طالبة السنة
2007-05-26, 02:10 AM
من مقالات الشيخ د. علي بن عبد الله الصيّاح والتي وقفت عليها في مكتبة صناعة الحديث
مقال بعنوان :
المنهج السليم في دراسة الحديث المعل
تمهيـــد:
إنّ مما يسر الباحث في علمِ الحديثِ الشريف ما يَرى من انتشارِ المنهجيةِ السليمة في دراسةِ الحديثِ وعلومِهِ، والعنايةِ بعلوم سلفنا الزاخرة؛ جمعاً ودراسةً وتحليلاً واستنطاقاً.
ومن ذلك العناية بأدق أدق وأجل علوم الحديث: «علم العلل» قَالَ الحافظُ ابنُ حجر - رحمة الله عليه -: «المُعَلَّل: وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلاّ من رزقه الله فَهْماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، وملكةً قويةً بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلاّ القليل من أهل هذا الشأن؛ كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة.. »(1).
قال أبو عبد الله الحميديُّ - رحمة الله عليه -: «ثلاثُ كتبٍ من علوم الحديث يجبُ الاهتمامُ بها: كتابُ العلل، وأحسنُ ما وضع فيه كتاب الدّارقُطنيّ، والثاني: كتابُ المؤتلف والمختلف، وأحسنُ ما وضع فيه الإكمال للأمير ابنِ ماكولا، وكتابُ وفيات المشايخ، وليس فيه كتابٌ(2)»(3). وقال ابنُ رجب - رحمة الله عليه -: «ولما انتهى الكلام على ما ذكره الحافظ أبو عيسى الترمذي - رحمة الله عليه - في كتاب الجامع... أحببتُ أن أتبع كتاب العلل بفوائد أُخر مهمة.. وأردت بذلك تقريب علم العلل على من ينظر فيه، فإنه علمٌ قد هُجر في هذا الزمان، وقد ذكرنا في كتاب العلم أنَّه علمٌ جليلٌ قلَّ من يعرفه من أهل هذا الشأن، وأنَّ بساطه قد طُوي منذ أزمان»(4).
وبفضل الله انتشر بين طلبة الحديث العناية بهذا الفن الدقيق، وحرص الباحثون في الدراسات العليا على تسجيلِ الموضوعات في هذا الفن، من ذلك مثلاً: «مرويات الزهري المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «مرويات الإمامين قتادة بن دعامة ويحيى بن أبي كثير المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «مرويات أبي إسحاق السبيعي المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «علل ابن أبي حاتم تحقيق وتخريج ودراسة»(5)، و «الأحاديثُ التي أعلها الإمامُ يحيى بنُ معين من خلال سؤالات الدوري وابن محرز والدارمي وابن الجنيد والدّقاق» و«الأحاديثُ التي أعلها البخاريُّ في التاريخ الكبير»، و «الأحاديثُ التي أعلها البخاريُّ في التاريخ الأوسط»، و«الأحاديث التي أعلها علي بن المديني»، و«الأحاديث التي أعلها الإمامُ أحمد بن حنبل في مسنده»، و «الأحاديثُ التي أعلها العُقيليّ في كتابهِ الضعفاء»، و «الأحاديثُ المرفوعةُ المعلة في كتاب الحِلْية لأبي نُعيم»، و «الأحاديثُ التي أعلها أبو داود في سننه» وغيرها.
وما أحسنَ ما قال الدكتور أحمد محمد نور سيف - وفقه الله -: «بدأنا نَقْربُ من وضع منهج متقاربٍ يُصور لنا مناهج النُّقاد في تلك الحقبة من الزمن، هذه الحقبة هي العصور الذهبية لنُقَّاد الحديث، مدرسة علي بن المديني، ويحيى بن معين، و أحمد بن حنبل والمدرسة التي قبلهم، والمدرسة التي بعدهم. هذه المدارس في الواقع قد تكون مدارس، وقد تكون مدرسة، قد تتقارب المناهج وقد تفترق وقد تختلف، ولكن لا يمكن أنْ نتصور أو أن نستطيع أنْ نُلِمَّ بتلك المناهج في إطارٍ عامٍّ محددٍ إلاَّ بمثلِ هذه الدراسة.. »(6).
وقبل الدخول في موضوع البحث أنبه على أمورٍ ينبغي للباحث أن يتنبه لها لكي يصلَ للغاية والفائدة المرجوة من الدراسة، وهي:
1 - أن لا يحاكم الباحثُ الأئمةَ والنقادَ المتقدمين على ضوء معلوماته ومعارفه التي استمدها من بعض الكتب المتأخرة التي قد تخالف بعض مصطلحات الأئمة المتقدمين وعباراتهم، فيعمد إلى تغليط الأئمة في مصطلحاتهم فيفوّت على نفسِهِ علماً كثيراً؛ من ذلك مثلاً لفظة (مرسل) معناها عند المتأخرين: ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنَّ الأئمة المتقدمين يوسعون معناها بحيثُ تشمل الانقطاع؛ من ذلك مثلاً قول ابن أبي حاتم - رحمة الله عليه - في كتاب العلل: «سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيث رَوَاهُ الفِرْيابِيُّ، عَنْ عُمَر بنِ رَاشِد، عَنْ يَحْيَى بنِ إسْحَاقَ بنِ عَبْد اللّه ابن أَبِي طَلْحة، عَنْ الْبَرَاء، عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: الْرِّبَا اثنان وسَبْعُون بَاباً، أدناها مِثْلُ إتيانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ»، قَالَ أَبِي: هو مرسل، لم يدرك يَحْيَى بنُ إِسْحَاق الْبَرَاء، ولا أدرك والدُهُ الْبَرَاء»(7)، ومن ذلك أيضاً لفظ التدليس عند المتقدمين يطلق على الإرسال بخلاف تعريف المتأخرين له، ومن ذلك لفظة (حسن)، ولفظة (منكر)، ولفظة (مجهول) وغيرها من المصطلحات.
2 - اتباعُ الأئمةِ المتقدمين في تعليلهم للأخبار، وعدم التسرع في الرد عليهم، وهذا من باب الاتباع المحمود لا التقليد المذموم، قال ابنُ رجب: «قاعدةٌ مهمةٌ: حذّاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عَنْ سائر أهل العلم»(8)، وما قاله ابنُ رجب يتعذر في مثل هذه الأزمنة مما يجعل الأمر كما قال ابنُ حجر: «قد تقصرُ عبارة المعلل منهم فلا يفصحُ بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى كما في نقد الصيرفي سواء؛ فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأوْلى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعيّ مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: «وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث»، وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيثُ يصرح بإثبات العلة، فأمَّا إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما، وكذلك إذا أشار إلى المعلل إشارةً ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإنْ ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم»(9)، وقال أيضاً: «وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد»(10).
وتأمل هذه القصة التي ذكرها ابنُ أبي حاتم قال: «سمعتُ أبي - رحمه الله - يقولُ: جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي مِنْ أهلِ الفهم منهم، وَمَعَه دفترٌ فعرضه عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دَخَل لصاحبه حديثٌ في حديث، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر، وقلتُ في بعضهِ: هذا حديثٌ كذب، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاح، فقال: من أين علمتَ أنّ هذا خطأ، وأنَّ هذا باطل، وأنّ هذا كذب، أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا؛ ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأنّ هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أُحسن؛ فإن اتفقنا علمتَ أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلتَ؟ قلت: نعم: قال: هذا عجب.
فأخذ فكتب في كاغَدٍ(11) ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث؛ فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلتُ: الكذب والباطل واحد، وما قلت إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت إنه منكر قال: هو منكر كما قلتُ، وما قلت إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟ فقلت: فقد علمت أنَّا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله أن ديناراً نَبَهْرَجاً(12) يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت إن هذا نبهرج؛ هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا. فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلتَ إن هذا نبهرج؟ قال: علماً رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك، قلتُ له: فتحمل فصّ ياقوت إلى واحدٍ من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت، فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج، وأن هذا ياقوت هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً، قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رزقت، وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأنّ هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه»(13).
وتأمل أيضاً هذه القصة التي ذكرها أبو يعلى الخليليُّ. قال: أخبرنا علي بنُ عُمَر الفقيه قال: حدّثنا أبو محمد عبد الرحمن بنُ أبي حاتم قال: سمعتُ أبي يقول: دخلتُ قَزوين سنةَ ثلاث عشرة ومائتين مع خالي محمد بن يزيد، وداود العقيلي قاضيها، فدخلنا عليه فدفع إلينا مَشْرَساً(14) فيه مسند أبي بكر؛ فأولُ حديثٍ رأيتُه فيه: حدثنا شعبةُ عَنْ أبي التَيّاح عَنْ المغيرة بن سُبَيْع عَنْ أبي بكر الصديق قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج الدجالُ من أرضٍ يقال لها: خراسان يتبعه أقوامٌ كأنّ وجهوهم المجانُّ المُطرَقَةُ"(15)، فقلتُ: ليس هذا من حديث شعبة عَنْ أبي التَيّاح، وإنما هو من حديثِ سعيد بن أبي عَرُوبة وعبد الله بن شَوْذَب عَنْ أبي التَيّاح، فقلتُ لخالي: لا أكتبُ عنه إلاّ أن يرجع عَنْ هذا، فقال خالي: أستحي أن أقول، فخرجتُ ولم أسمعْ منه شيئاً»(16).
وذكرها ابنُ أبي حاتم في الجرح والتعديل(17) باختصار فقال: «سمعتُ أبي يقول: داود بن إبراهيم هذا متروك الحديث كان يكذب، قدمتُ قزوين مع خالي فحمل إليَّ خالي مسنده فنظرتُ في أول مسند أبي بكر - رضي الله عنه - فإذا حديث كذب عَنْ شعبة، فتركته وجهد بي خالي أن أكتب منه شيئاً، فلم تطاوعني نفسي، ورددتُ الكتب عليه».
هذه القصة التي وقعت لأبي حاتم وعمره ثمانية عشر تبيّن مدى ما وَصَل إليه القوم من سعة حفظ، وسرعة استحضار، ودقة نقد، وقوة في الحق؛ فالحديثُ ورجالهُ وطرقهُ تجري مع أنفاسهم كما يجري الهواء، وعندما يسمعون الخطأ والوهم لا يقاومون الدافع الشرعي المتأصل في نفوسهم في رد وتصحيح هذا الوهم والخطأ مهما كانت منزلة الواهم والمخطئ، فلا محاباة في الذّب والدّفاع عَنْ سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا لقريبٍ ولا لشريفٍ، وهذا في الحقيقة من حفظ الله لهذا الدين.
وقصصُ أئمةِ الحديثِ وأخبارهُم في هذا البابِ كثيرةٌ جداً؛ فعلى طالب العلم أنْ يعرفَ للقومِ منزلتهم، وقدم صدقهم فيتأنّى كثيراً عندما يهمُّ بمخالفتهم أو تعقبهم خاصةً في جوانب الحديث الدقيقة كالعلل.
3 - جمعُ طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها، قالَ الخطيبُ البغداديّ - رحمة الله عليه -: «والسبيلُ إلى معرفةِ علة الحديث أنْ يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط، كما أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأشناني بنيسابور قال: سمعتُ أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي يقول: سمعتُ عثمان بن سعيد الدارمي يقول: سمعتُ نعيم بن حماد يقول: سمعت ابن المبارك يقول: إذا أردتَ أن يصحَّ لكَ الحديث فاضرب بعضه ببعض»(18).
وقال علي بنُ المديني - رحمة الله عليه -: «البابُ إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه»(19)، وقال يحيى بنُ معين - رحمة الله عليه -: «اكتب الحديث خمسين مرة، فإنّ له آفات كثيرة»(20)، وقال ابن رجب: «معرفة مراتب الثقات، وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إمّا في الإسناد، وإمّا في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث»(21). وقال ابنُ حجر: «ويحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجمع الطرق»(22)، وقال ابن الصلاح - رحمة الله عليه -: «ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك»(23).
4- اتباعُ منهجٍ منضبطٍ عند دراسةِ الحديثِ المُعل يوافق طريقة الأئمة المتقدمين، وهذا هو المقصود من هذا البحث، وقد رأيتُ دراسةً لحديثٍ مُعل كَتَبه أحدُ الباحثين وَقَع فيه بأوهام عجيبة وغَلّط الأئمة، وجره الإسنادُ - من حيثُ لا يشعر - إلى أسانيد أخرى لا علاقة لها بالعلة ولا بالطريق فأعلها؛ لأنه لم يتبع المنهج السليم في دراسته؛ فكانت النتيجة المتوقعة. وعدمُ اتباعِ المنهج السليم في دراسة الحديث المُعل على طريقة الأئمة المتقدمين يُنْتج لنا مَنْ يقول لإمامِ العللِ في زمانهِ علي بنِ المديني(24): «ما هكذا تُعَل الأحاديث يا بنَ المديني»!!، - كما قد وَقَع مِنْ بعضِ المعاصرين هداهم اللهُ وفتح عليهم، والله المستعان وعليه التكلان.
* تعريف العلة والحديث المُعل في الاصطلاح:
ترد كلمة عِلة ومُعَلّ، ومعلول في لسان الأئمة المتقدمين على معنيين:
المعنى الأوَّل: معنى عام ويراد به الأسباب التي تقدح في صحة الحديث المانعة من العمل به. قال ابن الصلاح: «اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المُخرِجة له من حال الصحة إلى حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل؛ ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح، وسمّى الترمذيُّ النسخَ علةً من علل الحديث»(25).
وما قاله ابن الصلاح ظاهر؛ ففي كتاب العلل لابن أبي حاتم، وكتاب العلل للدارقطني أمثلةٌ كثيرةٌ تدلُّ على ما قال، وكذلك في تطبيقات الأئمة المتقدمين؛ فالعلة عندهم لها معنى واسع وشامل، بحيث تشمل ما قاله ابن الصلاح، والمعنى الخاص الآتي الذكر - وإن كان المعنى الخاص هو مراد من نبه على قلة من تكلم في هذا الفن، وأنَّه علمٌ عزيزٌ وشريف، طُوي بساطه منذ أزمان -.
المعنى الثاني: معنى خاص، ويشمل:
- الاختلاف في إسناد الحديث كرفعه ووقفه، ووصله وإرساله، وغير ذلك.
- الاختلاف في متن حديث كاختصار المتن، أو الإدراج فيه، أو روايته بالمعنى وغير ذلك.
- العلة الغامضة في إسنادٍ ظاهرهُ الصحة حتى لو كان الإسناد فرداً، وهذه العلةُ الغامضةُ لا يمكن أن يوضع لها ضابط محدد لأنّ لها صوراً كثيرةً ومتعددةً، وفي بعضها دقة وغموض، لا يعلمها إلاّ حذاق هذا الفن؛ فمن ذلك مثلاً: ما قاله يعقوب بن شيبة السدوسيّ: «كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عَنْ اثنين، فيسند الكلام عَنْ أحدهما، فإذا حدّث به عَن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله»(26)، قال ابنُ رجب: «ومن هذا المعنى: أنّ ابن عيينة كان يروي عَنْ ليث، وابن أبي نجيح جميعاً عَنْ مجاهد عَنْ أبي معمر عَنْ علي حديث القيام للجنازة، قال الحميديُّ: فكنا إذا وقفناه عليه لم يُدخل في الإسناد أبا معمر إلاَّ في حديث ليث خاصة، يعني أنّ حديث ابن أبي نجيح كان يرويه مجاهد عَنْ علي منقطعاً»(27).
والاستعمال الثاني هو المراد في كلام كثير من المتأخرين، وهو الذي ذكروه في كتب المصطلح، وهو مراد من تكلم عَنْ أهمية العلل ودقتها وقلة من برز فيها، وقد أشار إليه الحاكم في معرفة علوم الحديث(28)، وعرّفه ابنُ الصلاح بقوله: «هو الحديث الذي اطلع فيه على علةٍ تقدحُ في صحته مع أنّ ظاهره السلامة منها»(29)، وعرّفه ابنُ حجر بقوله: «هو حديث ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح»(30).
وعليه يكون الحديث المُعل متفاوتاً من حيثُ الظهور والخفاء، والوضوح والغموض، وقد يكون الكلام على الحديث المعل من حيثُ الصناعة الحديثية ولا يلزم من ذلك القدح في صحته، والله أعلم.
يتبع ...
مقال بعنوان :
المنهج السليم في دراسة الحديث المعل
تمهيـــد:
إنّ مما يسر الباحث في علمِ الحديثِ الشريف ما يَرى من انتشارِ المنهجيةِ السليمة في دراسةِ الحديثِ وعلومِهِ، والعنايةِ بعلوم سلفنا الزاخرة؛ جمعاً ودراسةً وتحليلاً واستنطاقاً.
ومن ذلك العناية بأدق أدق وأجل علوم الحديث: «علم العلل» قَالَ الحافظُ ابنُ حجر - رحمة الله عليه -: «المُعَلَّل: وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلاّ من رزقه الله فَهْماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، وملكةً قويةً بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلاّ القليل من أهل هذا الشأن؛ كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة.. »(1).
قال أبو عبد الله الحميديُّ - رحمة الله عليه -: «ثلاثُ كتبٍ من علوم الحديث يجبُ الاهتمامُ بها: كتابُ العلل، وأحسنُ ما وضع فيه كتاب الدّارقُطنيّ، والثاني: كتابُ المؤتلف والمختلف، وأحسنُ ما وضع فيه الإكمال للأمير ابنِ ماكولا، وكتابُ وفيات المشايخ، وليس فيه كتابٌ(2)»(3). وقال ابنُ رجب - رحمة الله عليه -: «ولما انتهى الكلام على ما ذكره الحافظ أبو عيسى الترمذي - رحمة الله عليه - في كتاب الجامع... أحببتُ أن أتبع كتاب العلل بفوائد أُخر مهمة.. وأردت بذلك تقريب علم العلل على من ينظر فيه، فإنه علمٌ قد هُجر في هذا الزمان، وقد ذكرنا في كتاب العلم أنَّه علمٌ جليلٌ قلَّ من يعرفه من أهل هذا الشأن، وأنَّ بساطه قد طُوي منذ أزمان»(4).
وبفضل الله انتشر بين طلبة الحديث العناية بهذا الفن الدقيق، وحرص الباحثون في الدراسات العليا على تسجيلِ الموضوعات في هذا الفن، من ذلك مثلاً: «مرويات الزهري المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «مرويات الإمامين قتادة بن دعامة ويحيى بن أبي كثير المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «مرويات أبي إسحاق السبيعي المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «علل ابن أبي حاتم تحقيق وتخريج ودراسة»(5)، و «الأحاديثُ التي أعلها الإمامُ يحيى بنُ معين من خلال سؤالات الدوري وابن محرز والدارمي وابن الجنيد والدّقاق» و«الأحاديثُ التي أعلها البخاريُّ في التاريخ الكبير»، و «الأحاديثُ التي أعلها البخاريُّ في التاريخ الأوسط»، و«الأحاديث التي أعلها علي بن المديني»، و«الأحاديث التي أعلها الإمامُ أحمد بن حنبل في مسنده»، و «الأحاديثُ التي أعلها العُقيليّ في كتابهِ الضعفاء»، و «الأحاديثُ المرفوعةُ المعلة في كتاب الحِلْية لأبي نُعيم»، و «الأحاديثُ التي أعلها أبو داود في سننه» وغيرها.
وما أحسنَ ما قال الدكتور أحمد محمد نور سيف - وفقه الله -: «بدأنا نَقْربُ من وضع منهج متقاربٍ يُصور لنا مناهج النُّقاد في تلك الحقبة من الزمن، هذه الحقبة هي العصور الذهبية لنُقَّاد الحديث، مدرسة علي بن المديني، ويحيى بن معين، و أحمد بن حنبل والمدرسة التي قبلهم، والمدرسة التي بعدهم. هذه المدارس في الواقع قد تكون مدارس، وقد تكون مدرسة، قد تتقارب المناهج وقد تفترق وقد تختلف، ولكن لا يمكن أنْ نتصور أو أن نستطيع أنْ نُلِمَّ بتلك المناهج في إطارٍ عامٍّ محددٍ إلاَّ بمثلِ هذه الدراسة.. »(6).
وقبل الدخول في موضوع البحث أنبه على أمورٍ ينبغي للباحث أن يتنبه لها لكي يصلَ للغاية والفائدة المرجوة من الدراسة، وهي:
1 - أن لا يحاكم الباحثُ الأئمةَ والنقادَ المتقدمين على ضوء معلوماته ومعارفه التي استمدها من بعض الكتب المتأخرة التي قد تخالف بعض مصطلحات الأئمة المتقدمين وعباراتهم، فيعمد إلى تغليط الأئمة في مصطلحاتهم فيفوّت على نفسِهِ علماً كثيراً؛ من ذلك مثلاً لفظة (مرسل) معناها عند المتأخرين: ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنَّ الأئمة المتقدمين يوسعون معناها بحيثُ تشمل الانقطاع؛ من ذلك مثلاً قول ابن أبي حاتم - رحمة الله عليه - في كتاب العلل: «سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيث رَوَاهُ الفِرْيابِيُّ، عَنْ عُمَر بنِ رَاشِد، عَنْ يَحْيَى بنِ إسْحَاقَ بنِ عَبْد اللّه ابن أَبِي طَلْحة، عَنْ الْبَرَاء، عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: الْرِّبَا اثنان وسَبْعُون بَاباً، أدناها مِثْلُ إتيانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ»، قَالَ أَبِي: هو مرسل، لم يدرك يَحْيَى بنُ إِسْحَاق الْبَرَاء، ولا أدرك والدُهُ الْبَرَاء»(7)، ومن ذلك أيضاً لفظ التدليس عند المتقدمين يطلق على الإرسال بخلاف تعريف المتأخرين له، ومن ذلك لفظة (حسن)، ولفظة (منكر)، ولفظة (مجهول) وغيرها من المصطلحات.
2 - اتباعُ الأئمةِ المتقدمين في تعليلهم للأخبار، وعدم التسرع في الرد عليهم، وهذا من باب الاتباع المحمود لا التقليد المذموم، قال ابنُ رجب: «قاعدةٌ مهمةٌ: حذّاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عَنْ سائر أهل العلم»(8)، وما قاله ابنُ رجب يتعذر في مثل هذه الأزمنة مما يجعل الأمر كما قال ابنُ حجر: «قد تقصرُ عبارة المعلل منهم فلا يفصحُ بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى كما في نقد الصيرفي سواء؛ فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأوْلى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعيّ مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: «وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث»، وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيثُ يصرح بإثبات العلة، فأمَّا إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما، وكذلك إذا أشار إلى المعلل إشارةً ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإنْ ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم»(9)، وقال أيضاً: «وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد»(10).
وتأمل هذه القصة التي ذكرها ابنُ أبي حاتم قال: «سمعتُ أبي - رحمه الله - يقولُ: جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي مِنْ أهلِ الفهم منهم، وَمَعَه دفترٌ فعرضه عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دَخَل لصاحبه حديثٌ في حديث، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر، وقلتُ في بعضهِ: هذا حديثٌ كذب، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاح، فقال: من أين علمتَ أنّ هذا خطأ، وأنَّ هذا باطل، وأنّ هذا كذب، أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا؛ ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأنّ هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أُحسن؛ فإن اتفقنا علمتَ أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلتَ؟ قلت: نعم: قال: هذا عجب.
فأخذ فكتب في كاغَدٍ(11) ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث؛ فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلتُ: الكذب والباطل واحد، وما قلت إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت إنه منكر قال: هو منكر كما قلتُ، وما قلت إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟ فقلت: فقد علمت أنَّا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله أن ديناراً نَبَهْرَجاً(12) يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت إن هذا نبهرج؛ هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا. فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلتَ إن هذا نبهرج؟ قال: علماً رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك، قلتُ له: فتحمل فصّ ياقوت إلى واحدٍ من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت، فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج، وأن هذا ياقوت هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً، قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رزقت، وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأنّ هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه»(13).
وتأمل أيضاً هذه القصة التي ذكرها أبو يعلى الخليليُّ. قال: أخبرنا علي بنُ عُمَر الفقيه قال: حدّثنا أبو محمد عبد الرحمن بنُ أبي حاتم قال: سمعتُ أبي يقول: دخلتُ قَزوين سنةَ ثلاث عشرة ومائتين مع خالي محمد بن يزيد، وداود العقيلي قاضيها، فدخلنا عليه فدفع إلينا مَشْرَساً(14) فيه مسند أبي بكر؛ فأولُ حديثٍ رأيتُه فيه: حدثنا شعبةُ عَنْ أبي التَيّاح عَنْ المغيرة بن سُبَيْع عَنْ أبي بكر الصديق قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج الدجالُ من أرضٍ يقال لها: خراسان يتبعه أقوامٌ كأنّ وجهوهم المجانُّ المُطرَقَةُ"(15)، فقلتُ: ليس هذا من حديث شعبة عَنْ أبي التَيّاح، وإنما هو من حديثِ سعيد بن أبي عَرُوبة وعبد الله بن شَوْذَب عَنْ أبي التَيّاح، فقلتُ لخالي: لا أكتبُ عنه إلاّ أن يرجع عَنْ هذا، فقال خالي: أستحي أن أقول، فخرجتُ ولم أسمعْ منه شيئاً»(16).
وذكرها ابنُ أبي حاتم في الجرح والتعديل(17) باختصار فقال: «سمعتُ أبي يقول: داود بن إبراهيم هذا متروك الحديث كان يكذب، قدمتُ قزوين مع خالي فحمل إليَّ خالي مسنده فنظرتُ في أول مسند أبي بكر - رضي الله عنه - فإذا حديث كذب عَنْ شعبة، فتركته وجهد بي خالي أن أكتب منه شيئاً، فلم تطاوعني نفسي، ورددتُ الكتب عليه».
هذه القصة التي وقعت لأبي حاتم وعمره ثمانية عشر تبيّن مدى ما وَصَل إليه القوم من سعة حفظ، وسرعة استحضار، ودقة نقد، وقوة في الحق؛ فالحديثُ ورجالهُ وطرقهُ تجري مع أنفاسهم كما يجري الهواء، وعندما يسمعون الخطأ والوهم لا يقاومون الدافع الشرعي المتأصل في نفوسهم في رد وتصحيح هذا الوهم والخطأ مهما كانت منزلة الواهم والمخطئ، فلا محاباة في الذّب والدّفاع عَنْ سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا لقريبٍ ولا لشريفٍ، وهذا في الحقيقة من حفظ الله لهذا الدين.
وقصصُ أئمةِ الحديثِ وأخبارهُم في هذا البابِ كثيرةٌ جداً؛ فعلى طالب العلم أنْ يعرفَ للقومِ منزلتهم، وقدم صدقهم فيتأنّى كثيراً عندما يهمُّ بمخالفتهم أو تعقبهم خاصةً في جوانب الحديث الدقيقة كالعلل.
3 - جمعُ طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها، قالَ الخطيبُ البغداديّ - رحمة الله عليه -: «والسبيلُ إلى معرفةِ علة الحديث أنْ يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط، كما أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأشناني بنيسابور قال: سمعتُ أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي يقول: سمعتُ عثمان بن سعيد الدارمي يقول: سمعتُ نعيم بن حماد يقول: سمعت ابن المبارك يقول: إذا أردتَ أن يصحَّ لكَ الحديث فاضرب بعضه ببعض»(18).
وقال علي بنُ المديني - رحمة الله عليه -: «البابُ إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه»(19)، وقال يحيى بنُ معين - رحمة الله عليه -: «اكتب الحديث خمسين مرة، فإنّ له آفات كثيرة»(20)، وقال ابن رجب: «معرفة مراتب الثقات، وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إمّا في الإسناد، وإمّا في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث»(21). وقال ابنُ حجر: «ويحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجمع الطرق»(22)، وقال ابن الصلاح - رحمة الله عليه -: «ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك»(23).
4- اتباعُ منهجٍ منضبطٍ عند دراسةِ الحديثِ المُعل يوافق طريقة الأئمة المتقدمين، وهذا هو المقصود من هذا البحث، وقد رأيتُ دراسةً لحديثٍ مُعل كَتَبه أحدُ الباحثين وَقَع فيه بأوهام عجيبة وغَلّط الأئمة، وجره الإسنادُ - من حيثُ لا يشعر - إلى أسانيد أخرى لا علاقة لها بالعلة ولا بالطريق فأعلها؛ لأنه لم يتبع المنهج السليم في دراسته؛ فكانت النتيجة المتوقعة. وعدمُ اتباعِ المنهج السليم في دراسة الحديث المُعل على طريقة الأئمة المتقدمين يُنْتج لنا مَنْ يقول لإمامِ العللِ في زمانهِ علي بنِ المديني(24): «ما هكذا تُعَل الأحاديث يا بنَ المديني»!!، - كما قد وَقَع مِنْ بعضِ المعاصرين هداهم اللهُ وفتح عليهم، والله المستعان وعليه التكلان.
* تعريف العلة والحديث المُعل في الاصطلاح:
ترد كلمة عِلة ومُعَلّ، ومعلول في لسان الأئمة المتقدمين على معنيين:
المعنى الأوَّل: معنى عام ويراد به الأسباب التي تقدح في صحة الحديث المانعة من العمل به. قال ابن الصلاح: «اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المُخرِجة له من حال الصحة إلى حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل؛ ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح، وسمّى الترمذيُّ النسخَ علةً من علل الحديث»(25).
وما قاله ابن الصلاح ظاهر؛ ففي كتاب العلل لابن أبي حاتم، وكتاب العلل للدارقطني أمثلةٌ كثيرةٌ تدلُّ على ما قال، وكذلك في تطبيقات الأئمة المتقدمين؛ فالعلة عندهم لها معنى واسع وشامل، بحيث تشمل ما قاله ابن الصلاح، والمعنى الخاص الآتي الذكر - وإن كان المعنى الخاص هو مراد من نبه على قلة من تكلم في هذا الفن، وأنَّه علمٌ عزيزٌ وشريف، طُوي بساطه منذ أزمان -.
المعنى الثاني: معنى خاص، ويشمل:
- الاختلاف في إسناد الحديث كرفعه ووقفه، ووصله وإرساله، وغير ذلك.
- الاختلاف في متن حديث كاختصار المتن، أو الإدراج فيه، أو روايته بالمعنى وغير ذلك.
- العلة الغامضة في إسنادٍ ظاهرهُ الصحة حتى لو كان الإسناد فرداً، وهذه العلةُ الغامضةُ لا يمكن أن يوضع لها ضابط محدد لأنّ لها صوراً كثيرةً ومتعددةً، وفي بعضها دقة وغموض، لا يعلمها إلاّ حذاق هذا الفن؛ فمن ذلك مثلاً: ما قاله يعقوب بن شيبة السدوسيّ: «كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عَنْ اثنين، فيسند الكلام عَنْ أحدهما، فإذا حدّث به عَن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله»(26)، قال ابنُ رجب: «ومن هذا المعنى: أنّ ابن عيينة كان يروي عَنْ ليث، وابن أبي نجيح جميعاً عَنْ مجاهد عَنْ أبي معمر عَنْ علي حديث القيام للجنازة، قال الحميديُّ: فكنا إذا وقفناه عليه لم يُدخل في الإسناد أبا معمر إلاَّ في حديث ليث خاصة، يعني أنّ حديث ابن أبي نجيح كان يرويه مجاهد عَنْ علي منقطعاً»(27).
والاستعمال الثاني هو المراد في كلام كثير من المتأخرين، وهو الذي ذكروه في كتب المصطلح، وهو مراد من تكلم عَنْ أهمية العلل ودقتها وقلة من برز فيها، وقد أشار إليه الحاكم في معرفة علوم الحديث(28)، وعرّفه ابنُ الصلاح بقوله: «هو الحديث الذي اطلع فيه على علةٍ تقدحُ في صحته مع أنّ ظاهره السلامة منها»(29)، وعرّفه ابنُ حجر بقوله: «هو حديث ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح»(30).
وعليه يكون الحديث المُعل متفاوتاً من حيثُ الظهور والخفاء، والوضوح والغموض، وقد يكون الكلام على الحديث المعل من حيثُ الصناعة الحديثية ولا يلزم من ذلك القدح في صحته، والله أعلم.
يتبع ...