زياني
2010-03-15, 01:26 PM
بسم الله وبعد:
فهذا مبحث جليلٌ في مسألة إثبات مقام وجلوس نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة مع ربه جل في علاه، فقد ثبت عنه كما في حديث الشفاعة قال:" فأنتهي إلى ربي، وهو على كرسيه أو سريره، [فيتجلى لي] فأخر له ساجدا فأحمده بمحامد لم يحمده أحد بها قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي فيقال لي: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع "، وثبت من طرق أخرى متواترةٍ وكثيرةٍ أنه عليه السلام إذا وصل إلى كرسي الرب رفعه الله إليه ـ كما رفعه في المعراج ـ، لكن يوم القيامة يُجلسه معه على كرسيِّه مِنْ عَلَى يمين العرش تكْرُمةً له، وإظهارًا لفضله، ومن ثَم يشفعُ للأمةِ بأبي هو وأمي رسول الله، وقد قسمتُ هذا البحث إلى سة فصول:
الفصل الأول: وجه التوافق بين كون المقام المحمود هو الشفاعة وهو نفسُهُ الجلوس على يمين العرش مع الرب لأجل الشفاعة.
الفصل الثاني: ذكر الأدلة على ذلك من القرآن والسنة: وهي كثيرة بل متواترة:
الفصل الثالث: ذكر الأدلة على تصحيح حديث القعود من الإجماعِ، والإنكارُ على المُخالف: وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تصريح بعض السلف بصحة بعض الأحاديث فقط، مع التَّضعيفِ لغَيرها:
المسألة الثانية: تصريح بعض السلف بصحة الأحاديث جملةً، أو بصحة حديث معين من غير تضعيفٍ لغيره، والبيان على أن الأمة قد تلقت حديث القعود بالقبول:
الفصل الرابع: ذكر أدلة القعود من المعقول مما يوافق المنقول:
الفصل الخامس: ذكر إجماع وكلام العلماء في حكم من رد فضيلة القعود على العرش:
الفصل السادس: ذكر كلام بعض من خالف السلف والإجماعَ وتوجيهُ قولِه.
الفصل الأول: وجه التوافق بين كون المقام المحمود هو الشفاعة وهو نفسُهُ الجلوس على يمين العرش مع الرب لأجل الشفاعة: ذلك أنّه مما ينبغي معرفته في هذا الباب أنْ لا تعارض بين قول من جعل المقام المحمود هو الشفاعة بمختلف مقاماتها، وبين من جعله جلوسه عليه السلام على العرش مع ربه لأجل الشفاعة، لأنَّ هذا الجلوسَ من أشرفِ مقاماتِ الشفاعةِ، حيث يشفع لأمته إذا أقعده ربه معه، فقد ذكر الطبري أن هذا الجمع:" ليس بمحال عند جميع من ينتحل الإسلام"، وقال ابن أبي يعلى في إبطال التأويلات:".. على أَنَّهُ لا يمتنع أَنْ يَكُونَ المقامُ المحمودُ: الشفاعةُ والقعودُ عَلَى العرش، لأَنَّ القصد من ذلك علوّ المنزلة"، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم:" والظاهر أَن لا منافاة بين القولين، فيمكن الجمع بينهما بأَن كلاهما من ذلك، والإِقعاد على العرش أَبلغ "، علَى أن من ذكر بأن المقام المحمود هو الشفاعة، فإنه لم ينف الجلوس على العرش لأنه أخصُّ وأرفعُ مقاماتِ الشفاعة المتعدِّدة، وسيأتي ذكرُ أدلةٍ كثيرةٍ على ذلك من السنة ومن كلام السلف الطيب، علمًا أنّي اعتمدت في هذا البحث على كتاب السنة للخلال، فإنه أشبعها في نحو مجلدٍ كامل،
الفصل الثاني: ذكر الأدلة على ذلك من القرآن والسنة: وهي كثيرة بل ومتواترةٌ، جمعتُ منها نحوًا من اثني عشر دليلا، وكل دليل له طرق كثيرة كما سيأتي، وما كان فيها من ضعيفٍ ضعفًا شديدا إلا بيَّنته، وهو حديث مرسل المكيين فقط، وأحد طرق حديث ابن عباس، أما سائر الأحاديث والطرق فهي إما صحيحة أو حسنة قدْ بينتُ وجه حُسنها، وما كان فيها من ضعيفٍ ضعفا يسيرا فقد ذكرت وجه ضعفه، ومن ثَم حسنه لغيره، لكون الإسناد لا يوجد فيه من هو متهم أو كذاب، ثمّ أوردت له متابعاتٍ يتقوى بها، من نفس طريق ذلك الصحابي، ثم عزّزت صحته بشواهد أخرى عن صحابة آخرين، فقد قال الترمذي عن تعريف الحديث الحسن:" إنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كلُّ حديث يُروَى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا ويُروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن"، هذا وقد ذكر ابن القطان وعامة أهل الحديث أن تلقي الأمة للحديث بالقبول مما يُحسنه ويجعله صحيحا، وقال الخطيب في الكفاية ص 17:" وقد يستدل أيضا على صحته ـ الحديث ـ بأن يكون خبرا عن أمر اقتضاه نص القرآن أو السنة المتواترة، أو اجتمعت الأمة على تصديقه، أو تلقته الكافة بالقبول وعملت بموجبه لأجله"، وحديث القعود على العرش قد توفرت فيه كل شروط الحسن والصحيح بدءًا من كثرة طرقه، وسلامة رجاله من التهمة، إلى اجتماع كل السلف على تصديقه، وأخيرا تلقي الأمة له بالقبول، ومن المعلوم أنه إذا انعقد إجماعٌ على أمرٍ في القرون المفضلة، فإنه لا يحل أن يُضرب ويُرد بمخالفة أحد من المتأخرين، والله المستعان من مخالفة سبيل المؤمنين، من السلف الطيبين، ونسبتهم إلى الخُرافة والغلو الأثيم، وهذه هي أدلتهم على القعود:
الدليل الأول: وفيه أن جميع الأنبياء يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقوم لوحده من دونهم هناك فوق العرش لأجل الشفاعة إظهارا لفضله وعلو منزلته، فخرج البخاري 6975 عن أنسأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يحمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك، فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أما ترى الناس ..، اشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك،[لست بصاحب ذاك] ويذكر لهم خطيئته التي أصاب ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم فيقول: لست هناكم ويذكر لهم خطاياه التي أصابها ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما فيأتون موسى فيقول: لست هناكم ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني[ زاد أحمد: فيقولون: يا محمد اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا، فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي[ في داره] [ فيؤذن لي عليه، [ زاد أحمد: فآتى ربي عز وجل على كرسيه أو سريره]، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال لي ارفع محمد وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع..."، ووجه الإستدلال منَ الحديث منْ وجهين:
أولاهما في قول الأنبياء" لست هناك"،و"لست هناكم"، وهذه اللفظة ظرف مكان كما هو معروف، إشارة إلى مكان آخرَ مخصوصٌ بالنبي عليه السلام وحده، والمعنى: لست في ذاك المكان الذي تظنونني فيه، ولست له أهلا "، ولا يكون ذلك إلا في مكانٍ حسي وهو القيام على العرش كما قال ابن حجر، وبينته الأحاديث التالية، فإن قال قائل: قد ذكر بعضهم أن هذا من باب استعمال ظرف المكان في الزمان، لأن "هنا"، ظرف مكان، فاستُعمِلت في ظرف الزمان، لأن المعنى: لست في ذلك المقام، لكن تعقبهم ابن حجر في الفتح (11/441) فقال:" كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه، لكنه المعنوي لا الحسي"، ثم قال:" مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا"،
أما الوجه الثاني: فحتى لو أُوِّلَت: هناكم" بالزمان، لكان معنى الحديث: لا يوجد في ذلك المقام أحد الآن، ولكن ائتوا محمدا، فإنه وحده الذي سيكون على ذلك المقام ووحده الذي سيقعد تلك القعدة، وقد بينت الروايات الأخرى أنهم يأتوه فيقول: أنا لها ثم ينطلق إلى ربه في داره، فيجده على كرسيه، وبينت رواياتٌ أخرى كثيرة أنه إذا أتاه وشفع، رفعه ربه إليه وأجلسه معه على كرسيه مِن على يمين العرش، والأحاديث يُكَمِّل ويُبين بعضها بعضا ويفسره، لا يُنقضُه، كما في:
الدليل الثاني: حديث مجاهد رحمه الله: وقد ذكر الإمام أحمد أنه وإن كان المرسل ضعيفا، فإن مرسل مجاهد هذا صحيح لتلقي العلماء له بالقبول ولإجماع السلف عليه كما سيأتي، وقد رواه عنه كلّ من ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب وأبو يحيى القتات وجابر بن يزيد كلهم عن مجاهد به، وأشهر طرقه وأصحها طريق محمد بن فضيل عن ليث به:
فقال الخلال: حدثنا أبو بكر قال لي أبو عبد الله محمد بن بشر بن شريك: هذا عن مجاهد وحده! هذا عن ابن عباس, وقد رواه شريك عن عطاء بن السائب عن مجاهد, وقد خرجت في هذا أحاديث وقال لي: أنا أكتبها لك, فكتبها بخطه, ثم جاءني إلى طاق المحامل فدخل علي وأعطانيها فقلت له اقرأها علي فقال لا يقنعك إن كتبتها لك بخطي فقلت لا أنا أريد أن تقرأها علي فقرأها علي:
أما طريق القتات: فقد أورده ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة عن ابن بطة قال: حدثنا أبو بكر النجاد حدثني هارون بن العباس حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثنا أبي حدثنا أبو يحيى القتات عن مجاهد، وقال الخلال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا عبد الرحمن بن شريك ثنا أبي قال ثنا أبو يحيى القتات عن مجاهد:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعد محمدا على العرش",
ثم قال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا عبد الرحمن بن شريك يعني عمه قال ثنا أبي ثنا عطاء بن السائب وليث بن أبي سليم وجابر بن يزيد كلهم يقول: سمعت مجاهدا قال عطاء في حديثه وسئل عن قول الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده على العرش".
أما طريق ليث فقد حدث بها النخعي وداود بن علية والمطلب بن زياد وجعفر الأحمر ومحمد بن فضيل وهو أشهر طرقه وأصحها:
أما طريق النخعي فخرجها الخلال في السنة قال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا عبدالرحمن بن هانىء وطلق بن غنام قالا ثنا عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي قال ثنا ليث عن مجاهد في قوله:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال:" يعقعده على العرش".
وأما طريق داود بن علية فقال الخلال أيضا: حدثنا أبو بكر حدثني محمد بن بشر ثنا محمد بن عيسى الوابشي ومالك بن إبراهيم النخعي قالا ثنا داود بن علية ثنا ليث عن مجاهد مثله.
وأما طريق ابن زياد فقال الخلال حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا محمد بن رباح الأشجعي وإبراهيم بن محمد بن ميمون الخزاز وإبراهيم بن عبد الحميد الثقفي قالوا ثنا المطلب بن زياد قال ثنا ليث عن مجاهد.
وأما طريق جعفر الأحمر فقال الخلال أيضا حدثنا أبو بكر ثنا حدثني محمد بن بشر ثنا الحسن بن بشر ثنا جعفر الأحمر ثنا ليث عن مجاهد مثله.
وأما عن رواية ابن فضيل عن ليث فهي عنه متواترة رواها العشرات منهم منهم الإمام إسحاق بن راهويه وعبد الله بن أحمد وأبو بكر وعثمان بنا أبي شيبةوالحسن الحضرميوإبراهيم الرازي ومحمد بن مصعب والعلاء بن عمرو ومحرز بن عونومحمد بن نمير وواصل بن عبد الأعلى وأبو الهذيل وعبيد بن يعيش وجعفر بن محمد الحداد ونزار بن صرد ومحمد بن بكير ويحيى بن حسان ويحيى الحماني والمصيصي وغيرهم كثير، وكلهم قد احتج بهذا الحديث كما سيأتي:
فقال الخلال في السنة (241..): ثنا المروذي أخبرنا أبو داود السجستاني ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال: يجلسه على عرشه", وسمعت أبا داود يقول: من أنكر هذا فهو عندنا متهم", وقال أبو داود: ما زال الناس يحدثون بهذا يريدون مغايظة الجهمية", وقال أبو داود السجستاني: أرى أن يجانب كل من رد حديث ليث عن مجاهد يقعده على العرش ويحذر عنه حتى يراجع الحق ما ظننت أن أحدا يذكر بالسنة يتكلم في هذا الحديث إلا إنا علمنا أن الجهمية تنكره من جهة إثبات العرش"، وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: قال النجاد: وحدثنا معاذ بن المثنى ثنا خلاد بن أسلم ثنا محمد بن فضل عن ليث عن مجاهد كلهم قال في قول الله عز وجل " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " قال:" يجلسه معه على العرش"، قال النجاد: وسألت أبا يحيى الناقد ويعقوب المطوعي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وجماعة من شيوخنا فحدثوني بحديث محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد، وسألت أبا الحسن العطار عن ذلك ؟ فحدثني بحديث مجاهد ثم قال: سمعت محمد بن مصعب العابد يقول هذا حتى ترى الخلائق منزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه تبارك وتعالى وكرامته لديه"، ومما يؤكد صحة حديث مجاهد أربعة أمور:
أحدها تلقي الأمة كلِّها له بالقبول كما سيأتي في بابه،
والأمر الثاني: أن مراسيل مجاهد جيدة كما قال الذهبي في الموقظة، وقال ابن المديني ويحيى القطان: مرسلات مُجَاهد أحب إلي من مُرْسلات عطاء بكثير"،
والأمر الثالث أنه قد أخذ هذا التفسير من ابن عباس، كما ذكر الخلال وغيره، واستدلوا بما ثبت عن مجاهد قال:" عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية أسأله عنها"، فكان أعلم الناس بتفسير ابن عباس، وقال الذهبي في العلو:" ويبعُد أن يقول مجاهد ذلك إلا بتوقيف، فإنه قال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره ثلاث مرات على ابن عباس رضي الله عنهما أقفه عند كل آية أسأله"، قال الذهبي: فمجاهد أجل المفسرين في زمانه وأجل المقرئين".
والأمر الرابع: كثرة الشواهد لهذا الحديث كما سيأتي، وقد قال النجاد:" قَال أحمد بن حنبل: لَمْ يُرو هَذَا عَن مجاهد وحده، هذا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وخرج فِي ذلك أحاديث وقرأها عَلَى أصحابه"، قال: وَهُوَ أعرف بصحة الحديث ممن تقدم ذكره ممن أنكرها"، والذي وجدته من شواهدَ كثيرةٍ لحديث مجاهدٍ ما يلي:
الدليل الثالث: خبر ابن عباس رضي الله عنه: قال الحافظ أبو بكر بن سلمان النجاد:" قاله ـ القعود ـ عبد الله بن العباس ومن بعده من أهل العلم وأخذوا به كابراً عن كابر وجيلاً عن جيل إلى وقت شيوخنا.."، وقد وجدت له أربعة طرق بعدة متابعات:
أولاها: ما قاله الطبراني في الكبير 12474 حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ثني ابن لهيعة عن عطاء بن دينار الهذلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}قال: يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود"، هذا حديث حسن، وعبد الله بن صالح مذكور فيمن روى عن ابن لهيعة قبل اختلاطه، وعطاء بن دينار مصرى ثقة، قال عنه أحمد بن صالح:" هو من ثقات أهل مصر، وتفسيره فيما نرى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير"، وقال ابن حجر: روى عن سعيد بن جبير وقيل لم يسمع منه، وذكر في التقريب أنها صحيفة"، ومن المعلوم أنها من طرق التحمل والإتصال فصح الحديث، لذلك قال الخليلي في الإرشاد: وتفسير عطاء بن دينار يكتب ويحتج به"، ومع ذلك فقد توبع ثلاث متابعات كما في:
الطريق الثانية: قالها الخلال في السنة: وحدثنا أبو بكر ثنا أبو عبد الله بن محمد بن بشر بن شريك بن عبدالله النخعي قال ثنا محمد بن عقبة الشيباني وأحمد بن الفرج الطائي قالا ثنا عبادة بن أبي روق سمعت أبي يحدث عن الضحاك عن ابن عباس في قوله:{ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال:" يقعده على العرش"، تابعه أبو إسحاق الشيرجي في كتاب السنة قال: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْر نا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ سُوَيْد نا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِي وَأَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الطَّائِيُّ قَالا: نا عبادة بْنُ أَبِي رَوْقٍ سَمِعْتُ أَبِي عن الضحاك عن ابن عباس فذكره سواءا، ذكره القاضي في إبطال التأويلات، وفي إسناده علتان: إحداهما محمد بن بشر فقد قال عنه الذهبي وحده: ما هو بعمدة، يعني أنه لا يُعتمد عليه لوحده، وهي مثل عبارة: ليس بالقوي، والعلة الثانية عبادة ضعيف، فقد قال ابن عدي: ولابن أبي روق هذا أحاديث كما لأبيه أحاديث، وليس حديثهما بالكثير ومقدار ما يرويانه لا يتابعان عليه"، لكن الوالد أبا روق عطية بن الحارث صاحب التفسير صدوق، وكذلك الضحاك، لكن اختلف في سماعه من ابن عباس، وذكر شعبة أنه أخذ التفسير من سعيد بن جبير فأرسله عن ابن عباس، على أن عبادة بن أبي روق قد توبع متابعتين تامتين كما في:
الطريق الثالثة: وفيها متابعتان، نبتدئهما بالساقطة، فقد قال الذهبي: أنا الحسن بن علي أنبأنا جعفر أنبأنا السلفي أنبأنا علي بن بيان أنبأنا بشري الفاتني أنبأنا عمر بن سبيك القاضي حدثنا الحر بن محمد بن اشكاب حدثنا عمر بن مدرك الرازي حدثنا مكي بن إبراهيم عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى:" عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" قال:" يقعده على العرش"، قال: إسناده ساقط وعمر هذا الرازي متروك وفيه جويبر"، وهو ضعيف، وقد توبع متابعة لا بأس بها في الإعتبار والشواهد كما في:
الطريق الرابعة: قال ابن النجار في ذيل تاريخه من ترجمة علي بن محمد القادسي: أخبرتنا عين الشمس بنت أحمد بن محمود الثقفي بأصبهان أنبأنا أبو بكر محمد بن علي بن أبي ذر الصالحاني قراءة عليه أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحيم أنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن فورك القباب حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون بن سليمان الاشعري ثنا علي بن محمد القادسي بعكبرا سنة 250 حدثنا محمد بن حماد عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس في قوله عزوجل (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين حبيب الله ؟ فيتخطى صفوف الملائكة حتى يصير إلى العرش فيمد يده العزيز عز وجل حتى يجلسه معه على العرش حتى تمس ركبته ركبته"، ومن طريقه خرجه الذهبي في الميزان من ترجمة مقاتل: أنبأني جماعة عن عين الشمس الثقفية فذكره قم قال: فهذا لعله وضعه أحد هؤلاء أصحاب مقاتل أو القادسي"، وأكّد ذلك في الميزان، ووهم في ذلك فإن محمد بن حماد هو الطهراني الرازي الثقة الكبير، وقد تُوُفِّي سَنَة إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْن، وبمثل الذي ذكرت قال ابن النجار في تاريخه من ترجمة علي بن محمد القادسي، قال: حدث بعكبرا عن محمد بن حماد أظنه الطهراني، روى عنه: أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون الاشعري"، أما القادسي فليس بوضاع، لأن ابن النجار وابن ماكولا ترجماه ولم يجرحاه، وسبب حمل الذهبي عليه أنه ينكر القعود على العرش لذلك اتهمه به، وليس كما قال فإن الحديث قد تلقته الأمة بالقبول والحمد لله، ولا يحل الطعن في المسلمين بمجرد الظن أو مخالفة الإعتقاد، على أنيّ بعد طول بحثٍ وتدقيق عن علي بن محمد رأيت أن القادسي نسبة إلى قادسية الكوفة، على يومين منها، فإذ ذلك كذلك ففي هذه الطبقة والبلدة علي بن محمد وهو ابن أبي الخصيب الكوفي وهو صدوق توفي سنة ثمان وخمسين ومئتين، وقد سمع منه هذا الحديثَ أحمدُ بن الحسن الكوفي البغدادي سنةَ مئتين وخمسين، وأحمدُ هذا قد ترجمه الخطيب ووثقه، وأما أبو بكر بن فورك فهو مقرئ معروف، توثيقه ضمني، لأنه راوي الكتب عن ابن أبي عاصم، وقال الذهبي في السير: الإِمَامُ الكَبِير المُقْرِئ مُسْنِد أَصْبَهَان.. وما أَعلم بِهِ بَأْس"، ووثقه أبو العلا الحافظ، وأما أبو طاهر الأصبهاني فهو ثقة جليل معروف حدث عن الدارقطني بسننه، وأما ابن أبي ذر فقال عنه الذهبي: مسند إصبهان في زمانه.. وكان صالحاً صحيح السماع"، وقال في السير: الشيخ الجَليل الصَّدوق مُسْنِدُ وَقته"، وكذا قال عن عين الشمس:" مسندة أصبهان، وكانت شيخة صالحة عفيفة من بيت رواية وحديث"، فصار هذا الحديث كل رجاله ثقات إلا مقاتل بن سليمان، فقد قال عنه ابن خلكان: وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وثقه في الرواية، ومنهم من نسبه إلى الكذب"، وقد اتهمه جماعة من أهل الحديث وضعفه جدا، لأنه كان من المُشبِّهَة، ونسبوه إلى التجسيم، بينما أثنى عليه آخرون، خاصة إذا روى في التفسير كهذا الحديث، وقد أثنى عليه الشافعي فقال:" الناس عيال في التفسير على مقاتل" ، وقال ابن عدي:" وكان حافظا للتفسير وكان لا يضبط الإسناد"، وقال الخطيب:" كان له معرفة بتفسير القرآن ولم يكن في الحديث بذاك"، وهذا الحديث في تفسير القعود فيُقبَل، على أن الحافظَ الخليلي قد ذكر أن المناكير في روايته هي من رواية الضعفاء عنه، لا منه، فقال في الإرشاد من ترجمته: "محله عند أهل التفسير والعلماء محل كبير، واسع العلم ، لكن الحفاظ ضعفوه في الرواية وهو قديم معمر، سمع منه كبار خراسان والعراق، وقد روى عنه الضعفاء أحاديث مناكير، والحمل فيها عليهم، وروى عنه جماعة من أهل العراق أحاديث مشهورة"، قلت: وقد روى عنه شعبة وكان لا يروي إلا عن العدول، وقال بقية: كنت كثيرا أسمع شعبة وهو يُسأل عن مقاتل بن سليمان فما سمعته قط ذكره إلا بخير"، وقال الصفار: كان إبراهيم الحربي يأخذ مني كتب مقاتل فينظر فيها، فقلت له ذات يوم: أخبرني يا أبا إسحاق ما للناس يطعنون على مقاتل؟ قال: حسدا منهم لمقاتل"، وفي الميزان للذهبي:" [وقال ابن واقد] عن مقاتل بن حيان وهو صدوق ما وجدت علم مقاتل بن سليمان إلا كالبحر"، وممن قبل روايته في المتابعات أيضا ابن عيينة، فقد قال نعيم بن حماد: رأيت عند سفيان بن عيينة كتابا لمقاتل بن سليمان فقلت لسفيان يا أبا محمد تروي لمقاتل في التفسير قال لا ولكن أستدل به وأستعين"، وخلاصة القول فيه ما قال ابن عدي:" ولمقاتل من غير ما ذكرت من الحديث، حديثٍ صالح، وعامة أحاديثه لا يتابع عليه على أن كثيرا من الثقات والمعروفين قد حدث عنه، والشافعي محمد بن إدريس يقول: الناس عيال على مقاتل بن سليمان في التفسير وكان من أعلم الناس بتفسير القرآن وله كتاب الخمسمائة آية .. وفي ذلك الكتاب حديث كثير مسند وهو مع ضعفه يكتب حديثه"، فصار حديثه هذا في القعود حسنا لغيره بطرقه الثلاثة أو الأربعة السابقة، وله شواهد أخرى:
الدليل الرابع والخامس: حديث أبي هريرة وعلي رضي الله عنهما:
أما حديث أبي هريرة وحده: فقد قال أبو يعلى في إبطال التأويلات (مخطوط 147): قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشيرجي في كتاب السنة: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمد وَعَلِيّ بْنُ الْحَسَن وَمُحَمَّد بْن الْخَضِر مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب على عَلِي بن عبد الصَّمَدِ قَال: نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّد [الْفَارِسِي أو القادسي] نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أنا يَحْيَى بْنُ سَعِيد عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحعْمُودًا} قَالَ:" نَعَم، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ حَبِيبُ اللَّهِ؟ فَأَتَخَطَّى صُفُوفَ الْمَلائِكَةِ حَتَّى أَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ بِيَدِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى الْعَرْش"، وقد ذكر ابن صاعد بأنه موضوع، وتعقبه النجاد الحافظ بأنه لم يُبين وجه وضْعه ثم قبله واحتج به، وقد حدّث بهذا الحديث كل من علي بن الحسن وابن الخضر وعلي بن عبد الصمد وهو علان البغدادي وهو ثقة توفي سنة تسع وثمانين ومئتين، وقد اختار أبو إسحاق لفظه، ثم روَوْا ثلاثتهم عن علي بن محمد، ولم يتبين لي جيدا في المخطوط هل هو الفارسي أو القادسي فإن الرّسم متشابه جدا، على أن القادسية كانت للفرس وهي بين الكوفة وفارس، وعليه فهو نفسه علي بن محمد القادسي صاحب الحديث السابق عن ابن عباس، وقد ذكرت هناك أنّ اسمه ابن أبي الخصيب الكوفي الذي مات سنة ثمان وخمسين ومئتين، فهو من الطبقة التي أدركت يزيد بن هارون الواسطي البغدادي أيضا، لأن يزيد بن هارون توفي سنة ست ومئتين، وجميع من سَبق من نوَاحي بغداد ومن طبقة متقاربة، وإذ ذلك كذلك فالحديث صحيح كما قال أبو بكر النجاد والله أعلم، وله متابعات أخرى من حديث أبي هريرة نفسِه ومن حديث علي رضي الله عنهما، وهذا بيانها:
أولاها: حديث علي رضي الله عنه: فقد قال الطبراني في الأوسط 4/171 حدثنا علي بن سعيد الرازي نا الحسن بن عبد الواحد الخزاز الكوفي نا إسماعيل بن صبيح اليشكري نا سفيان بن إبراهيم الحريري عن عبد المؤمن بن القاسم الانصاري عن أبان بن تغلب عن عمران بن ميثم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه سمع علي بن ابي طالب يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم:" ألا ترضى يا علي إذا جمع النبيين في صعيد واحد عراة حفاة مشاة قد قطع أعناقهم العطش فكان اول من يدعى إبراهيم فيكسى ثوبين ابيضين ثم يقوم عن يمين العرش ثم يفجر شعب من الجنة إلى حوضي وحوضي اعرض مما بين بصرى وصنعاء فيه عدد نجوم السماء قدحان من فضة فاشرب وأتوضأ ثم أُكسى ثوبين أبيضين ثم أقوم عن يمين العرش ثم تدعى فتشرب وتتوضأ وتكسى ثوبين أبيضين فتقوم معي ولا ادعى لخير الا دعيت له"، ومن هذا الوجه خرجه ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة قال: حدثنا محمد بن جعفر بن يزيد المطيري ثنا عبد الله بن أحمد بن المستورد ثنا إسماعيل بن صبيح به إلى [عمران بن مقسم أو ابن ميثم] عن المنهال عن عبد الله عن علي مثله، ثم قال: تفرد علي بن أبي طالب بهذه الفضيلة ، لم يشاركه فيها أحد"، لكن لم تصحَّ فضيلة القعود إلا لنبينا خاصة، والحديث بزيادة جلوس عليٍّ مع النبي عليه السلام منكرٌ وباطل، وكذلك هو بزيادة إبراهيم عليه السلام عن يمين العرش، فقد ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمة سفيان بن إبراهيم الكوفى، ثم قال الذهبي: عبد المؤمن تالف أيضا، والخبر منكر جدا"، وله علل أخرى أشدها المخالفة لحديث الثقات في المتن، فإنه عن أبي هريرة وعلي رضي الله عنه بغير الزيادة تلك كما في:
المتابعة الثانية: قال أبو بكر في مصنفه 7/265 حدثنا وكيع عن سفيان عن عمرو بن قيس عن المنهال عن عبد الله بن الحارث عن علي قال:" أول من يكسى إبراهيم قبطيتين، ثم يكسى النبي صلى الله عليه وسلم حلة وهو عن يمين العرش"، وخرجه أحمد في الزهد عن وكيع به نفسه بلفظ:" وهو على يمين العرش"، وهذا حديث حسن، ليس فيه ذكر القيام على العرش لا لإبراهيم ولا لعليٍّ، وقد رواه المنهال بن عمرو عن أبي هريرة أيضا كما في:
المتابعة الثالثة: قال الترمذي 3611 حدثنا الحسين بن يزيد ثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد أبي خالد عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح"، وفيه أن القيام على العرش خاص بنبينا عليه السلام فقط، وقد ضعف الألباني هذا الحديث لأن يزيد بن عبد الرحمن صدوق يخطئ وقد نُسِب إلى التدليس، إلا أنه قد توبع على حديثه متابعة جيدة تامة فصح الحديث كما قال الترمذي:
فقال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه الأهوال: وحدثنا إسماعيل بن عبيد بن عمير بن أبي كريمة الحراني حدثني محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يحشر الناس عراة، فيجتمعون شاخصة أبصارهم إلى السماء، يبصرون فصل القضاء، قياماً أربعين سنة، فينزل الله عز وجل من العرش إلى الكرسي فيكون أول من يدعى إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، فيكسى قبطيتين من الجنة، ثم يقول الله عز وجل: ادعوا إليَّ النبي الأميَّ محمداً، قال: فأقوم، فأكسى حلة من ثياب الجنة. قال: ويفجر لي الحوض، وعرضه كما بين أيلة إلى الكعبة. قال: فأشرب وأغتسل وقد تقطعت أعناق الخلائق من العطش، ثم أقوم عن يمين الكرسي ليس أحد قائم ذلك المقام غيري، ثم يقال: سل تعطه واشفع تشفع، فقال رجل: أترجو لوالديك شيئاً يا رسول الله؟ قال: إني لشافع لهما، أعطيت أو منعت، وما أرجو لهما شيئاً "، هذا حديث غاية في الصحة كل رجاله أئمة ثقات، وأبو عبد الرحيم هو خالد بن أبي زيد ثقة، وفيه احتمال شفاعته صلى الله عليه وسلم لوالديه وقد شهد لذلك حديث ابنا مليكة عن ابن مسعود الآتي، وفيه أيضا قيام النبي عليه السلام لوحده، على يمين كرسيِّ ربه، من دون سائر خلقه والحمد لله على نعمته على نبيه، وإن رغم الراغمون، ودفع ذلك المعتدون :
الدليل السادس: حديث ابن مسعود رضي الله عنه: قال الإمام أحمد (1/398) حدثنا عارم بن الفضل حدثنا سعيد بن زيد حدثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَا:" إِنَّ أُمَّنَا كَانَتْ تُكْرِمُ الزَّوْجَ وَتَعْطِفُ عَلَى الْوَلَد.. غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّة، قَال: أُمُّكُمَا فِي النَّار، فَأَدْبَرَا وَالشَّر يُرَى فِي وُجُوهِهِمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُدَّا فَرَجَعَا وَالسُّرُورُ يُرَى فِي وُجُوهِهِمَا رَجيَا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ شَيْءٌ، فَقَال: أُمِّي مَعَ أُمِّكُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِين: وَمَا يُغْنِي هَذَا عَنْ أُمِّهِ شَيْئًا وَنَحْنُ نَطَأُ عَقِبَيْه، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ..: يا رَسُولَ اللَّه، هَلْ وَعَدَكَ رَبُّكَ فِيهَا أَوْ فِيهِمَا؟ قَال: فَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ شَيْءٍ قَدْ سَمِعَهُ فَقَال: ما سَأَلْتُهُ رَبِّي وَمَا أَطْمَعَنِي فِيه، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة، فقال الأنصاري: وما ذاك المقام المحمود؟ قال: ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلاً، فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيقول الله: اكسوا خليلي: فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد فيستقبل العرش، ثم أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاماً لا يقومه أحد غيري، يغبطني به الأولون والأخرون.. "، وكذلك رواه علي بن عبد العزيز عن عارم عن سعيد ين زيد عن علي بن الحكم به بلفظ:" يا رسول الله هل وعد ربك فيها أو فيهما ؟ قال : تظن أنه من شيء، قال: ما سألت ربي وإني لقائم المقام المحمود.."، وكأن فيه إشارة إلى أنه ينتظر ذلك إلى يوم القيامة والله أعلم.
وخالفه في الإسناد وبعض المتن: الصعق بن حزن فرواه عن علي بن الحكم فجعله عن أبي وائل: فقال الطبراني في الأوسط 3/82 حدثنا أبو مسلم حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا الصعق بن حزن عن علي بن الحكم البناني عن عثمان بن عمير عن أبي وائل عن بن مسعود قال: جاء ابنا مليكة وفيه:" أمي مع أمكما.. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أين أبوك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: سألت ربي عز و جل لهما، وإني لقائم المقام المحمود.."، فأخبر أنه دعا لهما، ثم ذكر الشفاعة والمقام المحمود، كذا قال عارم، وخالفه عبد الرحمن بن المبارك ثنا الصعق بن حزن عن علي عن عثمان عن أبي وائل عن ابن مسعود بلفظ: « ما سألتهما ربي فيعطيني فيهما وإني لقائم يومئذ المقام المحمود"، وفيه من الفقه أنه عليه السلام في الوقت الذي أخبر عن والديه أنهما في النار، فإنه لم يسأل الله تعالى لهما بعد، ثم أنه سأل الله لهما ثم ذكر مقام الشفاعة، وقال الصالحي في سبيل الهدى:" كأنه صلى الله عليه وسلم أوَّلا لم يوح إليه في شأنها شئ ولم يبلغه الذي قالته عند موتها ولا تذكره، فإنه كان إذ ذاك ابن خمس سنين، فأطلق القول بأنها مع أمهما جريا على قاعدة أهل الجاهلية، ثم أوحى إليه في أمرها بعد ذلك، ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث نفسه (ما سألتهما ربي) فهذا يدل على أنه لم يكن بعد وقعت بينه وبين ربه مراجعة في أمرها ثم وقع بعد ذلك".
خرج رواية الصعق هذه ابنُ شاهين والطبراني وأبو نعيم والحاكم في المستدرك (2/396) ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعثمان بن عمير هو ابن اليقظان»، وقال الذهبي: لا والله فعثمان ضعفه الدارقطنى والباقون ثقات"، قلت: وعثمان ضعفه الأكثرون لتشيعه، وأثنى على روايته آخرون، فنقل ابن عدي عن ابن أبي داود قال: سألت يحيى بن سعيد عن أبي اليقظان قال هو عثمان بن عمير قلت له فكيف حديثه فقال: صالح"، واستحسن حديثه، لكنه لم يرض شخصه لتشيعه، وكذا قال عنه البزار وابن شاهين في الثقات: صالح، وصحح له الحاكم وحسن له الترمذي، وخلاصة القول فيه ما قال ابن عدي:".. على أن الثقات قد رووا عنه، وله غير ما ذكرت ويكتب حديثه على ضعفه"، وقد توبع متابعات جيدة:
فقال الدارقطني في العلل (5/162): وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي وقد اختلف عنه فرواه شريك عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص وعلقمة عن عبد الله، ورواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن عبد الله، وروى هذا الحديث أيضا عاصم عن زر عن عبد الله حدث به محمد بن أبان الجعفي عن عاصم"، وكذلك روى الشق الأول داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس قال: حدثني ابنا مليكة الجعفيان قالا : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا.."، ورواه مجالد عن عامر عن سلمة بن مليكة قال: أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا..الحديث، ولجزء القعود والقيام على العرش شواهد أخرى:
فذكر البغوي في تفسيره قال: وروي عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم حبيب الله وأكرم الخلق على الله ثم قرأ: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال: يقعد على العرش"، وقد ذكر النجاد أنه رواه عاصم عن ابن مسعود، وأن ابن صاعد وابن خزيمة حكما عليه بالوضع والله أعلم برجال إسنادهما، لكن قد ورد من وجه آخر مُعتبَر:
قال الذهبي في العلو 202: حديث أبي أحمد عبيد الله بن العباس الشطوي ثنا أبو العباس محمد بن سفيان الحنائي حبشون ثنا محمد بن عبد الرحيم والحسن بن حماد قالا حدثنا أحمد بن يونس عن سلمة الأحمر عن أشعث بن طليق عن عبد الله بن مسعود قال:" بينا أنا عند رسول الله أقرأ عليه حتى بلغت:" عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" قال:" يجلسني على العرش"، قال الذهبي: هذا حديث منكر لا يفرح به وسلمة هذا متروك الحديث وأشعث لم يلحق ابن مسعود"، قلت: قد ذكر الحفاظ أنه سمع من عبد الله بن عمر، فهو في طبقة التابعين، ولا يوجد أي دليل على أنه لم يدركه، وقد مات ابن مسعود في المدينة، فهما بلديان، وأما رد الحديث جملة بسلمة بن صالح الأحمر فليس بجيد، فإنه مختلف في توثيقه فقد ضعفه جدا كل من ابن معين وأبو حاتم وابن حبان وابن عمار وأبو داود ولم يعتبروا بحديثه، وقد بين ابن سعد أنهم إنما ضعفوه لاختلاطه، فقال في الطبقات:" كان قد طلب الحديث ثم اضطرب عليه حفظه فضعفه الناس"، وكذلك قال الطبري:" كان كثير الحديث غير أنه اضطرب عليه حفظه فضعف"، بينما اعتبر به آخرون منهم أبو أحمد الحاكم، وكذلك ضعفه الدارقطني مرة واعتبر به، فقال في العلل (س132) عن حديث الوتر: ورواه سلمة بن صالح الأحمر عن علقمة فقال عن سعيد عن ابن عباس عن عمر وهو أشبه بالصواب وإن كان سلمة ضعيف"، بينما وثقه مرة أخرى فيما قاله الحاكم قلت للدارقطني: سلمة بن صالح ؟ فقال: ثقة"، وقال عنه ابن عدي بعد أن استقرأ أحاديثه:" هو حسن الحديث ولم أر له متنا منكرا إنما أرى ربما يهم في بعض الأسانيد"، قلت: وما كان هذا شأنه فحديثه من قبيل الحسن أو الحسن لغيره، بينما ضعفه نسبيا البخاريُّ وروايةٌ عن الإمام أحمد في روايته عن حماد فقط، وقال الإمام أحمد: سلمة الأحمر يحدث عن أبي إسحاق أحاديث صحاح، إلا أنه عن حماد مختلط الحديث"، وبنحوه قال البخاري، وهذا الحديث عن غير حماد فهو صحيح لغيره، للجهالة بحال محمد بن سفيان، فقد ترجمه الخطيب وقال: روى عنه الزبيبي والشطوي وعلي بن محمد الوراق"، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فلئن لم يُوثقه أحد فهو مجهول الحال لرواية الجمْعِ عنه، وعليه فيُقبل في الإعتبار، و قد مضى من تابعه، ولحديثه شواهد أخرى:
الدليل السابع: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: ذكره السيوطي في الدرر قال: وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ما المقام المحمود الذي ذكر لك ربك؟ قال : يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلاً ، كهيئتكم يوم ولدتم ... هالهم الفزع الأكبر وكظمهم الكرب العظيم، وبلغ الرشح أفواههم وبلغ بهم الجهد والشدة ، فأكون أول مدعى وأول معطى، ثم يدعى إبراهيم عليه السلام قد كسي ثوبين أبيضين من ثياب الجنة، ثم يؤمر فيجلس في قبل الكرسي، ثم أقوم عن يمين العرش ... فما من الخلائق قائم غيري ، فأتكلم فيسمعون وأشهد فيصدقون"، كذا زاد في الحديث جلوس إبراهيم عليه السلام قبل الكرسي، والإسناد مجهول، وآخر الحديث ينقض أوله، إذ في آخره أن هذا القيام على الكرسيّ من خصوصيات نبينا الكريم فقط كما في سائر الأحاديث، وقد جاء ذلك على الصواب في رواية ابن ثوبان وبالله التوفيق:
فقال الطبراني في مسند الشاميين: حدثنا محمد بن جعفر بن سفيان الرقي ثنا أيوب بن محمد الوزان ثنا الوليد بن الوليد ثني ابن ثوبان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ما المقام المحمود الذي ذكره لك ربك ؟ فقال:« يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة، كهيئتهم يوم ولدوا وقد هالهم الفزع الأكبر، وكظمهم الكرب العظيم وبلغ الرشح أفواههم وبلغ بهم الجهد والشدة، فأكون أول مدعو وأول معطى، ثم يدعى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيكسى ثوبين أبيضين من ثياب الجنة، ثم يُؤْمَر فيجلس بي قبل الكرسي وأقوم عن يمين الكرسي فما من الخلائق قائم غيري فأتكلم فيسمعون وأشهد فيصدقون"، في إسناده الوليد القلانسي مختلف فيه، فقال الدارقطني والمقدسي: متروك"، وجرحه ابن حبان مرة، ووثقه أخرى، وقال أبو حاتم:" هو صدوق ما بحديثه بأس، حديثُه صحيح"، وعليه فإن حديثه هذا حسن لغيره لأنه يُقبل جدا ـ خاصة في المتابعات ـ لتوثيق أبي حاتم له وهو من المتشددين ومن أقربهم طبقة وعلمًا به، ولحديثه شواهد أخرى:
الدليل الثامن: خبر رويفع رضي الله عنه: قال الآجري في الشريعة: باب ذكر ما خص الله عز وجل به النبي صلى الله عليه وسلم من المقام المحمود يوم القيامة، قال:".. وأعطاه المقام المحمود يزيده شرفا وفضلا، جمع الله الكريم له فيه كل حظ جميل من الشفاعة للخلق، والجلوس على العرش، خص الله الكريم به نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأقر له به عينه يغبطه به الأولون والآخرون قال: ـ وهذه ـ الكرامة العظيمة والفضيلة الجميلة تلقاها العلماء بأحسن القبول فالحمد لله على ذلك: ثم ذكر أحاديث وقال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد ثنا أحمد بن يحيى الأودي ثنا زيد بن الحباب ح قال ابن صاعد: وحدثنا أحمد بن منصور بن سيار ثنا ابن أبي مريم قالا: حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم الحضرمي عن وفاء بن شريح الحضرمي عن رويفع بن ثابت الأنصاري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:« من قال: اللهم صل على محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي»، قال ابن صاعد: وهذه الفضيلة في القعود على العرش لا ندفعها ولا نماري فيها، ولا نتكلم في حديثٍ فيه فضيلةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء يدفعه ولا ننكر"، وكذلك استدل به الخلال في السنة 315 قال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن إسماعيل السلمي ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال ثنا ابن لهيعة حدثني بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم عن وفاء الحضرمي عن رويفع بن ثابت عن النبي أنه قال:" من صلى على محمد وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي"، وقال أحمد (4/108) نا حسن بن موسى ثنا بن لهيعة ثنا بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم به مثله، وقال ابن كثير: وهذا إسناد لا بأس به ولم يخرجوه"، وفيه ابن لهيعة ضعيف مختلط، وقد روى الحديث عنه عبد الله بن يوسف وعبد الله المقرئ قبل الإختلاط، فصار الحديث حسنا لغيره وقد احتج به الإمام الحافظ ابن صاعد والآجري والخلال:
فقال الطبراني في الأوسط (3/321) حدثنا بكر بن سهل نا عبد الله بن يوسف نا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم به، وخالفهم عبد الله المقرئ فجعله عن ابن هبيرة، فقال الطبراني في الكبير (5/26)4481 حدثنا بشر بن موسى ثنا أبو عبد الرحمن المقري ثنا ابن لهيعة حدثني ابن هبيرة عن زياد بن نعيم عن وفاء بن شريح عن رويفع بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قال اللهم صل على محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة شفعت له"، قال الهيثمي (ج1 ص163): رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير وأسانيدهم حسنة"، وكذلك حسنه ابن كثير والمنذري في الترغيب والصالحي في سبيل الهدى والرشاد، إلا أنّ وفاء بن شريح وثقه ابن حبان وحده، وقال الحافظ: مقبول، وإنما حسَّنَوه لأن هذا الحديث يقبل في الشواهد والمتابعات وهي كثيرة، وفيه من الإعتقاد ما قاله الصالحي: قيل: المراد بالمقعد المقرب المقام المحمود وجلوسه على العرش، والمراد به الوسيلة، وقال الطيبي: إن له صلى الله عليه وسلم مقامين مختصين به، أحدهما مقام حلول الشفاعة والوقوف على يمين الرحمن حيث يغبطه فيه الأولون والآخرون، وثانيهما مقعده من الجنة ومنزله الذي لا ينزل بعده"، وقد مر كلام الحافظ ابن صاعد والخلال عليه.
الدليل التاسع: حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: قال الخلال في السنة 238 نا المروذي نا أبو بكر بن صدقة نا ابن أبي صفوان نا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِي ثنا سَلمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَكْرَاوِي ثنا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِي ثَنَا سَيْفٌ السَّدُوسي سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ قَالَ:" إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جِيءَ بِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُجْلِسَهُ بَيْنَ يَدَيْه [ على الكرسيّ ]"، قَال: فَقُلْتُ: يَا أَبَا مَسْعُودٍ , فَإِذَا أَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهُوَ مَعَه, قَال: وَيْلَك مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا قَطُّ أَقَرَّ لِعَيْنَيَّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ"، لفظ حديث أبي داود: ".. نزل الجبار على عرشه، وقدميه على الكرسي، ويؤتى بنبيكم فيقعد بين يديه على الكرسي"، وهذا حديث حسن متصل، كل رجاله ثقات غير سيف السدوسي وهو أبو عائذ السعدي صدوق، فقد احتج بحديثه في العقيدة تلميذُهُ الجريريُّ وهو أعلم الناس به، فهذا منه توثيق ضمني له، وكذلك وثقه ابن حبان، وقال البخاري في ترجمته: " سماه ابن علية عن الجريري وأثنى عليه خيرا "، وهذا يعني الثناء عليه في روايته وصلاحه معا، وكذلك احتج به وصحح له الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل فقال في السنة له: كتب إلي العباس العنبري بخط يده حدثنا يحيى بن كثير العنبري ثنا سلم بن جعفر وكان ثقة عن الجريري عن سيف السدوسي عن عبدالله بن سلام قال:" إن رسول الله يوم القيامة قاعد على كرسي الرب بين يدي الرب عز وجل"، فقيل لأبي مسعود: إذا كان على كرسي الرب فهو معه؟ قال: نعم مع الرب، ثم قال: هذا أشرف حديث سمعته قط"، قال عبد الله بن الإمام أحمد:" وأنا منكر على من رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوء متهم على رسول الله"، وقد خرجه العلماء في كتبهم واحتجوا به على القعود، منهم الخلال والنجاد والمروذي وأبو يعلى والآجري وابن بطة، وذكره ابن أبي عاصم في السنة (2/365)، بينما أعله الشيخ الألباني في تخريج السنة 786 بجهالة سيف السدوسي، ـ وقد مرّ توثيقه ـ ثم قال الألباني:" وقد وجدت لهذا الحديث طريقا آخر عن عبد الله بن سلام يرويه عنه بشر بن شغاف في حديث له طويل موقوف"، وهو ما خرجه الحاكم في مستدركه 4/568 قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ثنا محمد بن غالب ثنا عفان ومحمد بن كثير قالا: ثنا مهدي بن ميمون ثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام قال: وكنا جلوسا في المسجد يوم الجمعة فقال:« إن أعظم أيام الدنيا يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة، وإن أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم»... وفيه:".. إذا كان يوم القيامة بعث الله الخليقة أمة أمة ونبيا نبيا حتى يكون أحمد وأمته آخر الأمم مركزا، قال: فيقوم فيتبعه أمته برها وفاجرها، ثم يوضع جسر جهنم فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون فيها من شمال ويمين وينجو النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون معه فتتلقاهم الملائكة فتوريهم منازلهم من الجنة على يمينك على يسارك حتى ينتهي إلى ربه عز وجل فيلقى له كرسي عن يمين الله عز وجل..."، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وليس بموقوف فإن عبد الله بن سلام على تقدمه في معرفة قديمة من جملة الصحابة، وقد أسنده بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير موضع والله أعلم"، ووافقه على تصحيحهِ الذهبيُّ، وخالفهما الألباني فقال:" ليس في إسناده ما يمكن التعلق به عليه إلا أنه من رواية محمد بن غالب وهو حافظ ثقة لكنه وهم في أحاديث كما قال الدارقطني فلا أدري لعل هذا الحديث مما وهم في متنه.."، وليس كما ظنّ رحمه الله، فإنه ثقة مجتمع عليه، ومع ذلك فلم يتفرد بالحديث، بل له متابعات كثيرة، فروى هذا الحديث كل من موسى بن إسماعيل وعبد العزيز بن أبان وعبد الله بن محمد والحجاج بن المنهال إضافة إلى عفان ومحمد بن كثير وأسد بن موسى في الزهد سبعتهم عن مهدي بن ميمون عن ابن أبي يعقوب بهذا، تابعه عليه معمر بن راشد عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب بالحديث، وقد خرجته بطرقه في مبحث استحباب التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وللقعود شواهد أخرى:
وابتداءا من هذا الحديث الآتي وهو حديث عائشة وما بعده: فقد حكم عليهم ابن خزيمة وابن صاعد وغيرهما بالوضع، كما سيأتي في الفصل القادم، وتعقبهما أبو بكر النجاد والقاضي أبو يعلى بأنهما لم يبينا وجه الوضع فيها، ومن ثَمّ قبلوها واحتجوا بها، فلما اختلفوا في ذلك نظرتُ، فوجدتُ أن دراسة هذه الأسانيد من أصعب الأسانيد وأغمضها، وقد مكثت فيها عدة سنوات أبحث وأوصي وأراجع في الكتب، لأعرف هل هذه الأحاديث من قبيل الموضوع إن كان في رواتها من قد اتُّهم، أو أنها من الأحاديث الضعيفة التي يُعتبر بها إذا لم يكن في رواتها من اتهم، وقد توصلت لما سأذكر، وأستغفر الله من الخطإ والزلل والتقصير، وهذه الأحاديث هي:
الحديث العاشر: حديث عائشة رضي الله عنها:قال أبو يعلى في إبطال التأويلات: نا أَبُو الْقَاسِمِ نا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ التَّمَّارُ نا أَبُو بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مَعْمَر نا يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَرْبِ بْنِ الْحَكَمِ الأَشْعَرِي الْبَصْرِي حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ حَرْب عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة عَنْ أَبِيه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ فَقَالَ: " وَعَدَنِي رَبِّيَ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْش"، أبو القاسم ثقة، وعلي بن عمر علي بن إبراهيم التمار البغدادي، وثقه الخطيب وقال: قال لي الأزهري والخلال: توفى في ربيع الأول سنة اثنتين وأربع مِئَة"، وأما ابن أَبِي مَعْمَر فهو الدوري الصَّفَّارُ، قال الخطيب: واسم أبي معمر محمد بن حزر بن سهل بن الهيثم أبو بكر الدوري الصفار، كان له دكان بباب الطاق في الصفارين وحدث عن يوسف بن أحمد بن حرب الأشعري، حدثنا عنه أبو الحسن بن الحمامي المقرئ وعلي بن الحسين بن دوما النعالي"، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقد ذكر أنه روى عنه اثنان، وكذلك روى عنه علي التمار وعلي بن أحمد بن عمر المقرئ وعمر بن إبراهيم المقرئ وعمر بن أحمد بن عثمان، وقد قال محمد بن أبي الفوارس: توفي أبو بكر عمر بن أحمد الصفار يعرف بابن أبي معمر.. سنة خمسين وثلاث مِئَة"، فأشار إلى أنه معروف، وترجمه الذهبي في تاريخه، وأما يوسُف بْن أَحْمَدَ بْن حَرْب وأبوه فلم أجد من ترجمهما بعد سنوات من البحث عنهما، إلا ما ذكره الخطيب سابقا، وخرج عن ابن أبي معمر الصفار حدثنا يوسف بن حرب الأشعري من ولد أبي موسى، فهما علة هذا الحديث، وكونهما غير مُتّهمين ولا مجروحين، فأرجو أن يُقبَل حديثهما في الشواهد، وهي كثيرة كما مرّ وسيأتي:
........ يتبع
كتبه أبو عيسى الزياني الجزائري
فهذا مبحث جليلٌ في مسألة إثبات مقام وجلوس نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة مع ربه جل في علاه، فقد ثبت عنه كما في حديث الشفاعة قال:" فأنتهي إلى ربي، وهو على كرسيه أو سريره، [فيتجلى لي] فأخر له ساجدا فأحمده بمحامد لم يحمده أحد بها قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي فيقال لي: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع "، وثبت من طرق أخرى متواترةٍ وكثيرةٍ أنه عليه السلام إذا وصل إلى كرسي الرب رفعه الله إليه ـ كما رفعه في المعراج ـ، لكن يوم القيامة يُجلسه معه على كرسيِّه مِنْ عَلَى يمين العرش تكْرُمةً له، وإظهارًا لفضله، ومن ثَم يشفعُ للأمةِ بأبي هو وأمي رسول الله، وقد قسمتُ هذا البحث إلى سة فصول:
الفصل الأول: وجه التوافق بين كون المقام المحمود هو الشفاعة وهو نفسُهُ الجلوس على يمين العرش مع الرب لأجل الشفاعة.
الفصل الثاني: ذكر الأدلة على ذلك من القرآن والسنة: وهي كثيرة بل متواترة:
الفصل الثالث: ذكر الأدلة على تصحيح حديث القعود من الإجماعِ، والإنكارُ على المُخالف: وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تصريح بعض السلف بصحة بعض الأحاديث فقط، مع التَّضعيفِ لغَيرها:
المسألة الثانية: تصريح بعض السلف بصحة الأحاديث جملةً، أو بصحة حديث معين من غير تضعيفٍ لغيره، والبيان على أن الأمة قد تلقت حديث القعود بالقبول:
الفصل الرابع: ذكر أدلة القعود من المعقول مما يوافق المنقول:
الفصل الخامس: ذكر إجماع وكلام العلماء في حكم من رد فضيلة القعود على العرش:
الفصل السادس: ذكر كلام بعض من خالف السلف والإجماعَ وتوجيهُ قولِه.
الفصل الأول: وجه التوافق بين كون المقام المحمود هو الشفاعة وهو نفسُهُ الجلوس على يمين العرش مع الرب لأجل الشفاعة: ذلك أنّه مما ينبغي معرفته في هذا الباب أنْ لا تعارض بين قول من جعل المقام المحمود هو الشفاعة بمختلف مقاماتها، وبين من جعله جلوسه عليه السلام على العرش مع ربه لأجل الشفاعة، لأنَّ هذا الجلوسَ من أشرفِ مقاماتِ الشفاعةِ، حيث يشفع لأمته إذا أقعده ربه معه، فقد ذكر الطبري أن هذا الجمع:" ليس بمحال عند جميع من ينتحل الإسلام"، وقال ابن أبي يعلى في إبطال التأويلات:".. على أَنَّهُ لا يمتنع أَنْ يَكُونَ المقامُ المحمودُ: الشفاعةُ والقعودُ عَلَى العرش، لأَنَّ القصد من ذلك علوّ المنزلة"، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم:" والظاهر أَن لا منافاة بين القولين، فيمكن الجمع بينهما بأَن كلاهما من ذلك، والإِقعاد على العرش أَبلغ "، علَى أن من ذكر بأن المقام المحمود هو الشفاعة، فإنه لم ينف الجلوس على العرش لأنه أخصُّ وأرفعُ مقاماتِ الشفاعة المتعدِّدة، وسيأتي ذكرُ أدلةٍ كثيرةٍ على ذلك من السنة ومن كلام السلف الطيب، علمًا أنّي اعتمدت في هذا البحث على كتاب السنة للخلال، فإنه أشبعها في نحو مجلدٍ كامل،
الفصل الثاني: ذكر الأدلة على ذلك من القرآن والسنة: وهي كثيرة بل ومتواترةٌ، جمعتُ منها نحوًا من اثني عشر دليلا، وكل دليل له طرق كثيرة كما سيأتي، وما كان فيها من ضعيفٍ ضعفًا شديدا إلا بيَّنته، وهو حديث مرسل المكيين فقط، وأحد طرق حديث ابن عباس، أما سائر الأحاديث والطرق فهي إما صحيحة أو حسنة قدْ بينتُ وجه حُسنها، وما كان فيها من ضعيفٍ ضعفا يسيرا فقد ذكرت وجه ضعفه، ومن ثَم حسنه لغيره، لكون الإسناد لا يوجد فيه من هو متهم أو كذاب، ثمّ أوردت له متابعاتٍ يتقوى بها، من نفس طريق ذلك الصحابي، ثم عزّزت صحته بشواهد أخرى عن صحابة آخرين، فقد قال الترمذي عن تعريف الحديث الحسن:" إنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كلُّ حديث يُروَى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا ويُروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن"، هذا وقد ذكر ابن القطان وعامة أهل الحديث أن تلقي الأمة للحديث بالقبول مما يُحسنه ويجعله صحيحا، وقال الخطيب في الكفاية ص 17:" وقد يستدل أيضا على صحته ـ الحديث ـ بأن يكون خبرا عن أمر اقتضاه نص القرآن أو السنة المتواترة، أو اجتمعت الأمة على تصديقه، أو تلقته الكافة بالقبول وعملت بموجبه لأجله"، وحديث القعود على العرش قد توفرت فيه كل شروط الحسن والصحيح بدءًا من كثرة طرقه، وسلامة رجاله من التهمة، إلى اجتماع كل السلف على تصديقه، وأخيرا تلقي الأمة له بالقبول، ومن المعلوم أنه إذا انعقد إجماعٌ على أمرٍ في القرون المفضلة، فإنه لا يحل أن يُضرب ويُرد بمخالفة أحد من المتأخرين، والله المستعان من مخالفة سبيل المؤمنين، من السلف الطيبين، ونسبتهم إلى الخُرافة والغلو الأثيم، وهذه هي أدلتهم على القعود:
الدليل الأول: وفيه أن جميع الأنبياء يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقوم لوحده من دونهم هناك فوق العرش لأجل الشفاعة إظهارا لفضله وعلو منزلته، فخرج البخاري 6975 عن أنسأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يحمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك، فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أما ترى الناس ..، اشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك،[لست بصاحب ذاك] ويذكر لهم خطيئته التي أصاب ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم فيقول: لست هناكم ويذكر لهم خطاياه التي أصابها ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما فيأتون موسى فيقول: لست هناكم ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني[ زاد أحمد: فيقولون: يا محمد اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا، فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي[ في داره] [ فيؤذن لي عليه، [ زاد أحمد: فآتى ربي عز وجل على كرسيه أو سريره]، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال لي ارفع محمد وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع..."، ووجه الإستدلال منَ الحديث منْ وجهين:
أولاهما في قول الأنبياء" لست هناك"،و"لست هناكم"، وهذه اللفظة ظرف مكان كما هو معروف، إشارة إلى مكان آخرَ مخصوصٌ بالنبي عليه السلام وحده، والمعنى: لست في ذاك المكان الذي تظنونني فيه، ولست له أهلا "، ولا يكون ذلك إلا في مكانٍ حسي وهو القيام على العرش كما قال ابن حجر، وبينته الأحاديث التالية، فإن قال قائل: قد ذكر بعضهم أن هذا من باب استعمال ظرف المكان في الزمان، لأن "هنا"، ظرف مكان، فاستُعمِلت في ظرف الزمان، لأن المعنى: لست في ذلك المقام، لكن تعقبهم ابن حجر في الفتح (11/441) فقال:" كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه، لكنه المعنوي لا الحسي"، ثم قال:" مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا"،
أما الوجه الثاني: فحتى لو أُوِّلَت: هناكم" بالزمان، لكان معنى الحديث: لا يوجد في ذلك المقام أحد الآن، ولكن ائتوا محمدا، فإنه وحده الذي سيكون على ذلك المقام ووحده الذي سيقعد تلك القعدة، وقد بينت الروايات الأخرى أنهم يأتوه فيقول: أنا لها ثم ينطلق إلى ربه في داره، فيجده على كرسيه، وبينت رواياتٌ أخرى كثيرة أنه إذا أتاه وشفع، رفعه ربه إليه وأجلسه معه على كرسيه مِن على يمين العرش، والأحاديث يُكَمِّل ويُبين بعضها بعضا ويفسره، لا يُنقضُه، كما في:
الدليل الثاني: حديث مجاهد رحمه الله: وقد ذكر الإمام أحمد أنه وإن كان المرسل ضعيفا، فإن مرسل مجاهد هذا صحيح لتلقي العلماء له بالقبول ولإجماع السلف عليه كما سيأتي، وقد رواه عنه كلّ من ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب وأبو يحيى القتات وجابر بن يزيد كلهم عن مجاهد به، وأشهر طرقه وأصحها طريق محمد بن فضيل عن ليث به:
فقال الخلال: حدثنا أبو بكر قال لي أبو عبد الله محمد بن بشر بن شريك: هذا عن مجاهد وحده! هذا عن ابن عباس, وقد رواه شريك عن عطاء بن السائب عن مجاهد, وقد خرجت في هذا أحاديث وقال لي: أنا أكتبها لك, فكتبها بخطه, ثم جاءني إلى طاق المحامل فدخل علي وأعطانيها فقلت له اقرأها علي فقال لا يقنعك إن كتبتها لك بخطي فقلت لا أنا أريد أن تقرأها علي فقرأها علي:
أما طريق القتات: فقد أورده ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة عن ابن بطة قال: حدثنا أبو بكر النجاد حدثني هارون بن العباس حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثنا أبي حدثنا أبو يحيى القتات عن مجاهد، وقال الخلال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا عبد الرحمن بن شريك ثنا أبي قال ثنا أبو يحيى القتات عن مجاهد:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعد محمدا على العرش",
ثم قال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا عبد الرحمن بن شريك يعني عمه قال ثنا أبي ثنا عطاء بن السائب وليث بن أبي سليم وجابر بن يزيد كلهم يقول: سمعت مجاهدا قال عطاء في حديثه وسئل عن قول الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده على العرش".
أما طريق ليث فقد حدث بها النخعي وداود بن علية والمطلب بن زياد وجعفر الأحمر ومحمد بن فضيل وهو أشهر طرقه وأصحها:
أما طريق النخعي فخرجها الخلال في السنة قال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا عبدالرحمن بن هانىء وطلق بن غنام قالا ثنا عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي قال ثنا ليث عن مجاهد في قوله:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال:" يعقعده على العرش".
وأما طريق داود بن علية فقال الخلال أيضا: حدثنا أبو بكر حدثني محمد بن بشر ثنا محمد بن عيسى الوابشي ومالك بن إبراهيم النخعي قالا ثنا داود بن علية ثنا ليث عن مجاهد مثله.
وأما طريق ابن زياد فقال الخلال حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا محمد بن رباح الأشجعي وإبراهيم بن محمد بن ميمون الخزاز وإبراهيم بن عبد الحميد الثقفي قالوا ثنا المطلب بن زياد قال ثنا ليث عن مجاهد.
وأما طريق جعفر الأحمر فقال الخلال أيضا حدثنا أبو بكر ثنا حدثني محمد بن بشر ثنا الحسن بن بشر ثنا جعفر الأحمر ثنا ليث عن مجاهد مثله.
وأما عن رواية ابن فضيل عن ليث فهي عنه متواترة رواها العشرات منهم منهم الإمام إسحاق بن راهويه وعبد الله بن أحمد وأبو بكر وعثمان بنا أبي شيبةوالحسن الحضرميوإبراهيم الرازي ومحمد بن مصعب والعلاء بن عمرو ومحرز بن عونومحمد بن نمير وواصل بن عبد الأعلى وأبو الهذيل وعبيد بن يعيش وجعفر بن محمد الحداد ونزار بن صرد ومحمد بن بكير ويحيى بن حسان ويحيى الحماني والمصيصي وغيرهم كثير، وكلهم قد احتج بهذا الحديث كما سيأتي:
فقال الخلال في السنة (241..): ثنا المروذي أخبرنا أبو داود السجستاني ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال: يجلسه على عرشه", وسمعت أبا داود يقول: من أنكر هذا فهو عندنا متهم", وقال أبو داود: ما زال الناس يحدثون بهذا يريدون مغايظة الجهمية", وقال أبو داود السجستاني: أرى أن يجانب كل من رد حديث ليث عن مجاهد يقعده على العرش ويحذر عنه حتى يراجع الحق ما ظننت أن أحدا يذكر بالسنة يتكلم في هذا الحديث إلا إنا علمنا أن الجهمية تنكره من جهة إثبات العرش"، وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: قال النجاد: وحدثنا معاذ بن المثنى ثنا خلاد بن أسلم ثنا محمد بن فضل عن ليث عن مجاهد كلهم قال في قول الله عز وجل " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " قال:" يجلسه معه على العرش"، قال النجاد: وسألت أبا يحيى الناقد ويعقوب المطوعي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وجماعة من شيوخنا فحدثوني بحديث محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد، وسألت أبا الحسن العطار عن ذلك ؟ فحدثني بحديث مجاهد ثم قال: سمعت محمد بن مصعب العابد يقول هذا حتى ترى الخلائق منزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه تبارك وتعالى وكرامته لديه"، ومما يؤكد صحة حديث مجاهد أربعة أمور:
أحدها تلقي الأمة كلِّها له بالقبول كما سيأتي في بابه،
والأمر الثاني: أن مراسيل مجاهد جيدة كما قال الذهبي في الموقظة، وقال ابن المديني ويحيى القطان: مرسلات مُجَاهد أحب إلي من مُرْسلات عطاء بكثير"،
والأمر الثالث أنه قد أخذ هذا التفسير من ابن عباس، كما ذكر الخلال وغيره، واستدلوا بما ثبت عن مجاهد قال:" عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية أسأله عنها"، فكان أعلم الناس بتفسير ابن عباس، وقال الذهبي في العلو:" ويبعُد أن يقول مجاهد ذلك إلا بتوقيف، فإنه قال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره ثلاث مرات على ابن عباس رضي الله عنهما أقفه عند كل آية أسأله"، قال الذهبي: فمجاهد أجل المفسرين في زمانه وأجل المقرئين".
والأمر الرابع: كثرة الشواهد لهذا الحديث كما سيأتي، وقد قال النجاد:" قَال أحمد بن حنبل: لَمْ يُرو هَذَا عَن مجاهد وحده، هذا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وخرج فِي ذلك أحاديث وقرأها عَلَى أصحابه"، قال: وَهُوَ أعرف بصحة الحديث ممن تقدم ذكره ممن أنكرها"، والذي وجدته من شواهدَ كثيرةٍ لحديث مجاهدٍ ما يلي:
الدليل الثالث: خبر ابن عباس رضي الله عنه: قال الحافظ أبو بكر بن سلمان النجاد:" قاله ـ القعود ـ عبد الله بن العباس ومن بعده من أهل العلم وأخذوا به كابراً عن كابر وجيلاً عن جيل إلى وقت شيوخنا.."، وقد وجدت له أربعة طرق بعدة متابعات:
أولاها: ما قاله الطبراني في الكبير 12474 حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ثني ابن لهيعة عن عطاء بن دينار الهذلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}قال: يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود"، هذا حديث حسن، وعبد الله بن صالح مذكور فيمن روى عن ابن لهيعة قبل اختلاطه، وعطاء بن دينار مصرى ثقة، قال عنه أحمد بن صالح:" هو من ثقات أهل مصر، وتفسيره فيما نرى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير"، وقال ابن حجر: روى عن سعيد بن جبير وقيل لم يسمع منه، وذكر في التقريب أنها صحيفة"، ومن المعلوم أنها من طرق التحمل والإتصال فصح الحديث، لذلك قال الخليلي في الإرشاد: وتفسير عطاء بن دينار يكتب ويحتج به"، ومع ذلك فقد توبع ثلاث متابعات كما في:
الطريق الثانية: قالها الخلال في السنة: وحدثنا أبو بكر ثنا أبو عبد الله بن محمد بن بشر بن شريك بن عبدالله النخعي قال ثنا محمد بن عقبة الشيباني وأحمد بن الفرج الطائي قالا ثنا عبادة بن أبي روق سمعت أبي يحدث عن الضحاك عن ابن عباس في قوله:{ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال:" يقعده على العرش"، تابعه أبو إسحاق الشيرجي في كتاب السنة قال: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْر نا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ سُوَيْد نا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِي وَأَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الطَّائِيُّ قَالا: نا عبادة بْنُ أَبِي رَوْقٍ سَمِعْتُ أَبِي عن الضحاك عن ابن عباس فذكره سواءا، ذكره القاضي في إبطال التأويلات، وفي إسناده علتان: إحداهما محمد بن بشر فقد قال عنه الذهبي وحده: ما هو بعمدة، يعني أنه لا يُعتمد عليه لوحده، وهي مثل عبارة: ليس بالقوي، والعلة الثانية عبادة ضعيف، فقد قال ابن عدي: ولابن أبي روق هذا أحاديث كما لأبيه أحاديث، وليس حديثهما بالكثير ومقدار ما يرويانه لا يتابعان عليه"، لكن الوالد أبا روق عطية بن الحارث صاحب التفسير صدوق، وكذلك الضحاك، لكن اختلف في سماعه من ابن عباس، وذكر شعبة أنه أخذ التفسير من سعيد بن جبير فأرسله عن ابن عباس، على أن عبادة بن أبي روق قد توبع متابعتين تامتين كما في:
الطريق الثالثة: وفيها متابعتان، نبتدئهما بالساقطة، فقد قال الذهبي: أنا الحسن بن علي أنبأنا جعفر أنبأنا السلفي أنبأنا علي بن بيان أنبأنا بشري الفاتني أنبأنا عمر بن سبيك القاضي حدثنا الحر بن محمد بن اشكاب حدثنا عمر بن مدرك الرازي حدثنا مكي بن إبراهيم عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى:" عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" قال:" يقعده على العرش"، قال: إسناده ساقط وعمر هذا الرازي متروك وفيه جويبر"، وهو ضعيف، وقد توبع متابعة لا بأس بها في الإعتبار والشواهد كما في:
الطريق الرابعة: قال ابن النجار في ذيل تاريخه من ترجمة علي بن محمد القادسي: أخبرتنا عين الشمس بنت أحمد بن محمود الثقفي بأصبهان أنبأنا أبو بكر محمد بن علي بن أبي ذر الصالحاني قراءة عليه أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحيم أنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن فورك القباب حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون بن سليمان الاشعري ثنا علي بن محمد القادسي بعكبرا سنة 250 حدثنا محمد بن حماد عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس في قوله عزوجل (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قال: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين حبيب الله ؟ فيتخطى صفوف الملائكة حتى يصير إلى العرش فيمد يده العزيز عز وجل حتى يجلسه معه على العرش حتى تمس ركبته ركبته"، ومن طريقه خرجه الذهبي في الميزان من ترجمة مقاتل: أنبأني جماعة عن عين الشمس الثقفية فذكره قم قال: فهذا لعله وضعه أحد هؤلاء أصحاب مقاتل أو القادسي"، وأكّد ذلك في الميزان، ووهم في ذلك فإن محمد بن حماد هو الطهراني الرازي الثقة الكبير، وقد تُوُفِّي سَنَة إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْن، وبمثل الذي ذكرت قال ابن النجار في تاريخه من ترجمة علي بن محمد القادسي، قال: حدث بعكبرا عن محمد بن حماد أظنه الطهراني، روى عنه: أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون الاشعري"، أما القادسي فليس بوضاع، لأن ابن النجار وابن ماكولا ترجماه ولم يجرحاه، وسبب حمل الذهبي عليه أنه ينكر القعود على العرش لذلك اتهمه به، وليس كما قال فإن الحديث قد تلقته الأمة بالقبول والحمد لله، ولا يحل الطعن في المسلمين بمجرد الظن أو مخالفة الإعتقاد، على أنيّ بعد طول بحثٍ وتدقيق عن علي بن محمد رأيت أن القادسي نسبة إلى قادسية الكوفة، على يومين منها، فإذ ذلك كذلك ففي هذه الطبقة والبلدة علي بن محمد وهو ابن أبي الخصيب الكوفي وهو صدوق توفي سنة ثمان وخمسين ومئتين، وقد سمع منه هذا الحديثَ أحمدُ بن الحسن الكوفي البغدادي سنةَ مئتين وخمسين، وأحمدُ هذا قد ترجمه الخطيب ووثقه، وأما أبو بكر بن فورك فهو مقرئ معروف، توثيقه ضمني، لأنه راوي الكتب عن ابن أبي عاصم، وقال الذهبي في السير: الإِمَامُ الكَبِير المُقْرِئ مُسْنِد أَصْبَهَان.. وما أَعلم بِهِ بَأْس"، ووثقه أبو العلا الحافظ، وأما أبو طاهر الأصبهاني فهو ثقة جليل معروف حدث عن الدارقطني بسننه، وأما ابن أبي ذر فقال عنه الذهبي: مسند إصبهان في زمانه.. وكان صالحاً صحيح السماع"، وقال في السير: الشيخ الجَليل الصَّدوق مُسْنِدُ وَقته"، وكذا قال عن عين الشمس:" مسندة أصبهان، وكانت شيخة صالحة عفيفة من بيت رواية وحديث"، فصار هذا الحديث كل رجاله ثقات إلا مقاتل بن سليمان، فقد قال عنه ابن خلكان: وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وثقه في الرواية، ومنهم من نسبه إلى الكذب"، وقد اتهمه جماعة من أهل الحديث وضعفه جدا، لأنه كان من المُشبِّهَة، ونسبوه إلى التجسيم، بينما أثنى عليه آخرون، خاصة إذا روى في التفسير كهذا الحديث، وقد أثنى عليه الشافعي فقال:" الناس عيال في التفسير على مقاتل" ، وقال ابن عدي:" وكان حافظا للتفسير وكان لا يضبط الإسناد"، وقال الخطيب:" كان له معرفة بتفسير القرآن ولم يكن في الحديث بذاك"، وهذا الحديث في تفسير القعود فيُقبَل، على أن الحافظَ الخليلي قد ذكر أن المناكير في روايته هي من رواية الضعفاء عنه، لا منه، فقال في الإرشاد من ترجمته: "محله عند أهل التفسير والعلماء محل كبير، واسع العلم ، لكن الحفاظ ضعفوه في الرواية وهو قديم معمر، سمع منه كبار خراسان والعراق، وقد روى عنه الضعفاء أحاديث مناكير، والحمل فيها عليهم، وروى عنه جماعة من أهل العراق أحاديث مشهورة"، قلت: وقد روى عنه شعبة وكان لا يروي إلا عن العدول، وقال بقية: كنت كثيرا أسمع شعبة وهو يُسأل عن مقاتل بن سليمان فما سمعته قط ذكره إلا بخير"، وقال الصفار: كان إبراهيم الحربي يأخذ مني كتب مقاتل فينظر فيها، فقلت له ذات يوم: أخبرني يا أبا إسحاق ما للناس يطعنون على مقاتل؟ قال: حسدا منهم لمقاتل"، وفي الميزان للذهبي:" [وقال ابن واقد] عن مقاتل بن حيان وهو صدوق ما وجدت علم مقاتل بن سليمان إلا كالبحر"، وممن قبل روايته في المتابعات أيضا ابن عيينة، فقد قال نعيم بن حماد: رأيت عند سفيان بن عيينة كتابا لمقاتل بن سليمان فقلت لسفيان يا أبا محمد تروي لمقاتل في التفسير قال لا ولكن أستدل به وأستعين"، وخلاصة القول فيه ما قال ابن عدي:" ولمقاتل من غير ما ذكرت من الحديث، حديثٍ صالح، وعامة أحاديثه لا يتابع عليه على أن كثيرا من الثقات والمعروفين قد حدث عنه، والشافعي محمد بن إدريس يقول: الناس عيال على مقاتل بن سليمان في التفسير وكان من أعلم الناس بتفسير القرآن وله كتاب الخمسمائة آية .. وفي ذلك الكتاب حديث كثير مسند وهو مع ضعفه يكتب حديثه"، فصار حديثه هذا في القعود حسنا لغيره بطرقه الثلاثة أو الأربعة السابقة، وله شواهد أخرى:
الدليل الرابع والخامس: حديث أبي هريرة وعلي رضي الله عنهما:
أما حديث أبي هريرة وحده: فقد قال أبو يعلى في إبطال التأويلات (مخطوط 147): قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشيرجي في كتاب السنة: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمد وَعَلِيّ بْنُ الْحَسَن وَمُحَمَّد بْن الْخَضِر مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب على عَلِي بن عبد الصَّمَدِ قَال: نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّد [الْفَارِسِي أو القادسي] نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أنا يَحْيَى بْنُ سَعِيد عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحعْمُودًا} قَالَ:" نَعَم، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ حَبِيبُ اللَّهِ؟ فَأَتَخَطَّى صُفُوفَ الْمَلائِكَةِ حَتَّى أَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ بِيَدِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى الْعَرْش"، وقد ذكر ابن صاعد بأنه موضوع، وتعقبه النجاد الحافظ بأنه لم يُبين وجه وضْعه ثم قبله واحتج به، وقد حدّث بهذا الحديث كل من علي بن الحسن وابن الخضر وعلي بن عبد الصمد وهو علان البغدادي وهو ثقة توفي سنة تسع وثمانين ومئتين، وقد اختار أبو إسحاق لفظه، ثم روَوْا ثلاثتهم عن علي بن محمد، ولم يتبين لي جيدا في المخطوط هل هو الفارسي أو القادسي فإن الرّسم متشابه جدا، على أن القادسية كانت للفرس وهي بين الكوفة وفارس، وعليه فهو نفسه علي بن محمد القادسي صاحب الحديث السابق عن ابن عباس، وقد ذكرت هناك أنّ اسمه ابن أبي الخصيب الكوفي الذي مات سنة ثمان وخمسين ومئتين، فهو من الطبقة التي أدركت يزيد بن هارون الواسطي البغدادي أيضا، لأن يزيد بن هارون توفي سنة ست ومئتين، وجميع من سَبق من نوَاحي بغداد ومن طبقة متقاربة، وإذ ذلك كذلك فالحديث صحيح كما قال أبو بكر النجاد والله أعلم، وله متابعات أخرى من حديث أبي هريرة نفسِه ومن حديث علي رضي الله عنهما، وهذا بيانها:
أولاها: حديث علي رضي الله عنه: فقد قال الطبراني في الأوسط 4/171 حدثنا علي بن سعيد الرازي نا الحسن بن عبد الواحد الخزاز الكوفي نا إسماعيل بن صبيح اليشكري نا سفيان بن إبراهيم الحريري عن عبد المؤمن بن القاسم الانصاري عن أبان بن تغلب عن عمران بن ميثم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه سمع علي بن ابي طالب يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم:" ألا ترضى يا علي إذا جمع النبيين في صعيد واحد عراة حفاة مشاة قد قطع أعناقهم العطش فكان اول من يدعى إبراهيم فيكسى ثوبين ابيضين ثم يقوم عن يمين العرش ثم يفجر شعب من الجنة إلى حوضي وحوضي اعرض مما بين بصرى وصنعاء فيه عدد نجوم السماء قدحان من فضة فاشرب وأتوضأ ثم أُكسى ثوبين أبيضين ثم أقوم عن يمين العرش ثم تدعى فتشرب وتتوضأ وتكسى ثوبين أبيضين فتقوم معي ولا ادعى لخير الا دعيت له"، ومن هذا الوجه خرجه ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة قال: حدثنا محمد بن جعفر بن يزيد المطيري ثنا عبد الله بن أحمد بن المستورد ثنا إسماعيل بن صبيح به إلى [عمران بن مقسم أو ابن ميثم] عن المنهال عن عبد الله عن علي مثله، ثم قال: تفرد علي بن أبي طالب بهذه الفضيلة ، لم يشاركه فيها أحد"، لكن لم تصحَّ فضيلة القعود إلا لنبينا خاصة، والحديث بزيادة جلوس عليٍّ مع النبي عليه السلام منكرٌ وباطل، وكذلك هو بزيادة إبراهيم عليه السلام عن يمين العرش، فقد ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمة سفيان بن إبراهيم الكوفى، ثم قال الذهبي: عبد المؤمن تالف أيضا، والخبر منكر جدا"، وله علل أخرى أشدها المخالفة لحديث الثقات في المتن، فإنه عن أبي هريرة وعلي رضي الله عنه بغير الزيادة تلك كما في:
المتابعة الثانية: قال أبو بكر في مصنفه 7/265 حدثنا وكيع عن سفيان عن عمرو بن قيس عن المنهال عن عبد الله بن الحارث عن علي قال:" أول من يكسى إبراهيم قبطيتين، ثم يكسى النبي صلى الله عليه وسلم حلة وهو عن يمين العرش"، وخرجه أحمد في الزهد عن وكيع به نفسه بلفظ:" وهو على يمين العرش"، وهذا حديث حسن، ليس فيه ذكر القيام على العرش لا لإبراهيم ولا لعليٍّ، وقد رواه المنهال بن عمرو عن أبي هريرة أيضا كما في:
المتابعة الثالثة: قال الترمذي 3611 حدثنا الحسين بن يزيد ثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد أبي خالد عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح"، وفيه أن القيام على العرش خاص بنبينا عليه السلام فقط، وقد ضعف الألباني هذا الحديث لأن يزيد بن عبد الرحمن صدوق يخطئ وقد نُسِب إلى التدليس، إلا أنه قد توبع على حديثه متابعة جيدة تامة فصح الحديث كما قال الترمذي:
فقال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه الأهوال: وحدثنا إسماعيل بن عبيد بن عمير بن أبي كريمة الحراني حدثني محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يحشر الناس عراة، فيجتمعون شاخصة أبصارهم إلى السماء، يبصرون فصل القضاء، قياماً أربعين سنة، فينزل الله عز وجل من العرش إلى الكرسي فيكون أول من يدعى إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، فيكسى قبطيتين من الجنة، ثم يقول الله عز وجل: ادعوا إليَّ النبي الأميَّ محمداً، قال: فأقوم، فأكسى حلة من ثياب الجنة. قال: ويفجر لي الحوض، وعرضه كما بين أيلة إلى الكعبة. قال: فأشرب وأغتسل وقد تقطعت أعناق الخلائق من العطش، ثم أقوم عن يمين الكرسي ليس أحد قائم ذلك المقام غيري، ثم يقال: سل تعطه واشفع تشفع، فقال رجل: أترجو لوالديك شيئاً يا رسول الله؟ قال: إني لشافع لهما، أعطيت أو منعت، وما أرجو لهما شيئاً "، هذا حديث غاية في الصحة كل رجاله أئمة ثقات، وأبو عبد الرحيم هو خالد بن أبي زيد ثقة، وفيه احتمال شفاعته صلى الله عليه وسلم لوالديه وقد شهد لذلك حديث ابنا مليكة عن ابن مسعود الآتي، وفيه أيضا قيام النبي عليه السلام لوحده، على يمين كرسيِّ ربه، من دون سائر خلقه والحمد لله على نعمته على نبيه، وإن رغم الراغمون، ودفع ذلك المعتدون :
الدليل السادس: حديث ابن مسعود رضي الله عنه: قال الإمام أحمد (1/398) حدثنا عارم بن الفضل حدثنا سعيد بن زيد حدثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَا:" إِنَّ أُمَّنَا كَانَتْ تُكْرِمُ الزَّوْجَ وَتَعْطِفُ عَلَى الْوَلَد.. غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّة، قَال: أُمُّكُمَا فِي النَّار، فَأَدْبَرَا وَالشَّر يُرَى فِي وُجُوهِهِمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُدَّا فَرَجَعَا وَالسُّرُورُ يُرَى فِي وُجُوهِهِمَا رَجيَا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ شَيْءٌ، فَقَال: أُمِّي مَعَ أُمِّكُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِين: وَمَا يُغْنِي هَذَا عَنْ أُمِّهِ شَيْئًا وَنَحْنُ نَطَأُ عَقِبَيْه، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ..: يا رَسُولَ اللَّه، هَلْ وَعَدَكَ رَبُّكَ فِيهَا أَوْ فِيهِمَا؟ قَال: فَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ شَيْءٍ قَدْ سَمِعَهُ فَقَال: ما سَأَلْتُهُ رَبِّي وَمَا أَطْمَعَنِي فِيه، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة، فقال الأنصاري: وما ذاك المقام المحمود؟ قال: ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلاً، فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيقول الله: اكسوا خليلي: فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد فيستقبل العرش، ثم أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاماً لا يقومه أحد غيري، يغبطني به الأولون والأخرون.. "، وكذلك رواه علي بن عبد العزيز عن عارم عن سعيد ين زيد عن علي بن الحكم به بلفظ:" يا رسول الله هل وعد ربك فيها أو فيهما ؟ قال : تظن أنه من شيء، قال: ما سألت ربي وإني لقائم المقام المحمود.."، وكأن فيه إشارة إلى أنه ينتظر ذلك إلى يوم القيامة والله أعلم.
وخالفه في الإسناد وبعض المتن: الصعق بن حزن فرواه عن علي بن الحكم فجعله عن أبي وائل: فقال الطبراني في الأوسط 3/82 حدثنا أبو مسلم حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا الصعق بن حزن عن علي بن الحكم البناني عن عثمان بن عمير عن أبي وائل عن بن مسعود قال: جاء ابنا مليكة وفيه:" أمي مع أمكما.. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أين أبوك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: سألت ربي عز و جل لهما، وإني لقائم المقام المحمود.."، فأخبر أنه دعا لهما، ثم ذكر الشفاعة والمقام المحمود، كذا قال عارم، وخالفه عبد الرحمن بن المبارك ثنا الصعق بن حزن عن علي عن عثمان عن أبي وائل عن ابن مسعود بلفظ: « ما سألتهما ربي فيعطيني فيهما وإني لقائم يومئذ المقام المحمود"، وفيه من الفقه أنه عليه السلام في الوقت الذي أخبر عن والديه أنهما في النار، فإنه لم يسأل الله تعالى لهما بعد، ثم أنه سأل الله لهما ثم ذكر مقام الشفاعة، وقال الصالحي في سبيل الهدى:" كأنه صلى الله عليه وسلم أوَّلا لم يوح إليه في شأنها شئ ولم يبلغه الذي قالته عند موتها ولا تذكره، فإنه كان إذ ذاك ابن خمس سنين، فأطلق القول بأنها مع أمهما جريا على قاعدة أهل الجاهلية، ثم أوحى إليه في أمرها بعد ذلك، ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث نفسه (ما سألتهما ربي) فهذا يدل على أنه لم يكن بعد وقعت بينه وبين ربه مراجعة في أمرها ثم وقع بعد ذلك".
خرج رواية الصعق هذه ابنُ شاهين والطبراني وأبو نعيم والحاكم في المستدرك (2/396) ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعثمان بن عمير هو ابن اليقظان»، وقال الذهبي: لا والله فعثمان ضعفه الدارقطنى والباقون ثقات"، قلت: وعثمان ضعفه الأكثرون لتشيعه، وأثنى على روايته آخرون، فنقل ابن عدي عن ابن أبي داود قال: سألت يحيى بن سعيد عن أبي اليقظان قال هو عثمان بن عمير قلت له فكيف حديثه فقال: صالح"، واستحسن حديثه، لكنه لم يرض شخصه لتشيعه، وكذا قال عنه البزار وابن شاهين في الثقات: صالح، وصحح له الحاكم وحسن له الترمذي، وخلاصة القول فيه ما قال ابن عدي:".. على أن الثقات قد رووا عنه، وله غير ما ذكرت ويكتب حديثه على ضعفه"، وقد توبع متابعات جيدة:
فقال الدارقطني في العلل (5/162): وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي وقد اختلف عنه فرواه شريك عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص وعلقمة عن عبد الله، ورواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن عبد الله، وروى هذا الحديث أيضا عاصم عن زر عن عبد الله حدث به محمد بن أبان الجعفي عن عاصم"، وكذلك روى الشق الأول داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس قال: حدثني ابنا مليكة الجعفيان قالا : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا.."، ورواه مجالد عن عامر عن سلمة بن مليكة قال: أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا..الحديث، ولجزء القعود والقيام على العرش شواهد أخرى:
فذكر البغوي في تفسيره قال: وروي عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم حبيب الله وأكرم الخلق على الله ثم قرأ: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال: يقعد على العرش"، وقد ذكر النجاد أنه رواه عاصم عن ابن مسعود، وأن ابن صاعد وابن خزيمة حكما عليه بالوضع والله أعلم برجال إسنادهما، لكن قد ورد من وجه آخر مُعتبَر:
قال الذهبي في العلو 202: حديث أبي أحمد عبيد الله بن العباس الشطوي ثنا أبو العباس محمد بن سفيان الحنائي حبشون ثنا محمد بن عبد الرحيم والحسن بن حماد قالا حدثنا أحمد بن يونس عن سلمة الأحمر عن أشعث بن طليق عن عبد الله بن مسعود قال:" بينا أنا عند رسول الله أقرأ عليه حتى بلغت:" عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" قال:" يجلسني على العرش"، قال الذهبي: هذا حديث منكر لا يفرح به وسلمة هذا متروك الحديث وأشعث لم يلحق ابن مسعود"، قلت: قد ذكر الحفاظ أنه سمع من عبد الله بن عمر، فهو في طبقة التابعين، ولا يوجد أي دليل على أنه لم يدركه، وقد مات ابن مسعود في المدينة، فهما بلديان، وأما رد الحديث جملة بسلمة بن صالح الأحمر فليس بجيد، فإنه مختلف في توثيقه فقد ضعفه جدا كل من ابن معين وأبو حاتم وابن حبان وابن عمار وأبو داود ولم يعتبروا بحديثه، وقد بين ابن سعد أنهم إنما ضعفوه لاختلاطه، فقال في الطبقات:" كان قد طلب الحديث ثم اضطرب عليه حفظه فضعفه الناس"، وكذلك قال الطبري:" كان كثير الحديث غير أنه اضطرب عليه حفظه فضعف"، بينما اعتبر به آخرون منهم أبو أحمد الحاكم، وكذلك ضعفه الدارقطني مرة واعتبر به، فقال في العلل (س132) عن حديث الوتر: ورواه سلمة بن صالح الأحمر عن علقمة فقال عن سعيد عن ابن عباس عن عمر وهو أشبه بالصواب وإن كان سلمة ضعيف"، بينما وثقه مرة أخرى فيما قاله الحاكم قلت للدارقطني: سلمة بن صالح ؟ فقال: ثقة"، وقال عنه ابن عدي بعد أن استقرأ أحاديثه:" هو حسن الحديث ولم أر له متنا منكرا إنما أرى ربما يهم في بعض الأسانيد"، قلت: وما كان هذا شأنه فحديثه من قبيل الحسن أو الحسن لغيره، بينما ضعفه نسبيا البخاريُّ وروايةٌ عن الإمام أحمد في روايته عن حماد فقط، وقال الإمام أحمد: سلمة الأحمر يحدث عن أبي إسحاق أحاديث صحاح، إلا أنه عن حماد مختلط الحديث"، وبنحوه قال البخاري، وهذا الحديث عن غير حماد فهو صحيح لغيره، للجهالة بحال محمد بن سفيان، فقد ترجمه الخطيب وقال: روى عنه الزبيبي والشطوي وعلي بن محمد الوراق"، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فلئن لم يُوثقه أحد فهو مجهول الحال لرواية الجمْعِ عنه، وعليه فيُقبل في الإعتبار، و قد مضى من تابعه، ولحديثه شواهد أخرى:
الدليل السابع: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: ذكره السيوطي في الدرر قال: وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ما المقام المحمود الذي ذكر لك ربك؟ قال : يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلاً ، كهيئتكم يوم ولدتم ... هالهم الفزع الأكبر وكظمهم الكرب العظيم، وبلغ الرشح أفواههم وبلغ بهم الجهد والشدة ، فأكون أول مدعى وأول معطى، ثم يدعى إبراهيم عليه السلام قد كسي ثوبين أبيضين من ثياب الجنة، ثم يؤمر فيجلس في قبل الكرسي، ثم أقوم عن يمين العرش ... فما من الخلائق قائم غيري ، فأتكلم فيسمعون وأشهد فيصدقون"، كذا زاد في الحديث جلوس إبراهيم عليه السلام قبل الكرسي، والإسناد مجهول، وآخر الحديث ينقض أوله، إذ في آخره أن هذا القيام على الكرسيّ من خصوصيات نبينا الكريم فقط كما في سائر الأحاديث، وقد جاء ذلك على الصواب في رواية ابن ثوبان وبالله التوفيق:
فقال الطبراني في مسند الشاميين: حدثنا محمد بن جعفر بن سفيان الرقي ثنا أيوب بن محمد الوزان ثنا الوليد بن الوليد ثني ابن ثوبان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ما المقام المحمود الذي ذكره لك ربك ؟ فقال:« يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة، كهيئتهم يوم ولدوا وقد هالهم الفزع الأكبر، وكظمهم الكرب العظيم وبلغ الرشح أفواههم وبلغ بهم الجهد والشدة، فأكون أول مدعو وأول معطى، ثم يدعى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيكسى ثوبين أبيضين من ثياب الجنة، ثم يُؤْمَر فيجلس بي قبل الكرسي وأقوم عن يمين الكرسي فما من الخلائق قائم غيري فأتكلم فيسمعون وأشهد فيصدقون"، في إسناده الوليد القلانسي مختلف فيه، فقال الدارقطني والمقدسي: متروك"، وجرحه ابن حبان مرة، ووثقه أخرى، وقال أبو حاتم:" هو صدوق ما بحديثه بأس، حديثُه صحيح"، وعليه فإن حديثه هذا حسن لغيره لأنه يُقبل جدا ـ خاصة في المتابعات ـ لتوثيق أبي حاتم له وهو من المتشددين ومن أقربهم طبقة وعلمًا به، ولحديثه شواهد أخرى:
الدليل الثامن: خبر رويفع رضي الله عنه: قال الآجري في الشريعة: باب ذكر ما خص الله عز وجل به النبي صلى الله عليه وسلم من المقام المحمود يوم القيامة، قال:".. وأعطاه المقام المحمود يزيده شرفا وفضلا، جمع الله الكريم له فيه كل حظ جميل من الشفاعة للخلق، والجلوس على العرش، خص الله الكريم به نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأقر له به عينه يغبطه به الأولون والآخرون قال: ـ وهذه ـ الكرامة العظيمة والفضيلة الجميلة تلقاها العلماء بأحسن القبول فالحمد لله على ذلك: ثم ذكر أحاديث وقال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد ثنا أحمد بن يحيى الأودي ثنا زيد بن الحباب ح قال ابن صاعد: وحدثنا أحمد بن منصور بن سيار ثنا ابن أبي مريم قالا: حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم الحضرمي عن وفاء بن شريح الحضرمي عن رويفع بن ثابت الأنصاري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:« من قال: اللهم صل على محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي»، قال ابن صاعد: وهذه الفضيلة في القعود على العرش لا ندفعها ولا نماري فيها، ولا نتكلم في حديثٍ فيه فضيلةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء يدفعه ولا ننكر"، وكذلك استدل به الخلال في السنة 315 قال: حدثنا أبو بكر ثنا محمد بن إسماعيل السلمي ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال ثنا ابن لهيعة حدثني بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم عن وفاء الحضرمي عن رويفع بن ثابت عن النبي أنه قال:" من صلى على محمد وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي"، وقال أحمد (4/108) نا حسن بن موسى ثنا بن لهيعة ثنا بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم به مثله، وقال ابن كثير: وهذا إسناد لا بأس به ولم يخرجوه"، وفيه ابن لهيعة ضعيف مختلط، وقد روى الحديث عنه عبد الله بن يوسف وعبد الله المقرئ قبل الإختلاط، فصار الحديث حسنا لغيره وقد احتج به الإمام الحافظ ابن صاعد والآجري والخلال:
فقال الطبراني في الأوسط (3/321) حدثنا بكر بن سهل نا عبد الله بن يوسف نا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم به، وخالفهم عبد الله المقرئ فجعله عن ابن هبيرة، فقال الطبراني في الكبير (5/26)4481 حدثنا بشر بن موسى ثنا أبو عبد الرحمن المقري ثنا ابن لهيعة حدثني ابن هبيرة عن زياد بن نعيم عن وفاء بن شريح عن رويفع بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قال اللهم صل على محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة شفعت له"، قال الهيثمي (ج1 ص163): رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير وأسانيدهم حسنة"، وكذلك حسنه ابن كثير والمنذري في الترغيب والصالحي في سبيل الهدى والرشاد، إلا أنّ وفاء بن شريح وثقه ابن حبان وحده، وقال الحافظ: مقبول، وإنما حسَّنَوه لأن هذا الحديث يقبل في الشواهد والمتابعات وهي كثيرة، وفيه من الإعتقاد ما قاله الصالحي: قيل: المراد بالمقعد المقرب المقام المحمود وجلوسه على العرش، والمراد به الوسيلة، وقال الطيبي: إن له صلى الله عليه وسلم مقامين مختصين به، أحدهما مقام حلول الشفاعة والوقوف على يمين الرحمن حيث يغبطه فيه الأولون والآخرون، وثانيهما مقعده من الجنة ومنزله الذي لا ينزل بعده"، وقد مر كلام الحافظ ابن صاعد والخلال عليه.
الدليل التاسع: حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: قال الخلال في السنة 238 نا المروذي نا أبو بكر بن صدقة نا ابن أبي صفوان نا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِي ثنا سَلمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَكْرَاوِي ثنا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِي ثَنَا سَيْفٌ السَّدُوسي سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ قَالَ:" إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جِيءَ بِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُجْلِسَهُ بَيْنَ يَدَيْه [ على الكرسيّ ]"، قَال: فَقُلْتُ: يَا أَبَا مَسْعُودٍ , فَإِذَا أَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهُوَ مَعَه, قَال: وَيْلَك مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا قَطُّ أَقَرَّ لِعَيْنَيَّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ"، لفظ حديث أبي داود: ".. نزل الجبار على عرشه، وقدميه على الكرسي، ويؤتى بنبيكم فيقعد بين يديه على الكرسي"، وهذا حديث حسن متصل، كل رجاله ثقات غير سيف السدوسي وهو أبو عائذ السعدي صدوق، فقد احتج بحديثه في العقيدة تلميذُهُ الجريريُّ وهو أعلم الناس به، فهذا منه توثيق ضمني له، وكذلك وثقه ابن حبان، وقال البخاري في ترجمته: " سماه ابن علية عن الجريري وأثنى عليه خيرا "، وهذا يعني الثناء عليه في روايته وصلاحه معا، وكذلك احتج به وصحح له الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل فقال في السنة له: كتب إلي العباس العنبري بخط يده حدثنا يحيى بن كثير العنبري ثنا سلم بن جعفر وكان ثقة عن الجريري عن سيف السدوسي عن عبدالله بن سلام قال:" إن رسول الله يوم القيامة قاعد على كرسي الرب بين يدي الرب عز وجل"، فقيل لأبي مسعود: إذا كان على كرسي الرب فهو معه؟ قال: نعم مع الرب، ثم قال: هذا أشرف حديث سمعته قط"، قال عبد الله بن الإمام أحمد:" وأنا منكر على من رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوء متهم على رسول الله"، وقد خرجه العلماء في كتبهم واحتجوا به على القعود، منهم الخلال والنجاد والمروذي وأبو يعلى والآجري وابن بطة، وذكره ابن أبي عاصم في السنة (2/365)، بينما أعله الشيخ الألباني في تخريج السنة 786 بجهالة سيف السدوسي، ـ وقد مرّ توثيقه ـ ثم قال الألباني:" وقد وجدت لهذا الحديث طريقا آخر عن عبد الله بن سلام يرويه عنه بشر بن شغاف في حديث له طويل موقوف"، وهو ما خرجه الحاكم في مستدركه 4/568 قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ثنا محمد بن غالب ثنا عفان ومحمد بن كثير قالا: ثنا مهدي بن ميمون ثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام قال: وكنا جلوسا في المسجد يوم الجمعة فقال:« إن أعظم أيام الدنيا يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة، وإن أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم»... وفيه:".. إذا كان يوم القيامة بعث الله الخليقة أمة أمة ونبيا نبيا حتى يكون أحمد وأمته آخر الأمم مركزا، قال: فيقوم فيتبعه أمته برها وفاجرها، ثم يوضع جسر جهنم فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون فيها من شمال ويمين وينجو النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون معه فتتلقاهم الملائكة فتوريهم منازلهم من الجنة على يمينك على يسارك حتى ينتهي إلى ربه عز وجل فيلقى له كرسي عن يمين الله عز وجل..."، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وليس بموقوف فإن عبد الله بن سلام على تقدمه في معرفة قديمة من جملة الصحابة، وقد أسنده بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير موضع والله أعلم"، ووافقه على تصحيحهِ الذهبيُّ، وخالفهما الألباني فقال:" ليس في إسناده ما يمكن التعلق به عليه إلا أنه من رواية محمد بن غالب وهو حافظ ثقة لكنه وهم في أحاديث كما قال الدارقطني فلا أدري لعل هذا الحديث مما وهم في متنه.."، وليس كما ظنّ رحمه الله، فإنه ثقة مجتمع عليه، ومع ذلك فلم يتفرد بالحديث، بل له متابعات كثيرة، فروى هذا الحديث كل من موسى بن إسماعيل وعبد العزيز بن أبان وعبد الله بن محمد والحجاج بن المنهال إضافة إلى عفان ومحمد بن كثير وأسد بن موسى في الزهد سبعتهم عن مهدي بن ميمون عن ابن أبي يعقوب بهذا، تابعه عليه معمر بن راشد عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب بالحديث، وقد خرجته بطرقه في مبحث استحباب التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وللقعود شواهد أخرى:
وابتداءا من هذا الحديث الآتي وهو حديث عائشة وما بعده: فقد حكم عليهم ابن خزيمة وابن صاعد وغيرهما بالوضع، كما سيأتي في الفصل القادم، وتعقبهما أبو بكر النجاد والقاضي أبو يعلى بأنهما لم يبينا وجه الوضع فيها، ومن ثَمّ قبلوها واحتجوا بها، فلما اختلفوا في ذلك نظرتُ، فوجدتُ أن دراسة هذه الأسانيد من أصعب الأسانيد وأغمضها، وقد مكثت فيها عدة سنوات أبحث وأوصي وأراجع في الكتب، لأعرف هل هذه الأحاديث من قبيل الموضوع إن كان في رواتها من قد اتُّهم، أو أنها من الأحاديث الضعيفة التي يُعتبر بها إذا لم يكن في رواتها من اتهم، وقد توصلت لما سأذكر، وأستغفر الله من الخطإ والزلل والتقصير، وهذه الأحاديث هي:
الحديث العاشر: حديث عائشة رضي الله عنها:قال أبو يعلى في إبطال التأويلات: نا أَبُو الْقَاسِمِ نا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ التَّمَّارُ نا أَبُو بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مَعْمَر نا يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَرْبِ بْنِ الْحَكَمِ الأَشْعَرِي الْبَصْرِي حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ حَرْب عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة عَنْ أَبِيه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ فَقَالَ: " وَعَدَنِي رَبِّيَ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْش"، أبو القاسم ثقة، وعلي بن عمر علي بن إبراهيم التمار البغدادي، وثقه الخطيب وقال: قال لي الأزهري والخلال: توفى في ربيع الأول سنة اثنتين وأربع مِئَة"، وأما ابن أَبِي مَعْمَر فهو الدوري الصَّفَّارُ، قال الخطيب: واسم أبي معمر محمد بن حزر بن سهل بن الهيثم أبو بكر الدوري الصفار، كان له دكان بباب الطاق في الصفارين وحدث عن يوسف بن أحمد بن حرب الأشعري، حدثنا عنه أبو الحسن بن الحمامي المقرئ وعلي بن الحسين بن دوما النعالي"، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقد ذكر أنه روى عنه اثنان، وكذلك روى عنه علي التمار وعلي بن أحمد بن عمر المقرئ وعمر بن إبراهيم المقرئ وعمر بن أحمد بن عثمان، وقد قال محمد بن أبي الفوارس: توفي أبو بكر عمر بن أحمد الصفار يعرف بابن أبي معمر.. سنة خمسين وثلاث مِئَة"، فأشار إلى أنه معروف، وترجمه الذهبي في تاريخه، وأما يوسُف بْن أَحْمَدَ بْن حَرْب وأبوه فلم أجد من ترجمهما بعد سنوات من البحث عنهما، إلا ما ذكره الخطيب سابقا، وخرج عن ابن أبي معمر الصفار حدثنا يوسف بن حرب الأشعري من ولد أبي موسى، فهما علة هذا الحديث، وكونهما غير مُتّهمين ولا مجروحين، فأرجو أن يُقبَل حديثهما في الشواهد، وهي كثيرة كما مرّ وسيأتي:
........ يتبع
كتبه أبو عيسى الزياني الجزائري