المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مناقشة موقف المعتزلة والأشاعرة من نصوص الصفات



نور السلفية
2009-03-22, 12:44 PM
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
حقيقة المعتزلة والأشاعرة: قبل أن نشرع في مناقشة المعتزلة والأشاعرة في موقفهم من نصوص الصفات نستحسن أن نقول شيئاً عن حقيقتهم وعن أسباب التسمية لكل من الطائفتين. أولاً: الأشاعرة طائفة من أهل الكلام ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري الإمام المتكلم المعروف، وهذا اللقب ينصرف عند الإطلاق إلى أولئك الذين اتبعوه في فترة انتسابه إلى ابن كلاب، ولذا قد نطلق عليهم أحياناً "الأشعرية الكلابية". أما قبل ذلك فهو معتزلي بل إمام في الاعتزال نحواً من أربعين سنة، كما سيأتي. وبعد توبته من عقيدة الاعتزال وملازمته لابن كلاب فترة من الزمن رجع في آخر أيامه إلى مذهب السلف، فالمنتسبون إلى الأشعرية الآن هم أصحاب الطور الثاني. ثانياً: المعتزلة هم طائفة من أهل الكلام خالفت جمهور المسلمين في كثير من المعتقدات فهم أتباع أولئك الذين عرفوا بالجرأة على تأويل النصوص وعدم التقيد بظواهرها، مثل واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد وأمثالهما. وأما اعتزالهم فيدور على القواعد التالية: القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الله تعالى ذاتية أو فعلية بحيث لا يبقى إلا الوجود الذهني فيسمون ذلك توحيداً. القاعدة الثانية: القول في القدر بغير علم، حتى نفوا علم الله للأشياء أزلاً وكتابته للأمور كلها فتقديره لها بمقتضى حكمته. القاعدة الثالثة: القول بالمنـزلة بين المنـزلتين، أي تنـزيل مرتكب الكبيرة في منـزلة وهمية بين الكفر والإيمان! القاعدة الرابعة: الخوض فيما جرى بين الصحابة من الأمور الاجتهادية التي قد أدت إلى الحرب والقتال219، تلك الأمور التي سكت عنها المسلمون قائلين: وما جرى بين الصحاب نسكت عنه وأجر الاجتهاد نُثْبِت220 وأما سبب تلقيبهم بهذا اللقب، فإنه اعتزال واصل بن عطاء، ومعنى ذلك ما تذكره بعض المصادر التي تتحدث عن الفرق، أن واصل بن عطاء كان في مجلس الحسن البصري، حين سئل الحسن عن جماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العلم الصالح عندهم ليس شرطاً في الإيمان... الخ، فأخذ الحسن يفكر، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا أقول: إن صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، بل هو في منـزلة بين المنـزلتين، ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن البصري، فأصغوا إليه فاستمالهم، فقال الحسن: اعتزل عنا (واصل)، فسمي هو وأصحابه (معتزلة)221، لأنهم اعتزلوا المسلمين في كثير من معتقداتهم كما اعتزلوهم في مجالسهم وفارقوهم. وقيل: إن من أول من سماهم بهذا الاسم قتادة بن دعامة السدوسي (الأكمه) حين دخل مسجد البصرة، فإذا هو بعمرو بن عبيد ونفر معه، قد اعتزلوا حلقة الحسن، فلما صار معهم - وهو لا يبصر- عرف أنها ليست حلقة الحسن، فقال: إنما هم المعتزلة. وهناك سبب آخر يذكره أهل العلم، وليس ببعيد من الأول: وهو اعتزالهم الطوائف الأخرى في حكم مرتكبي الكبيرة مثل المرجئة والخوارج وغيرهم. وقريب من هذا ما قاله البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) حيث قال: ثم حدث في أيام الحسن البصري وواصل بن عطاء خلاف في القدر، وفي المنـزلة بين المنـزلتين، وانضم إلى واصل عمرو بن عبيد في بدعته فاعتزلا إلى سارية من سواري مسجد البصرة، فقيل لهما ولأتباعهما: معتزلة، لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام ليس بمؤمن ولا كافر222. وقال بعضهم: المعتزلة نسبة إلى الاعتزال، وهو (الاجتناب) والجماعة المعروفة بهذه العقيدة إنما سموا بهذا الاسم لأن أبا عثمان عمرو بن عبيد لما أحدث ما أحدث من البدع، واعتزل مجلس الحسن البصري وجماعة معه سموا (معتزلة)223، وهناك رأي آخر، وهو أنهم سموا معتزلة لقولهم: إن صاحب الكبيرة اعتزل عن الكافرين والمؤمنين، فالمعتزلة على هذا هم القائلون باعتزال صاحب الكبيرة عن الكفار والمؤمنين معاً، هذا بعض ما قيل في أسباب تسمية المعتزلة بهذا الاسم. أصولهم الخمسة: لما تكونت المعتزلة بالطريقة التي ذكرناها وضعوا لهم أصولاً خمسة، امتازوا بها من بين الناس وعرفوا بها، ودعوا إليها بكل جرأة، وهي: 1- التوحيد. 2- المنـزلة بين المنـزلتين. 3- العدل. 4- الوعد والوعيد. 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه الأصول الخمسة يتفق عليها جميع طوائف المعتزلة على اختلاف بينهم بل لا يعتبر معتزلياً من لم يؤمن بها على تفسيرهم الفلسفي، ولو ادعى أنه منهم. يقول الخياط وهو أحد زعمائهم في القرن الثالث: "وليس يستحق أحد اسم (الاعتزال) حتى يجمع القول بالأصول الخمسة، فإذا اكتملت فيه هذه الخصال فهو معتزلي"224اهـ. ومن تلك الأصول عندهم (التوحيد) حيث فسروه تفسيراً خاصاً وفلسفياً، وبالغوا في تحليله - في زعمهم- وفي فلسفته إلى أقصى حد وصوروا للناس معنى التوحيد بأنه سلوب محض، يقشعر جسم المؤمن الذي يقدر الله حق قدره عند قراءتها أو سماعها وهي سلوب لا تتضمن أي مدح أو كمال كقولهم: ليس بجسم ولا بذي عرض، ولا طول225، إلى آخر تلك السلوب التي أسرفوا فيه إسرافاً. ومن ثم نسب إليهم هذا التوحيد بهذا التفسير، وفي رأينا إنه ليس بتوحيد، بل هو شيء آخر غير التوحيد وإلا فلو بقي التوحيد في تصوره الصحيح وتفسيره الإسلامي السليم، الذي يتضمن النفي والإثبات والكمال المطلق لله، لما خصوا به لأنه بهذا المعنى معتقد كل مسلم، ولأنه معنى (لا إله إلا الله) بهذا المفهوم وهي كلمة التوحيد، هذا وإن الذي حمل القوم على هذا المعنى الفلسفي للتوحيد أنهم زعموا أن في القرآن آيات تتناقض في ظاهرها، إذ هناك آيات تدل على التنـزيه مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وآيات ظاهرها يدل على التجسيم مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} كما زعموا أن هناك آيات تدل على أنه ليس في جهة معينة، مثل قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}، وآيات ظاهرها يدل على الجهة مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}، هكذا زعموا، ما أفسده من زعم، وما أفظعه من جهل مركب جريء. التنـزيه عند المعتزلة: والتنـزيه في نظرهم نفي صفات الكمال، وصفات الله كلها صفات كمال وتعطيل البارئ عما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله المصطفى مثل السمع والبصر والعلم والعلو والمجيء لفصل القضاء يوم القيامة، فهو عكس التنـزيه الصحيح لأنه إثبات تلك الصفات التي سبق ذكرها وغيرها من الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة، وفي رأيهم أن كل من يثبت صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله المصطفى فهو مجسم ومشبه ممثل، والموحد عندهم هو ذلك الجريء الذي ينفي جميع الصفات بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء. إنها حقائق معكوسة، وهذا يعني أن القوم لا يقيمون أدنى وزن للنصوص كما يدل بالمقابل على مدى غلوهم في تنـزيه العقول وتقديسها والركوع أمامها إذا اعتبروها أنها هي الحكم والمرجع لمعرفة ما يليق بالله، وما لا يليق به، ولمعرفة ما يجوز في حقه تعالى وما يمتنع، وقد صرحوا بهذا المعنى في غير موضع فيما نقل عنهم. وإن الدارس لكتبهم يدرك أن القوم آمنوا بالعقول إيمان غيرهم بالنصوص، وإلا فكيف يسوغ لمن يؤمن بأن القرآن منـزل من عند الله حقيقة، وأن السنة أوحاها الله إلى نبيه المختار الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}226، كيف يسوغ لمن يؤمن هذا الإيمان أن يزعم أن في نصوص الكتاب والسنة ما يدل بظاهره على التجسيم؟ مدعين أنهم هم الذين استطاعوا وحدهم تصحيح ذلك التعبير الخاطئ بتأويلهم تلك النصوص تأويلاً يشبه التصحيح والتوجيه والاستدراك على الله يا سبحان الله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ}227. ومن عدم التوفيق أن القوم أخطأوا في معنى (التنـزيه) وهذا الخطأ هو الذي أوقعهم في الأخطاء الناتجة منه، من اتهام النصوص، بدلالتها على التجسيم أو على أنه تعالى محصور في جهة معينة، وغيرها من تلك العبارات الجريئة. التنـزية عند السلف وبيان خطأ المعتزلة: حقيقة التنـزيه أن ينفي عن الله ما لا يليق بالله شرعاً، وعقلاً، كالولد والوالد والشريك، والند والتشبيه والتجسيم وغير ذلك مما نزه عنه نفسه في كتابه أو على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. والله منـزه عن كل ذلك، لكماله في ذاته وصفاته في وحدانيته وقيوميته، ولغناه المطلق عن كل ما سواه في الوقت الذي يحتاج إليه كل ما عداه، وهذا التنـزيه في ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}228، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}229، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}230، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}231، وهل يوجد تنـزيه أبلغ من هذا؟ وهو مشتمل على إثبات صفات الكمال، مع نفي ما لا يليق به سبحانه من معاني النقص والحاجة التي تتنافى والكمال المطلق لله سبحانه، هذا هو التنـزيه الحقيقي عند أتباع القرآن والسنة. وقد عرفنا قبلُ معنى التنـزيه عند المعتزلة. وخلاصته الإيمان بذاته تعالى مجردة عن جميع الصفات، بل موصوفة بأنواع من السلوب التي تجعل وجود الله وجوداً ذهنياً لا حقيقه له في الخارج، أو وجوداً مجرداً أشبه بالوجود الذي وصفه به أرسطو (التأمل المحض) أي الخيال المحض. يتضح من كل ما تقدم أن القوم أعطوا لأنفسهم حرية مطلقة لا تقف عند حد ليتصرفوا في النصوص كما يريدون، وليقولوا ما يشاءون من رد للأحاديث بدعوى أنها من الآحاد، أو تضعيف لها على خلاف القواعد المتبعة عند أهل هذا العلم أو طرحها جانباً بدعوى مخالفتها للبراهين العقلية القاطعة، هكذا أصبح رد الأحاديث من أسهل الأمور عندهم. وأما الآيات القرآنية فليس وزنها أثقل من وزن الأحاديث بكثير، لأنها خاضعة لقوانينهم الكلامية وفلسفتهم اليونانية، التي سيطرت على عقولهم، وزينت لهم سوء تصرفاتهم وعملهم في نصوص الكتاب والسنة بالتحريف فيها، وإخضاعها لعقولهم التي أصبحت الدليل المعول عليه في دينهم. والقاعدة عند أهل السنة والجماعة أنه (لا يثب قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، وفي هذا المعنى روى الإمام البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمهما الله أنه قال: "من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"232اهـ. وهو كلام جامع ونافع كما ترى، بإذن الله. وهذا هو الموقف السليم شرعاً وعقلاً لأن التسليم للمتكلم في معرفة مراده أمر ضروري عقلاً إذ دلالة اللفظ على المعنى إنما هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وما عناه في نفسه لا تعرف إلا بدلالة اللفظ بالوضع ابتداء، إلا إذا أخبر أنه أراد خلاف ذلك المعنى الذي دل عليه اللفظ، أو دل عليه بقرينة واضحة. ومن زعم أنه قد يفهم من كلام المتكلم خلاف ما دل عليه اللفظ دون إخبار منه أو دلالةٍ عليه بقرينة تبين أنه أراد خلاف ظاهر اللفظ، فخرج باللفظ عن ظاهره بتأويل وتكلف -كما تفعل المعتزلة- فقد أبعد النجعة، وأخطأ الطريق، وقال على الله بغير علم، وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب إذ يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}233، ويقول عز من قائل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}234، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ}235. وفي ضوء هؤلاء الآيات يحدد المسلم موقفه من كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وكلام غيرهما بحيث يلتزم اتباع ما أوحاه الله إلى رسوله قرآنا وسنة. وما سواهما من كلام سائر الناس ومعقولاتهم236 يجب عرضه على ذلك الكلام الموحى من عند الله العليم الحكيم فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}237؟! ومما يوضح ذلك أن هؤلاء المعتزلة الذين يرون وجوب تأويل نصوص الصفات تأويلاً يشبه الإنكار والرد على الله سبحانه يرون في الوقت ذاته الإيمان بنصوص المعاد دون أي تأويل، بل ينكرون على من يؤولها أشد الإنكار من الباطنية الذين يزعمون أن لكل نص باطناً، يختصون بفهمه وحدهم، ولا سبيل لغيرهم إلى فهمه. محاججة الباطنية للمعتزلة: ولو قالت الباطنية: - وهي تحاجج المعتزلة - إن تأويلنا لنصوص المعاد نظير تأويلكم لنصوص الصفات، بل إن نصوص الصفات أكثر وأصرح، فإذا جاز تطرق التأويل إليها فهو إلي غيرها أقرب تطرقاً، ولو حاججتهم الباطنية في هذا التناقض لوجدت المعتزلة مغلوبة مفحمة، وهو شأن كل مبطل أنكر على خصمه شيئاً، وحاول كسر باب غيره بحجر ناسياً أن باببه من (زجاج) قابل للكسر، ولنوضح المقام أكثر فأكثر نضرب مثلاً آخر فنقول: محاججة المعتزلة للأشاعرة: وللمعتزلة أن يحاججوا الأشاعرة بالأسلوب نفسه في تفريقهم بين الصفات بإمرار صفات الذات التي يثبتونها على ظاهرها على ما يليق بالله، وهي الصفات السبع التي يطلقون عليها صفات المعاني، مع دعوى وجوب تأويل صفات الأفعال كالاستواء والنـزول والمجيء مثلاً، للمعتزلة أن يلزموا الأشاعرة بأحد موقفين للخروج من هذا التناقض. 1- تأويل جميع الصفات دون تفريق بين الصفات الفعلية والصفات الذاتية طرداً للباب، وهي الطريقة العملية مع بطلانها. 2- أن يغلقوا باب التأويل ويمروا نصوص الصفات على ظاهرها على ما يليق بالله فيلحقوا بالمثبتة من سلف هذه الأمة الذين عافاهم الله مما ابتلي به غيرهم من التناقض لتسليمهم لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام هذا المنهج السليم الموافق للعقل السليم والنقل الصحيح، ولسلامة هذا المنهج وبعده من التناقض ومن التكلف رجع إليه كثير من علماء الكلام في آخر حياتهم كما سيأتي. ولأبي الوليد الأندلسي موقف فريد من المؤولة الذين يسرفون في التأويل كالمعتزلة ويدعون الناس إلى الأخذ بتأويلهم ويضرب لذلك مثلاً رائعاً حيث يقول: "ومثال من أول شيئاً من الشرع وزعم أن ما أوله هو ما قصد الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور، مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب العظيم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية، الذي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أريد به دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه بذلك الاسم باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعل في بدل الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه المتأول، ففسدت به أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب، فرأوا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير النوع الأول، فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين، فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة، فعرض منه للناس نوع رابع من المرض، غير الأمراض المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها، عرض منه للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس، ثم قال أبو الوليد: وهذه هي حال الفرقة الحادثة في هذه الطريقة مع الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلاً غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده الشرع، حتى تمزق كل ممزق، وبعد جداً عن موضعه الأول. ولما علم صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام أن مثل هذا يعرض - ولا بد - في شريعته قال: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"238اهـ. نقول تعليقاً على هذا المثل المضروب للمتأولة: "اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً". وأبو الوليد له تجربة طويلة مع علماء الكلام وله معهم صولة وجولة، فهو خير من يشهد لهم أو عليهم. واستشهادنا بكلامه لا يعني أنه محل رضانا مطلقاً، بل يؤخذ من كلامه ويرد كغيره من الرجال، بل هو فيلسوف أرسطي ومع ذلك له كلام يؤخذ بل يقدر كما رأيت. وقريب مما أنكره ابن رشد على أهل الكلام من الإسراف في التأويل، قول سهل بن عبد الله التستري حيث يقول: لا يخرجنكم تنـزيه الله إلى التلاشي ولا يخرجنكم تثبيته إلى الجسد، أي التجسيد (الله يتجلى كيف يشاء)239. الخلاصة: ولو فحصنا الموقف جيداً لظهر لكل ذي لب فهيم مزود بالإنصاف و(الإنصاف من الإيمان)240 أن كل من رد النقل الصحيح بدعوى أنه دليل لفظي لا يفيد اليقين، فقد رد العقل الصريح - وهو لا يشعر- ولم يبق لديه دليل يستدل به أو يحاجج به، إذ مما اتفق عليه العقلاء أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، علماً بأن النقل هو الأصل لأنه من المتفق عليه أن العقل لا سبيل له لإثبات المطالب الإلهية، على سبيل الاستقلال، بل الطريق لإثبات الصفات ينحصر في التالي: 1- صفات يكون إثباتها بالنقل والعقل معاً، وهي كثيرة مثل صفة الحياة والقدرة، والعلم والعلو مثلاً، وهي المعروفة عند الأشاعرة بصفات المعاني. 2- صفات يكون إثباتها بالنقل فقط، ولولا النقل لعجز العقل عن إثباتها مثل صفة النـزول والمجيء والاستواء على العرش مثلاً، ولا توجد صفة يتم إثباتها عن طريق العقل فقط دون النقل، فالقسمة إذاً ثنائية فقط، كما ترى. وعلى هذا فإن ما تزعمه المؤولة من المعتزة وأشباههم، من أن الدليل العقلي وهو العمدة في باب الصفات، بحيث لو تعارض العقل والنقل قدم العقل، لأنه الأصل، فزعم باطل، لما عرفنا مما تقدم من عدم التعارض بين الدليلين. وهذه خلاصة ما كان عليه سلف هذه الأمة، كما أوضحنا في بيان منهج السلف في إثبات الصفات وهو واضح جداً كما تقدم. أما المعتزلة فنختم مناقشتهم بالآية الكريمة من سورة النجم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}241، لإعراضهم كلياً عن النصوص واستخفافهم بها من الغلو في تقديس آراء الفلاسفة والركوع أمامها... كما يظهر جلياً أنهم قطعوا علاقتهم بسلف الأمة إذ تراهم دائماً ينهجون منهجاً مخالفاً لمنهج السلف الصالح الذي هو التقيد بالكتاب والسنة مع اعتقاد أن العقل في حال سلامته يتبع النقل ولا يخالفه.



--------------------------------------------------------------------------------

219 شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار تحقيق د. عبد الكريم عثمان مكتبة وهبة، والشهرستاني في الملل والنحل.
220 أحمد بن رسلان الشافعي في خاتمة (الزبد).
221 ابن خلكان في وفيات الأعيان 3/248.
222 البغدادي الفرق بين الفرق ص: 20-21.
223 وفيات الأعيان لابن خلكان 3/248.
224 شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص: 40، تحقيق عبد الكريم عثمان.
225 مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ص: 216، تحقيق محي الدين عبد الحميد.
226 سورة النجم آية: 3، 4.
227 سورة البقرة آية: 140.
228 سورة الشورى آية: 11.
229 سورة مريم آية: 65.
230 سورة طه آية: 110.
231 سورة الإخلاص آية: 1-4.
232 شرح الطحاوية ص: 219، وأخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
233 سورة الأعراف آية: 33.
234 سورة الإسراء آية: 36.
235 سورة الحج آية: 8.
236 ليس غرضنا مهاجمة العقل أو الأدلة العقلية، وإنما غرضنا بينان أن المعتزلة لا تقيم وزناً للأدلة النقلية، وهو تصرف خاطئ.
237 سورة يونس آية: 32.
238 الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة بتحقيق مصطفى عبد الجواد عمران الطبعة الثالثة في 1388هـ.
وقد ذكر الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري المتوفى سنة 360هـ في كتابه (الشريعة) لهذا الحديث عدة روايات نختار منها رواية واحدة وهي التي يقول فيها بسنده عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال حين صلى الظهر بالناس - بمكة شرفها الله تعالى- فقال: ألا إن رسول الله عليه الصلاة والسلام قام فينا فقال: "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة"، ثم قال رحمه الله: رحم الله عبداً حذر هذه الفرق، وجانب البدع، واتبع ولم يبتدع، ولزم الأثر، وطلب الطريق المستقيم، واستعان بمولاه الكريم. (الشريعة 18).
239 راجع المعارضة والرد لسهل بن عبد الله التستري المتوفي 283هـ، تحقيق وتعليق الدكتور كمال جعفر ص: 75.
240 استناد لقول عمار بن ياسر رضي الله عنه إذ يقول: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان:
1- الإنصاف من نفسك.
2- بذل السلام للعالم.
3- الإنفاق من الإقتار.
صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب إفشاء السلام من الإسلام، بشرح فتح الباري 1/103 الطبعة السلفية بتحقيق عبد الباقي.
241 سورة النجم آية: 23، والآية وإن كانت في الأصل في غير المسلمين ولكنها تجر ذيلها على كل من يتعمد مخالفة ما جاءه من الهدى واتبع هواه، تتناول كل مخالف بحسب مخالفته، لأن العبرة في النصوص بعموم اللفظ وإن اختلفت الجهات لا بخصوص السبب... وهي قاعدة مدونة لدى الأصوليين وفي علوم القرآن والحديث.