المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [ نقض (نقض كتاب إجماع المحدثين) ]



رجل من أقصى المدينة
2007-07-17, 07:35 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، اللهم لك الحمد حتى ترضى ، ولك الحمد إذا رضيت ، ولك الحمد بعد الرضا ، اللهم لك الحمد كلُّه ، و لك الثناء كلُّه ، أنت أهل الثناء والمجد .
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها ، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت .
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .. وبعد :
فقد طالعتُ ما كتبه الشيخ محمد حاج عيسى حول كتاب ( إجماع المحدثين ) للشيخ حاتم الشريف ، فلم أَرَ فيه موضعاً يَسلَم من المؤاخذة إلا القليل ، ولم أَرَ فيه ( نقضاً ) بهذا الحجم الذي تحمله كلمة النقض ، بل كلُّ ما فيه لا يعدو كونَه استشكالاتٍ ، وسؤالاتٍ ، وفهوماً خاطئة لكلام الشيخ حاتم أو للمسألة العلمية ذاتها = مما يتقاصر عن درجة ( النقض ) إلى مادون ذلك .
وفي البداية أحب أن أسجل بعض الملاحظات الإجمالية والمنهجية على بحث الشيخ محمد حاج عيسى :
أولاً : لا يمانع أحدٌ أن يكتب الشيخ حاج عيسى ( نقضاً ) لإجماع المحدثين أو غيره ، لكن المرفوض في البحث العلمي ألا يَكتبَ نقضاً ثم يسميه ( نقضاً ) ! فبحْث الشيخ حاج عيسى لا يعدو أن يكون تسجيل ملحوظاتٍ على إجماع المحدثين ، بعضُها يرقى لمستوى النقض ، وغالبها دون ذلك بكثير : فالإشكال لا يسمى نقضاً ، والمصادرة على المطلوب لا تسمى نقضاً ، والمواعظ عن أسلوب الكتابة لا تسمى نقضاً ، والجواب عن غير محل النزاع لا يسمى نقضاً ، والخطأ الناشئ عن القصور في التصوُّر الصحيح لقيمة المسألة عند أهلها لا يسمى نقضاً = فهذه أمثلة للموادِّ التي كوَّنتْ ( نقض ) إجماع المحدثين !
ثانياً : لعل أهم خطئٍ كرَّره الشيخ حاج عيسى وأكثرَ منه هو : المصادرة ، خصوصاً في دعواه ( عدم تحرير محل النزاع ) فهو يأتي لمسألةٍ فيها أقوالٌ وأدلة ، فَتَارةً لا يُعَرِّج على هذه الأقوال بالذِكر ، أو لا يعرِّج على أدلتها بالإبطال تارة أخرى ، ثم يعرض ترجيحه المجرد الذي يتبناه هو وينطلق منه في بحث المسألة ! وتكون الخاتمة التي يخرج بها من هذه المصادرة : ( نقضَ ) إجماع المحدثين ! وكأنه يكفي طالبَ العلم نسفاً لهذه الأقوال و الأدلة أن الشيخ محمد حاج عيسى تجاهلها ، ولم يُضِع وقته في مناقشتها .
ومن صور المصادرة عند الشيخ حاج عيسى : أن يقف عاجزاً عن الجواب عن دليلٍ للشيخ حاتم ، ثم يحسم النقاش حول هذا الدليلٍ بأنه من المتشابه وينبغي ردُّه للمُحكم الذي يراه محكماً ، مع أن مخالِفَه – وهو الشيخ حاتم - لا يرى متَشابِهَه متشابهاً ، ولا محكَمَه محكَماً ، بل لديه تأويله العلمي الذي يزيل عنه دعوى التشابه .
فانظر كيف أصبح عدم العلم دليلاً على العلم ، و صار مِن أُسُس ( النقض ) : ( مَن لم يعلم حجةً على مَن علم ! ) .
ثالثاً : يبدو أن الشيخ محمد حاج عيسى لا يُفرِّق بين مقام التقرير ومقام الرَّد . فالرد هو مقام التمحيص والتفصيل والمناقشة ، أما مقام التقرير فيكفي صاحِبَه أن يُجْمِل قولَه في كلماتٍ معدوداتٍ ، وأن يختار الراجح دون الدخول في نقاش أدلة الرأي المخالف .
أما ما نجده في هذا ( النقض ) الذي بين أيدينا من عدمِ وقوفٍ مع أدلة المخالف ، ومِن ترجيحٍ مجرَّدٍ لقولٍ ما في مسألة يَنبني عليها إبطال للقول المخالف = فليس مقامه مقامَ النقض والرد ، وإنما مقامَ التقريرِ للمبتدئين في طريق العلم . فالشيخ حاج عيسى يرجح قولاً في معنى التدليس عند مسلم دون ذكر دليلٍ واحد ، ويرجح قولاً في مذهب شعبة في العنعنة دون دليل واحد ، ثم يبني على هذا الترجيح رَدَّه في المسألة التي يناقش فيها الشيخَ حاتم ! مع أن الشيخ حاتم في خصوص التدليس عند مسلم أثبتَ في ( المرسل الخفي )بالأدلة الظاهرة أن العلماء جميعاً على رأيٍ واحد في التدليس إلى أن جاء الحافظ ابن حجر فحَصَرَ التدليسَ في أحدى صوْرَتَيه عند السابقين ، فالشيخ حاتم مخالفٌ للشيخ حاج عيسى فيما نسبه لمسلم في التدليس في كتابٍ بين يدي الشيخ حاج عيسى ، فلا يصح في رَدٍّ يدعي صاحبه أنه بلغ درجة ( النقض ) ، وأنه يحترم عقلية قارئه من أهل العلم أن يكتفي بإعلامِنا أنه له رأياً في هذه المسألة ، وأدلة خصمه قائمةٌ لم تُنقَض ! فنحن لم نقرأ هذا ( النقض ) إلا لنتبيَّنَ المسألة العلمية ذاتَها ، لا لنعرفَ رأي الشيخ حاج عيسى مجرَّداً عن الدليل .
وما أشبه هذا بأسلوب مدرسة التقليد الذي وصَمْتَ به كتاب إجماع المحدثين ، والذي لم يؤلفه صاحبه إلا ليكشفَ هذا التقليد المتوارث من قرون في هذه المسألة !
رابعاً : لماذا يبحث الشيخ حاتم هذه المسألة بكلِّ هذا الحماس ؟
والجواب : إن لهذا الحماس أسباباً أهمها سببان :
الأول : أن للمسألة عند أهلها قدراً عظيماً ، و شأناً لا يجهله إلا البعيد عن هذا العلم ، وما الإمام مسلمٌ إلا أحد أشد الناس حماساً في تناوله لهذه المسألة ، كما أن العلماء من لدن القاضي عياض إلى يوم الناس هذا قد انقسموا فيها فريقان يختصمون ، كلٌّ يعرض لأدلة مخالفه بالرد والاعتراض . فمَن لم يعرف لها قدْرها لا يَلُم مَن قَدَرَها حقَّ قَدرِها كمسلمٍ وغيره .
الثاني : أن الشيخ حاتم يرى نفسَه في مقام الخارق لإجماعٍ مزعوم تتوارثه كتب المصطلح قرناً بعد قرنٍ ، ومَن يتصدى لما هو عند غيره إجماعاً لا يُستَكثَر عليه أن يكون شديدَ الحماس لرأيه ، قوياً في بيانه وشرحه ، والنفوس المشْبَعةُ قناعةً بهذا الإجماع في حاجة إلى هزةٍ قويةٍ توقضها مِن أَسْر هذا الإجماع .
وما الضعف الظاهر على كثير من اعتراضات الشيخ حاج عيسى إلا دليلُ قوةِ أسرِ هذا الإجماع ، بحيث لم يجد له سنداً إلا الضعيفَ من الحجج في أكثر نقضه .
تنبيه : مَن أراد الحق في هذه المسألة فعليه أن يأخذ كلَّ قولٍ من المصدر الأَصِيل لقائله ، فرأي الشيخ الحاج عيسى دوَّنه في بحثه هذا ، ورأي الشيخ حاتم مدوَّنٌ في ( إجماع المحدثين ) ، فمَن ظَنَّ أن باكتفائه ببحث الشيخ حاج عيسى سيعرف رأي الشيخ حاتم كما شرحه في كتابه فقد أخطأ ، وظلم نفسه ، وظلم الشيخ حاتم حين أخذ رأيه من غير كتابه ، فلن يصل الباحث الجاد إلى تمام تصوُّر رأي الشيخ حاتم حتى يأخذه من كتابه ، هذه نصيحة للباحث عن الحق ، ولن يضيره بعدها أن يوافق الشيخ حاتم أو يخالفه .
وتنبيهٌ آخر : أرجو ألا تَحُولَ دعوى ( عدم الرضا عن الأسلوب ) دون تَفهُّمِ قول القائل ، أيَّاً ما كان ذاك القائل ، فإن الحق في نفسه لا ينقص بضجيج صاحبه ، ولا يزيد بلين جانب صاحبه ، وفي الانشغال بالأسلوب غُنيةٌ لمَن أراد الراحة من الفهم .
وفي هذا الجزء الأول سأناقش دعوى الشيخ حاج عيسى عدمَ تحرير الشيخ حاتم الشريف محلَ النزاع .

فأقول مستعيناً بالله تعالى :
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ

دعوى : ( عدم تحرير محل النزاع ) ونقضها
في قضية الحديث المعنعن مسألتان حُكي الخلاف فيهما في كتب المصطلح :
الأولى : الحديث المعنعن بين متعاصِرَين ( لم يثبت ) بينهما سماع ولا لقاء . ونُسب الخلاف فيها إلى البخاري ومسلم.
الثانية : الاختلاف في تحرير مذهب البخاري في نفس المسألة السابقة . وهذا الخلاف لم يعْرِض له الشيخ حاج عيسى ولم يحرره .
أما مسلم فقد تولى بنفسه تحرير قوله في مقدمة صحيحه .
وقد أكثر علينا الشيخ حاج عيسى بـ ( عدم تحرير محل النزاع ) ليُثبت أن الشيخ حاتم كتب إجماعه خارج محل النزاع . وكان الأَوْلى به - وهو الأصولي - أن يكون أبعد عن عدم ( تحرير محل النزاع ) ، وأكثرَ تحريراً له .
إلا أن مطالعة بحثه أثبتتْ أنه الحقيقُ بوصف (عدم تحرير محل النزاع )! لا لأنه لم يحرر محل النزاع فقط ، وإنما لأنه أقحم تحريره المزعوم لمحل نزاعِ المسألةِ الأُولى في نزاعِ المسألة الثانية ! غير شاعرٍ بأن المسألة الثانية لها محل نزاعٍ آخر كان ينبغي عليه الاشتغال بتحريره لا الخلط بين محلَّي النزاع .
ولنبدأ معه في دعواه تحريرَ محل النزاع ، فنقول :
هذا التحرير المزعوم لمحل النزاع مبنيٌ على مغالطة منشؤها عدم التصور الصحيح للخلافِ المحكي في مسألة الإسناد المعنعن .
كما أن هذا التحرير المزعوم مبنيٌ أيضاً على مصادرةٍ لقول المخالف ، بل ولفهوم أهل العلم لمذهب مسلم ، ولمذهب البخاري ، بل أبلغ من ذلك : أنه مبنيٌ على مصادرة شرحِ مسلمٍ نفسِه لمذهبه !
وإليك تفاصيل هذه المغالطة والمصادرة :
يقول الشيخ حاج عيسى في معرض بيانه لصور رواية الراوي عمن عاصره :
( فأقول مستعينا بالله تعالى :
إذا روى الراوي عمن عاصره فله ثلاثة أحوال:
الأولى: أن يكون قد سمع منه وعلمنا ذلك بالدلائل والقرائن كثبوت اللقي.
الثانية: أن نعلم أنه لم يسمع منه ، بأن نقف على دليل أو قرينة تنفي سماعه منه ولقيه له.
الثالثة: ألا يثبت لدينا شيء من دلائل السماع ولا نفيه ) أ.هـ ومعنى هذه الصورة الثالثة عنده ( ألا تَرِد أدلة أو قرائن تقوي السماع أو تقوي نفيه) ثم خَصَّ هذه الصورة الأخيرة بأنها محل النزاع بين البخاري ومسلم .
وللجواب فإني أقول مستعيناً بالله تعالى :
ومن قال لك إن مسلماً إنما يخالفُ خصمَه في الصورة التي ليس فيها قرائن السماع ؟!
فمخالفك أثبتَ بالأدلة أن مسلماً ينازع خصمه في الصورة التي فيها قرائن السماع ! وعليه سيكون محل النزاع في الصورة الأولى !
ثم كيف أصبحتْ الصورة الأولى عندك محل اتفاقٍ بين البخاري ومسلم مع أنك أدخلت فيها قرائن السماع ؟ وأنتَ تزعم أن مسلماً عند تصحيحه لحديث متعاصِرَين لم يثبت بينهما سماع = لا يراعي قرائن السماع ؟ فيلزمك إذاً أن مسلماً كان يراعي قرائن السماع مع المعاصرة في الحكم بالاتصال .
وما ثبوت اللقي إلا قرينة من القرائن - كما هو نصُّ كلامك - فلا يعني مراعاتها – عند البخاري - عدم مراعاة غيرها من القرائن عند مسلم .
كما يلزمك أيضاً أن اشتراط العلم بالسماع ليس شرطاً للبخاري ، لأنه يحكم بالاتصال لورود السماع ، أو لورود قرائن تُقوِّ السماع ، كثبوت اللقي أو ثبوت غيره من القرائن . فرجع تقسيمك لصُوَر المسألة بالإبطال للقول بأن شرط البخاري هو اشتراط العلم بالسماع .
فإن أصررت على أن مسلماً إنما يخالفُ خصمَه في الصورة التي ليس فيها قرائن السماع . فنقول لك :
وأين أنت عن أدلة مخالفك التي استدل بها على أن مسلماً كان ينصر قولاً يراعي قرائن السماع ، وأنت تعلم قبل غيرك أن الشيخ حاتم أعاد وأبدأ ( في الإجماع والانتفاع ) في التدليل على أن مسلماً كان يراعي قرائن السماع كما يراعي قرائن عدم السماع ، فلماذا لم تجب عن أدلته ليسْلَم لك تحريرك لمحل النزاع ؟
إلا إن كنت ترى أن مخالفك في تعيين محل النزاع يجب أن يسلِّم لك بتعيينك أنت لمحل النزاع ! وهذا أمر لا أشك أنك لا تقوله إلا أنه يَلزَمك : لأن الشيخ حاتم عيَّن محل النزاع بأدلته ، وأنت خطَّأته في تعيينه دون جوابٍ عن أدلته ، ثم طالبتَ القراء بأن ينطلقوا معك في بحث المسألة من محل النزاع الذي لا يسلِّم لك مخالفك به .
فإن أصررت على أن مسلماً إنما يخالفُ خصمَه في الصورة التي ليس فيها قرائن السماع . فنقول لك :
أنت هنا لا تحكي رأيك ، وإنما تحكي رأي العلماء الذين درسوا المسألة وحرروا محل النزاع فيها ، وفيهم - كما تعلم أنت قبل غيرك – مَن يرى أن مسلماً إنما يناظر خصمه في مسألةٍ فيها قرائن السماع .
فيلزمك أن العلائي والصنعاني والمعلمي وكل عالمٍ غيرهم سنجده نَسب لمسلمٍ اعتبارَ قرائن السماع في المسألة المتنازَع فيها = يلزمك أن هؤلاء كلهم لم يحرروا محل النزاع !
وإليك نصوصهم :
1- العلائي : نقل عنه الشيح حاتم قوله في ( جامع التحصيل ص117) في سياق ذكره لمذاهب العلماء في الحديث المعنعن:
(والقول الرابع: أنه يُكتفى بمجرّد إمكان اللقاء، دون ثبوت أصله. فمتى كان الراوي بريئًا من تُهمة التدليس، وكان لقاؤه لمن روى عنه بالعنعنة ممكنًا من حيث السِّنّ والبلد= كان الحديثُ مُتّصلاً، وإن لم يأتِ أنهما اجتمعا قط. وهذا قول الإمام مسلم ) .
ونقل عنه الدريس قوله في (ص125) بعد أن ذكر القولَ المنسوبَ للبخاري : ( وهو الراجح دون القول الآخر الذي ذهب إليه مسلم وغيره من الاكتفاء بالمعاصرة المجردة ، وإمكان اللقاء ) . فإمكان اللقاء هو مراعاة قرينتا السِّنِ والبلد ، وهما قرينتا إثبات للسماع ، لا نفيٍ له .
و العلائي ممن ينصر قول البخاري .
2- الصنعاني: ذكره الدريس في المؤيدين لمذهب مسلم ونقل عنه قوله في ( توضيح الأخبار 1/43 ) : ( على أن المعاصرة لا تكفي مطلقاً بأن يكون أحدهما في بغداد والآخر في اليمن ، بل لابد من تقارب المحلات ليمكن اتصال الرواة ) .
3- المعلمي : قال في التنكيل (1/79) : (المبحث الثاني : في ضبط المعاصرة المعتدِّ بها على قول مسلم :
ضبطها مسلم يقوله : (( كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائز ممكن له لقاءه والسماع منه لكونهما كانا في عصر واحد ... )) وجمعه بين (( جائز وممكن )) يشعر بأن المراد الإمكان الظاهر الذي يقرب في العادة ، والأمثلة التي ذكرها مسلم واضحة في ذلك . والمعنى يؤكد هذا : فإنه قد ثبت أن الصيغة بحسب العُرف - ولا سيما عُرْف المحدثين وما جرى عليه عملهم - ظاهرة في السماع ، فهذا الظهور يحتاج إلى دافع ، فمتى لم يُعلم اللقاء فإن كان مع ذلك مستبعداً الظاهر عدمه ، فلا وجه للحمل على السماع لأن ظهور عدم اللقاء يدافع الصيغة ، وقد يكون الراوي عَدَّ ظهورَ عدمِ اللقاء قرينةً على أنه لم يُرِد بالصيغة السماعَ ، وإن احتُمِل اللقاءُ احتمالاً لا يترجح أحد طرفيه فظهور الصيغة لا معارِضَ له ، فأما إذا كان وقوع اللقاء ظاهراً بيِّناً فلا محيص عن الحكم بالاتصال ، وذلك كمدني روى عن عمر ولم يعلم لقاؤه له نصاً لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشرة سنة مثلاً ، فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مراراً .
فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا : كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار فأنه يحكم باللقاء حتماً ، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشاميٍ روى عن يمانٍ لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريحُ بالسماع ).أ.هـ
وإنما أحببتُ أن أُحيل في نقل هذه النصوص على كتابَي الشيخ حاتم والشيخ الدريس لأُبيِّن للقارئ أنها نصوصٌ كانت حاضرة بين يدي الشيخ حاج عيسى صادَرَها ولم يعتبر تحريرَ أصحابها لمحل النزاع ، زاعماً أنه خَطَأُ الشيخ حاتم وحدَه – على التسليم بكونه خطأً – دون أيِّ توجيه لهذه النصوص يَؤُول بها إلى صف الشيخ حاج عيسى .
وإن مما يؤسف له أن يزيد الشيخ حاج عيسى على المصادرةِ الانتقائيةَ في الاستشهاد بنصوص العلماء في المسألة ، مع أن النصوصَ المخالفة له بين يديه يقرئها كما يقرأ ما يوافقه ، في حين أنه لا يفصل بين النصَّينِ – الموافقِ والمخالفِ – سطرٌ واحد ! وإليك مثالها في هذه المسألة :

قال : ( وتطويل الشيخ في التدليل على اعتبار مسلم للقرائن لا يفيده في دعواه شيئا، لأنها دلائل اعتبار القرائن في نفي السماع وهو خارج عن محل النزاع كما سبق.
فإن قيل: هل هناك مَن نصَّ على خروجه عن محل النزاع؟ قيل: نص على ذلك ابن القطان كما نقله عنه الشيخ حاتم (صفحة 22) ) أ.هـ
أقول : وإن قيل : هل هناك مَن نصَّ على ( دخوله ) في محل النزاع؟ قيل: نص على ذلك العلائي كما نقله عنه الشيخ حاتم (صفحة23)
فلماذا لم تُوقِف القارئ على هذا النص الذي ليس بينه وبين نص ابن القطان الفاسي سطرٌ واحد فإنه يَتْولُه مباشرة ؟! ولماذا بعد ذلك لم تُجب عليه ؟
أَلِكَي لا تَفسد عليك النتيجة التي تريد الوصول إليها من أن الشيخ حاتم تكلَّف شططاً بانفراده عن كل العلماء بدعواه أن مسلماً يراعي قرائن السماع !
وإذا كنتَ ترى في شرح الدريس لـ (إمكانية اللقاء ص332 ) جواباً يصرفها عن ( قرائن السماع ) فلماذا لم تُحِلْ عليه ليرى القارئ هل أصاب الدريس أم أخطأ وتكلَّف ؟
أمَّا أن تُظهر للقارئ أن فهم الشيخ حاتم لرأي مسلم ليس له أيُّ نصيب من الدلالة في كلام مسلم أو غيره من الشارحين له = فهذا ظلمٌ للرأي الآخر .
مع أن كلَّ قارئ لكلام مسلمٍ وكلامِ الشارحين له لا يجد فيه إلا أمرين : المعاصرةَ ، وأمراً زائداً على المعاصرة وهو : إمكان اللقي ، فما المانع أن يَفهم أحدٌ أن إمكان اللقي يعني : قرائن السماع ؟ ثم على افتراض خطأ هذا الفهمِ الأَوَّلي غيرِ المتَكَلَّف ألا يستحق الجواب لأنه فهمٌ وارد ؟!
أمَّا الإعراض عنه وكأنه قلبٌ للنصوص عن حقائقها ، وتعسُّفٌ في تحميلها ما لا تحتمل فلا ينبغي أن يعرَّجَ عليه بذِكرٍ ولا جواب = فمما لاينبغي في بحثٍ يزعم صاحبه أنه ( نقض ) ، فما هو النقض إن لم يكن نقضَ أوَّلِ فهمٍ يَرِد على الذهن لأهم مسألة في الكتاب التي هي محل النزاع بينك وبين الشيخ حاتم في فهم كلام مسلم ؟!

والعجيب أنك تزعم أن هذا الذي حرَّرته هو : محل النزاع عند كلِّ من تكلمَ في المسألة ، ثم لا تجد من هؤلاء العلماء مَن ينص على أنه محل النزاع سوى ابن القطان فقط ! في حين يتواردُ عددٌ من العلماء في نفس المسألة على ما ظاهره خلاف ذلك مما يؤيد قول مخالفك !

هذا ما يتعلق بمصادرة كلام العلماء الشارحين لمذهب مسلم في المسألة .

أما شرحُ مسلمٍ نفسِه لمذهبه فقد نال حضه من المصادرة : فالشيخ حاج عيسى يزعم أن مسلماً لم ينص على اعتبار قرائن السماع ، بل نَصَّ على الضد من ذلك وهو : عدم اعتباره لقرائن السماع عند تصحيح الأحاديث ! = هذا هو فهم الشيخ حاج عيسى لكلام مسلم .
وسأنقل هنا أحد أدلة الشيخ حاتم من كلام مسلم ليعلم القارئ أن لفهمه وجهاً ظاهراً يحتمله كلام مسلم ، إن لم يكن هذا الكلام نصاً في المسألة:
قال الإمام مسلم وهو يُعيِّن الصورة التي نازعه فيها خصمه : ( أن كل إسنادٍ لحديث فيه فلانٌ عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما كانا في عصر واحد، وجائزٌ أن يكون الحديثُ الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به. . .) وظاهر هذا النص أن مسلماً لايكتفي بالمعاصرة المجردة وإنما بها وبأمرٍ زائدٍ عليها وهو : ( جواز السماع – كما عبَّر هنا - وإمكان اللقاء – كما عبَّر في موطن آخر ) وهو ما عبّر عنه الشيخ حاتم بـ ( قرائن السماع ) .
فيقول مخالف الشيخ حاج عيسى : لماذا صادرتَ المعاني التي زادها مسلمٌ على مجرد المعاصرة ؟ أي : لماذا صادرتَ شرح مسلمٍ نفسِه لمحل النزاع ؟
فإن قلتَ : إن لمسلمٍ نصاً يدل على اكتفائه بالمعاصرة المجردة من القرائن . قلنا : هذا ما أردناه وهو : أنك أظهرتَ كلام مسلمٍ وكأنه نصوص قاطعة بمعنى واحدٍ فقط وهو :عدم اعتبار مسلمٍ قرائنَ السماع ، مع أن الأَوْلى بك أن تُسلِّم لمخالفك أن في كلام مسلمٍ ما يحتمل هذا وهذا ، ثم لا تكتفي ببيان الاحتمال بل تبيِّن أدلة رجحان فهمك ليُسلِّمَ لك القارئ بتحريرك محل النزاع .
وخلاصة رأي الشيخ حاتم – الذي لم تأتْ له بناقضٍ في نقضك – أنَّ نصَّ مسلمٍ قاطعٌ بأنه كان يراعي قرائن ثبوت السماع في رواية المتعاصرين ، شأنُه فيها شأنُه في كل مسائل علم الحديث التي لا ينفكُّ فيها عن مراعاة القرائن والبُعد على الظاهرية، كحال أئمة الحديث وجهابذته .
* * * *
المسألة الثانية في دعواه ( عدم تحرير محل النزاع ) قوله :
( المسألة الأولى : في شرح مذهب مسلم :
(دعوى أعم من الدليل ) :
لقد أجاد الشيخ حاتم إلى حد ما في شرح مذهب مسلم وتفصيله ، إلا في نقطتين اثنتين:
الأولى : زعمه أن مسلما يعتبر القرائن لإثبات الاتصال حين قال (20):« ثم يؤكد مسلم أنه كان يراعي القرائن التي تحتف برواية المتعاصرين ، فإما أن تؤيد احتمال السماع أو أن تضعف احتماله » فقوله :"تؤيد احتمال السماع " زيادة مدرجة ليس في كلام مسلم ما يدل عليها – بل فيه ما يدل على ضدها -، ومعلوم أن اشتراط انتفاء القرائن المانعة من اللقاء للحكم بالاتصال يختلف عن اشتراط وجود القرائن، إضافة إلى المعاصرة للحكم بالاتصال، وتطويل الشيخ في التدليل على اعتبار مسلم للقرائن لا يفيده في دعواه شيئا ، لأنها دلائل اعتبار القرائن في نفي السماع وهو خارج عن محل النزاع كما سبق. ) أ.هـ
أقول : سيظهر من الجواب على هذا الكلام مَن الذي دعواه أعم من الدليل ، والجواب كالتالي :
أولاً : الشيخ حاتم أطال التدليل على أمرين :
1- اعتبار مسلمٍ قرائن إثبات السماع . 2- اعتبار مسلمٍ قرائن نفي السماع .
فقال (20 ) : ((ثم يؤكّد مسلمٌ أنه كان يراعي القرائن التي تحتفُّ برواية المتعاصرين، فإما أن تؤيدَ احتمال السماع أو أن تُضْعِف احتماله، وذلك في قوله: (أن كل إسنادٍ لحديثٍ فيه فلانٌ عن فلان، وقد أحاط العلمُ بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائزٌ أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به..).
فَتَنَبَّهْ إلى أنه ذكر المعاصرة، ثم أضاف إليها شرطًا آخر، وهو جواز السماع وإمكانه، وهو يعني عدم وجود قرائن تُبعد احتمال اللقاء.)) أ.هـ
هذا نص الشيخ كاملاً لا كما عرضته أنت مبتوراً عن دليله الذي تجاهلتَ الجوابَ عنه !
فكيف تزعم أن الشيخ حاتم إنما استدلَّ مِن كلام مسلم على النوع الثاني من القرائن فقط ؟ وكأنه لم ينقل كلمة واحدة عن مسلم في ( التدليل ) على مراعاته للنوعِ الأولِ من القرائن ؟
أَمَا وقد ثبتَ أن الشيخ حاتم استدل مِن كلام مسلم اعتبارَه لقرائن السماع فإنّا ننتقل للمبحث الثاني :
ثانياً: إذا أبطلتَ أدلة الشيخ حاتم على أن مسلماً هنا يعتبر قرائن السماع ، وأثبتَ لنا بالأدلة القاطعة ألا وجودَ لاعتبار قرائن السماع في كلام مسلم بل وأن كلامه ضد اعتبارها = حين ذاك قُلْ ما شئتَ ، وصِف دعوى الشيخ بما شئت . أمَّا إذا لم تفعل من ذلك شيئاً فإننا لن نزداد إلا قناعة بأن دعوى مخالفك صادقة تقتفي أثر الدليل حذو القذة بالقذة ، لأن في ظاهر كلام مسلم ما يؤيده .
ثالثاً : تزعم أن ْ ليس في كلام مسلمٍ اعتبار قرائن السماع ، وقد نجد لك عذراً في أنك كنت ظاهرياً هنا .
إلا أن مما يَعجب منه كل حَدِيثيٍ أن تزعم أن في كلام مسلمٍ ما هو ( ضد ) اعتبار قرائن السماع !
أي أن مسلماً لم ينطق باعتبار قرائن السماع فقط ، بل نطق بعدم اعتبار قرائن احتمال السماع ! ولو كان لمسلمٍ نصٌ بعدم اعتبار قرائنَ احتمال السماع لَما اختلفنا ، ولَجعلناه مُنطلَقَنا في بحث المسألة .
فكل الذي يجده القارئ في كلام مسلم فيما يخص مسألة القرائن أمرين :
الأول : اعتبار قرائن نفي السماع عند الحكم بالانقطاع . وهذا محل اتفاق أنه في كلام مسلم ، وهو متَعلَّق كلِ مَن يزعم أن مسلماً لا يراعي قرائن السماع .
الثاني : اعتبار قرائن ثبوت السماع عند الحكم بالاتصال ، وهذا ما أثبته الشيخ حاتم من كلام مسلم .
هذا كل ما قيل إنه في كلام مسلم في شأن القرائن.
فماذا زاد الشيخ حاج عيسى ؟ زاد دعوى جديدة أعم من الدليل ( وهو كلام مسلم ) ودعواه هي : إن مسلماً نص على عدم اعتباره القرائن عند حكمه بالسماع ، أي كأن مسلماً يقول : ( أنا حين أحكم بصحة حديثٍ فإني لا ألتفت للقرائن وإنما أكتفي بمجرد المعاصرة فقط ، وأما القرائن حالَ الحكمِ بالاتصال فإني لا أعتبرها ) !
وهذا من أعجب العجب ! ونحن لن نلومك كثيراً إذا أصبحت ظاهرياً في علم الحديث وأَدَّتْكَ ظاهريتك إلى أنك لم تجد في كلام مسلمٍ سوى اعتبار قرائن نفي السماع = فإنَّا سنتفهَّم هذه الظاهرية ، أما قولك إن في كلام مسلمٍ التصريحُ بعدم اعتبار القرائن عند الحكم بالسماع فهذه بعينها الدعوى الأعمُّ من الدليل ! فإن قلت : لم أزعم أنه صريح كلام مسلم وإنما مفهوم كلامه ، قلنا لك : ولو كان مفهومَه ! فإنه مردود . وجوابه في المبحث الرابع :
رابعاً : قال الشيخ حاتم ( ص23 ) : ( ومع أني ما كنتُ أحسب أن أحدًا سيَشكُ في أن إمامًا مثل مسلم (في نَقْدِه وجَهْبَذَتِه) كان مراعيًا للقرائن الشاهدة للسماع أو عدمه، لأن مراعاة هذه القرائن أمرٌ لا يخفى على طلبة الحديث في زماننا، فكيف بأحدِ أئمة العصر الذهبي للسنة؟!!= لكني أقول أخيرًا: هل يتصّورُ أحدٌ أن ناقدًا من النّقاد (دون مسلمٍ في العلم، فضلاً عن مسلم) كان يكتفي بالمعاصرة مطلقًا، دون نظرٍ منه إلى القرائن أبدًا؟!! ) .
أقول : هذا كلام من تشرَّب دَمُه وعظامه علم الحديث ، فقَدَرَ لأهله قدرهم ، ورفعهم إلى حيث لا يدرِك شأوَهم إلا مَن بلغ منزلتهم في عمق الفهم ، و دِقة النظر . لاكما صنع أحد الباحثين حين نَصَرَ القول المنسوب للبخاري ، ثم تنزَّل قليلاً فقَبِل الاكتفاء بالمعاصرة مع وجود قرائن تقوي احتمال السماع لأن الأولى الأخذ بها ! وكأننا اليوم أولى باعتبار قرائن ثبوت السماع من أحد أئمة النقد وهو مسلم بن الحجاج !
لا أدري ماذا أبقينا للإمام مسلم من جلالة العلم حتى يمتاز به عن صغار طلبة الحديث ! فنزعم أنه يكتفي بالمعاصرِة ، والمعاصرِة فقط ! والتي لا يَعجز أحدٌ من طلبة العلم اليوم أن يدركها لأول نظرة في كتب التراجم ، فبماذا امتاز عنه الأمام مسلم إذا استويا في سهولة الوقوف على المعاصرة ؟! والعجب لا ينقضي ! فالإمام مسلم ٌ أحدُ جِلة علماء الحديث والعلل الذين أسسوا تعاطيهم مع هذا العلم الدقيق على مراعاة القرائن والشواهد والمعضدات = يأتي إلى أهم مسألة في علم الحديث ، التي لأجلها قام سوق النقد ، وتأسس علم المصطلح وهي ( تصحيح الأحاديث ) فلا يُعمِل فيها القرائن التي امتاز بها نُقَّاد الحديث عن سائر رواة الحديث ، فضلاً عن غيرهم ممن ليس الحديث صنعتهم !
فإذا كان مسلم لا يعتبر القرائن عند ( تصحيح الأحاديث ) فلا أدري متى سيعتبرها ؟!
وإذا كان كذلك فما فضل صحيحه على كتب الصحاح الأخرى ( ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والضياء ) ؟ فكل واحدٍ من هؤلاء العلماء – بل وكل طالب علمٍ اليوم - قادر على أن يكتشف معاصرة راوٍ لآخر بأقل جهدٍ وبأدنى بحث ، فبماذا فَضَلهم الإمام مسلم ؟
ولو جاء أحدهم اليوم وألَّف كتاباً في الصحيح اشترط فيه ألا يعتبر في التصحيح إلا المعاصرة فقط سواءٌ ثبتَ السماع في هذا الحديث أو لم يثبت = للَزِمَنا أن نجعله موازياً لصحيح مسلم لأن شرط المعاصرة يحسنه كلُّ أحد ! وإن فضَّلنا صحيحَ مسلمٍ عليه فلاعتباراتٍ أخرى غير الصحة !
هذا أحدُ أيسرِ اللوازم للقول بأن مسلماً يكتفي في التصحيح بمجرد المعاصرة .


* * * *
وهنا أحب أن أُسجِّلَ رأياً لي ، لا أنسبه لأحد ، ولا أنفيه عن أحد ، فلا يبعد أن يكون ورد على ذهنٍ ما ، أو دُوِّن في كتابٍ ما ، وهو :
إذا نحن اتفقنا على أن محل النزاع هو الصورة التي ثبتت فيها قرائن السماع ، فلعل قائلاً يقول بقيت الصورة التي ادعاها الشيخ حاج عيسى محلاً للنزاع وهي ( الرواية التي لم يثبت فيها قرائن تنفي السماع ولا تثبته ) : ما رأي البخاري ومسلمٍ فيها ؟
أقول – والله تعالى أعلم – : هذه الصورة لا تخرج عن حدود الفرض العقلي ، أما الواقع فلا أظن لها واقعاً ، وذلك أنه لا يتصوَّر في إمامٍ ناقدٍ ، واسع الاطلاع ، دقيق النظر ، حادِّ الذكاء = أن يقف أمامَ روايةٍ ما فلا ينقدح في نفسه - بعد طول تأملٍ وتدبُّرٍ وتفتيشٍ - أيُّ معنى – ولو دقَّ هذا المعنى – يميل به ولو قليلاً إلى الإثبات أو النفي . هذا أمرٌ مستبعَدٌ جداً ، بل لا وجود له إلا في الأذهان ، أو في عصورنا المتأخرة التي انعدم فيها نقَّادٌ كمسلمٍ والبخاري .
فإذا حَصَلَ توقُّفٌ من إمام ٍ في رواية متعاصِرَين فإن هذا راجعٌ إلى تكافؤ القرائن عنده ، لا لأنه – وهو إمام ناقد – لم ينقدح في نفسه أيُّ قرينة يؤيد السماع أو تنفيه .

* * * *

المسألة الثانية المتنازع فيها في الحديث المعنعن هي :
( تحرير حقيقة المذهب المنسوب للبخاري )

والعجيب أن الشيخ حاج عيسى لم يُعرِّج على هذا الخلاف الحاصل في فهم رأي البخاري ، وكأن العلماء أجمعوا على فهمٍ واحدٍ لشرط البخاري ! مع أن المفتَرَض عليه أن يقف عندها ، لأنها محل نزاعٍ ينبغي تحريره .
وفرقٌ كبير بين تحرير حقيقة المسألة التي هي محل النزاع المزعوم بين البخاري ومسلم ، وبين تحرير حقيقة قول البخاري في نفس المسألة .
فكان من ثمرات عدم تحريره محلَ النزاع فيها : قوله :
(من ثمرات عدم تحرير محل النزاع :
قال الشيخ حاتم (15):« لم يتنبه ابن رشيد و العلائي و الدريس إلى أنهم بميلهم إلى الاكتفاء بالقرائن القوية قد نسفوا ما ذهبوا إليه من تقوية اشتراط اللقاء أو السماع ، إذ من أين لهم أن مسلما لم يكن مراعيا لمثل تلك القرائن ؟! حتى يجعلونه مخالفا للبخاري . "
أقول: ولم يتنبه الشيخ حاتم إلى أن اللقاء ما هو إلا قرينة تقوي احتمال السماع وإلا فإن الأصل هو ثبوت السماع ، قال ابن رجب في شرح العلل: «.. فدَلَّ كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما أنه يعتبر أحد أمرين : إما السماع وإما اللقاء وأحمد ومن تبعه عندهم لابد من ثبوت السماع ) أ.هـ
أقول : بل لم يتنبه الشيخ حاج عيسى إلى أن إيراد الشيخ حاتم مفروضٌ على فهم ابن رشيد والعلائي والدريس لشرط البخاري ، وليس مفروضاً على فهم ابن رجب لشرط البخاري ! فاعتراضك ينبغي أن يكون عليهم لا على الشيخ حاتم الذي كان دقيقاً فيما نَسَبه إليهم من أقوال!
ومنشأُ هذا الخطأ منك هو عدم تحريرك لحقيقة رأي البخاري ، فحمَلتَ فهومَ العلماء المتعددة لرأي البخاري على رأيٍ واحدٍ منها هو الذي تتبناه . فالدريس – مثلاً - أثبتَ بالأدلة (ص141-157) أن البخاري قد يكتفي بالمعاصرة إذا كانت قرائن الاتصال قوية ، وهذا الإثبات حقيقته إبطالُ شرط ثبوت السماع المنسوب للبخاري ، فكأنه شرط كمالٍ لا شرط صحة .
فالشيخ حاتم في هذا النص السابق يحاكم أحد الفهوم التي قال أصحابها إنها رأي البخاري ، وألزَمَ أصحابه بإلزامٍ يُبطل عليهم فهمهم.
فما كان من الشيخ حاج عيسى إلا أن اعترض على إلزام الشيخ حاتم بأنه لا يلزمه هو ، و ادعى أن هذا الإلزام دليلُ عدم تحرير الشيخِ محلَ النزاع ، غافلاً عن أن فهمه لرأي البخاري غيرُ فهمِ الطائفة الذين يَردُّ عليهم الشيخ حاتم ! فهُم يَنسبون للبخاري شرطاً غير الشرط الذي ينسبه الشيخ حاج عيسى . فلو كان – عفا الله عنه - محرراً لحقيقة قول البخاري لعلِمَ أن هذا الإلزام في محله ، وكان الأولى به حينها أن يقول : إنه إلزامٌ صحيح لهم ، إلا أن فهمهم لشرط البخاري خاطئ ، والصواب هو الفهم التالي : ...ثم يذكر أدلة رجحان فهمه .
لكن ما فعله الشيخ حاج عيسى هو جَمْعُ العلماء الشارحين لشرط البخاري على فهمٍ واحدٍ ، غافلاً عن أن لهم فهوماً مختلفةً متباينةً ، كان الأَوْلى به أن يحرر أوجه الخلاف بينها ، ورجحان فهمه عليها بأدلته .
وليَبِينَ للقارئ الكريم أَيُّ الرجلين – الشيخ حاتم والشيخ حاج عيسى – كان أحظى بتحرير محل النزاع في هذه المسألة الثانية مِن مخالِفه فإني انقل نصوصهما التي خصَّاها بتحرير محل النزاع هنا وهو ( حقيقة شرط البخاري ) :
1- الشيخ حاتم الشريف : بعد شرحه لمذاهب العلماء في فهم شرط البخاري ونسبته كل فهمٍ إلى أصحابه قال :(ص 15):
( ونخلص من هذا: أن شرط البخاري في الحديث المعنعن، بعد السلامة من وصمة التدليس، اختُلفَ فيه إلى أربعة أقوال:
الأول: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على السماع نصًّا.
الثاني: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على اللقاء.
الثالث: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على اللقاء، وأنه يكتفي بالمعاصرة أحيانًا إذا وُجدت قرائن قويّة تدل على اللقاء والسماع.
الرابع: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على اللقاء أو السماع في كتابه الصحيح، ولا يشترط ذلك للقول بالاتصال خارج كتابه. )
2- الشيخ حاج عيسى : قال : ( فأقول مستعينا بالله تعالى :
إذا روى الراوي عمن عاصره فله ثلاثة أحوال:
الأولى: أن يكون قد سمع منه وعلمنا ذلك بالدلائل والقرائن كثبوت اللقي.
الثانية: أن نعلم أنه لم يسمع منه ، بأن نقف على دليل أو قرينة تنفي سماعه منه ولقيه له.
الثالثة: أن يثبت لا لدينا شيء من دلائل السماع ولا نفيه .
فأما الصورة الأولى : فإن العنعنة فيها مقبولة إلا من المدلس المشهور بالتدليس –على خلاف-.
وأما الصورة الثانية: فينبغي أن لا يختلف فيها – أو هي محل إجماع - ...
وأمـا الصورة الثالثة : فهي موضع الإشكال، هل الأصل فيها الحكم بالاتصال فلا يتوقف إلا في رواية المدلس ، أم أن الأصل فيها التوقف فلا يحتج بها حتى يتبين الاتصال بالتصريح بالسماع أو ثبوت اللقي على الأقل.
ذهب إلى القول الأول مسلم ونسبه ابن رجب إلى ظاهر قول ابن حبان.
واختار القول الثاني أكثر المصنفين في علوم الحديث ونسبه القاضي عياض إلى البخاري وعلي بن المديني ، وابن رجب إلى جمهور الأئمة المتقدمين (على خلاف بينهم في اعتبار قرينة ثبوت اللقاء ) .أ.هـ
فانظر كيف اختزل اختلافَ فهومِ العلماء لمذهب البخاري في فهمٍ واحدٍ فقط !
فإما أنه يرى الخلاف بينها لفظياً ، وأنها في حقيقتها ترجع لمعنى واحد ، فليُبيِّن لنا ، وإما أنه يراها فهوماً مختلفة ومتباينة وأن الراجح منها هو الفهمُ الذي يراه رأياً للبخاري ، فليبيِّن لنا وجه ترجيحه وإبطاله للفهوم الأخرى .
هذا هو محل النزاع الذي كان ينبغي عليه أن ينشغل بتحريره ، لا أن يشغلنا بدعاوى عريضة ليس تحتها من العلم سوى عدم العلم بمحل النزاع فضلاً عن تحريره .
ولم يَنْتَه الحديث عن عدم تحريره لمحل النزاع !

فلم يزل الشيخ حاج عيسى يزيدنا أمثلةً تدل على عن عدم فهمه لمحل النزاع ، وإليك واحداً منها :
عَرَضََ الشيخ حاتم لمعاني ( نفي العلم بالسماع ) - الذي يرى مخالفوه أن معناه : اشتراط العلم بالسماع – وبيَّنّ أن له في استعمالات المحدثين أكثر من معنى ، ليس في شيء من تلك المعاني ( اشتراطُ العلم بالسماع ):
فقال (65): ( وآخر ما أريد ذكره من معاني نفي العلم بالسماع: هو الخبر المُجرّد عن أن الراوي لم يذكر ما يدل على السماع ممّن روى عنه، دون إعلالٍ للحديث بذلك، بل مع الحكم بالاتّصال والقبول! وبذلك يظهر لك الفرق بين زَعَم أن نفي العلم بالسماع إعلالٌ بمجرّد عدم العلم وبَيْنَ ما ذكرناه نحن هنا، فالفرق كبيرٌ جدًّا، يبلغُ حدَّ الفرق بين الضّدَّين!! إذ من خلال هذا المعنى يصبح الحكمُ بنفي العلم بالسماع دليلاً على عدم اشتراط العلم بالسماع، وهو دليلٌ قاطعٌ لا محيد عنه على ذلك، بخلاف ذلك المعنى الذي يصبح معه نفي العلم بالسماع دليلاً على اشتراط العلم به!!!
وهناك مثالان قاطعان على هذا المعنى، صادران ممن نُسب إليه اشتراط العلم بالسماع، ألا وهو البخاري!!!
وهذان المثالان يتعلقان برواية أخوين توأمين عن أبيهما، هما سليمان، و عبدالله: ابنا بُريدة بن الحُصيب رضي الله عنه ... ( إلى أن قال ) :
وعلى ذلك يكون ابناه سليمان وعبدالله قد أدركا من أبيهما ثلاثين سنة أو أكثر.
فهل يُتَصَوَّر أنهما لم يسمعا منه؟! وقد كانا معه بالمدينة، إلى أن ذهب إلى البصرة، إلى أن استقرّ أخيرًا بمرو في خراسان، وهما معه في جميع تنقّلاته هذه، كما نصّ على ذلك ابن حبان في (صحيحه). ولو لم ينصّ ابن حبان على ذلك، فابنان لرجلٍ، عاصراه ثلاثين سنة، هل يُتَصَوَّر أنه اختفى عنهما، وما سمعا منه شيئًا حتى مات؟!! كيف و ينضاف إلى ذلك أنّ من المتفق عليه أنهما كانا قد نزلا مع أبيهما مرو إلى أن توفي أبوهما!!!...( إلى أن قال ) :
المثال الأول: سليمان بن بريدة، قال عنه البخاري في التاريخ الكبير): لم يذكر سليمان سماعًا من أبيه ). فهل يتجرّأ أحدٌ، بعد أدلّة السماع التي ذكرناها آنفًا من كلام البخاري نفسه، الذي أثبت تلك المعاصرة الطويلة بين سليمان وأبيه أن يزعمَ أن البخاري يردّ حديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع؟!! )
فأجاب الشيخ حاج عيسى بقوله :
( الجواب : الصواب أن تقول: فهل يتجرأ أحد بعد أدلة المعاصرة التي ذكرناها آنفا ؟لا أدلة السماع. ونحن لا نزعم أن البخاري يرد حديث سليمان عن أبيه ، لأننا نعتقد أن البخاري قد يصحح الحديث لثبوت اللقاء وإن لم يأت تصريح بالسماع ، وهذا الوهم ناتج عن عدم تحرير محل النزاع وهضمه جيدا . وما أشبه هذا المثال بقضية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الذي اختلف في سماعه من أبيه فأثبت البخاري الاتصال بثبوت اللقاء (بين الابن وأبيه) فقد أخرج البخاري من طريق عبد الله بن خثيم المكي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه : أخَّر الوليد بن عقبة الصلاة بالكوفة فانكفأ ابن مسعود إلى مجلسه وأنا مع أبي . ثم قال: ( قال شعبة: لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه وحديث ابن خثيم أولى عندي ) التاريخ الصغير (1/99) ونقله خالد الدريس في موقف الإمامين (115-116) .أ.هـ
أقول : هنا أواهم متراكمة يحطم بعضها بعضاً ، وقبل أن أذكرها أحب أن أُنَبِّه إلى أمرٍ بدهيٍ له أهمية في تعليقنا على هذا النص وهو : أن البخاري يصحح حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ، وتصحيح الحديث فرعُ تصحيحِ السماع ، وتصحيح السماع مبنيٌ على دليلٍ ، وهذا الدليل إما أن يكون دليلاً قطعياً وهو النص الصريح على وقوعِ السماع لا وقوعِ مجرد اللقاء ، وإما أن يكون دليلاً أفاد غلبة الظن بوقوع السماع ، كثبوت اللقي أو غيره من القرائن . والسؤال المهم هنا : ما هو دليل البخاري على تصحيح السماع ؟
بهذا التنبيه والسؤالِ عليه نبدأ مع أوهام الشيخ حاج عيسى في كلامه السابق :

فأولها : وَصَفَ ما ذكره الشيخ حاتم من علاقة سليمان بن بريدة بأبيه بأنها لا تعدوا أن تكون أدلة معاصرة لا أدلة سماع . وأنا أقول : هذا رأيك ، أما البخاري – فضلاً عن الشيخ حاتم – فإنه يراها أدلة سماع ، ولهذا صحَّح الحديث مع أنه ليس في شيء من هذه الأدلة ثبوت اللقاء كما تزعم .
فإن قلتَ : حال سليمان مع أبيه لا يُتَصوَّر فيها إلا أنهما التقيا . فنقول لك : إذاً أنت تراها أدلة سماع لا أدلة معاصرة ! لأنك صحّحتَ بها الحديث مع عدم ثبوت اللقاء ، فعلام تُشنِّع على الشيخ حاتم اعتبارها أدلةَ سماع ؟
و إن قلتَ : ثبتَ لقاء سليمان بأبيه . فنقول : أين هو ؟ لماذا لم تذكره إن كان عندك ؟ مع أنك تزعم أن البخاري صحح حديث سليمان لثبوت اللقاء !
ثاني الأوهام : الشيخ حاج عيسى يتعقَّب الشيخ حاتم في هذا النص بتعقُّبٍ ليس له علاقة بمحل النزاع الذي يزعم أنه حرره ، وإنما هو تعقُّبٌ مفروضٌ في محل النزاع الذي حرَّره الشيخ حاتم وهو : ( حقيقة الشرط المنسوب للبخاري ) .
فقال : ( الجواب : الصواب أن تقول: فهل يتجرأ أحد بعد أدلة المعاصرة التي ذكرناها آنفا ؟لا أدلة السماع. ونحن لا نزعم أن البخاري يرد حديث سليمان عن أبيه ، لأننا نعتقد أن البخاري قد يصحح الحديث لثبوت اللقاء وإن لم يأت تصريح بالسماع ) .
وهنا سؤال : قولك : ( لأننا نعتقد أن البخاري قد يصحح الحديث لثبوت اللقاء وإن لم يأت تصريح بالسماع ) يدل على أن الشيخ حاتم أخطأ في أيِّ محلَّي النزاع ؟ : هل في عدمه تحريره لحقيقة شرط البخاري ، أم في عدم تحريره لصورة الحديث المعنعن المختلَفِ فيها ؟
أي إذا وافقك الشيخ حاتم على محل النزاع الذي حرَّرته فإن هذا لن يمنعه أن يقول لك : إن البخاري نفسَه يصحح أحاديث لم يثبت بين رجالها لقاء ولا سماع وإنما معاصرة محتفَّةٌ بقرائن ، فهل ستعود لتقول له : إن هذا عدم تحرير لمحل النزاع ؟!!
ثالث الأوهام : قال الشيخ حاج عيسى في موطن سابق : (ولم يتنبه الشيخ حاتم إلى أن اللقاء ما هو إلا قرينة تقوي احتمال السماع وإلا فإن الأصل هو ثبوت السماع ) معنى هذا الكلام : ألا قيمةَ كبيرة للقرينة في تصحيح الأحاديث عند البخاري (كاللقاء هنا) إذا انتفى الأصل وهو ( ثبوت السماع ) ، ثم يقول في النص الذي نحن بصدد تجلية أوهامه : (لأننا نعتقد أن البخاري قد يصحح الحديث لثبوت اللقاء وإن لم يأت تصريح بالسماع) .
أقول : لو كنتَ محرراً لمحل النزاع الحقيقي هنا و هو ( حقيقة شرط البخاري ) لما وقعتَ في هذا التناقض الصريح !
فمرةً تجعل اللقاء لا يعدو أن يكون قرينةً والسماعَ هو شرط البخاري ، ومرةً تجعل اللقاء – في مسألةٍ لم يَثبت فيها اللقاء - هو مستندَ البخاري في التصحيح ! فما قيمة اللقاء عندك : هل هو قرينة أو هو شرطٌ وحدَه ؟ وما قيمة السماع عندك : هل هو شرطٌ ، بتخلُّفه يتخلَّف المشروط وهو صحة الحديث ؟ أو هو شرط كمال تغني عنه القرائن القوية ؟
والخلاصة أن تحريرك لصورة الحديث المعنعن التي حصل فيها الخلاف – لو سُلِّم لك بتحريرك - لا يفيدنا شيئاً في الجواب عن هذا التناقض والاضطراب .

لقد كنتَ في عافية أن يقول أهل الحديث عند كلِّ وهمٍ وهمتَه:(هذا الوهم ناتج عن عدم تحرير محل النزاع وهضمه جيدا ) !!

ورابع الأوهام : ما يتعلق برواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أوردها الشيخ حاج عيسى مستشهداً بها على مقولته السابقة : (لأننا نعتقد أن البخاري قد يصحح الحديث لثبوت اللقاء وإن لم يأت تصريح بالسماع ).
أقول :
أولاً : هذا قياسٌ مع الفارق !فرواية سليمان بن بريدة عن أبيه ليس فيها ثبوتٌ للقاء ، بخلاف رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود التي ثبتَ فيها اللقاء ، فما وجه الشبه بينهما إذا انتفتْ علة القياس وهي ثبوت اللقي ؟؟
ثانياً : الذي فهمه البخاري من نفي شعبة للسماع هو الانقطاع بين عبد الرحمن وأبيه – كما يقرره الشيخ حاتم - ولو أن البخاري فهم من نفي شعبة للسماع أنه اشتراطٌ للعلمِ بالسماع = لاعترض عليه برواية فيها التصريح بالسماع لا روايةٍ فيها ثبوت اللقي . وبهذا يصبح هذا المثال دليلاً جديداً للشيخ حاتم فيما ذهب إليه من شرحه لعبارات نفي السماع التي هي مستَمسَك المخالفين له .
فإذا ثبتَ أن هذا معنى نفي شعبة للسماع قيل للشيخ حاج عيسى : هذا البخاري قد صَحَّح مع عدم ثبوت السماع وإنما اكتفاءً باللقاء الذي لا تعتبره شرطاً للبخاري وإنما قرينة – كأي قرينةٍ قوية - تقوي احتمال السماع وأن شرط البخاري هو ثبوت السماع ! فأصبح استدلالك برواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لا يفيدك شيئاً .
والله أعلم .

* * * *
هذا الجزء الأول . ويتلوه ما تيسَّر لي – بإذن الله - تسجيله من ملاحظاتٍ على بحث الشيخ محمد حاج عيسى .
وصلى الله تعالى على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
( رجل من أقصى المدينة )
السبت 29/6/1428هـ .
[/quote]

المتعلم
2007-07-17, 03:32 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الأخ الفاضل جزاك الله خيرا على موضوعك وهدوئك
لا شك عندي أن نقاش هذه المسائل وكثرة طرحها سيزيد في وضوحها ويجلي مشكلاتها ويزيل كثيرا من اللبس حولها.
وإن كانت المسألة فرعية دقيقة من جزء من جزء من علم الحديث الشريف.
والملحظ الواضح الذي تدور عليه جملة كبيرة من أدلة وقرائن هذه المسألة التي تداولها المشايخ الفضلاء قديما وحديثا = راجع إلى الخلاف في فهمها .
فكل منهم يدعي أن فهمه لهذه النصوص والقرائن هو الصواب وأساء أو قصر مقابله في فهمها.
وهذا يقرر أنه لا يمكن أن تحسم المسألة لأحد الفريقين مهما كتب فيها؛ لاختلاف وتباين فهم البشر، والمؤثرات على هذا الفهم .
وهذه المسالة كغيرها من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف لخفائها وكثرة الإشكالات فيها.
لكن مثل تعليقك هذا:


وما أشبه هذا بأسلوب مدرسة التقليد الذي وصَمْتَ به كتاب إجماع المحدثين ، والذي لم يؤلفه صاحبه إلا ليكشفَ هذا التقليد المتوارث من قرون في هذه المسألة !

هو من أكبر المزعجات المصاحبة لطرح هذه المسألة، فرمي المخالف بالتقليد= اعتداء، واستهلاك لرأيه وفهمه .
في حين أن المخالف غير عاجز عن اختيار ألفاظ قد تكون أكثر إزعاجا يصف بها منهج الشيخ حاتم من تبعه من محبيه .
لكن هل هذا من الأدب في الخلاف أو في الأخوة الإيمانية أم أنه من الاعتداء والله لا يحب المعتدين ؟

أبو حُنيف الأثري
2007-07-18, 01:29 AM
للرفع

عبدالرحمن الحجري
2007-07-18, 06:15 AM
جزاك الله خيرا على ما كتبت ولي عودة إن تيسر بإذن الله.

رجل من أقصى المدينة
2007-07-18, 07:10 AM
أشكر الإخوة الكرام :
المتعلم
أبو عبدالرحمن الطائي
أبو حُنيف الأثري
عبد الرحمن الحجري
على مطالعتهم هذا البحث .
ولأخي الكريم ( المتعلم ) أقول :
لم يكن لي رغبة في إدراج أي تعليق عن ( التقليد ونحوه ) في هذا البحث لولا ما تكرَّر من الشيخ محمد حاج عيسى من اللَّهَجِ بهذا النوع من التشغيب .
ولو شاء أن يفهم تلك المواطن التي زعمها تقليداً على وجهها لفهمها ، لكنه لم يَشَأ إلا أن يلبسها لبوس التقليد ، لأنه يروج على نفوسٍ ضعيفة العلم ، لايُفرَح بالتَّكثُّرِ بها ، لأنها ميَّالةٌ للتهويل أكثر من العلم .
فانظر إليه وهو يقول :
( إن الخطبة التي ألقى الشيخ هنا تذكرنا بخطب المقلدين للأئمة الذين عندما تناقشهم في مسألة فقهية بالأدلة ينقلونك مباشرة إلى كتب المناقب والفضائل..)
وقوله بعد أن أورد كلام الشيخ حاتم الشريف :
( من تعود على مناقشة مقلدة المذاهب يعلم جيدا كيف الجواب عن قوله ) فالشيخ حاج عيسى يناقش أحد مقلدة المذاهب !!
وانظر إلى أول جوابٍ ( علميٍ ) سيَنْقُضُ به كلامَ الشيخ حاتم في إحدى المسائل :
( الجواب : أولا هذه من حجج المقلدين ، ثانيا : ...)
يقال هذا الكلام لمَن أَلَّفَ كتابه حرباً على التقليد ! وطالَبَ قرائه أن يكون ( سلفيَّ ) الأخلاق .
هذه الأخلاق التي قوامها نبذ التقليد في العلم مع توقير أهله !
بعد هذا ألا ترى أخي الكريم أنه ينبغي أن يقال لمثل هذا القائل : ( إن بني عمك فيهم رماح ) ؟ بهذا الرَّدِّ بالمثل سيَزِنُ كلُّ قائلٍ كلامه ، ويعلمَ أن هذا التشغيب يُحسِنه كلُّ أحد .

أحمد الفارس
2007-07-18, 08:44 AM
للرفع ، بارك الله في الجميع

المتعلم
2007-07-18, 09:25 PM
أيها الشيخ الكريم:
كلامكم المتقدم لم يكن موجها "لشخصه" إنما هو وصف "لمدرسة" تتبنى الرأي المخالف لرأيكم.
ولا زلت أرى بعض تلك العبارت المحقرة لنوع من القراء تتنقل بين سطوركم حتى في تعليقكم الأخير .
مع مخالفتي لفهمك بعض كلامه الذي نقلته لكني لا أريد أن أتحول عن قصدي الذي علق هنا من أجله.

فلماذا لا نناقش المسائل من حيث هي ونتجاوز مادون ذلك.
فهو أولى وأقوم قيلا.
وننتظر بقية بحثكم.
سددكم الله وأعانكم.

رجل من أقصى المدينة
2007-07-19, 05:37 AM
أشكر الإخوة الكرام :
أحمد الفارس
أبو حاتم الأنصاري
على مطالعتهم هذا البحث .
وأشكرك أنت أخي ( المتعلم ) على صدق نصيحتك .
وأرجو أن تدَوِّن مثلها على مقال الحاج عيسى .

المتعلم
2007-07-19, 03:31 PM
أيها الشيخ الكريم : أشكر لكم حسن تلطفكم وجميل خطابكم .
وأجد أن وضعي له هناك سيكون بناء على طلبكم لا عن نية صالحة مني، ولا يخفاكم ما فيه، ولعله يطلع عليه هنا، فقد تكرمت بوصل موضوعكم بموضوعه، والله المسؤول أن يصلح قلوبنا جميعا.

رجل من أقصى المدينة
2007-08-05, 09:12 AM
أحب أن أُ ضيف إلزاماً جديداً للحاج عيسى :
فاقول :
تزعم أن الصورة التي هي محل النزاع : الصورة التي ليس فيها قرائن تثبتُ السماع أو تنفيه .
ثم تأتي في بقية بحثك لتقول : إن مسلماً إنما يراعي قرائن نفي السماع فقط !!
وهذا مع كونه تناقضاً صريحاً فإنه اعتراف منك بأن محل النزاع في الصورة الأولى ، وهي : صورة الحديث المعنعن المحتفة بالقرائن .