الحافظة
2009-01-22, 02:16 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنقل لكم من مجموع الفتاوى لإبن تيمية رحمه الله الجزء الرابع عشر رسالته إلى سرجوان ملك قبرص وإنها رسالة جامعة وقيمة جدااا حوت من الفوائد الكثيرة ..ولكني لن أسرد الرسالة كاملة وإنما اقتطعت منها جزئية أعجبتني كثيراااا وهي الجزئية التي تخص أسرى المسلمين ..
يقول رحمه الله :
فيأيها الملك كيف تستحل سفك الدماء وسبي الحريم، وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسوله؟
ثم أما يعلم الملك: أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان ما لا يحصى عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين.
لست أقول عن الملك وأهل بيته ولا اخوته، فإن أبا العباس: شاكرا للملك ولأهل بيته كثيرا، معترف بما فعلوه معه من الخير، وإنما أقول عن عموم الرعية. أليس الأسرى في رعية الملك. أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبر والإحسان.
فأين ذلك؟
ثم إن كثيرا منهم إنما أخذوا غدرا، والغدر حرام في جميع الملل والشرائع والسياسات. فكيف تستحلون أن تستولوا على من أخذ غدرا؟ أفتؤمنون مع هذا أن يقابلكم المسلمون ببعض هذا ؟ وتكونون مغدورين؛ والله ناصرهم ومعينهم، لاسيما في هذه الأوقات، والأمة قد امتدت للجهاد، واستعدت للجلاد ورغب الصالحون وأولياء الرحمن في طاعته، وقد تولى الثغور الساحلية أمراء ذوو بأس شديد، وقد ظهر بعض أثرهم، وهم في ازدياد.
ثم عند المسلمون من الرجال الفداوية، الذين يغتالون الملوك في فرشها، وعلى أفراشها: من قد بلغ الملك خبرهم قديما وحديثا، وفيهم الصالحون، الذين لا يرد الله دعواتهم، ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب الرب لغضبهم، ويرضى لرضاهم.
وهؤلاء التتار مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين: لما غضب المسلمون عليهم، أحاط بهم البلاء ما يعظم عن الوصف، فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمون من أكثر الجهات أن يعاملوهم هذه المعاملة، التي لا يرضاها عاقل ولا مسلم ولا معاهد.
هذا، وأنت تعلم أن المسلمين لا ذنب لهم أصلا؛ بل هم المحمودون على ما فعلوه. فإن الذي أطبقت العقلاء على الإقرار بفضله، هو دينهم حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين. فقد قامت البراهين على وجوب متابعته.
ثم هذه البلاد مازالت بأيديهم: الساحل، بل وقبرص أيضا؛ ما أخذت منهم إلا من أقل من ثلاثمائة سنة، وقد وعدهم النبي أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة؛ فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم رب العباد والبلاد، كما ينتقم لغيرهم. وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حمية إسلامهم فينالوا فيها ما نالوا من غيرها، ونحن إذا رأينا من الملك وأصحابه ما يصلح عاملناهم بالحسنى وإلا فمن بغي عليه لينصرنه الله.
وأنت تعلم أن ذلك من أيسر الأمور على المسلمين، أنا ما غرضي الساعة إلا مخاطبتكم بالتي هي أحسن، والمعاونة على النظر في العالم واتباع الحق وفعل ما يجب. فإن كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فليبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان، ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلدين الذين لا يسمعون ولا يعقلون؛ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية، وتقول: اللهم أرني الحق حقا، وأعني على اتباعه، وأرني الباطل باطلا وأعني على اجتنابه، ولا تجعله مشتبها علي فأتبع الهوى. وقل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلقون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والكتاب لا يحتمل البسط أكثر من هذا، لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وهما شيآن: أحدهما له خاصة، وهو معرفته بالعلم والدين، وانكشاف الحق وزوال الشبهة، وعبادة الله كما أمر؛ فهذا خير له من ملك الدنيا بحذافرها، وهو الذي بعث به المسيح وعلمه الحواريين.
الثاني له وللمسلمين، وهو مساعدته للأسرى الذين في بلاده، وإحسانه إليهم، وأمر رعيته بالإحسان إليهم، والمعاونة لنا على خلاصهم؛ فإن في الإساءة إليهم دركا على الملك في دينه ودين الله تعالى، ودركا من جهة المسلمين. وفي المعاونة على خلاصهم حسنة له في دينه ودين الله تعالى وعند المسلمون، وكان المسيح أعظم الناس توصية بذلك.
ومن العجب كل العجب: أن يأسر النصارى قوما غَدرا أو غير غدر، ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول: « من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ رداءك أعطه قميصك » وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين. فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص. سيما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء، ليس لهم من يسعى فيهم، وهذا أبو العباس مع أنه من عباد المسلمين، وله عبادة وفقر وفيه مشيخة، ومع هذا فما كاد يحصل له فداؤه إلا بالشدة. ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف ؛ فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة، لاسيما والمسيح يوصي بذلك في الإنجيل ويأمر بالرحمة العامة، والخير الشامل كالشمس والمطر. والملك وأصحابه إذا عاونونا على تخليص الأسرى، والإحسان إليهم، وكان الحظ الأوفر لهم في ذلك في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة: فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه، وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين الذين لا يتبعون الهوى؛ بل كل من اتقى الله وأنصف علم أنهم أسروا بغير حق، لاسيما من أخذ غدرا، والله تعالى لم يأمر، ولا المسيح أمر، ولا أحد من الحواريين، ولا من اتبع المسيح على دينه، لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم. وكيف وعامة النصارى يقرون بأن محمد رسول الأميين، فكيف يجوز أن يقاتل أهل دين اتبعوا رسولهم؟
فإن قال قائل: هم قاتلونا أول مرة؟ قيل: هذا باطل فيمن غدرتم به ومن بدأتموه بالقتال. وأما من بدأكم منهم فهو معذور؛ لأن الله تعالى أمره بذلك ورسوله، بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك. ولا يستوي من عمل بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى عيادته ودينه، وأقر بجميع الكتب والرسل، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، ومن قاتل في هوى نفسه وطاعة شيطانه، على خلاف الله ورسوله.
ومازال في النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة، من له مزية على غيره في المعرفة والدين: فيعرف بعض الحق، وينقاد لكثير منه، ويعرف من قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره، فيعاملهم معاملة تكون نافعة له في الدنيا والآخرة ؛ ثم في فكاك الأسير. وثواب العتق من كلام الأنبياء والصديقين ما هو معروف لمن طلبه، فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته.
وأما في الدنيا: فإن المسلمين أقدر على المكافأة في الخير والشر من كل أحد. ومن حاربوه، فالويل كل الويل له.
والملك لا بد أن يكون سمع السير، وبلغه أنه ما زال في المسلمين النفر القليل، منهم من يغلب أضعافا مضاعفة من النصارى وغيرهم، فكيف إذا كانوا أضعافهم؟ وقد بلغه الملاحم المشهورة في قديم الدهر وحديثه، مثل: أربعين ألفا يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس. وما زال المرابطون بالثغور مع قلتهم واشتغال ملوك الإسلام عنهم يدخلون بلاد النصارى؛ فكيف وقد منّ الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم، وكثرة جيوشهم وبأس مقدميهم وعلو هممهم ورغبتهم فيما يقربهم إلى الله تعالى واعتقادهم أن الجهاد أفضل الأعمال المطوعة وتصديقهم بما وعدهم نبيهم ؛ حيث قال: « يعطى الشهيد ست خصال: يغفر له بأول قطرة من دمه، ويرى مقعده في الجنة، ويكسى حلة الإيمان، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويقي فتنة القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.»
ثم إن في بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين، فإن فيهم من رءوس النصارى من ليس في البحر مثلهم إلا قليل، وأما أسراء المسلمين، فليس فيهم من يحتاج إليه المسلمين، ولا من ينتفعون به، وإنما نسعى في تخليصهم لأجل الله تعالى؛ رحمة لهم وتقربا إليه يوم يجزي الله المصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين.
وأبو العباس حامل هذا الكتاب، قد بث محاسن الملك وإخوته عندنا، واستعطف قلوبنا إليه؛ فلذلك كاتبت الملك لما بلغني رغبته في الخير، وميله إلى العلم والدين، وأنا من نواب المسيح وسائر الأنبياء في مناصحة الملك وأصحابه وطلب الخير لهم. فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، يريدون الخلق خير الدنيا والآخرة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعونهم إلى الله، ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم. وإن كان الملك قد بلغه بعض الأخبار التي فيها طعن على بعضهم أو طعن على دينهم ؛ فإما أن يكون الخبر كاذبا أو ما فهم التأويل وكيف صورة الحال؛ وإن كان صادرا عن بعضهم بنوع من المعاصي والفواحش والظلم، فهذا لا بد منه في كل أمة، بل الذي يوجد في المسلمين من الشر أقل مما في غيرهم بكثير، والذي فيهم من الخير لا يوجد مثله في غيرهم.
والملك وكل عاقل يعرف أن أكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القدسين، وإن كان أكثر ما معهم من النصرانية شرب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب ونواميس مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وأن بعضهم يستحل بعض ما حرمته الشريعة النصرانية؛ هذا فيما يقرون به. وأما مخافتهم لما لا يقرون به، فكلهم داخل في ذلك، بل قد ثبت عندنا عن الصادق المصدوق رسول الله أن المسيح عيسى ابن مريم، ينزل عند المنارة البيضاء في دمشق واضعا يده على منكبي ملكين؛ فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، ويقتل مسيح الضلالة الأعور الدجال، الذي يتبعه اليهود، ويسلط المسلمون على اليهود، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، وينتقم الله للمسيح ابن مريم، مسيح الهدى، من اليهود ما آذوه وكذبوه لما بعث إليهم.
وأما ما عندنا في أمر النصارى، وما يفعله الله بهم من إدالة المسلمين عليهم، وتسليطه عليهم؛ فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره، ولكن الذي أنصحه به: أن كل من أسلف إلى المسلمين خيرا ومال إليهم، كانت عاقبته معهم حسنة، بحسب ما فعله من الخير؛ فإن الله يقول: « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره»
والذي أختم به الكتاب الوصية بالشيخ أبي العباس وبغيره من الأسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن والامتناع من تغيير دين واحد منهم، وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله، ونحن نجزي الملك على ذلك بأضعاف ما في نفسه. والله يعلم أني قاصد للملك الخير؛ لأن الله تعالى أمرنا بذلك، وشرع لنا أن نريد الخير لكل أحد، ونعطف على خلق الله، وندعوهم إلى الله وإلى دينه وندفع عنهم شياطين الإنس والجن.
والله المسئول أن يعين الملك على مصلحته، التي هي عند الله المصلحة، وأن يخير له من الأقوال ما هو خيرا له عند الله، ويختم له بخاتمة خير.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على أنبيائه المرسلين؛ ولا سيما محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، والسلام عليهم أجمعين.
انتهى ..
رحمك الله شيخنا وهبك ربي العلم والنجابة والحكمة والتوفيق والسداد في كل أمورك ماتحار له العقول وماهذا إلا لصدقكم وإخلاصكم ..
أنقل لكم من مجموع الفتاوى لإبن تيمية رحمه الله الجزء الرابع عشر رسالته إلى سرجوان ملك قبرص وإنها رسالة جامعة وقيمة جدااا حوت من الفوائد الكثيرة ..ولكني لن أسرد الرسالة كاملة وإنما اقتطعت منها جزئية أعجبتني كثيراااا وهي الجزئية التي تخص أسرى المسلمين ..
يقول رحمه الله :
فيأيها الملك كيف تستحل سفك الدماء وسبي الحريم، وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسوله؟
ثم أما يعلم الملك: أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان ما لا يحصى عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين.
لست أقول عن الملك وأهل بيته ولا اخوته، فإن أبا العباس: شاكرا للملك ولأهل بيته كثيرا، معترف بما فعلوه معه من الخير، وإنما أقول عن عموم الرعية. أليس الأسرى في رعية الملك. أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبر والإحسان.
فأين ذلك؟
ثم إن كثيرا منهم إنما أخذوا غدرا، والغدر حرام في جميع الملل والشرائع والسياسات. فكيف تستحلون أن تستولوا على من أخذ غدرا؟ أفتؤمنون مع هذا أن يقابلكم المسلمون ببعض هذا ؟ وتكونون مغدورين؛ والله ناصرهم ومعينهم، لاسيما في هذه الأوقات، والأمة قد امتدت للجهاد، واستعدت للجلاد ورغب الصالحون وأولياء الرحمن في طاعته، وقد تولى الثغور الساحلية أمراء ذوو بأس شديد، وقد ظهر بعض أثرهم، وهم في ازدياد.
ثم عند المسلمون من الرجال الفداوية، الذين يغتالون الملوك في فرشها، وعلى أفراشها: من قد بلغ الملك خبرهم قديما وحديثا، وفيهم الصالحون، الذين لا يرد الله دعواتهم، ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب الرب لغضبهم، ويرضى لرضاهم.
وهؤلاء التتار مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين: لما غضب المسلمون عليهم، أحاط بهم البلاء ما يعظم عن الوصف، فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمون من أكثر الجهات أن يعاملوهم هذه المعاملة، التي لا يرضاها عاقل ولا مسلم ولا معاهد.
هذا، وأنت تعلم أن المسلمين لا ذنب لهم أصلا؛ بل هم المحمودون على ما فعلوه. فإن الذي أطبقت العقلاء على الإقرار بفضله، هو دينهم حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين. فقد قامت البراهين على وجوب متابعته.
ثم هذه البلاد مازالت بأيديهم: الساحل، بل وقبرص أيضا؛ ما أخذت منهم إلا من أقل من ثلاثمائة سنة، وقد وعدهم النبي أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة؛ فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم رب العباد والبلاد، كما ينتقم لغيرهم. وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حمية إسلامهم فينالوا فيها ما نالوا من غيرها، ونحن إذا رأينا من الملك وأصحابه ما يصلح عاملناهم بالحسنى وإلا فمن بغي عليه لينصرنه الله.
وأنت تعلم أن ذلك من أيسر الأمور على المسلمين، أنا ما غرضي الساعة إلا مخاطبتكم بالتي هي أحسن، والمعاونة على النظر في العالم واتباع الحق وفعل ما يجب. فإن كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فليبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان، ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلدين الذين لا يسمعون ولا يعقلون؛ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية، وتقول: اللهم أرني الحق حقا، وأعني على اتباعه، وأرني الباطل باطلا وأعني على اجتنابه، ولا تجعله مشتبها علي فأتبع الهوى. وقل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلقون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والكتاب لا يحتمل البسط أكثر من هذا، لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وهما شيآن: أحدهما له خاصة، وهو معرفته بالعلم والدين، وانكشاف الحق وزوال الشبهة، وعبادة الله كما أمر؛ فهذا خير له من ملك الدنيا بحذافرها، وهو الذي بعث به المسيح وعلمه الحواريين.
الثاني له وللمسلمين، وهو مساعدته للأسرى الذين في بلاده، وإحسانه إليهم، وأمر رعيته بالإحسان إليهم، والمعاونة لنا على خلاصهم؛ فإن في الإساءة إليهم دركا على الملك في دينه ودين الله تعالى، ودركا من جهة المسلمين. وفي المعاونة على خلاصهم حسنة له في دينه ودين الله تعالى وعند المسلمون، وكان المسيح أعظم الناس توصية بذلك.
ومن العجب كل العجب: أن يأسر النصارى قوما غَدرا أو غير غدر، ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول: « من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ رداءك أعطه قميصك » وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين. فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص. سيما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء، ليس لهم من يسعى فيهم، وهذا أبو العباس مع أنه من عباد المسلمين، وله عبادة وفقر وفيه مشيخة، ومع هذا فما كاد يحصل له فداؤه إلا بالشدة. ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف ؛ فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة، لاسيما والمسيح يوصي بذلك في الإنجيل ويأمر بالرحمة العامة، والخير الشامل كالشمس والمطر. والملك وأصحابه إذا عاونونا على تخليص الأسرى، والإحسان إليهم، وكان الحظ الأوفر لهم في ذلك في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة: فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه، وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين الذين لا يتبعون الهوى؛ بل كل من اتقى الله وأنصف علم أنهم أسروا بغير حق، لاسيما من أخذ غدرا، والله تعالى لم يأمر، ولا المسيح أمر، ولا أحد من الحواريين، ولا من اتبع المسيح على دينه، لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم. وكيف وعامة النصارى يقرون بأن محمد رسول الأميين، فكيف يجوز أن يقاتل أهل دين اتبعوا رسولهم؟
فإن قال قائل: هم قاتلونا أول مرة؟ قيل: هذا باطل فيمن غدرتم به ومن بدأتموه بالقتال. وأما من بدأكم منهم فهو معذور؛ لأن الله تعالى أمره بذلك ورسوله، بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك. ولا يستوي من عمل بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى عيادته ودينه، وأقر بجميع الكتب والرسل، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، ومن قاتل في هوى نفسه وطاعة شيطانه، على خلاف الله ورسوله.
ومازال في النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة، من له مزية على غيره في المعرفة والدين: فيعرف بعض الحق، وينقاد لكثير منه، ويعرف من قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره، فيعاملهم معاملة تكون نافعة له في الدنيا والآخرة ؛ ثم في فكاك الأسير. وثواب العتق من كلام الأنبياء والصديقين ما هو معروف لمن طلبه، فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته.
وأما في الدنيا: فإن المسلمين أقدر على المكافأة في الخير والشر من كل أحد. ومن حاربوه، فالويل كل الويل له.
والملك لا بد أن يكون سمع السير، وبلغه أنه ما زال في المسلمين النفر القليل، منهم من يغلب أضعافا مضاعفة من النصارى وغيرهم، فكيف إذا كانوا أضعافهم؟ وقد بلغه الملاحم المشهورة في قديم الدهر وحديثه، مثل: أربعين ألفا يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس. وما زال المرابطون بالثغور مع قلتهم واشتغال ملوك الإسلام عنهم يدخلون بلاد النصارى؛ فكيف وقد منّ الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم، وكثرة جيوشهم وبأس مقدميهم وعلو هممهم ورغبتهم فيما يقربهم إلى الله تعالى واعتقادهم أن الجهاد أفضل الأعمال المطوعة وتصديقهم بما وعدهم نبيهم ؛ حيث قال: « يعطى الشهيد ست خصال: يغفر له بأول قطرة من دمه، ويرى مقعده في الجنة، ويكسى حلة الإيمان، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويقي فتنة القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.»
ثم إن في بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين، فإن فيهم من رءوس النصارى من ليس في البحر مثلهم إلا قليل، وأما أسراء المسلمين، فليس فيهم من يحتاج إليه المسلمين، ولا من ينتفعون به، وإنما نسعى في تخليصهم لأجل الله تعالى؛ رحمة لهم وتقربا إليه يوم يجزي الله المصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين.
وأبو العباس حامل هذا الكتاب، قد بث محاسن الملك وإخوته عندنا، واستعطف قلوبنا إليه؛ فلذلك كاتبت الملك لما بلغني رغبته في الخير، وميله إلى العلم والدين، وأنا من نواب المسيح وسائر الأنبياء في مناصحة الملك وأصحابه وطلب الخير لهم. فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، يريدون الخلق خير الدنيا والآخرة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعونهم إلى الله، ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم. وإن كان الملك قد بلغه بعض الأخبار التي فيها طعن على بعضهم أو طعن على دينهم ؛ فإما أن يكون الخبر كاذبا أو ما فهم التأويل وكيف صورة الحال؛ وإن كان صادرا عن بعضهم بنوع من المعاصي والفواحش والظلم، فهذا لا بد منه في كل أمة، بل الذي يوجد في المسلمين من الشر أقل مما في غيرهم بكثير، والذي فيهم من الخير لا يوجد مثله في غيرهم.
والملك وكل عاقل يعرف أن أكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القدسين، وإن كان أكثر ما معهم من النصرانية شرب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب ونواميس مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وأن بعضهم يستحل بعض ما حرمته الشريعة النصرانية؛ هذا فيما يقرون به. وأما مخافتهم لما لا يقرون به، فكلهم داخل في ذلك، بل قد ثبت عندنا عن الصادق المصدوق رسول الله أن المسيح عيسى ابن مريم، ينزل عند المنارة البيضاء في دمشق واضعا يده على منكبي ملكين؛ فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، ويقتل مسيح الضلالة الأعور الدجال، الذي يتبعه اليهود، ويسلط المسلمون على اليهود، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، وينتقم الله للمسيح ابن مريم، مسيح الهدى، من اليهود ما آذوه وكذبوه لما بعث إليهم.
وأما ما عندنا في أمر النصارى، وما يفعله الله بهم من إدالة المسلمين عليهم، وتسليطه عليهم؛ فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره، ولكن الذي أنصحه به: أن كل من أسلف إلى المسلمين خيرا ومال إليهم، كانت عاقبته معهم حسنة، بحسب ما فعله من الخير؛ فإن الله يقول: « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره»
والذي أختم به الكتاب الوصية بالشيخ أبي العباس وبغيره من الأسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن والامتناع من تغيير دين واحد منهم، وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله، ونحن نجزي الملك على ذلك بأضعاف ما في نفسه. والله يعلم أني قاصد للملك الخير؛ لأن الله تعالى أمرنا بذلك، وشرع لنا أن نريد الخير لكل أحد، ونعطف على خلق الله، وندعوهم إلى الله وإلى دينه وندفع عنهم شياطين الإنس والجن.
والله المسئول أن يعين الملك على مصلحته، التي هي عند الله المصلحة، وأن يخير له من الأقوال ما هو خيرا له عند الله، ويختم له بخاتمة خير.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على أنبيائه المرسلين؛ ولا سيما محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، والسلام عليهم أجمعين.
انتهى ..
رحمك الله شيخنا وهبك ربي العلم والنجابة والحكمة والتوفيق والسداد في كل أمورك ماتحار له العقول وماهذا إلا لصدقكم وإخلاصكم ..