجح كما أن الناظر في الحديث قد يفهم فهماً مرجوحاً لظنه أنه الراجح .
السبب الثاني :أن المتون الفقهية تذكر المسائل مرتبة , فتجمع المسائل المتعلقة بالمياه في باب المياه , وكذا المسائل المتعلقة بالزكاة في كتاب الزكاة وهكذا , أما أحاديث الأحكام فإنها ليست كذلك , فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :" هو الطهور ماؤه الحل ميتته " هذا الحديث فيه ذكر لأحكام مياه البحر وأحكام صيد البحر فإن هذا الحديث ذكر الأحكام المتعلقة بالمياه والأحكام المتعلقة بباب الصيد والذبائح , لذا من درس الفقه على طريقة أحاديث الأحكام فإن المسائل لا تكون مرتبة ولا واضحة كمن يدرسها على طريقة المتون الفقهية .
السبب الثالث :أن المتون الفقهية أجمع لمسائل العلم من أحاديث الأحكام من جهة أنها تذكر مسائل كثيرة , وذلك لأن أدلة المتون الفقهية متنوعة ولأن فيها ذكراً لما أفتى به العلماء في النوازل في زمانهم .
السبب الرابع :أن المتون الفقيهة أدق في بيان الحكم المراد , فيعبرون بقولهم يجوز وله معنى عندهم , ويقولون يستحب , وله معنى عندهم , وهكذا , بخلاف المتون الحديثية , فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحكم وأهل العلم يتفقهون في هذا الدليل وفي غيره من الأدلة , لذا العمل مباشرة بما ظهر من الدليل دون النظر في الأدلة الأخرى وفهم السلف لهذا الدليل هذا خطأ .
السبب الخامس :أن المتون الفقهية مرتبة في ذكر الشروط والواجبات والمستحبات , ففي الوضوء مثلاً ذكروا فروضه ثم المستحبات , وهذا الترتيب لا يوجد في أحاديث الأحكام .
تنبيهان :
التنبيه الأول :كثيرٌ من الناس في دراسة المتون الفقهية على طرفي نقيض :
الطرف الأول :غالٍ فيها , وهو المتعصب لها ويتكلف تأويل الأدلة لتوافق ما ذكر الماتن وهذا خطأ كبير وهو سبب للفتنة والهلاك .
الطرف الثاني :وهم الجافون عن المتون الفقهية والمزهدون فيها والمعيبون لدراستها وهذا خطأ على ما تقدم ذكره , وكثيراً ما يشنع هؤلاء على الرجل إذا انتسب إلى مذهب كأن يقول : أنا حنفي , أو مالكي , أو شافعي , أو حنبلي , والتشنيع على الإطلاق لا يصح وذلك أن من انتسب إلى مذهب :
_ من غير تعصب له .
_ ولحاجة دعت إلى ذلك .
بهذين القيدين فإنه لا يشنع عليه لأن هذا من باب الإخبار كما يخبر الرجل أنه من القبيلة الفلانية أو الأرض الفلانية , وقد أفاد معنى هذا الكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ونحن في هذا الزمن – والحمد لله – لا نحتاج للانتساب إلى أحد هذه المذاهب الأربعة إلا عند مواجهة طوائف من أهل البدع يريدون التشنيع علينا بأننا أتينا بمذهب جديد فنبين أننا تفقهنا على أحد هذه المذاهب الأربعة تأليفاً للهم وللناس , وهذا ما فعله الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
التنبيه الثاني :لا يصح الإفتاء والتعبد بما ذكرته المتون الفقهية , بخلاف أخذ فتوى العالم الموثوق سواءً كان حياً أو ميتاً , وذلك لأن أصحاب المتون الفقهية يكتبون ما هو راجح في مذهبهم بحسب ما يظهر لهم من أقوال أصحاب المذهب وإن كان قد يتعبد الله بخلاف ما كتب أما العالم الموثوق فإنه يذكر ما يراه راجحاً ومراداً لله ورسوله .
يتبع إن شاء الله .