المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكم التصرف في المبيع قبل قبضه ؟



محمد السالم
2007-05-05, 10:34 AM
وهذه المسألة مما حصل فيها اختلاف كبير بين الفقهاء رحمهم الله تعالى ، وأذكر أولا ما اتفق عليه الفقهاء رحمهم الله ثم أذكر مواطن الاختلاف :

المطلب الأول : بيع الطعام قبل قبضه

مذهب جماهير العلماء ، وحكاه بعضهم إجماعا هو المنع من بيع الطعام قبل قبضه .
قال أبو بكر بن المنذر رحمه الله : أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس له أن يبيعه حتى يقبضه .
وقال أبو الحسن بن القطان رحمه الله : وأجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس له أن يبيعه حتى يقبضه ، ولا أعلم خلافا بين علماء الحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب في كراهية بيع الفاكهة رطبها ويابسها قبل استيفائه ، لنهيه عليه السلام عن بيع الطعام قبل أن يستوفى .
والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه أن من اشترى برا أو دخنا أو شيئا من القطنية أو ما يشبهها مما يزكى أو شيء من الأدم سمن أو جبن أو خل أو شيرق وشبهه من الإدام فلا يبعه حتى يستوفيه لا خلاف في هذا في الطعام كله ، والإدام كله مقتات وغيره مدخر أو سواه ، واختلف في غير الطعام .
وأجمع المسلمون أن من ابتاع طعاما كيلا فباعه قبل أن يكيل له أن البيع فاسد .

وقال ابن رشد : وأما بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء مجمعون على منعه ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي .
قال النووي رحمه الله : أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ، ولم يحكه الأكثرون ، بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه ، قالوا وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم .
ونقل ابن حزم عن عطاء جواز بيع كل شيء قبل أن يقبض
ولا أظن أنه يصح عن عطاء رحمه الله لأنه راوي حديث حكيم بن حزام كما سيأتي في التخريج ، وأيضا فقد روى ابن أبي شيبة عنه المنع من ذلك ، فقد أخرج من طريق عبد الله بن نمير عن عبد الملك عن عطاء في الرجل يشتري البيع ثم يبيعه قبل أن يقبضه .؟ قال لا حتى يقبضه ، وهذا يعم الطعام وغير الطعام

والأدلة على منع التصرف في الطعام المبيع حتى يقبض كثيرة فمنها :
1 ) ما أخرجه مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه .
2 ) ما أخرجه مسلم من طريق سليمان بن يسار عن أبي هريرة : أنه قال لمروان أحللت بيع الربا ؟! فقال مروان :ما فعلت ، فقال أبو هريرة : أحللت بيع الصكاك ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام حتى يستوفى .
قال فخطب مروان الناس فنهى عن بيعها، قال سليمان فنظرت الى حرس يأخذونها من أيدي الناس .
وفي رواية عند مسلم أيضا : (من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله )
3 ) وأخرج مسلم في الصحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أباه قال : قد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ابتاعوا الطعام جزافا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم وذلك حتى يؤوه إلى رحالهم .
4 ) وفي سنن أبي داود والنسائي عن ابن عمر قال : كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبيعوه حتى ينقلوه .
5 ) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه )
6 ) وفي الصحيحين من حديث ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ) ، هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري (أما الذى نهى عنه النبى - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يقبض . )



المطلب الثاني : التصرف فيما عدا الطعام .

المسألة الأولى : أقوال الفقهاء والمذاهب في بيع ما عدا الطعام قبل قبضه

اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في بيع ما عدا الطعام على أقوال عدة :

أولا : مذهب الحنفية :
قال في كنز الدقائق : صح بيع العقار قبل قبضه لا بيع المنقول .
وقال في الهداية : ومن اشترى شيئا مما ينقل ويحول لم يجز له بيعه حتى يقبضه ، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض ، ولأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك ، ويجوز بيع العقار قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله ، وقال محمد لا يجوز رجوعا إلى إطلاق الحديث واعتبارا بالمنقول .

ثانيا مذهب المالكية :
قال القاضي عبد الوهاب في المعونة : المبيعات على ضربين طعام وغير طعام ، فالطعام يباع على وجهين : أحدهما : على وجه يلزم فيه حق التوفيه وذلك بأن يكون على كيل أو وزن أو عدد ، والآخر جزافا مصبرا ، فالقسم الأول لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان معينا أو في الذمة ...
وأما ما ابتيع من الطعام جزافا أو مصبرا فيجوز بيعه قبل نقله إذا خلى البائع بينه وبينه .

وما عدى الطعام والشراب من سائر العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحول وما لا ينقل ولا يحول وما يكال أو يوزن ، وما لا يكال ولا يوزن كان عينا معينة أو سلما مضمونا في الذمة فبيعه قبل قبضه جائز في الجملة بخلاف الطعام ما لم يعرض في العقد ما يمنع منه .

ثالثا : مذهب الشافعية :

قال في المهذب : ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجازة والصداق وماأشبهها من المعاوضات قبل القبض ، لما روي أن حكيم بن حزام قال يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم قال : (لاتبع ما لم تقبضه ) ولأن ملكه عليه غير مستقر لأنه ربما هلك فانفسخ العقد ، وذلك غرر من غير حاجة .
فلم يجز وهل يجوز عتقه ؟ فيه وجهان : أحدهما أنه لايجوز لما ذكرناه والثاني يجوز لأن العتق له سراية فصح لقوته .
فأما ماملكه بغير معاوضة كالميراث والوصية أو عاد إليه بفسخ عقد فإنه يجوز بيعه وعتقه قبل القبض ، لأن ملكه مستقر فجاز التصرف فيه كالمبيع بعد القبض .
وقال النووي في المنهاج : ولا يصح بيع المبيع قبل قبضه ، والأصح أن بيعه للبائع كغيره ، وأن الإجارة والرهن والهبة كالبيع ، وأن الإعتاق بخلافه ، والثمن المعين كالمبيع فلا يبيعه البائع قبل قبضه

رابعا : مذهب الحنابلة :
قال في الروض المربع شرح زاد المستقنع : ومن اشترى مكيلا ونحوه وهو الموزون والمعدود والمذروع صح البيع ، ولزم بالعقد ولم يصح تصرفه فيه ببيع أو هبة أو إجارة أو رهن أو حوالة حتى يقبضه ... وما عداه ، أي ما عدى ما اشتري بكيل أو وزن أو عد أو ذرع كالعبد والدار يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه .
وفي المغني ذكر ابن قدامة رحمه الله ما يحتاج فيه إلى القبض من نحو المكيل والموزون ثم قال : وأما غير ذلك ، فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين ، ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب ، والحكم ، وحماد ، والأوزاعي ، وإسحاق .
وعن أحمد رواية أخرى ، لا يجوز بيع شيء قبل قبضه ، اختارها ابن عقيل .
وروي ذلك عن ابن عباس .
وممن اختار هذه الرواية الأخرى شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ، وجعلها طريقة الخرقي وغيره ، وقال عليه تدل أصول أحمد كتصرف المشتري في الثمرة والمستأجر في العين ،وكذلك اختار هذه الرواية عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والشيخ ابن باز وابن عثيمين .


المسألة الثانية أدلة المانعين من بيع ما عدا الطعام قبل قبضه

الدليل الأول : حديث ( لا تبع ما ليس عندك )

وقد ورد هذا اللفظ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، ومن حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه
ولفظ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم تضمن ولا بيع ما ليس عندك )

أما لفظ حديث حكيم : قال حكيم : يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم ؟ قال : لا تبع ما لم تقبضه ) .

وأجيب عنه بعدة أجوبة :
الجواب الأول : أن حديث حكيم بن حزام روي بألفاظ مختلفة بعضها فيه النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ، وبعضها فيه النهي عن مطلق البيع قبل قبضة ، والأرجح أن المنهي عنه هو الطعام لا مطلق البيع . قال ابن عبد البر : وأما حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله لعيه سولم أنه قال ( إذا ابتعت بيعة فلا تبعه حتى تقبضه ) فإنما أراد الطعام بدليل رواية الحفاظ لحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تقبضه )

الجواب الثاني : أن حديث حكيم بن حزام قد ضعفه بعض أهل العلم كابن القطان في بيان الوهم والإيهام

الجواب الثالث : أن حديث حكيم بن حزام موقوف من قول عمر لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، يظهر ذلك من التخريج .

الجواب الرابع : أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تبع ما ليس عندك ) أو ( لا تبع ما لم تقبضه ) قد جاء في رواية أن حكيم بن حزام قال يا رسول الله : يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي ، أفأبيعه ؟ وفي رواية : يطلب مني المتاع وليس عندي أفأبيعه ؟ فأبتاعه له من السوق .. ) ففيه أن السؤال وقع على وصف معين ، وهو أنه يتعاقد مع مشتر على سلعة ، ثم يذهب إلى السوق ليحضر له السلعة فيبيعها على المشتري .
قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: يحتمل أن يقول: أبيعك عبدًا لى أو دارًا مغيبة عنى فى وقت البيع، فلعل الدار أن تتلف أو لا يرضاها، وهذا يشبه بيع الغرر.
ويحتمل أن يقول: أبيعك هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز أن لا يقدر على تلك السلعة، أو لا يسلمها إليه مالكها، وهذا أصح القولين عندى، لأنى لا أعلمهم يختلفون أنه يجوز أن أبيع جارية رآها المشترى ثم غابت عنى وتوارت بجدار وعقدنا البيع ثم عادت إلى، فإذا أجاز الجميع هذا البيع لم يكن فرق بين أن تغيب عنى بجدار أو تكون بينى وبينها مسافة وقت عقد البيع.
فالحديث في بيع شيء معين في السوق قبل أن يشتريه حكيم رضي الله عنه ، ومفهومه المخالف يدل على أنه لو اشترى بالعقد الذي هو إيجاب وقبول ، فله الحق أن يبيع قبل القبض

الجواب الخامس : أن قوله عليه السلام ( بيع ما ليس عندك ) عام خص في غير الطعام ، وذلك جمعا بينه وبين أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن البيع قبل القبض ، فإن أكثرها في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه .
قال ابن عبد البر : وجعله مالك ومن تابعه مجملا يفسره قوله صلى الله عليه و سلم ( من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ) ، وقال : وأما حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا ابتعت بيعة فلا تبعه حتى تقبضه ) فإنما أراد الطعام بدليل رواية الحفاظ لحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تقبضه )

الدليل الثاني : حديث زيد بن ثابت
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ابتعت زيتا في السوق ، فلما استوجبته لنفسي ( وفي رواية أحمد فساومته فيمن ساومه من التجار حتى ابتعته منه ، وفي رواية البيهقي فلما استوفيت لقيني ) لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا ، فأردت أن أضرب على يده ، فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت ، فقال : لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم )
ولفظ رواية أحمد : (فقال لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك فأمسكت يدي )

وأجيب عنه:

أولا : أن هذا الحديث في النهي عن بيع الطعام خاصة قبل قبضه ، وأن المراد بالسلع في قول زيد بن ثابت رضي الله عنه الطعام خاصة دون غيرها
قال ابن عبد البر : عم في هذا الحديث السلع ، فظاهره حجة لمن جعل الطعام وغيره سواء على ما ذكرنا عنهم في الباب قبل هذا ، ولكنه يحتمل أن يكون أراد السلع المأكولة والمؤتدم بها لأن على الزيت خرج الخبر .

ثانيا : أن قول ابن عمر ( فلما استوفيته ) ، وفي رواية ( فلما استوجبته ) دليل على أن ابن عمر قد قبض السلعة وحازها غير أنه لم ينقلها ، والفقهاء باتفاق على أنه إن قبضها بالكيل أو الوزن فإنه يباح له أن يبيعها ولو في مكانه من غير نقل ، ما دام أن القبض قد حصل ، وعلى هذا فنهي زيد بن ثابت رضي الله عنه ابن عمر من بيعها وقد قبض سلعته في نفس المكان لا يمكن حمله إلا على أن ابن عمر قد اشترى الزيت جزافا بظرفه ، فنهاه زيد بن ثابت عن أن يبيع ما اشتراه جزافا حتى ينقله ، إذ هناك فرق بين ما اشتري جزافا وبين ما اشتري بكيل أو وزن ، فالجزاف لا بد من نقله إلى مكان آخر بخلاف ما بيع كيلا ونحوه .
والأحاديث الواردة في النهي عن بيع السلعة التي تباع جزافا حتى تنقل كثيرة
فمنها ما في الصحيحين عن بن عمر - رضى الله عنهما - قال لقد رأيت الناس فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافا - يعنى الطعام - يضربون أن يبيعوه فى مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم ، وفي الموطأ ليس فيه ذكر الجزاف .

قال ابن عبد البر : وجاء في هذا الحديث فلما اشتريته لقيني رجل فأعطاني به ربحا الحديث ، وهذا يحتمل أن يكون اشتراه جزافا بظرفه فحازه إلى نفسه ، كما كان في ذلك الظرف قبل أن يكيله أو ينقله ، والدليل على ذلك إجماع العلماء على أنه لو استوفاه بالكيل أو الوزن إلى آخره لجاز له بيعه في موضعه ، وفي إجماعهم على ذلك ما يوضح لك أن قوله فلما استوفيته على ما ذكرنا ( يعني أنه اشتراه جزافا )
وقال : ولما أجمعوا على أنه لو قبضه وقد ابتاعه جزافا ، وحازه إلى رحله وبان به وهما جميعا في مكان واحد ، إنه جائز له حينئذ بيعه ، علم أن العلة في انتقاله من مكان إلى مكان سواه قبضه على ما يعرف الناس من ذلك وأن الغرض منه القبض ، وقلما يمكن قبضه إلا بانتقاله والأمر في ذلك بين لمن فهم ولم يعاند .


الدليل الثالث : أنه بيع ما لم يضمن .

قد ورد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في النهي عن ربح ما لم يضمن ولفظه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان فى بيع ، ولا ربح ما لم تضمن ، ولا بيع ما ليس عندك )

وأجيب عنه بما يلي :

أولا : أنه خاص في الطعام ، وقد نقل الباجي أن ابن القاسم سئل ( عن ربح ما لم يضمن ) فقال ذكر مالك أنه بيع الطعام قبل أن يستوفى ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى فربحه حرام ، قال وأما غير الطعام العروض والحيوان والثياب فإن ربحه حلال لا بأس به ؛ لأن بيعه قبل استيفائه حلال .

وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن قوله : نهى عن ربح ما لم يضمن .
قال : هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول أو مشروب ، فلا يبيعه حتى يقبضه .
وقال المازري : يحمل ذلك على الطعام ، ويخص عموم هذا إذا حملناه على الطعام بإحدى طريقتين : إما دليل الخطاب من قوله ( نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى ) فدل على أن ما عداه بخلافه ، أو يخص بما ذكره ابن عمر من ( أنهم كانوا يبيعون الإبل بالدراهم ، ويأخذون عنها ذهبا أو بالذهب ويأخذون عنها دراهم ) وأضاف إجازة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إجازة ربح ما لم يضمن

ثانيا : أن غير المكيل ونحوه إذا تلف قبل القبض بآفة ، فإنه من ضمان المشتري وكذا ربحه له ، وهذا هو المذهب عند المالكية والمشهور عند الحنابلة .

ثالثا : أن يحمل النهي عن ( ربح ما لم يضمن ) على بيع الخيار ، وأن يبيع المشتري قبل أن يختار .

الدليل الرابع : قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ( وأحسب كل شيء مثل الطعام )
أخرجه البخاري ومسلم وغيره عن طاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله _وفي رواية حتى يقبضه ، وفي أخرى حتى يستوفيه _ فقلت لابن عباس : لم ؟ فقال : ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ .

وأجيب عن هذا:
أولا : أن هذا اجتهاد من ابن عباس رضي الله عنهما وقد خالفه غيره .

ثانيا : قول ابن عباس رضي الله عنهما له أحد معنيين :

المعنى الأول : ما ذكره الحافظ ابن حجر وغيره من الشراح ، قال رحمه الله : معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهى ، فأجابه بن عباس بأنه إذا باعه المشترى قبل القبض ، وتأخر المبيع في يد البائع ، فكأنه باعه دراهم بدارهم ، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن بن طاوس عند مسلم قال طاوس : قلت لابن عباس : لم ؟ قال : ألا تراهم يتبايعون بالذهب ، والطعام مرجا . أي فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ، ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ، ثم باع الطعام لأخر بمائة وعشرين دينارا ، وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا .

أقول : وهذا المعنى غير جائز ، لأن بيع المشتري سلعته التي لم يقبضها لمشتر آخر ليس فيه تبايعا للدينار ، والمشتري الثالث الذي سوف يشتري بمائة وعشرين لا يشتري دراهم وإنما يشتري عرضا من العروض .
والمشتري الأول ، بل كل مشتر ، سواء قبض السلعة أو لم يقبضها _ إذا كان تاجرا _ فإنما يريد بشرائه ثم بيعه أخذ المائة والعشرين بدل المائة ويرجو ذلك ، وليس في ذلك ما يمنع منه شرعا .
وعلى هذا التعليل فإن القبض ليس له أثر في المعاملة ، لأن المعنى _ والذي هو تبايع الدنانير _ موجود حتى ولو في ما لو قبض السلعة ، إذ المشتري الأول سوف يشتري بمائة ويقبض السلعة ثم يبيعها بمائة وعشرين .

المعنى الثاني :

المعنى الثاني الذي يفهم من كلام ابن عباس رضي الله عنهما هو معنى العينة عند فقهاء الحنفية والمالكية ، وهو التورق عند الحنابلة ، قال ابن عابدين في تفسير العينة ( تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ، ويستقرضه عشرة دراهم ، ولا يرغب المقرض ي الإقراض طمعا في فضل لا يناله بالقرض ، فيقول : لا أقرضك ، ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهما ، وقيمته في السوق عشرة ، ليبيعه في السوق بعشرة ، فيرضى به المستقرض ، فيبيعه كذلك ، فيحصل لرب الثوب درهمان ، وللمشتري قرض عشرة .
ونحو هذا تفسير الإمام مالك رحمه الله تعالى للعينة ، فقد خرج الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه في باب العينة وما يشبهها ، وقال سحنون لابن القاسم : صف لي أصحاب العينة في قول مالك ؟ قال : أصحاب العينة عند الناس قد عرفوهم ، يأتي الرجل إلى أحدهم فيقول له : أسلفني مالا فيقول : ما أفعل ، ولكن أشتري لك سلعة من السوق فأبيعها منك بكذا وكذا ثم أبتاعها منك بكذا وكذا أو يشتري من الرجل سلعة ثم يبيعها إياه بأكثر مما ابتاعها منه .
وقال القاضي عبد الوهاب : والعينة ممنوعة لأنها ذريعة إلى الربا ، وقرض دراهم بأكثر منها ، وصفتها أن يسأل الرجل أن يبتاع له سلعة ليست عنده ، فيقول له : اشترها لي من مالك بعشرة دنانير نقدا ، وهي لي باثني عشر إلى شهر كذا ، فهذا ذريعة إلى الربا .
وقال ابن عبد البر : أما العينة فمعناها بيع ما ليس عندك من قبل أن تبتاعه ، طعاما كان أو غيره ، وتفسير ما ذكره مالك وغيره في ذلك أنها ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل ، كأنه قال له وقد بينا له دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل ودراهم بدنانير أكثر منها إلى أجل ، فقال المسؤول للسائل هذا لا يحل ولا سبيل إليه ، ولكني أبيع منك في الدراهم التي سألتني سلعة كذا وكذا ليست عندي ، أبتاعها لك ثم تشتريها مني ، فيوافقه على الثمن الذي يبيعها به منه ، ثم يوفى تلك السلعة ممن هي عنده نقدا ، ثم يسلمها إلى الذي سأله العينة بما قد كان اتفق معه عليه من ثمنها
فتفسير العينة بالمعنى الذي يذكره المالكية والحنفية ، يصدق عليه أنه بيع دراهم بدارهم والبضاعة مرجأة ، وقد ورد في أثر آخر ما يوضح هذا المعنى ويجليه من كلام ابن عباس نفسه رضي الله عنهما ، وهو ما خرجه عبد الرزاق في المصنف أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال : إذا استقمت بنقد وبعت بنقد فلا بأس به ، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا ، إنما ذلك ورق بورق .
قال ابن عيينة : فحدثت به ابن شبرمة ، فقال : ما أرى به بأسا .
قال عمرو : إنما يقول ابن عباس لا يستقيم بنقد ، ثم يبيع لنفسه بدين.
وفي الموطأ من حديث القاسم بن محمد أنه قال سمعت عبد الله بن عباس ورجل يسأله عن رجل سلف في سبائب ، فأراد بيعها قبل أن يقبضها ، فقال ابن عباس : تلك الورق بالورق ،وكره ذلك . قال مالك : وذلك فيما نرى والله أعلم أنه أراد أن يبيعها من صاحبها الذي اشتراها منه بأكثر من الثمن الذي ابتاعها به ، ولو أنه باعها من غير الذي اشتراها منه لم يكن بذلك بأس .
فهذه العينة هي التي يصدق عليها أنه بيع دراهم بدراهم ، ولكن ذلك مرهون بالاتفاق المسبق بين البائع والمشتري ، والقصد فيما بينهما على بيع الدراهم ، وليس على شراء السلعة للانتفاع بها ، فإن هذا النوع من التبايع لا يخلو من ثلاث صور :

الصورة الأولى : أن يشتري السلعة لقصد التجارة ، ثم يبيعها لكي يربح فيها بدل المائة مائة وعشرين ، فهذا جائز بالإجماع إذا تم القبض قبل البيع ، واختلف فيه إذا تخلف القبض قبل البيع ، لكنه بالاتفاق سواء بيعت السلعة قبل القبض أو بعده غير داخل في العينة ، لعدم وجود الاتفاق المسبق بين المتبايعين .

الصورة الثانية : أن يشتري السلعة لقصد الانتفاع بها كالأكل والشرب ونحوه فهذا جائز بالإجماع .

الصورة الثالثة : أن يشتري السلعة لقصد الدراهم لحاجته إليها ، فهذه هي العينة .

فإذا حصل اتفاق بين هذين المتبايعين فإنه بيع العينة وهو بيع دراهم بدراهم ، وفي ذلك يستوي الحكم فيما لو كان في الطعام أو غير الطعام ، ولذا قال ابن عباس : وأحسب كل شيء مثل الطعام ، وكذلك قال مالك رحمه الله ، فمنع من بيع الطعام قبل قبضه ، وأجاز ما عدا الطعام ، غير أنه منع من العينة في الطعام وفي غير الطعام ، قال ابن عبد البر : وذهب مالك وأصحابه ومن تابعه في هذا الباب إلى أن نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن إنما هو في الطعام وحده لأنه خص بالذكر في مثل هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحاح ولا بأس عندهم بربح ما لم يضمن ما عدا الطعام من البيوع والكراء وغيره ، وكذلك حملوا النهي عن بيع ما ليس عندك على الطعام وحده ، إلا ما كان من العينة
.

وعلى هذا فالبحث الذي نحن فيه _وهو بيع ما عدا الطعام قبل قبضه _خارج عن الصورة التي يذكرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، فابن عباس يشير إلى صورة من صور العينة لا تتجلى إلا بوجود القصد بين المتبايعن ، وهذا حق يستوي فيه الطعام وغير الطعام ، لأنه بيع دراهم بدراهم ، ولأجل ذا فلا يصح الاستدلال بأثر ابن عباس رضي الله عنه في هذا المبحث . والله تعالى أعلم .

وقد أشار إلى هذا المعنى العيني في عمدة القاري ونقل عن ابن التين مثله ، وكذا أشار إليه ابن الجوزي

الدليل الخامس : أنه من بيوع الغرر :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولقائل أن يقول إنما نهي عن ذلك لأن المبيع قبل القبض غرر ، قد يسلمه البائع وقد لا يسلمه ، لا سيما إّا رأى المشتري قد ربح فيه فيختار أن يكون الربح له ، وهذا واقع كثير ، يبيع الرجل البيع فإذا رأى السعر قد ارتفع سعى في رد المبيع ، إما بجحده وإما باحتيال في الفسخ ، بأن يطلب فيه عيبا ، ويدعي عيبا أو غرورا ، ومن اعتبر أحوال الناس وجد كثيرا منهم يندم على المبيع ، وكثيرا ما يكون لارتفاع السعر ، فيسعى في الفسخ إن لم يتمكن من المنع بيده ، وإلا فإّا تمكن من ذلك فهنا إذا باع قبل القبض فإنه كثيرا ما يفضي إلى ندم البائع ، فيكون قد باع ما ليس عنده ، ويحصل الضرر للمشتري الثاني ، بأن يشتري ما يظن أنه يتمكن من قبضه ، فيحال بينه وبينه ، وهذا من بيع الغرر ، وهذا بخلاف ما لو كان بيده ودفعه له ، فإنه لا يطمع أن يكون الربح له ، وكذلك الموروث لا حق فيه لغير الوارث .
وقال ابن القيم : فالمأخذ الصحيح في المسألة أن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء ، وعدم انقطاع علاقة البائع عنه ، فإنه يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه ، ويغره الربح ، وتضيق عنه منه ، وربما أفضى إلأى التحيل على الفسخ ولو ظلما إلأىة الخصام والمعاداة ، والواقع شاهد بهذا ، فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة منع المشتري من التصرف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه ، وينقطع عن البائع ، وينفطم عنه ، فلا يطمع في الفسخ والامتناع من الإٌباض ، وهذا من المصالح التي لا يهملها الشارع حتى إن من لا خبره له من التجار بالشرع يتحرى ذلك ، ويقصده لما في ظنه من المصلحة وسد باب المفسدة ، وهذه العلة أقوى من تينك العلتين ( َعف الملك وتوالي الضمانين ) وعلى هذا فإذا باعه من بائعه حاز على الصحيح لانتفاء هذه العلة ، ومن علل النهي بتوالي الضمانين يمنع بيعه من بائعه لوجود العلة ، فيبيعه من بائعه يشبه الإقالة .

ويجاب عن هذا بعدة أجوبة :

أولا : أن الغرر أمر معقول المعنى ، فحيث وجد الغرر المانع من صحة العقود صح القول بالمنع من هذا النوع من العقود ، أما أن يعمم في كل السلع فهذا غير صحيح ، فإن من السلع ومن المعاملات ما يقضي الحس والواقع بعدم الغرر فيها ، كما لو كان البائع الأصلي للسلعة رجلا موثوق الكلمة ، معروفا بصلاح الذمة ، فإذا باع قضى للبائع بحقه ، فأين الغرر في بيع السلعة التي تشترى من هذا البائع قبل قبضها ، وقد يدل حديث ابن عمر رضي الله عنهما والذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من عمر فوهبه لعبد الله بن عمر قبل أن يقبضه ، فهذا تصرف في المبيع قبل قبضه ، وذلك لأجل امتناع حصول الغرر من تسليم عمر رضي الله عنه الجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ثانيا : إذا كان الغرر الموجود في تصرف المشتري في البضاعة التي اشتراها قبل قبضها سببه عدم تيقن حصول الاستحواذ التام للسلعة ، فإن هذا المشتري يمكنه أن يطالب بضمانات تمكنه من استيفاء حقه في حال امتنع البائع من التسليم كالرهن مثلا ، وحينئذ يصح تصرف المشتري في سلعته لما أن السلعة صارت على وجه الغالب تحت تصرفه

ثالثا : أن الغرر على أنواع ، فمنه ما هو كثير ، ومنه ما هو قليل ، ومنه ما هو بين ذلك متردد ترددا وسطا ، فما كان احتمال الغرر فيه ضعيفا فإنه لا يمنع من صحة عقد البيع ، كبيع الثمار بعد بدو الصلاح ، فقد جاز بيع الثمار بعد بدو صلاحها ، لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمبتاع ) وفي مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو ، وعن بيع السنبل حتى يبيض ، ويأمن العامة نهى البائع والمشتري ) ، ومعلوم أن هذا المبيع ولو بعد بدو الصلاح فإنه عرضة للتلف ، وقد يتعذر على البائع تسليمه المشتري ، ومع ذلك صح بيعه عندما يبدو صلاحه لأن الغالب فيه القدرة على التسليم .

والغالب على سوق الطعام الغش الكثير ، وقلة الحيطة ، وإرادة الربح السريع لما فيه من كثرة الحركة وكثرة تعامل الناس فيه ، ولذلك نهى عن بيع الطعام قبل قبضه ، لأن الغرر في بيع الطعام قبل قبضه كبير ، فالبائع للطعام يغدو عليه في اليوم الواحد العدد الكبير من الناس ، فرب طعام باعه لزيد من الناس عقدا ، ولم يقبضه إياه إذا وجد مشتريا آخر يدفع فيه سعرا أكبر جحد البيع الأول وباع للثاني .
بخلاف غير الطعام فإن السوق فيه ليست كثيرة الحركة ، ولذا فإن البائع لا يفرط في المشتري ، لأنه يخشى أن لا يأتيه المشتري الثاني ، ولذا فإن داعي الغرر ، وعدم توفية المشتري بضاعته فيه قليلة ، ويغلب عليه التوفية ، ولذا فالغرر فيه يسير . والله تعالى أعلم .
وقد أجاز فقهاء الحنفية بيع العقار قبل قبضه ، واكتفوا في العقار التخلية قبضا له ، بخلاف المكيل والموزون ، وقد علل بعضهم ذلك بأن العقار قليل العرضة للتلف ، قال الزيلعي : معللا المنع من بيع المنقول قبل قبضه : لخطر انفساخ البيع بهلاك المعقود عليه ، ثم قال : وهذا لا يتحقق في العقار .

رابعا : قال الدكتور المختار السلامي : الغرر يختلف باختلاف الأزمنة ، فتطور التجارة العالمية اليوم ، وما تم بين التجار في أنحاء العالم نفى كثيرا من الغرر عن أنواع كثيرة من البيوعات ، وهو ما يجعل أنه لا يتجاوز بالنص غيره إلا في الحدود التي يتحقق فيها الغرر فعلا ، ذلك أن الغرر هو يؤدي إلى الخصومة وتؤدي الخصومة إلى النزاع وتفريق شمل المسلمين ، واليوم تقع هذه البياعات دون أن يترتب عليها أي غرر من ناحية ، ومن ناحية أخرى لا تدخل تحت قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) بقي لماذا خصص الطعام ؟ خصص الطعام لأمر واضح ، وهو ما ينادي به كل الناس اليوم ، بالأمن الغذائي ، فإن التقابض في الطعام يجعل الطعام ظاهرا بين أعين الناس ، ينتقل من مكان إلى مكان ، وتجري فيه المكاييل ، ويطمئن الناس إلى وجوده ، فإذا وقعت فيه المضاربات وبيع بدون أن ينظر الناس إليه ، تلهف الناس على وجود الطعام ..... في النقد وفي الطعام ، والنقد لما بيناه ، فلم تبح أي عبث في النقد باعتبار أنه هو القيم التي اليعود إليها البشر ، فلا يجوز أن يقع فيها عبث ، فاحتاطت الشريعة في النقود واحتاطت الشريعة في الطعام ، وأما في غيره فلا أرى أن يجري فيه ما يجري على الطعام .





الدليل السادس : القياس :
قال ابن القيم : ثبوت المنع من في الطعام بالنص ، وفي غيره إما بقياس النظير كما صح عن ابن عباس أنه قال ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام ، أو بقياس الأولى ، لأنه إذا نهي عن بيع الطعام قبل قبضه مع كثرة الحاجة إليه ، وعمومها فغير الطعام بطريق الأولى ، وهذا مسلك الشافعي ومن تبعه .



المسألة الثالثة أدلة المجيزين بيع الطعام قبل قبضه .

أدلة المجيزين

أولا : استدل المالكية والحنابلة بالأدلة الدالة على النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ، وقد سبق ذكرها ، قال ابن قدامة في المغني : وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له ، وقد سبق قول المازري : فدل على أن ما عداه _ يعني الطعام _ بخلافه .

ثانيا : حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( الخراج بالضمان ) قال ابن قدامة : وهذا المبيع نماؤه للمشتري ، فضمانه عليه .
ومما يدل على أن ضمانه عليه قول عبد الله بن عمر : ( مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع ) فإذا صح أنه مضمون على المشتري صح له التصرف فيه .

ثالثا : سبب التخصيص في الطعام : مطالع بعض الأحاديث تشير إلى أنه كان هنالك تبايع في الطعام بالطريقة المخطوءة فلعل هذا هو السبب الذي جاء سياق الأحاديث فيه على النهي عن الطعام .

رابعا : من أسباب تخصيص الطعام التداول الواسع لخصوص الطعام بخلاف غيره من البياعات
خامسا : استدل من أجاز بيع ما عدا الطعام بحديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري وغيره قال : كنا مع النبي صلى الله عليه سولم في سفر ، فكنت على ذكر صاف لعمر ، فقال النبي لعمر بعنيه ، قال هو لك يا رسول الله ، قال رسول الله : بعنيه ، فباعه ، فقال هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت . ذكره قره داغي .

وأجيب بأن هذا عقد هدية ، وليس عقد معاوضة ، والعلة في المنع الغرر ، والغرر لا يؤثر في عقود التبرعات ، ، قاله الدكتور الضرير

ويمكن الجواب عنه بأن الأدق في العبارة أن يقال إن الغرر لا يؤثر في العقود غير اللازمة ، أما العقود اللازمة فإن الغرر فيها مؤثر ، والحنابلة على إحدى الروايتين والمالكية يرون أن عقد الهبة لازم بمجرد العقد ، فيصير كعقد البيع من حيث اللزوم ، ويحق للموهوب أن يطالب الواهب بالوفاء ، ويرفع عليه دعوى عند القاضي يلزم الواهب بالوفاء بما وعد ، وبالصفة المذكورة والقدر المذكور .

فإذا كان الغرر المانع من صحة تصرف المشتري فيما اشتراه قبل قبضه ناشئا من احتمالية عدم تسليمه للمشتري الثاني ، فإن هذا الغرر يبقى موجودا أيضا في عقد الهبة على قول مالك ورواية في مذهب أحمد ، ولذا الأوجه أن يقال في حديث ابن عمر أن التصرف في المبيع قبل قبضه صح لانتفاء الغرر الذي هو مناط وعلة النهي ، فحال الحديث والواقعة تمنع إمكانية وجود الغرر ، وهكذا فليعلل الحكم بوجود الغرر من عدمه .


المسألة الرابعة : رأي الباحث

من خلال تتبع أدلة الفريقين ، يظهر والله تعالى أعلم رجحان القول الثاني ، وذلك لما يلي :

أولا : أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة ، وبراءة الذمة من التكليف .

ثانيا : قوة أدلة القول الثاني ، وأما أدلة القول الأول فقد أجيب عنها بما يكفي .

ثالثا : سرعة الحركة التجارية ، وقوة التبادل والنشاط التجاري ، مما يجعل القبض في كل الأشياء عسرا ، ويؤدي إلى ضعف النشاط التجاري .