أبو عبيدالله الأثري
2009-07-01, 11:01 PM
البَــلِـيَّـة
بِمَا أُحْدِثَ مِنَ الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ
بِدُونِ عِلْمٍ وَلا رَوِيَّة
بقلم: أبي عُبَيدِالله اليُوسُفِي –كان الله له-
للتحميل بصيغة بي دي أف: http://www.4shared.com/file/115384165/43780c6c/_________.html
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوهوكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهمينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين[1] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn1)، وبعد:
فالموَّفق من وفقه الله للزوم طريق الحق الوسط،فترك الغلو والوقوع في الجهالة والشطط، وكان في جميع أحواله متبعا للحق بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة، فيدُور مع الحقِّ حيثُما دار،ويجعل الدليلَ هو الفيصل والقرار، ولا يدعُ للهَوى أن يدْخُل بينَه وبين قَبول الحق، فالحق يُقبل أينما وُجِد، ويُطلبُ إذا فُقِد، وطَالِبه ينبغي أن يكون عَادِلا فِي نَفْسِه مُنصِفاً لغيره، مُتكلِّماً فيما يحسنه ساكتاً عما يجهله، تاركاً لما قد يسوءه، مبتعداً عما يضره، والضرر كل الضرر في نهك أعراض رجال صدقوا مع ربهم واقتدوا بآثار نبيهم، فكانوا لنهج الكتاب والسنة داعين وعن طرق الغي والضلالة محذرين. ومن وقع في أعراض أهل العلم وحملته، فاعلم أنه لا يكون إلا أحد رجلين:
إِمَّا رجلٌ يجهلُ ما لأهلِ العِلمِ والدَّعوةِ مِن قَدْرٍ وَفَضْلٍ في شَرِيعَةِ رَبِّنَا.
أو رجل مُقَلِّدٌ في جَرْحٍ وتَعْدِيلٍ بلا دَلِيلٍ ولا بُرْهَان إِلا قَالَ زَيدٌ أو قَالَ عَمْرو.
أما الأول فيُنَبه إلى أن الجناية على العلماء خرقٌ في الدين، (وأنَّ أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل.)[2] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn2) و(كفى المرء شرًّا أن لا يكون صالحا، ويقع في الصالحين)[3] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn3)، وليَعْلم أن (من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله تعالى بموت القلب)[4] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn4)، فالحذر كل الحذر من الوقيعة في أهل الأثر، فالطاعن في العلماء لا يضرن إلا نفسه، ولا يستجلب بصنيعه الشنيع – هذا - إلا أقبح الأوصاف وأرذل المراتب عند الله ثم عند الناس، فالقدح بالحامل ما يُفضي إلا إلى القدح فيما يحمله من الشرع والدين، شَعُر الجاني بذلك أم لم يشعر (!)، قال الإمام أحمد بن الأذرعي - رحمه الله -: ( الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب)[5] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn5)، وما ذلك إلا لأنهم ورثة الأنبياء الحاملين لِعِلمهم المبلغين لشريعة ربهم. ولهذا أطبق العلماء على أن من أعظم أسباب الفرقة والإختلاف ( الوقيعة في أهل العلم وحملته )، فالله سبحانه وتعالى رفع الذين آمنوا على من سواهم، ثم رفع أهل العلم على سائر الناس فقال: ) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ( وقال جل وعلا: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ( ومن ثبت بقول الله فضله وتعظيمه، فتفضيله وتعظيمه شعيرة وحُرمة، قال تعالى:)ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ۗ( وقال: )ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ( فَحُرمة العلماء مُضاعفة وحقُوقُهم عَدِيدة، فَلَهُم كل مَاثَبَتَ من حُقُوقِ المُسلمِ عَلَى أَخِيه المسلم، وَلهم حُقُوق الشُّيوخ ذوي الشَّيْبِة المُسِنِّينَ، ولهم حقوق حملة القرآن الكريم، ولهم حقوق العلماء العاملين والأولياء الصالحين.
فمن أساءَ إليهِم وَطَعَنَ فِيهِم بَغياً وعُدواناً وَلَو مُتأولا - بما زُيِّن لِبعض النَّاسِ سُوءُ عَمَلِهم فرأوه حسناً - فقد رَكِبَ مَتنَ الشَّطَط ووََقعَ في أَقبَحِ الحيفِ والغلط، ورحم الله من عرف قدر نفسه.
ما الفضل إلا لأهل العلمإنهمُ :: على الهدى لمن استهدىأدلاء
وقدر كلامرئ ما كان يحسنه :: والجاهلون لأهل العلمأعداء
وأما الثاني فيُبيَّن له أن التَّنطع بتقليد كلام عالم في قرينه أو معاصره لا يحل - ناهيك أن يُنَصِّب المقلدُ نفسه مجتهداً فيما قلَّد فيه غيره -، فالعلماء بشر كالبشر قد يصيبون ويعتريهم العور، ولا عصمة لإمام سوى للأنبياء وسيد البشر، وما أنا في هذا إلا ناقل لما قرَّره الجهابذةُ الأوَّلون وسلفنا الصالحون، أنه ما من أحد إلا راد ومردود عليه إلا النبي المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه، فكلٌ قوله محتمل للخطأ والصواب، وهذا لا يغض من أقدارهم ولا يحط من منازلهم، بل هم في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر )[6] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn6) والعالم المشتغل لابد له أن يُخطئ ولو في صغيرة.
وقد صدق من قال قديماً:
من ذا الذي ما ساء قط :: ومن له الحسنى فقط
ولكن الواجب على علماء الأمة أن يُبينوا هذا الزلل، حفظاً للأمة منه[7] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn7)، إذ يُتابعه على ذلك نفر من الخلق تعصباً له وتقليداً، ومن أبلغ ما قيل في هذا ما صححه جهبذ السنة الإمام الألباني في تذييله على مشكاة المصابيح: ( عن زياد بن حدير الأسدي رضي الله عنه أنه قال: قال لي عمر –رضي الله عنه -: هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟!قال: قلت: لا ! قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين ) [8] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn8)
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - في إعلام الموقعين: ( من المعلوم أن الـمُخوِّف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا التقليد لم يُخف من زلة العالم على غيره ...)
فَإِن تَبيَّنت هذه الزَّلةُ وعُرفِ أنه قد أخطأ –سواءاً كان راداً أو مردوداً عليه -، فلا يحِلُّ أن يُتَعَصَّبَ له فيما أخطأ فيه - وإن وافق ما نهواه -، فَلِكُلِّ جَوادٍ كبوة بل كبوات ولكل عالم هفوة بل هفوات، والمعصُوم من عصمه الله من التَّعصب والتقليد الأعمى، وقال كذلك – رحمه الله -:
( ... فإذا عُرف أنها زلة لم يَجُز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين، فإنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه ، وكلاهما مفرط فيما أُمِر به. )
فإن الخطأ لا يُقبل – أبداً - مهما عَلَت منزِلةُ قائله وعَظُمَ قدرُه، والرد يكون عليه فيما أخطأ فيه بأدب جم وعدل واعتدال لا بحط القدر والظلم والإنفعال، ولا يسوغ – البتة - أن نترك ما عنده من الحق لمجرد أنه أخطأ.
وصدق القائل:
أتطلب صاحباً لا عيب فيه :: وأي الناس ليس له عيوب
وأبلغ من هذا قول القائل:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً :: فأفعاله اللائي سررن ألوفُ[9] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn9)
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ( وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَّبِعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْت. وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتَّبِعَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ. فَنَقُولَ: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } الْآيَةَ. وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ . وَنُعَظِّمُ أَمْرَهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَنَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ وَآذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا: فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ. وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ) [10] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn10)
ومن القول الماتع الذي نُقل عن اللكنوي – رحمه الله - في شرحه لكلام الأئمة المتقدمين، قوله: ( ... لا يقبل جرح المعاصر على المعاصر أي: اذا كان بلا حجة لأن المعاصرة تفضي غالبا الى المنافرة ) [11] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn11)
وفي ضوء هذا يَظهَر لنا أن كلامَ الفردِ من أهلِ العلم في قَرِينِه أو مُعَاصِره من أهل السنة الذي بَانَت واتضَحت سَلامةُ سَبِيلهِ لا يُقبل إلا بالبيِّنةِ الجليَّةِ الواضحةِ التي لم يُداخِلها احتمالُ الإنتصارِ للنَّفس وحُظوظها، وأكثر ما يكون من كلام بعضهم في بعض يخرج مخرج الغيرة والحسد، وهذا قد يُعلَم بالقرائن.
وعند ثُبوتِ عَدالةِ المُتكلَّم فيه، لا يُقبل جرحُه، وقَبيل ذلك ما يقوله أهل الإصطلاح أن من ثبتت عدالته لم يُقبل فيه جرح.
قال الإمام أبو عبدالله محمد بن نصر المروزي – رحمه الله - وهي كلمة دقيقة هامة: ( كل رجل ثبتت عدالته لم يُقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين عليه بأمر لا يحتمل غيرُ جرحه )[12] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn12)
عكسَ المنتَهجِ مِن كَثيرٍ مِن ذَوِي الوَجَاهةِ في عَصرِنا هذا، حملُ كلِّ قَولٍ على أَسوَءِ المحامِل وإن كَانَ بَعِيداً ومُتكلَّفاً. وفي ذلك أَعْجَبَني قَولٌ للشَّيخِ عبدالمحسن العبَّاد البدر البدر حقًّا – حفظه الله - لما سُئِل عن مسألة مشابهة لهذا فقال: ( هذا يدلُّ على أن في النفوسِ شيئا.) (!)
وقال الحافظُ الذهبي - رحمه الله - : ( كلامُ الأقرانِ بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أنَّ عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس،اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم.) (!!)[13] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn13)
وكثيراً ما كان يقول المُحدِّثُ الإمام ناصر الدين الألباني - رحمه الله -: "داء العلماء الحسد" وهذا يصُبُّ في دلو ما رواه سعيد بن المسيّب - رحمه الله - عن ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: « استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زُرُبها (!) » وهذا حَاصِل ومُشاهَد، فقد تصدر منهم كلمات شديدة في حق بعضهم البعض، بل وحصل ذلك بين بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن ذلك ما نُسب إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (وما عِلْمُ أبي سعيد وأنس بأحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كانا غُلامين صغيرين )[14] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn14) وقد أفرد بخاري المغرب وحافظها الإمام أبو عمر ابن عبدالبر - رحمه الله - لهذا باباً خاصًّا في كتابه الماتع "جامع بيان العلم وفضله" أسماه: "باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض" فروى فيها روايات عن بعض التابعين والعلماء مِن بَعدِهم وكلام بعضِهم في بعض، وبيَّن أن هذا كله يُترك ولا يُلتفت إليه، وأنه لا يجوز الحكمُ على مُعَين بغير حجة ولا برهان، ولعله يَحسن استعراض بعض ما أورده - رحمه الله - في هذا الباب، وذلك للتمثيل بما نقله ليتضح مغزاه:
روى الإمام ابن عبدالبر بسنده عن مغيرة قال: قدم علينا حماد بن أبي سليمان من مكة فأتيناه لنسلم عليه فقال لنا « احمدوا الله يا أهل الكوفة فإني لقيت عطاء وطاووسا ومجاهدا فلصبيانكم وصبيان صبيانكم أعلم منهم !! » قال مغيرة: هذا بغي منه.
فقال الإمام أبو عمر ابن عبدالبر مُعلِّقاً: ( فهذا حماد بن أبي سليمان وهو فقيه الكوفة بعد النخعي القائم بفتواها، وهو معلم أبي حنيفة وهو الذي قال فيه إبراهيم النخعي حين قيل له: من يُسأل بعدك ؟ قال: حماد، وقعد مقعده بعده يقول في عطاء وطاوس ومجاهد وهم عند الجميع أرضى منه وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله وأرضى منه حالا عند الناس وفوقه في كل حال؛ إلى آخر كلامه.)
فهذا حمّاد التابعي ! قد زكاه أئمة الإسلام وقتها، وكان خليفةَ إبراهيم النخعي في الفَتوَى، أَفيقالُ استناداً على هذا أن كلامَه في عَطاء وطاوس ومجاهد مقبول لمجرد كونه ذلكم العالم المجاهد، ولمجرد أن علماء ذلك العصر قد زكوه !! هذا مخالف للأصول ولا يقول به عاقل فضلاً أن يقول به عالم! وهذا لا يختلف فيه سَلَفِيَّان مقالاً وإن وُجد في بعضهم ذلك حالاً.
وقال-رحمه الله-[15] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn15): وهذا ابن شهاب (هو الزهري) قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام ما استثنى منهم أحدا، وفيهم من جلة العلماء من لا خفاء لجلالته في الدين، فعن ابن شهاب قال: « ما رأيت قوما أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة.»
وكما لم يَقبَل العلماءُ كلام الزهريّ - رحمه الله - في أهل مكة جملة وتفصيلاً، رُدَّ كلام شانئيه في عدالته بنسبته إلى بني أمية في عصره حتى قِيل أنَّك إذا رأيته حسبته جندٌ من جُندِ بني أمية.
وفيه: عن الأعمش قال: « ذُكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذاك الأعور الذي يستفتي بالليل، ويجلس يُفتي الناس بالنهار !! قال : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال:ذلك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً!! »
فكيف لو كان بعض أهل زماننا – هدانا الله وإياهم - في عصرهم رحمهم الله ؟ هل كان لِينشُر قولَ إبراهيم في الشعبي أو العكس ويقول: قد تكلم فلان في فلان، وبما أنه قد تكلم فيه شيخنا الهُمام فهو منحرف ساقط، ومن أعرض عن الكلام فيه فهو مثله أو قارب !!
وتأمل – رعاكَ الله - فيما علَّق به الإمام ابن عبدالبر ومافيه من العدل والإنصاف إذ يقول: « معاذ الله أن يكون الشعبي كذابا بل هو إمام جليل، والنخعي مثله جلالة وعلما ودينا »
وقال أيضاً - رحمه الله -: ( سمعت الفضل بن موسى يقول: دخلت مع أبي حنيفة على الأعمش نعوده فقال له أبو حنيفة: يا أبا محمد ، لولا التثقيل عليك لترددت في عيادتك أو قال: لعدتك أكثر مما أعودك، فقال له الأعمش:والله إنك لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي ؟ قال الفضل: فلما خرجنا من عنده قال أبو حنيفة: إن الأعمش لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة، فقلت للفضل: ما يعني بذلك ؟ قال كان الأعمش يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة »
وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي قال: سمعت جبير بن دينار قال: سمعت يحيى بن أبي كثير قال: « لا يزال أهل البصرة بِشَر ما أبقى الله فيهم قتادة!!!» قال : وسمعت قتادة يقول : « متى كان العلم في السماكين ؟ » يُعرِّض بيحيى بن أبي كثير وكان أهل بيته سماكين !! )
يا فرحة المترصدين ويا سرور المتربصين ويا بهجة المتصيِّدين، لو وَجَدُوا مِثل هذا الكلام في وقتنا قد قِيلَ في عَالم أو داعية ذي بصيرة، لأسرعوا به فأشاعوه، ونشروه في كل موطن وأذاعوه، وإن قيل لهم ما هذا الصنيع وما هذا الفعل الشنيع ؟ لأجابوا: لا لوم علينا ! فإنََّا نحذر ممن حذر منه أهل العلم !! ونسوا أو تناسوا – والله المستعان - أن هذا النوع من الجرح جُعلت له قواعد لإقامة المصلحة لا لهدمها، وذلك باعتبار عواقبها ومآلاتها.
وروى ابن عبدالبر عن سلمة بن سليمان بسنده قال: قلت لابن المبارك: وَضَعْتَ من رأي أبي حنيفة ولَم تَضع من رأي مالك قال : « لم أره عِلماً ! »
وذكر محمد بن الحسين الموصلي الحافظ أنه مما نقم على ابن معين وعُيب به قوله في الشافعي : « إنه ليس بثقة »وقيل لأحمد بن حنبل : إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي فقال أحمد: « ومن أين يعرف يحيى الشافعي هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي ؟ أو نحو هذا ومن جَهل شيئا عاداه »
قال الإمام الحافظ أبو عمر: وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق لشيء بلغه عنه تكلم به في نَسَبه وعلمه، والكلام ما رويناه من وجوه، عن عبد الله بن إدريس أنه قال: قدم علينا محمد بن إسحاق فذكرنا له شيئا عن مالك، فقال : هاتوا علم مالك فأنا بيطاره !! قال ابن إدريس: فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لمالك فقال: ذاك دجَّال من الدَّجَاجِلة !! نحن أخرجناه من المدينة، قال ابن إدريس : وما كنت سمعت بجمع دجال قبلها يعني على ذلك الجمع"
والحافظ ابن عبدالبر من عِلمِه وَإنصافه، أنه قبل عرضه لهذه الروايات قرر كلاماً حُقَّ له أن يُسَطَّر بماء الذهب، فقال:« قد غلط فيه كثير من الناس وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته لم يُلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلةيصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة وسلامته من ذلك كله، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبُت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه، والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضي الله عنهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير، منه في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد، كما قال ابن عباس، ومالك بن دينار، وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم المقول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة توجبه (!)، ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقات السادة، بعضهم في بعض مما لا يجب أن يُلتفت فيهم إليه ولا يعرج عليه».
ويا ليت نابتتنا مثل نابتة عصر الإمام ابن عبدالبر لكان الخطب أهون وأيسر، فهي أسوء قطعاً لا محالة، يحكم بذلك عليهم سوء صنيعهم ونتيجة فِعالهم المشاهدة عيانا من التطاول على أهل العلم وحملته بلمزهم وقدحهم والتنفير عنهم، وما حجتهم في ذاك إلا قال زيد وعمرو، ويكتفون بقوله ولا يتعدوه ! والواجب هو الإستفصال والإستفسار والتأكد والتثبت، يقول الحسن البصري - رحمه الله -: "المؤمن وقاف حتى يتبين" فيُنظر هل في الجرح بيّنة واضحة يصح الجرح بها ! وهل وقع هذا الجرح من باب إلزام القائل بمذهب أم بما يعتقده ويصرح به ويقرره (!).
ونقل الحافظ ابن حجر العسقلانيعن الإمام الطبري - رحمهما الله -: ( لو كان كل من ادُعِيَ عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك: للزم ترك محدثيّ الأمصار، لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يُرْغَبُ به عنه. ) (!!) [16] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn16)
والمصيبة تعظم – والله المستعان - إن عُقد الولاء والبراء على هذا بإلزام الناس بِتِلكُمُ الأقوال، وجعل الهجر والوصل مَرهُوناً بالتزامه، ويا ليتهم عَلِموا أنَّه لا يَحلُّ لِعالِم أن يحمِلَ غَيرَه على اجتِهَاده كَما قَالَ إِمامُ السُنَّةِ أحمد بن حنبل - رحمه الله -: (لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم. )[17] ومَا أَمتع ما كان يقوله العلامة الألباني - رحمه الله -: ( كَلامنا مُعلِم غير مُلزِم. )
هذا قالوه في العالم المجتهد فما بالك بمن دونهم !
والأنسَبُ مَعَ هَؤُلاءِ المتعَصِّبة للرِّجَال – أَعَاذَنا الله وَإِياكُم مِن ذَاك - أنهم يُنصحون ويُعلَّمون ويُبيَّنُ ويُدعى لهم، فإن استمرُّوا وأصرُّوا على الخطأِ تقليداً لِعالِم مَهما كَان عِلمُه وفَضلُه في اجتهاده مع ظهور الأدلة وجلائها وقيام الحجة واتضاحها، فقد تعصبوا ومالوا وبغوا وجاروا، ولا نملك حينئذ إلا أن نقول: "إخواننا بغوا علينا" وإلى الله المشتكى وإليه المآل.
والمتأمل في كلام الإمام ابن عبدالبر - رحمه الله - - الأخير - ملياً، يجد أن الإمام - رحمه الله - قد أرشدنا إلى كيفية التعامل مع هذه الأقوال والأحوال، فوضَّح قائلاً: ( والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته[18]لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببيّنة عادلة (!) يَصِحُّ بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة )
وقال: ( فمن أراد أن يَقبَل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض، فإن فعل ذلك ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا، وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة، وفي الشعبي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرناه في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته، وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتصاون وكان خيره غالبا وشره أقل عمله فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله. )
وقريب منه قول التاج السبكي - رحمه الله -:(الصواب عندنا: أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه، من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب، وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه؛ لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون ...)[19]
إلى آخر ما قال ومن أراد الإستزادة فعليه الرجوع إلى الأصل.
وبهذا يُعرف أنه لا يكاد يَسْلمُ أحد من كلام الآخَرين، حتى يُدَّعى على المرء ما ليس فيه، ويُتّهم بما هو منه براء، وهذا حاصل ومشاهَد، فعلى المرء التَّريث والتَّثبت من حقيقة الجرح وظروفه وملابساته، فهذا واجب لازم لا مناص منه -لمن أراد أن يسلم من المظالم يوم القيامة-، وانعدامه مظنة للظلم وتحققه ونشر للكذب وتسلطه.
قال تعالى: )وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ([20]
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال )[21]
وقد قيل قديماً:
فلست بناجٍ من مقالةِ طاعن :: ولو كنتَ في غارٍ على جبلٍ وعرِ
ومن ذا الذي ينجو من الناسِ سالماً :: ولو غاب عنهم بين خافتي نسر
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي - رحمه الله -: ( من الغَلَطِ الفَاحِش الخطير: قبول قَولِ النَّاس بعضهم ببعض, ثُم يبني عليه السَّامِعُ حُبًّا وبُغضاً وَ مَدحاً وذمًّا فَكَم حَصَلَ بهذا الغلط من أمور صار عاقبتها النّدامة وكم أشاعَ النّاس عن الناس اموراَ لاحقيقة لها بالكلية فالواجب على العَاقِل: التثبت والتحرز وعدم التسرع وبهذا يُعرف دين العبد وَرَزانته وَعَقلَه ) [22]
ولكن الذي بتنا نراه في أيامنا، الخدَّاعات هاته؛ فَشْو القلم - كما نبأ به صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم -[23] من هنا وهناك بدون أدنى تثبت وتبيّن، حتى يُتَّهم الدعاة والمصلحون الذين تشَهِد لهم كتاباتهم ودعوتهم وثمرة أعمالهم والناس أجمعين بسَلامة الطَّوِيَّة وحُسن الأقوالِ والفِعال والهويَّة، فيتمسكون بمتشابه كلامهم ومُجمله، دون الرُّجوع إلى مُفصَّلِه – كما هو صنيع أهل الأهواء - الذي يُقررونه ويتبنوه، وقد يكون كلامهم مُحتَمِلاً لوجوه، فلا ينبغي بله لا يحل أن يُحمل على أسوئها مع إهمال حُسن الظن الذي يقتضيه ما عرفناه وعرفوه عنهم –والله حسيبهم- من دعوة على منهج أهل الأثر.
وقد قال عمر بن الخطاب - رضيالله عنه -: ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنتتجد لها في الخير محملاً. )[24]
بِمَا أُحْدِثَ مِنَ الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ
بِدُونِ عِلْمٍ وَلا رَوِيَّة
بقلم: أبي عُبَيدِالله اليُوسُفِي –كان الله له-
للتحميل بصيغة بي دي أف: http://www.4shared.com/file/115384165/43780c6c/_________.html
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوهوكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهمينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين[1] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn1)، وبعد:
فالموَّفق من وفقه الله للزوم طريق الحق الوسط،فترك الغلو والوقوع في الجهالة والشطط، وكان في جميع أحواله متبعا للحق بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة، فيدُور مع الحقِّ حيثُما دار،ويجعل الدليلَ هو الفيصل والقرار، ولا يدعُ للهَوى أن يدْخُل بينَه وبين قَبول الحق، فالحق يُقبل أينما وُجِد، ويُطلبُ إذا فُقِد، وطَالِبه ينبغي أن يكون عَادِلا فِي نَفْسِه مُنصِفاً لغيره، مُتكلِّماً فيما يحسنه ساكتاً عما يجهله، تاركاً لما قد يسوءه، مبتعداً عما يضره، والضرر كل الضرر في نهك أعراض رجال صدقوا مع ربهم واقتدوا بآثار نبيهم، فكانوا لنهج الكتاب والسنة داعين وعن طرق الغي والضلالة محذرين. ومن وقع في أعراض أهل العلم وحملته، فاعلم أنه لا يكون إلا أحد رجلين:
إِمَّا رجلٌ يجهلُ ما لأهلِ العِلمِ والدَّعوةِ مِن قَدْرٍ وَفَضْلٍ في شَرِيعَةِ رَبِّنَا.
أو رجل مُقَلِّدٌ في جَرْحٍ وتَعْدِيلٍ بلا دَلِيلٍ ولا بُرْهَان إِلا قَالَ زَيدٌ أو قَالَ عَمْرو.
أما الأول فيُنَبه إلى أن الجناية على العلماء خرقٌ في الدين، (وأنَّ أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل.)[2] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn2) و(كفى المرء شرًّا أن لا يكون صالحا، ويقع في الصالحين)[3] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn3)، وليَعْلم أن (من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله تعالى بموت القلب)[4] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn4)، فالحذر كل الحذر من الوقيعة في أهل الأثر، فالطاعن في العلماء لا يضرن إلا نفسه، ولا يستجلب بصنيعه الشنيع – هذا - إلا أقبح الأوصاف وأرذل المراتب عند الله ثم عند الناس، فالقدح بالحامل ما يُفضي إلا إلى القدح فيما يحمله من الشرع والدين، شَعُر الجاني بذلك أم لم يشعر (!)، قال الإمام أحمد بن الأذرعي - رحمه الله -: ( الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب)[5] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn5)، وما ذلك إلا لأنهم ورثة الأنبياء الحاملين لِعِلمهم المبلغين لشريعة ربهم. ولهذا أطبق العلماء على أن من أعظم أسباب الفرقة والإختلاف ( الوقيعة في أهل العلم وحملته )، فالله سبحانه وتعالى رفع الذين آمنوا على من سواهم، ثم رفع أهل العلم على سائر الناس فقال: ) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ( وقال جل وعلا: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ( ومن ثبت بقول الله فضله وتعظيمه، فتفضيله وتعظيمه شعيرة وحُرمة، قال تعالى:)ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ۗ( وقال: )ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ( فَحُرمة العلماء مُضاعفة وحقُوقُهم عَدِيدة، فَلَهُم كل مَاثَبَتَ من حُقُوقِ المُسلمِ عَلَى أَخِيه المسلم، وَلهم حُقُوق الشُّيوخ ذوي الشَّيْبِة المُسِنِّينَ، ولهم حقوق حملة القرآن الكريم، ولهم حقوق العلماء العاملين والأولياء الصالحين.
فمن أساءَ إليهِم وَطَعَنَ فِيهِم بَغياً وعُدواناً وَلَو مُتأولا - بما زُيِّن لِبعض النَّاسِ سُوءُ عَمَلِهم فرأوه حسناً - فقد رَكِبَ مَتنَ الشَّطَط ووََقعَ في أَقبَحِ الحيفِ والغلط، ورحم الله من عرف قدر نفسه.
ما الفضل إلا لأهل العلمإنهمُ :: على الهدى لمن استهدىأدلاء
وقدر كلامرئ ما كان يحسنه :: والجاهلون لأهل العلمأعداء
وأما الثاني فيُبيَّن له أن التَّنطع بتقليد كلام عالم في قرينه أو معاصره لا يحل - ناهيك أن يُنَصِّب المقلدُ نفسه مجتهداً فيما قلَّد فيه غيره -، فالعلماء بشر كالبشر قد يصيبون ويعتريهم العور، ولا عصمة لإمام سوى للأنبياء وسيد البشر، وما أنا في هذا إلا ناقل لما قرَّره الجهابذةُ الأوَّلون وسلفنا الصالحون، أنه ما من أحد إلا راد ومردود عليه إلا النبي المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه، فكلٌ قوله محتمل للخطأ والصواب، وهذا لا يغض من أقدارهم ولا يحط من منازلهم، بل هم في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر )[6] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn6) والعالم المشتغل لابد له أن يُخطئ ولو في صغيرة.
وقد صدق من قال قديماً:
من ذا الذي ما ساء قط :: ومن له الحسنى فقط
ولكن الواجب على علماء الأمة أن يُبينوا هذا الزلل، حفظاً للأمة منه[7] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn7)، إذ يُتابعه على ذلك نفر من الخلق تعصباً له وتقليداً، ومن أبلغ ما قيل في هذا ما صححه جهبذ السنة الإمام الألباني في تذييله على مشكاة المصابيح: ( عن زياد بن حدير الأسدي رضي الله عنه أنه قال: قال لي عمر –رضي الله عنه -: هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟!قال: قلت: لا ! قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين ) [8] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn8)
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - في إعلام الموقعين: ( من المعلوم أن الـمُخوِّف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا التقليد لم يُخف من زلة العالم على غيره ...)
فَإِن تَبيَّنت هذه الزَّلةُ وعُرفِ أنه قد أخطأ –سواءاً كان راداً أو مردوداً عليه -، فلا يحِلُّ أن يُتَعَصَّبَ له فيما أخطأ فيه - وإن وافق ما نهواه -، فَلِكُلِّ جَوادٍ كبوة بل كبوات ولكل عالم هفوة بل هفوات، والمعصُوم من عصمه الله من التَّعصب والتقليد الأعمى، وقال كذلك – رحمه الله -:
( ... فإذا عُرف أنها زلة لم يَجُز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين، فإنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه ، وكلاهما مفرط فيما أُمِر به. )
فإن الخطأ لا يُقبل – أبداً - مهما عَلَت منزِلةُ قائله وعَظُمَ قدرُه، والرد يكون عليه فيما أخطأ فيه بأدب جم وعدل واعتدال لا بحط القدر والظلم والإنفعال، ولا يسوغ – البتة - أن نترك ما عنده من الحق لمجرد أنه أخطأ.
وصدق القائل:
أتطلب صاحباً لا عيب فيه :: وأي الناس ليس له عيوب
وأبلغ من هذا قول القائل:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً :: فأفعاله اللائي سررن ألوفُ[9] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn9)
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ( وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَّبِعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْت. وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتَّبِعَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ. فَنَقُولَ: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } الْآيَةَ. وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ . وَنُعَظِّمُ أَمْرَهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَنَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ وَآذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا: فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ. وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ) [10] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn10)
ومن القول الماتع الذي نُقل عن اللكنوي – رحمه الله - في شرحه لكلام الأئمة المتقدمين، قوله: ( ... لا يقبل جرح المعاصر على المعاصر أي: اذا كان بلا حجة لأن المعاصرة تفضي غالبا الى المنافرة ) [11] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn11)
وفي ضوء هذا يَظهَر لنا أن كلامَ الفردِ من أهلِ العلم في قَرِينِه أو مُعَاصِره من أهل السنة الذي بَانَت واتضَحت سَلامةُ سَبِيلهِ لا يُقبل إلا بالبيِّنةِ الجليَّةِ الواضحةِ التي لم يُداخِلها احتمالُ الإنتصارِ للنَّفس وحُظوظها، وأكثر ما يكون من كلام بعضهم في بعض يخرج مخرج الغيرة والحسد، وهذا قد يُعلَم بالقرائن.
وعند ثُبوتِ عَدالةِ المُتكلَّم فيه، لا يُقبل جرحُه، وقَبيل ذلك ما يقوله أهل الإصطلاح أن من ثبتت عدالته لم يُقبل فيه جرح.
قال الإمام أبو عبدالله محمد بن نصر المروزي – رحمه الله - وهي كلمة دقيقة هامة: ( كل رجل ثبتت عدالته لم يُقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين عليه بأمر لا يحتمل غيرُ جرحه )[12] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn12)
عكسَ المنتَهجِ مِن كَثيرٍ مِن ذَوِي الوَجَاهةِ في عَصرِنا هذا، حملُ كلِّ قَولٍ على أَسوَءِ المحامِل وإن كَانَ بَعِيداً ومُتكلَّفاً. وفي ذلك أَعْجَبَني قَولٌ للشَّيخِ عبدالمحسن العبَّاد البدر البدر حقًّا – حفظه الله - لما سُئِل عن مسألة مشابهة لهذا فقال: ( هذا يدلُّ على أن في النفوسِ شيئا.) (!)
وقال الحافظُ الذهبي - رحمه الله - : ( كلامُ الأقرانِ بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أنَّ عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس،اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم.) (!!)[13] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn13)
وكثيراً ما كان يقول المُحدِّثُ الإمام ناصر الدين الألباني - رحمه الله -: "داء العلماء الحسد" وهذا يصُبُّ في دلو ما رواه سعيد بن المسيّب - رحمه الله - عن ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: « استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زُرُبها (!) » وهذا حَاصِل ومُشاهَد، فقد تصدر منهم كلمات شديدة في حق بعضهم البعض، بل وحصل ذلك بين بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن ذلك ما نُسب إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (وما عِلْمُ أبي سعيد وأنس بأحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كانا غُلامين صغيرين )[14] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn14) وقد أفرد بخاري المغرب وحافظها الإمام أبو عمر ابن عبدالبر - رحمه الله - لهذا باباً خاصًّا في كتابه الماتع "جامع بيان العلم وفضله" أسماه: "باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض" فروى فيها روايات عن بعض التابعين والعلماء مِن بَعدِهم وكلام بعضِهم في بعض، وبيَّن أن هذا كله يُترك ولا يُلتفت إليه، وأنه لا يجوز الحكمُ على مُعَين بغير حجة ولا برهان، ولعله يَحسن استعراض بعض ما أورده - رحمه الله - في هذا الباب، وذلك للتمثيل بما نقله ليتضح مغزاه:
روى الإمام ابن عبدالبر بسنده عن مغيرة قال: قدم علينا حماد بن أبي سليمان من مكة فأتيناه لنسلم عليه فقال لنا « احمدوا الله يا أهل الكوفة فإني لقيت عطاء وطاووسا ومجاهدا فلصبيانكم وصبيان صبيانكم أعلم منهم !! » قال مغيرة: هذا بغي منه.
فقال الإمام أبو عمر ابن عبدالبر مُعلِّقاً: ( فهذا حماد بن أبي سليمان وهو فقيه الكوفة بعد النخعي القائم بفتواها، وهو معلم أبي حنيفة وهو الذي قال فيه إبراهيم النخعي حين قيل له: من يُسأل بعدك ؟ قال: حماد، وقعد مقعده بعده يقول في عطاء وطاوس ومجاهد وهم عند الجميع أرضى منه وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله وأرضى منه حالا عند الناس وفوقه في كل حال؛ إلى آخر كلامه.)
فهذا حمّاد التابعي ! قد زكاه أئمة الإسلام وقتها، وكان خليفةَ إبراهيم النخعي في الفَتوَى، أَفيقالُ استناداً على هذا أن كلامَه في عَطاء وطاوس ومجاهد مقبول لمجرد كونه ذلكم العالم المجاهد، ولمجرد أن علماء ذلك العصر قد زكوه !! هذا مخالف للأصول ولا يقول به عاقل فضلاً أن يقول به عالم! وهذا لا يختلف فيه سَلَفِيَّان مقالاً وإن وُجد في بعضهم ذلك حالاً.
وقال-رحمه الله-[15] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn15): وهذا ابن شهاب (هو الزهري) قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام ما استثنى منهم أحدا، وفيهم من جلة العلماء من لا خفاء لجلالته في الدين، فعن ابن شهاب قال: « ما رأيت قوما أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة.»
وكما لم يَقبَل العلماءُ كلام الزهريّ - رحمه الله - في أهل مكة جملة وتفصيلاً، رُدَّ كلام شانئيه في عدالته بنسبته إلى بني أمية في عصره حتى قِيل أنَّك إذا رأيته حسبته جندٌ من جُندِ بني أمية.
وفيه: عن الأعمش قال: « ذُكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذاك الأعور الذي يستفتي بالليل، ويجلس يُفتي الناس بالنهار !! قال : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال:ذلك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً!! »
فكيف لو كان بعض أهل زماننا – هدانا الله وإياهم - في عصرهم رحمهم الله ؟ هل كان لِينشُر قولَ إبراهيم في الشعبي أو العكس ويقول: قد تكلم فلان في فلان، وبما أنه قد تكلم فيه شيخنا الهُمام فهو منحرف ساقط، ومن أعرض عن الكلام فيه فهو مثله أو قارب !!
وتأمل – رعاكَ الله - فيما علَّق به الإمام ابن عبدالبر ومافيه من العدل والإنصاف إذ يقول: « معاذ الله أن يكون الشعبي كذابا بل هو إمام جليل، والنخعي مثله جلالة وعلما ودينا »
وقال أيضاً - رحمه الله -: ( سمعت الفضل بن موسى يقول: دخلت مع أبي حنيفة على الأعمش نعوده فقال له أبو حنيفة: يا أبا محمد ، لولا التثقيل عليك لترددت في عيادتك أو قال: لعدتك أكثر مما أعودك، فقال له الأعمش:والله إنك لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي ؟ قال الفضل: فلما خرجنا من عنده قال أبو حنيفة: إن الأعمش لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة، فقلت للفضل: ما يعني بذلك ؟ قال كان الأعمش يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة »
وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي قال: سمعت جبير بن دينار قال: سمعت يحيى بن أبي كثير قال: « لا يزال أهل البصرة بِشَر ما أبقى الله فيهم قتادة!!!» قال : وسمعت قتادة يقول : « متى كان العلم في السماكين ؟ » يُعرِّض بيحيى بن أبي كثير وكان أهل بيته سماكين !! )
يا فرحة المترصدين ويا سرور المتربصين ويا بهجة المتصيِّدين، لو وَجَدُوا مِثل هذا الكلام في وقتنا قد قِيلَ في عَالم أو داعية ذي بصيرة، لأسرعوا به فأشاعوه، ونشروه في كل موطن وأذاعوه، وإن قيل لهم ما هذا الصنيع وما هذا الفعل الشنيع ؟ لأجابوا: لا لوم علينا ! فإنََّا نحذر ممن حذر منه أهل العلم !! ونسوا أو تناسوا – والله المستعان - أن هذا النوع من الجرح جُعلت له قواعد لإقامة المصلحة لا لهدمها، وذلك باعتبار عواقبها ومآلاتها.
وروى ابن عبدالبر عن سلمة بن سليمان بسنده قال: قلت لابن المبارك: وَضَعْتَ من رأي أبي حنيفة ولَم تَضع من رأي مالك قال : « لم أره عِلماً ! »
وذكر محمد بن الحسين الموصلي الحافظ أنه مما نقم على ابن معين وعُيب به قوله في الشافعي : « إنه ليس بثقة »وقيل لأحمد بن حنبل : إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي فقال أحمد: « ومن أين يعرف يحيى الشافعي هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي ؟ أو نحو هذا ومن جَهل شيئا عاداه »
قال الإمام الحافظ أبو عمر: وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق لشيء بلغه عنه تكلم به في نَسَبه وعلمه، والكلام ما رويناه من وجوه، عن عبد الله بن إدريس أنه قال: قدم علينا محمد بن إسحاق فذكرنا له شيئا عن مالك، فقال : هاتوا علم مالك فأنا بيطاره !! قال ابن إدريس: فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لمالك فقال: ذاك دجَّال من الدَّجَاجِلة !! نحن أخرجناه من المدينة، قال ابن إدريس : وما كنت سمعت بجمع دجال قبلها يعني على ذلك الجمع"
والحافظ ابن عبدالبر من عِلمِه وَإنصافه، أنه قبل عرضه لهذه الروايات قرر كلاماً حُقَّ له أن يُسَطَّر بماء الذهب، فقال:« قد غلط فيه كثير من الناس وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته لم يُلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلةيصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة وسلامته من ذلك كله، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبُت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه، والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضي الله عنهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير، منه في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد، كما قال ابن عباس، ومالك بن دينار، وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم المقول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة توجبه (!)، ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقات السادة، بعضهم في بعض مما لا يجب أن يُلتفت فيهم إليه ولا يعرج عليه».
ويا ليت نابتتنا مثل نابتة عصر الإمام ابن عبدالبر لكان الخطب أهون وأيسر، فهي أسوء قطعاً لا محالة، يحكم بذلك عليهم سوء صنيعهم ونتيجة فِعالهم المشاهدة عيانا من التطاول على أهل العلم وحملته بلمزهم وقدحهم والتنفير عنهم، وما حجتهم في ذاك إلا قال زيد وعمرو، ويكتفون بقوله ولا يتعدوه ! والواجب هو الإستفصال والإستفسار والتأكد والتثبت، يقول الحسن البصري - رحمه الله -: "المؤمن وقاف حتى يتبين" فيُنظر هل في الجرح بيّنة واضحة يصح الجرح بها ! وهل وقع هذا الجرح من باب إلزام القائل بمذهب أم بما يعتقده ويصرح به ويقرره (!).
ونقل الحافظ ابن حجر العسقلانيعن الإمام الطبري - رحمهما الله -: ( لو كان كل من ادُعِيَ عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك: للزم ترك محدثيّ الأمصار، لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يُرْغَبُ به عنه. ) (!!) [16] (http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/newthread.php?do=postthread&f=3#_ftn16)
والمصيبة تعظم – والله المستعان - إن عُقد الولاء والبراء على هذا بإلزام الناس بِتِلكُمُ الأقوال، وجعل الهجر والوصل مَرهُوناً بالتزامه، ويا ليتهم عَلِموا أنَّه لا يَحلُّ لِعالِم أن يحمِلَ غَيرَه على اجتِهَاده كَما قَالَ إِمامُ السُنَّةِ أحمد بن حنبل - رحمه الله -: (لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم. )[17] ومَا أَمتع ما كان يقوله العلامة الألباني - رحمه الله -: ( كَلامنا مُعلِم غير مُلزِم. )
هذا قالوه في العالم المجتهد فما بالك بمن دونهم !
والأنسَبُ مَعَ هَؤُلاءِ المتعَصِّبة للرِّجَال – أَعَاذَنا الله وَإِياكُم مِن ذَاك - أنهم يُنصحون ويُعلَّمون ويُبيَّنُ ويُدعى لهم، فإن استمرُّوا وأصرُّوا على الخطأِ تقليداً لِعالِم مَهما كَان عِلمُه وفَضلُه في اجتهاده مع ظهور الأدلة وجلائها وقيام الحجة واتضاحها، فقد تعصبوا ومالوا وبغوا وجاروا، ولا نملك حينئذ إلا أن نقول: "إخواننا بغوا علينا" وإلى الله المشتكى وإليه المآل.
والمتأمل في كلام الإمام ابن عبدالبر - رحمه الله - - الأخير - ملياً، يجد أن الإمام - رحمه الله - قد أرشدنا إلى كيفية التعامل مع هذه الأقوال والأحوال، فوضَّح قائلاً: ( والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته[18]لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببيّنة عادلة (!) يَصِحُّ بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة )
وقال: ( فمن أراد أن يَقبَل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض، فإن فعل ذلك ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا، وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة، وفي الشعبي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرناه في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته، وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتصاون وكان خيره غالبا وشره أقل عمله فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله. )
وقريب منه قول التاج السبكي - رحمه الله -:(الصواب عندنا: أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه، من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب، وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه؛ لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون ...)[19]
إلى آخر ما قال ومن أراد الإستزادة فعليه الرجوع إلى الأصل.
وبهذا يُعرف أنه لا يكاد يَسْلمُ أحد من كلام الآخَرين، حتى يُدَّعى على المرء ما ليس فيه، ويُتّهم بما هو منه براء، وهذا حاصل ومشاهَد، فعلى المرء التَّريث والتَّثبت من حقيقة الجرح وظروفه وملابساته، فهذا واجب لازم لا مناص منه -لمن أراد أن يسلم من المظالم يوم القيامة-، وانعدامه مظنة للظلم وتحققه ونشر للكذب وتسلطه.
قال تعالى: )وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ([20]
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال )[21]
وقد قيل قديماً:
فلست بناجٍ من مقالةِ طاعن :: ولو كنتَ في غارٍ على جبلٍ وعرِ
ومن ذا الذي ينجو من الناسِ سالماً :: ولو غاب عنهم بين خافتي نسر
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي - رحمه الله -: ( من الغَلَطِ الفَاحِش الخطير: قبول قَولِ النَّاس بعضهم ببعض, ثُم يبني عليه السَّامِعُ حُبًّا وبُغضاً وَ مَدحاً وذمًّا فَكَم حَصَلَ بهذا الغلط من أمور صار عاقبتها النّدامة وكم أشاعَ النّاس عن الناس اموراَ لاحقيقة لها بالكلية فالواجب على العَاقِل: التثبت والتحرز وعدم التسرع وبهذا يُعرف دين العبد وَرَزانته وَعَقلَه ) [22]
ولكن الذي بتنا نراه في أيامنا، الخدَّاعات هاته؛ فَشْو القلم - كما نبأ به صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم -[23] من هنا وهناك بدون أدنى تثبت وتبيّن، حتى يُتَّهم الدعاة والمصلحون الذين تشَهِد لهم كتاباتهم ودعوتهم وثمرة أعمالهم والناس أجمعين بسَلامة الطَّوِيَّة وحُسن الأقوالِ والفِعال والهويَّة، فيتمسكون بمتشابه كلامهم ومُجمله، دون الرُّجوع إلى مُفصَّلِه – كما هو صنيع أهل الأهواء - الذي يُقررونه ويتبنوه، وقد يكون كلامهم مُحتَمِلاً لوجوه، فلا ينبغي بله لا يحل أن يُحمل على أسوئها مع إهمال حُسن الظن الذي يقتضيه ما عرفناه وعرفوه عنهم –والله حسيبهم- من دعوة على منهج أهل الأثر.
وقد قال عمر بن الخطاب - رضيالله عنه -: ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنتتجد لها في الخير محملاً. )[24]