أشرف السلفي
2009-01-22, 01:30 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ؛ أما بعد : فهذا تفريغ آخر - وفقني الله - سبحانه وتعالى - لتفريغه ، وهأنذا أقوم بتنزيله ابتغاء حصول النفع من ورائه .
وهناك عدة تفريغات يسر الله إتمامها ومراجعتها - سأقوم بتنزيلها على الشبكة ، وغيرها من الشبكات ؛ ليعم النفع ، والآن مع الشرح :
شَرْحُ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ صّالِحٍ السُّحَيْمِيِّ
لِلْقَصِيدَةِ اللَامِيَّةِ
الْـمَنْسُوبَةِ إِلى شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةِ – رَحِمَهُ اللهُ –
بسم الله الرحمان الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه – صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه أجحمعين .
ثم أما بعد :
فقد رأى بعض الإخوة أن نشرح - في هذين اليومين ، أو لعلنا ننتهي منها اليوم : الصباح والليلة المغرب - قصيدة اللامية لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – حول بعض مسائل العقيدة ، وهي قرابة ستة عشر بيتا ، لعلنا أن نجتهد في أن نخلص ، أو ننهيها الليلة العشاء - إن شاء الله - .
ودراسة كتب السلف والمتون الشرعية لها فوائد عظيمة تربط طالب اللعم بالسنة . بهدي النبي – صلى الله عليه وسلم - ؛ ولذلك فإن التركيز على مثل هذه المتون = نافع جدا للمسلمين عامة ، ولطلبة العلم خاصة .
ونبدأ مباشرة – إن شاء الله – في هذه القصيدة اللامية ، ونجتهد في شرحها باختصار – إن شاء الله تعالى - .
المقدمة
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وعلى آله وأصحابه ومن والاه – فهذه قصيدة اللامية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وهي زهرة من بستانه اليانع بالأزهار ؛ ليشم عبقها وعبيرها أهل السنة والآثار ، وهي شوكة وغصة وسهم من كنانيته في حلوق أهل الزيغ والضلال ، يعلن فيها عن مذهبه واعتقاده ليستنار ، ويخصم بها كل مشبه ومعطل وجبار .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله – في قصيدته اللامية .
(( المتن ))
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي /// رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
(( الشرح ))
بدأ الشيخ – رحمه الله تعالى - بهذا البيت :
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي ///رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
بدأ – رحمه الله تعالى – بمخاطبة إخوانه المسلمين الذين يسألونه عن مذهبه ، وعقيدته ؛ لأن البعض يشكك ، ولا سيما أولئك الذين ابتلوا بالانحراف في العقيدة ، بالوقوع في البدع والخرافات ، بل وربما أحيانا في الشركيات ؛ فإنه أراد أن يبين لهم معتقده هذا ؛ حتى يتضح أنه موافق لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم – .
والعقيدة هو ما يعقد عليه القلب ، قد تكون عقيدة فاسدة ، وقد تكون صالحة ؛ ولذلك فإنها تتضح من خلال توجه صاحبها ، فمن اعتقد منهج أهل السنة والجماعة وسار على ذلك = فهي العقيدة الصحيحة السُّـنية السلفية ، ومن حاد عن ذلك = فهي عقيدة خرافية ، بغض النظر عن قربها ، أو بعدها من هدي الإسلام ، بحسب حال صاحبها ، والمذهب هو المنهج الذي يسير عليه المرءُ : في الفقه ، في السلوك ، في التعامل ، في العبادة ، في الحدود ، في الأحكام ؛ فالمذهب هو الطريقة ، ولا يلزم إذا قيل : مذهب فلان كذا من السلف ، أو مذهب أهل السنة كذا ؛ أن يكون مذهبا يختص به دون غيره من أهل السنة ، وإنما المراد أنه يتمذهب ويسير على طريقة أهل السنة والجماعة : قولا ، وعملا ، واعتقادا ، فلا يحيد عن ذلك قِـيدَ أُنملة ، يلزم السنة ، يتمسك بها ، يعض عليها بالنواجذ ، بكل ما يستطيع .
وشيخ الإسلام : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن يتيمة المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة = معروف بجهاده : بلسانه ، وقلمه ، ونفسه ؛ فقد شارك في الجهاد ضد التتار والمغول ، وشارك بجهاده في الذب عن العقيدة ، وتقرير عقيدة السلف ، ودحض شبه المشبهين ، كما شارك بقلمه السيال في إثراء المكتبة الإسلامية بما صفا ، وطاب من منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة ، والفقه ، والسلوك ، ومن ذلك : هذه القصيدة .
ثم بعد أن نادى سائله ليبين له عقيدته ، بـيَّـن أن مَـن رُزِقَ الفقه في الدين = هو االذي يهدى – يهديه الله إلى عقيدة السلف الصالح ، ويسأل عنها ؛ ليعض عليها بالنواجذ ، وليسير عليها ، وليلزمها ؛ لأنه طريق الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } النساء : 69 { ومن شذ عن هذا المنهج فهو متبع لغير سبيل المؤمنين ، قال الله – عز وجل - وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}النساء :115 {.
ولذلك :
فإن كل خير في اتباع من سلف /// وكل شر في اتباع من خلف
(( المتن ))
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِه /// لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّل
(( الشرح ))
يبين لمخاطَـبه بأن كلامه الذي سيقوله = هو الكلام الحق الذي لا مرية فيه ، وأنه ثابت عليه ثبوت الجبال الراسيات ، وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه كل مؤمن ، بأن يتمسك بالعقيدة الصافية المستمدة من كتاب الله – جل وعلا – ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - وفق منهج السلف الصالح ؛ فهو يقول : أيها الأخ المسلم الذي تبحث عن الحق عليك أن تسمع ما أقوله ، والذي أخذته من كتاب الله – جل وعلا - وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والذي لا يثنيني عنه أي ثانٍ ، ولا يمنعني من سلوكه – طالما توكلت على الله - جل وعلا - ، واعتمدت عليه ، واستعنت به وحده ؛ فإنني أسير على هذا المنهج الحق الذي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه ، وهكذا ينبغي – بل يجب – أن يكون هذا شأن كل مسلم ، يجتهد في اتباع منهج السلف ، بعد أن يتعلم ، ويتفقه في دين الله ؛ لأن الفقه في دين الله = يحمي الله به المؤمن من الإفراط والتفريط ؛ لأنه المنهج الوسط الذي كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } الأنعام : 90 { .
فعليك – يا عبدَ اللهِ ! – أن تلزم هذا المنهج ، وأن تسير عليه ، وسنبين طريق السير عليه ، كيف يكون ، وما أسبابه - بإذن الله – تبارك وتعالى – .
وأن لا يثنيه عنه أيُّ أمر إلى أن يلقى الله – تبارك وتعالى – وهو على ذلك ؛ وذلك بالاعتماد على الله ، والتوكل عليه ، وسؤاله الثبات على الحق ؛ ولذلك أمرنا أن نسأل الله الثبات في السجود ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينتك ) وقال – صلى الله عليه وسلم – أيضا - : ( إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابيع الرحمان يقلبها كيفما شاء ) .
فعلى المسلم أن يجتهد في السير على منهج السلف الصالح ، بعيدا عن الإفراط والتفريط ؛ لأن هذا هو الطريق السوي الذي يقرب إلى الله – عز وجل - ، وهو طريق النجاة ، وهو طريق الفرقة الناجية ، والطائفة المنصورة ، والجماعة المؤمنة التي تسعى أن تكون ثابتة على هدي النبي – صلى الله عليه وسلم - .
فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها .
(( المتن ))
حُبُّ الصَّحابَةِ كُـلِّهُمْ لي مَذْهَبٌ /// وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّــل
(( الشرح ))
من المعلوم في الشرع أن أحد أنواع التوسل المشروعة هي التوسل بالعمل الصالح ؛ لأن التوسل – كما تعلمون – رحمني الله وإياكم – على ثلاثة أقسام :
الأول : التوسل بأسماء الله وصفاته ؛ كقول النبي – صلى الله عليه وسلم – ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) .
الثاني : التوسل إلى الله بالعمل الصالح كقول الله – سبحانه وتعالى – حكاية عن الحورايين رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } آل عمران : 53 { .
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما سمع رجلا يدعو قائلا : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ) قال – صلى الله عليه وسلم - : لقد دعا اللهَ باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب .
وقد جمع في هذا الدعاء بين التوسل بأسماء الله وصفاته ، والتوسل بالأعمال الصالحة .
والعمل الصالح الذي يتوسل به لابد له من شرطين :
- أن يكون خالصا لوجه الله .
- أن يكون موافقا لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم - .
الثالث : التوسل إلى الله – تعالى – بدعاء المسلم الصالح الحي القادر على الدعاء ، كما جاء في حديث استسقاء الصحابة – رضوان الله عليهم - بدعاء عمر بن الخطاب ، وفي حديث الرجل الذي في الصحيحين الذي جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال : يارسول الله ! هلكت الأموال ، وتقطعت السبل ، فادع الله أن يغيثنا ، وغير ذلك من أدلة التوسل إلى الله بدعاء المسلم الصالح .
وكانوا في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يتوسلون بدعائه ، وبعد وفاته – عليه الصلاة والسلام – يختارون من يتوسمون فيه الصالح ؛ فيطلبون منه الدعاء في الاستسقاء وغيره ، ولم يتوسلوا به بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم – ؛ لعلمهم أن المقامَ مقامُ دعاءٍ .
فهنا : شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى - يتوسل بأمرين ، يتقرب إلى الله بأمرين :
الأمر الأول : حب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ لأنه من الأعمال الصالحة ، من أعمال القلوب ؛ حب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وهو من أعمال القلوب .
الأمر الثاني : حب آل البيت ؛ لأنهم لهم ميزة خاصة على غيرهم ؛ فيجب أن يُـحَـبَّ المؤمن منهم محبة خاصة ؛ فلذلك هو يتوسل إلى الله بهذين الأمرين ، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة = من أنواع التوسل المشروع ؛ ولذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار .
الصحابة الكرام !
والصحابي : هو كل من لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – مؤمنا ] به [ ، ومات على ذلك ، ولو تخللت ذلك ردة على الصحيح .
وأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كلهم عدول ، يجب توليهم ، والترضي عنهم ، وحبهم ، واعتقاد عدالتهم ، وتفضيلهم على كل الناس بعد رسول – صلى الله عليه وسلم – ، والأنبياء .
فهم صحبه الكرام ، لا نفرق بين أحد منهم ، كما فعل ذلك أهل الزيغ والبدع والضلال ، وإنما نتولاهم جميعا بلا استثاء ، وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة ، وعلى رأس هؤلاء العشرة الخلفاء الراشدون : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي – رضي الله عنهم - .
وبعد العشرة يأتي أهل بدر .
ثم المهاجرون .
ثم الأنصار .
ثم أهل بيعة شجرة الرضوان .
ثم من أسلم قبل الفتح .
ثم من أسلم بعد الفتح .
فيجب توليهم جميعا ، وقد تجاوزا مئة وعشرين ألفا يوم حجة الوداع .
ولا يجوز أن نفرق بينهم ، كما يفعل أهل الزيغ والضلال ، وأهل البدع والانحلال ، بل الصحابة كلهم عدول = يجب توليهم جميعا .
ومن كفرهم جميعا = فهو كافر .
ومن اعتقد ارتداتهم = فهو المرتد .
ومن سب أحدا منهم = فهو المسبوب .
ومن نال من أحد منهم = فهو مبتدع ضال مارق .
رضي الله عنهم ، وأرضاهم ، وأخزى الله من أبغضهم وقلاهم .
ولذلك شيخ الإسلام – هنا – يبين - في هذا البيت - أنه يتقرب إلى الله بحبهم ، والتقرب بحب الصالحين = عمل صالح ، ليس المراد بالتقرب : التمسح بالصالحين ، أو التعلق بهم من دون الله ، أو دعائهم ، أو الاستغاثة بهم ، لا الصحابة ، ولا غير الصحابة ، ولا الأنبياء .
حتى الأنبياء لا يستغاث بهم ، ولا يدعون من دون الله ، ولا الصحابة ، ولا الصالحون ، ولا الأولياء ؛ فالاستغاثة بهم ، أو دعاؤهم من دون الله = شرك أكبر = يخرج من حظيرة الإسلام ، لكننا نتوسل إلى الله بحبهم ، وهو التوسل المشروع ، وحبهم = عمل صالح من أعمال القلوب الصالحة ؛ ولذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : من السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه .
ويقول – صلى الله عليه وسلم – : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار .
تنبهتم إخوتي ؟!
ولذلك فإن حب جميع المسلمين المخلصين ، أهل السنة = عبادة ، وعمل يقرب إلى الله – سبحانه وتعالى – .
فيجب أن نحب المسلمين أهل السنة لإسلامهم ، المسلمين : أهل السنة ، المستقيمين على طاعة الله ، السائرين على هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وعلى رأسهم – كما ذكرنا – أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ الذين بهم قام القرآن ، وبه قاموا ، وبهم نطق القرآن ، وبه نطقوا = أولئك الأفذاذ الذين نضَّرَ الله وجوههم بصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، والتلقي عنه مباشرة ، فهم نقلة السنة ، وهم نقلة القرآن ، وهم نقلة الإسلام ؛ فالنيل منهم = نيل من الإسلام كله ، وتنقصهم تنقص للدين كله ، وسبهم سب للدين ، وتوليهم تولي لدين الله ؛ فيجب أن نواليهم ، وأن نوالي من يواليهم ، وأن نحبهم ، وأن نحب من يحبهم ، وأن نبغض من يبغضهم ؛ رضوان الله عليهم أجمعين ، وقاتل الله من نال منهم ، أو سبهم ، أو شتمهم ، ولعن الله من كفرهم – أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – : أعلام الهدى ، ومصابيح الدجى .
اسمع بعض ما ورد في فضلهم من آيات القرآن الكريم :
قال الله – عز وجل - في حق المهاجرين لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحشر : 8 {هؤلاء المهاجرون .
وقال في الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر : 9 {
ثم قال في حق بقية الصحابة وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } الحشر : 10 { .
ومما يجدر التنبيه له : الكف عما شجر بينهم ، ومما حصل من فتن ، بسبب من اندسوا في الإسلام من أمثال عبد الله بن سبأ اليهدوي – قاتله الله - ، وغيره من المندسين ؛ فحدثت فتن في عهد الصحابة ؛ فلا يجب أن نلوك أعراضهم ، ولا يجوز أن نستغل هذه الأحداث للنيل من أحد منهم ، سواء ما جرى في وقعة الجمل بين علي ، وطلحة ، والزبير – رضي الله عنهم أجمعين - ، وأم المؤمنين الطاهرة المطهَّرة ، الصدِّيقة بنت الصديق عائشة – رضي الله عنها - ، أو ما جرى بين علي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص – رضي الله عنهم أجمعين – في صفين ، وفي غير صفين ، بل يجب أن نكف عن الخوض في هذه القضايا ، إلا بقدر ما تذكر الواقعة ؛ لبيان الواقع ؛ للتحذير من الفتن ، ثم الكف عن ذلك بعدُ ، ولا يجوز أن نعتمد على روايات المسعودي ، واليعقوبي الرافضيين فيما يتعلق بما جرى بين الصحابة ؛ فإن أكثر ما ينسب ، وينسج في هذين الكتابين ، من روايات الواقدي ، والكلبي ، وغيرهما = كله لا يصح ، وإنما هي من مخترعات أهل البدع والزيغ والضلال ؛ فيجب أن نحذر من ذلك ، وأن نكف عما شجر بين الصحابة .
يقول علي – رضي الله عنه – بعد انتهاء موقعة الصفين والجمل ، وغيرهما ، وبعد أن ندم الصحابة على ما جرى بسبب بعض المندسين ، يقول علي – رضي الله عنه - : إني لأرجو أن أكون أنا ، وطلحة ، والزبير ، ومعاوية ؛ ممن قال الله فيهم وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } الحجر : 34 { .
ونزعنا ما صدورهم من غل – رضي الله عنهم ، وأرضاهم ، وأخزى الله من أبغضهم وقلاهم - .
يقول عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - : أولئك قوم طهر الله أيدينا ، وسيوفنا من دمائهم ؛ فلنطهر ألسناتنا من أعراضهم .
وأكثر الروايات التاريخية التي تتداول في مدارسينا – ويا للأسف ! – أكثرها غير صحيحة ؛ ولذلك يجب على المسلم أن يأخذ الروايات المحقـقَّـة الصحيحة ؛ ويكاد قسم التاريخ في الجامعة الإسلامية – ولله الحمد والمنة – بالمدينة النبوية ، أن يغطي كلَّ هذه الأحداث مع الدقة في البحث عن الروايات الصحيحة ، وتفنيد الروايات الباطلة ، ولا سيما ما نسجه المبتدعون ، والمنحلون حول قضية التحكيم ، وما زيد فيها ، ونقص ، وما حيك حولها من حكايات باطلة لا تصح ، ولا تثبت عن الصحابة ، ومن أراد التوسع في هذا فليقرأ كتاب ( العواصم من القواصم ) لابن العربي ، وليس النكرة ابن عربي ! ابن العربي المالكي الإشبيلي المعارفي القرطبي أبو بكر – رحمه الله تعالى - في كتابه المعروف بـ ( العواصم من القواصم ) ، واقرأوا من الكتب الحديثة كتاب ( الانتصار للصحب والآل في الرد على السماوي الضال ) لأخينا فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم الرحيلي – حفظه الله – .
وكثير من الكتب في الرد على المبتدعة في هذا الباب ؛ فينبغي للمسلمين أن يتنبهوا .
أغرب ما مر عليّ في هذا الباب أن باحثا أكادميا ، أستاذا جامعيا أرسل إليَّ بحثا من بلد ما من بلاد المسلمين يريد أن أقومه له ؛ ليترقى به إلى درجة أستاذ مشارك ، وهي درجة معروفة عند الأكادميين ، والجامعيين ، الكتاب بعنوان ( خدعة التحكيم ) تصوروا ماذا في هذا الكتاب – عباد الله ! – ماذا في هذا الكتاب ؟
ليس في هذا الكتاب إلا سب معاوية وعمرو بن العاص – رضي الله عنهما - ، لا يوجد في الكتاب شيء غير ذلك – أبدا – ما فيه إلا السب لهذين ، ولكن أبشركم – ولله الحمد – أن الرجل قد اهتدى ورجع .
كتبتُ له جوابا على بحثه يكاد أن يكون مثل بحثه ، يزيد عن ثلاثين صفحة ، وصححت مفهومه ، وهو اعتمد – فقط – على هذين الكتابين : اليعقوبي ، والمسعودي ، وهي من أشهر كتب الضلال في التاريخ ، حتى كتب التاريخ الأخرى لم تسلم ، ولكن هذه كلها ضلال ، فلا يجوز الاعتماد عليهما .
ولا تلتفتوا – يا إخواني ! – إلى بعض شطحات الكُـتَّـاب المعاصرين الذين وقعوا ، وولغوا في أعراض الصحابة ؛ فمنهم من كفر معاوية وعمرا ، ومنهم من كفر عليا – رضي الله عنهم أجمعين - ، ومنهم من كفر كلَّ من شارك في صفين والجمل ، ومنهم من وصف معاوية وعمرا بشراء الذمم ، وبالظلم ، وبالكفر ، ونحو ذلك ، وكل هذا = قلدوا فيه إخوان القردة والخانزير ، بل إن إخوان القردة والخنازير لو سئلوا عن أفضل قومهم ؛ لقالوا : أصحاب عيسى ، ولو سئل النصارى عن أفضل أمتهم – بعد عيسى – ؛ قالوا : أصحاب عيسى ، ولو سئل هؤلاء القوم الضالون عن شر قومهم – أو عن شر الأمة - ؛ لقالوا : أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – ، عليهم من الله ما يستحقون .
فانتبهوا ! واحذروا من هذا المسلك .
هؤلاء الكُتَّاب – ويا للأسف ! – أنهم محسبون على أهل السنة ، ومع ذلك يغتر بعض الناس بكتاباتهم ، ويسميهم شهداء ! فانتبه !
الصحابة لا نسمي شهيدًا إلا من شهد له النبي – صلى الله عليه وسلم – ، أما من قتل ولم يشهد له النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ فنقول : نرجو الله أن يكون شهيدا ، أما نأتي إلى كُتَّاب ، سبوا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وكفروهم ، ونصفهم بالشهادة ! فهذه مصيبة من المصايب ، نعم نحن نترك مآلهم إلى ربهم – سبحانه وتعالى - ، ونكل مصيرهم ؛ لأنهم جهلة ، قد يعذرون بجهلهم ، الله أعلم بحالهم ، أمرهم إلى الله – سبحانه وتعالى - ، لكن هل نسكت عن كتاباتهم ، في سب الصحابة ، وتكفيرهم ؟ لا ! فالساكت عن ذلك = شيطان أخرص ، فنتبه يا عبدَ الله !
حب الصحابة = قربة ، يقرب إلى لله – عز وجل - ؛ ولذلك بـيَّـن – رحمه الله – هنا – في هذا البيت : أنه يتوسل ويتقرب إلى الله بحبهم ، لا بالتعلق بأشخاصهم ، لا بالتبرك بأجسامهم ، لا بعبادتهم ، لا بدعائهم ، لا بسؤالهم شيئا من دون الله كما يفعل كثير من المشركين في هذا العصر ، لا بالاستغاثة بهم ، وإنما نتوسل إلى الله بمحبتهم ، ومحبة كل مسلم صالح ؛ لأن هذا من الأعمال الصالحة ، ثم بـيَّـن توسله بذوي القربى ؛ من هم ؟ آل البيت المؤمنين الصالحين ، وعلى رأسهم : علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، والعباس ، وغيرهم من بني هاشم ، وبني المطلب .
وكذلك أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – = كلهم يعتبرون من آل البيت يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } الأحزاب : 33 { .
فأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يعتبرن – أيضا – مـن أهـل البيت ؛ فيجب محبتهن ، واعتقاد أنهن أمهات المؤمنين وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } الأحزاب : 6 { .
ولا يجوز أن ننال من أحد منهن ، ولا من آل البيت الطاهرين الطيبين ، كما تفعل النواصب والخوارج ؛ فنحن نبتعد – في هذا - عن منهج الروافض المارقين ، وعن منهج النواصب الخوارج المارقين ؛ فنكون وسطا في محبة أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وفي محبة آل بيته على المنهج الذي قرره أهل السنة والجماعة ، ونرى أن ذلك عمل صالح يقرب إلى الله ، كما بـيَّـن الشيخ – هنا – رحمه الله تعالى - .
(( المتن ))
وَلِكُلِّهِمْ قَـدْرٌ علا وَفَضائلٌ /// لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَـل
(( الشرح ))
الآن يبين فضله من حيث الدرجات ؛ فالصحابة كلُّـهم فاضلون ، على نحو ما بينا قبل قليل ، وكـلُّـهم عدول ، وكـلُّـهم تجب محبتهم ، وكـلُّـهم يجب اعتقاد عدالتهم ، ويجب اعتقاد أنهم أفضل الأمة بعد نبيها – صلى الله عليه وسلم – ، ولا نفرق بين أحد منهم ، لكن لا شك أن بعضهم يفضل بعضا ، فأفضلهم – على الإطلاق – الصديق أبو بكر – رضي الله عنه وأرضاه – رفيق النبي – صلى الله عليه وسلم – في الغار ، والذي قال فيه : ما طلعت على أفضل من أبي بكر .
وقال – صلى الله عليه وسلم – : ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا .
وكثيرا ما كان يردد – صلى الله عليه وسلم – ويقول : جئت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ؛ فهذا هو الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها – صلى الله عليه وسلم – ، أول من أسلم من الرجال - رضي الله عنه وأرضاه - ، والحديث عن فضله يطول ، لكننا نريد شرح هذه الأبيات باختصار .
(( المتن ))
وَلِكُلِّهِمْ قَـدْرٌ علا وَفَضائلٌ /// لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَـل
(( الشرح ))
يعني كل الصحابة لهم فضائل ، وكـلُّـهم عدول – كما بينا - .
وأفضلهم – كما بين النبي – صلى الله عليه وسلم – هو أبو بكر الصديق – رضي الله عنه وأرضاه - ، فمن نال منه = فإنما ينال من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وينال من القرآن ، وقد أثنى الله عليه في كتابه كما قال – جل وعلا - وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } الليل : 19-21 { .
وأثنى عليه في سورة الأنفال فقال إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } التوبة : 40 { فمن هو هذا الثاني ؟
أبو بكر – رضي الله عنه وأرضاه ، وأخزى الله من أبغضه وقلاه - .
(( المتن ))
وأقول في القُرآنِ ما جاءَتْ بِـه /// آياتُـهُ فَهُوَ الكريم المُنْـزَلُ
(( الشرح ))
يعني يقف في اعتقاده تجاه القرآن كما جاء في القرآن ، وكما جاء في السنة من أنه كلام الله الحق ، الذي تكلم به حقيقة ، والذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } فصلت : 42 { .
كتاب الله نزل به الروح الأمين على قلب نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – بلسان عربي مبين ، ويجب أن نفهم ما يلي ؛ حتى نسلم من الذين حرفوا في كلام الله ، وبدلوا ، ووصفوه بأنه مخلوق ، أو أنه الكلام النفسي ، أونحو ذلك ، ولا يتسع الوقت للرد على كلامهم ، وتفنيده ، لكن سنقرر عقيدة أهل السنة في هذا الباب ؛ ولذلك يجب مراعاة الأمور الآتية في معتقدك تجاه القرآن المنزل من عند الله – سبحانه وتعالى - :
أولاً : أن نعتقد أنه كلام الله : لفظه ومعناه ، لم يعبر به أحد عن الله ، ولم يتلكم به أحد نيابة عن الله ، بل هو كلام الله الذي تكلم به حقيقة وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } التوبة : 6 { .
ثانيا : يجب أن نعتقد أن جبريل سمعه من الله مباشرة ، أنه كلام الله المسموع ، بأن الله يتكلم بصوت وحرف مسموعين .
ثالثا : يجب أن نعتنقد أنه تكلم به بحرف وصوت ؛ خلافا لمن يزعم أنه عبارة عن كلام الله ؛ ولذلك ألف الإمام السجزي من تلاميذ الإمام أحمد كتابا بعنوان ( الحرف والصوت ) .
ليس ككلامنا ، وليس كنطقنا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الشورى : 11 { .
ولا يتبادر إلى ذهنك التشبيه الذي تبادر إلى أذهان الجهمية ؛ فاضطروا إلى نفي صفات الله – جل وعلا - ، لكن نقول : تكلم به كما يليق بجلاله وعظمته ، سمعه منه جبريل كما يليق بجلاله وعظمته ، بصوت وحرف كما يليق بجلاله وعظمته .
رابعا : أنه كلام الله المنزل غير مخلوق ، لماذا قيدنا بكلمة ( غير مخلوق ) ؟
لأن الجهمية ، والمعتزلة ، والرافضة ، والخوارج ، وغيرَهم من الفرق الضالة ، كلهم يَـدَّعون أن القرآن مخلوق .
وقد التحق بهم طوائف أخرى ، ولكن أخطر هذه الأقوال : هو قول القائلين : بأن القرآن مخلوق كسائر المخلوقات ، ونحن نقول : إنه كلام الله الذي تلكم به حقيقة ، وأنزله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – بواسطة رسوله ، وسفيره بينه وبين رسله : جبريل – عليه السلام - .
خامسا : أن يعتقد المؤمن أن القرآن المتلوَّ بالألسن = هو كلام الله .
سادسا : أن نعتقد أن القرآن المحفوظ في الصدور = هو كلام الله .
سابعا : أن نعتقد أن القرآن المكتوب في المصحف = هو كلام الله .
ثامنا : يقال إن المداد الذي هو الحبر ، والورق مخلوقة كما قال ابن القيم – رحمه الله – : ومداده والرق مخلوقان .
أما ما تقدم من الأوصاف ؛ فإنه بتلك الأوصاف غير مخلوق .
لماذا قيدنا بهذه القيود : أن القرآن المتلوَّ ، أن القرآن المحفوظ ، أن القرآن المكتوب = هو كلام الله ، لماذا قيدنا ؟
لأن هناك من يعتقد أنه عبارة ، أو حكاية عن كلام الله .
(( المتن ))
وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّهـا ///حَقـاً كما نَقَـلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ
(( الشرح ))
المقصود بهذا البيت أن ما ثبت في كتاب الله – جل وعلا – من الأسماء والصفات يمرها كما جاءت على مراد الله – تبارك وتعالى – دون أن يخوض فيها بأي تأويل ، أو تعطيل ، أو تكييف ، أو تمثيل ، أو تشبيه ، أو تأويل ، على حد قوله – تعالى – لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى : 11 {.
وقوله ( كما قال الطراز الأول ) أي كما قال السلف الصالح ؛ لأنه من المعلوم أن كل خير في اتباع من سلف ؛ فالسلف ، والطراز الأول ، والقرون الأولى الذين قعَّدوا هذه القواعد وفق هدي النبي - صلى الله عليه وسلم – هم الذين يجب أن نتبع هديهم ، وأن نسير على منهاجهم ، وأن نحذو حذوهم كما قال الله – جل وعلا - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه } التوبة : 100 { .
وقال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} الأنعام : 90 { .
وقال – جل وعلا - وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } النساء : 115 { .
يقول حذيفة – رضي الله عنه - : عليكم بالعتيق .
ويقول ابن مسعود – رضي الله عنه - : من كان متأسيا ؛ فليتأس بأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبكل حال .
ومذهبهم في الأسماء والصفات أنهم يمرونها كما جاءت بلا كيف ، نقلت هذه العبارة عن عشرات من السلف الصالح ، لاسيما في القرون – القرنين : الثاني والثالث ، بعد أن كثر اللغط والتأويل والتعطيل في أسماء الله وصفاته ؛ فقالوا عبارتهم المشهورة ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) قالها مالك ، والأوزاعي ، وقالها مكحول ، وقالها الليث ، وقالها غيرث واحد من السلف ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) ، بمعنى أن كلَّ ما ورد في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات يجب إمراره ، والإيمان به على مراد الله – جل وعلا - ولا نأوله ، ولا نعطله ، ولا نحرفه ، ولا نشبهه ، ولا نمثله ، ولا نكيفه ، والميزان في ذلك قول الله – سبحانه وتعالى - لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الشورى : 11 {.
فإذا أخبر الله – جل وعلا – عن نفسه بصفة وجب إثباتها ، والإيمان بمعناها وآثارها ، كما قال الإمام مالك – رحمه الله – في الاستواء ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ) ، وكذا نقول في سائر الصفات .
اليد معلومة ، والكيف مجهول ، والإيمان بها واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة .
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } الرحمان : 27 { .
الوجه معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة .
وكما قال - تبارك وتعالى - وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } الفجر : 22 { .
نقول : المجيء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ؛ فنتجنب – بذلك - مزالق الجهمية ، والمعتزلة ، والخوارج ، والرافضة ، ومن نهج نهجهم من الفرق الأخرى .
(( المتن ))
وأَرُدُّ عُهدتها إلى نُقَّالِهـا ///وأصونُها عـن كُلِّ ما يُتَخَيَّلُ
(( الشرح ))
وأرد عهدتها يعني : أرد معناها إلى أولئك النَّـقَـلَة الذين نقلوها لنا بكل صدق وأمانة ، ولا نتجاوز ما هم عليه من الإيمان بها ، وبمعانيها على الوجه الذي يليق بجلال الله وعظمته ؛ فلا نكيف ، ولا نمثل ، ولا نعطل ، ولا نتجاوز مواقفهم : بإفراط ، أو تفريط ، بتشبيه ، أو تعطيل ؛ وبهذا الأمر كان أهل السنة وسطا بين المشبهة والمعطلة ، كانوا وسطا في باب الصفات بين المشبهة والمعطلة ، فهو يقول : أنا لا أتحول عن منهج السلف في باب الأسماء والصفات ؛ فأثبت لله ما أثبت لنفسه ، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم – ، وأنفي عنه ما نفى عن نفسه ، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم – ، ولا أتحول عن هذا المبدأ الذي كان عليه السلف الصالح .
(( المتن ))
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القرآن وراءَهُ /// وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ
(( الشرح ))
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القرآن وراءَه ، ويجوز تسهيل الهمزة ؛ فنقول : القران ، وأصلا ( القرآن ) وتسهل فيقال : القران .
من هو الأخطل ؛ حتى نعرف أصحاب هذه العقيدة ؟
الأخطل شاعر نصراني في الصدر الأول في عهد الدولة الأموية ، وهذا الأخطل نصراني ، وهو معروف بسكره وفجره ؛ فضلا عن كونه كافرا نصرانيا .
هناك فرقتان بالأحرى تفرعتا عن الجهمية والمعتزلة ، وهما أقرب الناس إلى أهل السنة ، وهم مسلمون ، لكنهم مبتدعة في هذا الباب ، أي باب الأسماء والصفات ، هاتان الفرقتان يقولون في الصفات بخلاف ما قرره القرآن ، والشيخ – هنا – يقول : أنا أقرر ما قرره القرآن ، ولا أقرر من الأخطل ؛ لأن الأشاعرة ، والماتريدية - نسأل الله لنا ولهم الهداية ، والعودة إلى الصواب - ماذا يقولون في القرآن ؟ إنه عبارة عن كلام الله ! أو حكاية عن كلام الله ، طيب يا مساكين ! لماذا قلتم هذا ؟
قالوا : لأنا لو قلنا : إن القرآن كلام الله على الحقيقة ، للزم من ذلك التجسيم ، والتشبيه ؛ لأن الكلام لا يصدر إلا من لسان ، وأسنان ، وشفتين ، وحنجرة ، وبلعوم ، وحبال صوتية !
أول ما خطر ببالهم التشبيه – والعياذ بالله – ؛ فلما خطر ببالهم التشبيه = انتقلوا إلى بيت الأخطل ، وقالوا : الكلام هو المعنى القائم بالنفس ، وإن الله لا يتكلم حقيقة ، وإنما يتكلم كلاما نفسيا ؛ فإن كان الكلام باللغة العربية سمي قرآنا ، وإن كان بالسريانية سمي إنجيلا ، وإن كان بالعبرية سمي توراة .
طيب ! سؤال يا مساكين ! تعالوا !
أنتم تقولون : عبارة عن كلام الله ؛ من الذي عبر عن الله ؟ أهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، أم جبريل – عليه السلام - ؟
يلزمكم أحد أمرين :
إما أن تقولوا بقول المعتزلة ، وأن الله خلقه في الهواء ، وسمعه جبريل من الهواء ، أو النبي – صلى الله عليه وسلم – من الهواء .
وإما أن ترجعوا إلى قول أهل السنة ، وهو أنه كلام الله الذي تكلم به حقيقة على الوجه اللائق بجلاله وعظمته .
هم قالوا : نحن لو قلنا : بأنه الكلام الحقيق لزم منه كذا ، وكذا ، وكذا ، مما ذكرتُه قبل قليل .
طيب ما الحل ؟
قالوا : الحل نقول : إنه حكاية ، أو عبارة عن كلام الله .
القرآن حكاية عن كلام ، أو عبارة عن كلام الله !! من الذي ناب عنه ؟
وهل هو عاجز عن الكلام حتى يُـعَـبَّـر عنه ؟ - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - .
ما زادوا في هذا على أن شبهوا الله بالأخرص الذي لا يستطيع الكلام - تعالى الله عما يقولون علوا كبير - .
وهذه العقيدة من أفسد العقائد ، وكأنهم ينسبون الله إلى العجز ، والخرص ، وعدم القدرة على الكلام ، وهذا أمر في غاية الخطورة .
طيب ! لماذا يا مساكين ؟!
قالوا : يلزم منه كذا ، وكذا ، طيب ! ما دام قلتم : إنه يلزم من الكلام كذا ، وكذا ، يلزم من عدم الكلام ماذا ؟
الخرص ، وعدم القدرة على الكلام ؛ فأنتم فررتم مما تصورتم أنه تشبيه بالموجود ؛ فشبهتم الله بالمعدوم ؛ ولذلك يقول أهل السنة : إن المعطلة يعبدون عدما ، وإن المشبهة يعبدون صنما .
المشبهة - كاليهود - يعبدون أصناما ، الذين قالوا : إن طوله كذا ، وعرضه كذا ، وأنه يستوي كما نستوي ، ويتكلم كما نتكلم ؛ هؤلاء شبهوه بالأصنام ، المعطلة الذين نفوا الصفات شبهوه بالعدم ؛ فأصبحوا يعبدون عدما .
الآن : أنا أسأل سؤالا : يعين لو جاءنا واحد من المعاتيه ، فقال : فلان من الناس ، زيد من الناس ليس في الحرم ، ولا خارج الحرم ، لا فوق الأرض ، ولا تحت الأرض ، ولا في السماء ، ولا في الأرض ، ولا في الشرق ، ولا في الغرب ، ولا أمام لاو خلف ، ولا يمين ، ولا شمال ، ولا فوق ، ولا تحت ؛ النتيجة ماذا ؟ العدم . أن هذا الشيء ما هو إلا أمر خيالي ، وجوده وجود ذهني ، ليست له حقيقة في واقع الأمر ، وهذا ما انتهت إليه المعتزلة في نهاية المطاف ؛ عندما قالوا : لا نقول موجود ، ولا معدوم ، ولا متصل ، ولا منفصل ، ولا فوق العالم ، ولا تحت العالم ، ولا فوق ، ولا شمال ، ولا جنوب ، ولا يمين ، ولا ... إلى آخره .
إذًا النتيجة ماذا ؟ تصبح العنقاء أقرب منه وجودا – المستحيلة – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - ، وأصبح قولهم قريبا من قول فرعون مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } القصص : 38 { .
فإذًا القضية خطيرة جدا ، هم لا يدركون هذه الحقيقة ؛ ولذلك لو سألتهم من الذي عبر عن القرآن : جبريل ، أم محمد ؟
سيسكتون ، لا يجيبون .
إذًا قولكم ، واستدلالكم ببيت الأخطل = استدلال فاسدٌ ، باطلٌ .
ما هو بيتُ الأخطلِ ؟
قال :
إن الكلام لفي الفؤاد /// وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
أولا : هذا البيت لا يثبت في ديوان الأخطل المعروف ، نعم ، الأخطل يقال : إنه من آخر من يحتج بشعرهم في باب اللغة ، والنحو ، لا في باب العلم الشرعي ، يعني في باب اللغة العربية ، ومع هذا فإن هذا البيت لا يوجد في دواوينه .
ثانيا : الأخطل رجل نصراني يعتقد اتحاد اللاهوت بالناسوت ، ومعنى ذلك أن الإله اتحد مع الناس ؛ فلا فرق – حينئذ – بين الإنسان والله – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ، وهذه ما سرت إلى عقيدة بعض المتصوفة أتباع ابن عربي القائلين بأن :
العبد رب والرب عبد /// فليت شعري من المكلف
إذًا عقيدة نصرانية ، وهو لا يفرق بين الصفة والموصوف ، ولا بين الخالق والمخلوق – حينئذ - ؛ فهل يعتد ، أو يحتج بشعر من كان هذا معتقده ؟!
ثالثا : أن الذي يروى في المشهور :
إن البيان ، وليس : إن الكلام ...
إن البيان لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
يعني يبدأ بفكرة في الفؤاد ، ثم توضح بالكلام ؛ فأصبح - بهذه الرواية – لا حجة فيه لهم .
رابعا : من المعلوم أن الكلام في الصلاة محرم أليس كذلك ؟
ومن تكلم في الصلاة متعمدا = بطلت صلاته ، طيب ! من وسوس ، أو حدثته نفسه ، تبطل صلاته ، أو لا تبطل ؟
لا تبطل ، ومعنى كلامهم – أننا لو قلنا بهذا - الكلام في الفؤاد ؛ لقلنا : كل من حدثته نفسه بشيء بطلت صلاته ؛ لأنه يعتبر متكلما ، يعتبر متكلما بهذا المعنى الفاسد ، وقد أجمع أهل السنة على أن الذي تحدثه نفسُـه ، أو تهجم عليه بعض الوسوسة في صلاته ؛ فإن صلاته صحيحة ؛ لأنه لم يتلكم ، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس ) .
فلذلك بطل استدلالهم ببيت الأخطل . فيقرر شيخ الإسلام : إنني أعتقد ما جاء في القرآن من أن الله يتكلم متى شاء ، إذا شاء ، كيف شاء ، وأن القرآن كلام الله الذي تكلم حقيقة : لفظه ، ومعناه - المكتوب في المصاحف ، والمحفوظ في الصدور ، والمتلوُّ بالألسن = كـلُّه كلام الله غير مخلوق ، ولا أقرر ما يقرره الأخطل النصراني ، كما يستدل على ذلك بعض المبتدعة .
(( المتن ))
والمؤمنون يَـرَوْنَ حقـاً ربَّهُمْ /// وإلى السَّمـاءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ
(( الشرح ))
قرر في هذا البيت – رحمه الله – مسألتين :
المسألة الأولى : مسألة رؤية الباري – سبحانه وتعالى - ؛ فهو يعتقد – كما يعتقد سائر أهل السنة – أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر ، أو كما يرون الشمس ليس دونها سحاب ، وهذا هو معتقد أهل السنة قاطبة ، وخالف في هذا المعتقد أربع طوائف ، وبعض الطوائف توافقهم – أحيانا - ، وتخالفهم - أحيانا أخرى - .
الطوائف التي أنكرت الرؤية هم : الجهمية ، والمعتزلة ، والرافضة ، والخوارج ، وحري بمن أنكر رؤية الباري – سبحانه وتعالى – يوم القيامة في الجنة أن يحرم منها . يقول الإمام الشافعي – رحمه الله – في معنى قول الله – سبحانه وتعالى – كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } المطفيفين : 15 { ؛ بما أن هؤلاء قد حجبوا عن الله – تعالى - حال السخط ؛ فإن المؤمنين يرونه حال الرضا ، أو كما قال – رحمه الله تعالى - .
فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة : أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة رؤية حقيقة ، وقد دلت عليها النصوص من الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة : أعني إجماع أهل السنة ؛ لأن تلك الفرق لا يعتد برأيها ، ولا بآرائها ، ولا بأقوالها ، ومن شذ شذ في النار .
إذًا أجمع أهل السنة على أن المؤمنين يرون ربهم ، وسنذكر دليلا واحدا من الكتاب ، ومن السنة ، وبيان إجماع الأمة ونمضي .
استدل أهل السنة بأدلة كثيرة من القرآن ، منها قول الله - تعالى – وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } القيامة : 22 – 23 { وجه الاستدلال من الآية من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول : أن الله عبر بالوجوه التي هي محل النظر ؛ لأن موقع العينين في الوجه ، والعينان هما محل النظر .
الوجه الثاني : أن الله – تبارك وتعالى – عدى الفعل بحرف ( إلى ) ( إلى ربها ناظرة ) ، الأولى ( ناضرة ) بالضاد ، المقصود : فرحة ، مسرورة ، منبسطة ، نضرة ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ؛ فأداها كما سمعها ) .
فـ( إلى ربها ناظرة ) الثاني تعديته الفعل ( نظر ) بحرف ( إلى ) .
الوجه الثالث : خلو الفعل ، أو خلو السياق من قرينة تصرف عن هذا المعنى الذي هو الرؤية الحقيقة إلى معنى آخر .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } القيامة : 22 – 23 { كما استدلوا بقول الله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} يونس : 26 { ؛ وهذه الآية فسرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؛ فعن صهيب – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ينادي الله أهل الجنة ، إذا دخل أهل الجنة نادى منادٍ : يا أهل الجنة ! إن لكم موعدا سوف ننجزكموه ؛ فيقولون :
يا ربنا ! ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة ؟ ألم تزحزنا عن النار ؟
قال : بلى ؛ إن لكم موعدا لن تخلفوه ؛ فيتجلى لهم ؛ فيرونه ، وينظرون إليه ، وهذا أفضل نعيم يراه المؤمنون ؛ حيث ينسون كل شيء مع هذه الرؤية ، وأما الأحاديث فهي كثيرة ومنها قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : إنكم سترون ربكم ، كما ترون القمر ليلة البدر لا تُـضَـامون في رؤيته ، وفي رواية لا تُـضُأرُّونه ، وفي رواية لا تَـضَامُون أي لا تتزاحمون .
كل كأنه ينظر إليه وحده ، وهم يرونه جميعا ، لكن كل واحد كأنه ينظر إليه مستقلا ، وهذا فضل من الله ، ومنة الله – سبحانه وتعالى - .
فانتبه لهذا ! وانتبه لهذا الاستدلال العظيم !
وهذا محل إجماع بين أهل السنة .
المسألة الثانية : أن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل ؛ فماذا يقول الناس ؟ أو ماذا ينبغي أن يفعلوا في مثل تلك اللحظات ؟
عندما يتجلى ؛ فينزل إلى السماء الدنيا ؛ فيتجلى لعباده ، وينادي : من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له ، من يسألني فأعطيه .
فأهل السنة يؤمنون بأنه ينزل نزولا يليق بجلاله وعظميته .
كيف ينزل ؟
ينزل كيف يشاء .
متى ينزل ؟
حين يبقى الثلث الأخير من الليل ؟
ما الطريقة التي ينزل بها ؟
الله أعلم .
هل يخلو منه العرش ، أو لا يخلو ؟
الله أعلم .
هذا علمي غيبي .
كيف يأتي والسماوات طباقا ؟
الله أعلم .
استبعد كلمة ( كيف ) فإنها خطيرة ، لو أدخلت نفسك في كلمة ( كيف ) = لما انتهيت إلى الأبد ؛ ولذلك لو قال لنا قائل :
ما دليل النزول ؟
قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأحاديث المتواترة ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل ؛ فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له ، من يسألني فأعطيه ) هو حديث يبلغ حد التواتر المعنوي ؛ ولذلك يجب الإيمان به ، وعدم تكييفه ، أو تفويضه ، نقول : ينزل نزولا يليق بجلاله وعظمته ، مثل الاستواء ، نقول : النزول معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة = هذا هو ما يجب اعتقاده في نزول الرب – سبحانه وتعالى - ، ولسنا مكـلَّـفين أن نبحث كيف ينزل ؟ ولا كيف يكون ذلك ؟ مع أن النزول عندنا – الآن - غير النزول في أمريكيا ، أو في اليابان شرقا - مثلا - .
إذًا المقصود أن نؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة ، ولا نناقش بغير دليل ؛ فيجب الإيمان بصفة النزول .
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ؛ أما بعد : فهذا تفريغ آخر - وفقني الله - سبحانه وتعالى - لتفريغه ، وهأنذا أقوم بتنزيله ابتغاء حصول النفع من ورائه .
وهناك عدة تفريغات يسر الله إتمامها ومراجعتها - سأقوم بتنزيلها على الشبكة ، وغيرها من الشبكات ؛ ليعم النفع ، والآن مع الشرح :
شَرْحُ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ صّالِحٍ السُّحَيْمِيِّ
لِلْقَصِيدَةِ اللَامِيَّةِ
الْـمَنْسُوبَةِ إِلى شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةِ – رَحِمَهُ اللهُ –
بسم الله الرحمان الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه – صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه أجحمعين .
ثم أما بعد :
فقد رأى بعض الإخوة أن نشرح - في هذين اليومين ، أو لعلنا ننتهي منها اليوم : الصباح والليلة المغرب - قصيدة اللامية لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – حول بعض مسائل العقيدة ، وهي قرابة ستة عشر بيتا ، لعلنا أن نجتهد في أن نخلص ، أو ننهيها الليلة العشاء - إن شاء الله - .
ودراسة كتب السلف والمتون الشرعية لها فوائد عظيمة تربط طالب اللعم بالسنة . بهدي النبي – صلى الله عليه وسلم - ؛ ولذلك فإن التركيز على مثل هذه المتون = نافع جدا للمسلمين عامة ، ولطلبة العلم خاصة .
ونبدأ مباشرة – إن شاء الله – في هذه القصيدة اللامية ، ونجتهد في شرحها باختصار – إن شاء الله تعالى - .
المقدمة
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وعلى آله وأصحابه ومن والاه – فهذه قصيدة اللامية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وهي زهرة من بستانه اليانع بالأزهار ؛ ليشم عبقها وعبيرها أهل السنة والآثار ، وهي شوكة وغصة وسهم من كنانيته في حلوق أهل الزيغ والضلال ، يعلن فيها عن مذهبه واعتقاده ليستنار ، ويخصم بها كل مشبه ومعطل وجبار .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله – في قصيدته اللامية .
(( المتن ))
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي /// رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
(( الشرح ))
بدأ الشيخ – رحمه الله تعالى - بهذا البيت :
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي ///رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
بدأ – رحمه الله تعالى – بمخاطبة إخوانه المسلمين الذين يسألونه عن مذهبه ، وعقيدته ؛ لأن البعض يشكك ، ولا سيما أولئك الذين ابتلوا بالانحراف في العقيدة ، بالوقوع في البدع والخرافات ، بل وربما أحيانا في الشركيات ؛ فإنه أراد أن يبين لهم معتقده هذا ؛ حتى يتضح أنه موافق لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم – .
والعقيدة هو ما يعقد عليه القلب ، قد تكون عقيدة فاسدة ، وقد تكون صالحة ؛ ولذلك فإنها تتضح من خلال توجه صاحبها ، فمن اعتقد منهج أهل السنة والجماعة وسار على ذلك = فهي العقيدة الصحيحة السُّـنية السلفية ، ومن حاد عن ذلك = فهي عقيدة خرافية ، بغض النظر عن قربها ، أو بعدها من هدي الإسلام ، بحسب حال صاحبها ، والمذهب هو المنهج الذي يسير عليه المرءُ : في الفقه ، في السلوك ، في التعامل ، في العبادة ، في الحدود ، في الأحكام ؛ فالمذهب هو الطريقة ، ولا يلزم إذا قيل : مذهب فلان كذا من السلف ، أو مذهب أهل السنة كذا ؛ أن يكون مذهبا يختص به دون غيره من أهل السنة ، وإنما المراد أنه يتمذهب ويسير على طريقة أهل السنة والجماعة : قولا ، وعملا ، واعتقادا ، فلا يحيد عن ذلك قِـيدَ أُنملة ، يلزم السنة ، يتمسك بها ، يعض عليها بالنواجذ ، بكل ما يستطيع .
وشيخ الإسلام : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن يتيمة المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة = معروف بجهاده : بلسانه ، وقلمه ، ونفسه ؛ فقد شارك في الجهاد ضد التتار والمغول ، وشارك بجهاده في الذب عن العقيدة ، وتقرير عقيدة السلف ، ودحض شبه المشبهين ، كما شارك بقلمه السيال في إثراء المكتبة الإسلامية بما صفا ، وطاب من منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة ، والفقه ، والسلوك ، ومن ذلك : هذه القصيدة .
ثم بعد أن نادى سائله ليبين له عقيدته ، بـيَّـن أن مَـن رُزِقَ الفقه في الدين = هو االذي يهدى – يهديه الله إلى عقيدة السلف الصالح ، ويسأل عنها ؛ ليعض عليها بالنواجذ ، وليسير عليها ، وليلزمها ؛ لأنه طريق الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } النساء : 69 { ومن شذ عن هذا المنهج فهو متبع لغير سبيل المؤمنين ، قال الله – عز وجل - وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}النساء :115 {.
ولذلك :
فإن كل خير في اتباع من سلف /// وكل شر في اتباع من خلف
(( المتن ))
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِه /// لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّل
(( الشرح ))
يبين لمخاطَـبه بأن كلامه الذي سيقوله = هو الكلام الحق الذي لا مرية فيه ، وأنه ثابت عليه ثبوت الجبال الراسيات ، وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه كل مؤمن ، بأن يتمسك بالعقيدة الصافية المستمدة من كتاب الله – جل وعلا – ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - وفق منهج السلف الصالح ؛ فهو يقول : أيها الأخ المسلم الذي تبحث عن الحق عليك أن تسمع ما أقوله ، والذي أخذته من كتاب الله – جل وعلا - وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والذي لا يثنيني عنه أي ثانٍ ، ولا يمنعني من سلوكه – طالما توكلت على الله - جل وعلا - ، واعتمدت عليه ، واستعنت به وحده ؛ فإنني أسير على هذا المنهج الحق الذي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه ، وهكذا ينبغي – بل يجب – أن يكون هذا شأن كل مسلم ، يجتهد في اتباع منهج السلف ، بعد أن يتعلم ، ويتفقه في دين الله ؛ لأن الفقه في دين الله = يحمي الله به المؤمن من الإفراط والتفريط ؛ لأنه المنهج الوسط الذي كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } الأنعام : 90 { .
فعليك – يا عبدَ اللهِ ! – أن تلزم هذا المنهج ، وأن تسير عليه ، وسنبين طريق السير عليه ، كيف يكون ، وما أسبابه - بإذن الله – تبارك وتعالى – .
وأن لا يثنيه عنه أيُّ أمر إلى أن يلقى الله – تبارك وتعالى – وهو على ذلك ؛ وذلك بالاعتماد على الله ، والتوكل عليه ، وسؤاله الثبات على الحق ؛ ولذلك أمرنا أن نسأل الله الثبات في السجود ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينتك ) وقال – صلى الله عليه وسلم – أيضا - : ( إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابيع الرحمان يقلبها كيفما شاء ) .
فعلى المسلم أن يجتهد في السير على منهج السلف الصالح ، بعيدا عن الإفراط والتفريط ؛ لأن هذا هو الطريق السوي الذي يقرب إلى الله – عز وجل - ، وهو طريق النجاة ، وهو طريق الفرقة الناجية ، والطائفة المنصورة ، والجماعة المؤمنة التي تسعى أن تكون ثابتة على هدي النبي – صلى الله عليه وسلم - .
فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها .
(( المتن ))
حُبُّ الصَّحابَةِ كُـلِّهُمْ لي مَذْهَبٌ /// وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّــل
(( الشرح ))
من المعلوم في الشرع أن أحد أنواع التوسل المشروعة هي التوسل بالعمل الصالح ؛ لأن التوسل – كما تعلمون – رحمني الله وإياكم – على ثلاثة أقسام :
الأول : التوسل بأسماء الله وصفاته ؛ كقول النبي – صلى الله عليه وسلم – ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) .
الثاني : التوسل إلى الله بالعمل الصالح كقول الله – سبحانه وتعالى – حكاية عن الحورايين رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } آل عمران : 53 { .
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما سمع رجلا يدعو قائلا : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ) قال – صلى الله عليه وسلم - : لقد دعا اللهَ باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب .
وقد جمع في هذا الدعاء بين التوسل بأسماء الله وصفاته ، والتوسل بالأعمال الصالحة .
والعمل الصالح الذي يتوسل به لابد له من شرطين :
- أن يكون خالصا لوجه الله .
- أن يكون موافقا لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم - .
الثالث : التوسل إلى الله – تعالى – بدعاء المسلم الصالح الحي القادر على الدعاء ، كما جاء في حديث استسقاء الصحابة – رضوان الله عليهم - بدعاء عمر بن الخطاب ، وفي حديث الرجل الذي في الصحيحين الذي جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال : يارسول الله ! هلكت الأموال ، وتقطعت السبل ، فادع الله أن يغيثنا ، وغير ذلك من أدلة التوسل إلى الله بدعاء المسلم الصالح .
وكانوا في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يتوسلون بدعائه ، وبعد وفاته – عليه الصلاة والسلام – يختارون من يتوسمون فيه الصالح ؛ فيطلبون منه الدعاء في الاستسقاء وغيره ، ولم يتوسلوا به بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم – ؛ لعلمهم أن المقامَ مقامُ دعاءٍ .
فهنا : شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى - يتوسل بأمرين ، يتقرب إلى الله بأمرين :
الأمر الأول : حب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ لأنه من الأعمال الصالحة ، من أعمال القلوب ؛ حب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وهو من أعمال القلوب .
الأمر الثاني : حب آل البيت ؛ لأنهم لهم ميزة خاصة على غيرهم ؛ فيجب أن يُـحَـبَّ المؤمن منهم محبة خاصة ؛ فلذلك هو يتوسل إلى الله بهذين الأمرين ، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة = من أنواع التوسل المشروع ؛ ولذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار .
الصحابة الكرام !
والصحابي : هو كل من لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – مؤمنا ] به [ ، ومات على ذلك ، ولو تخللت ذلك ردة على الصحيح .
وأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كلهم عدول ، يجب توليهم ، والترضي عنهم ، وحبهم ، واعتقاد عدالتهم ، وتفضيلهم على كل الناس بعد رسول – صلى الله عليه وسلم – ، والأنبياء .
فهم صحبه الكرام ، لا نفرق بين أحد منهم ، كما فعل ذلك أهل الزيغ والبدع والضلال ، وإنما نتولاهم جميعا بلا استثاء ، وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة ، وعلى رأس هؤلاء العشرة الخلفاء الراشدون : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي – رضي الله عنهم - .
وبعد العشرة يأتي أهل بدر .
ثم المهاجرون .
ثم الأنصار .
ثم أهل بيعة شجرة الرضوان .
ثم من أسلم قبل الفتح .
ثم من أسلم بعد الفتح .
فيجب توليهم جميعا ، وقد تجاوزا مئة وعشرين ألفا يوم حجة الوداع .
ولا يجوز أن نفرق بينهم ، كما يفعل أهل الزيغ والضلال ، وأهل البدع والانحلال ، بل الصحابة كلهم عدول = يجب توليهم جميعا .
ومن كفرهم جميعا = فهو كافر .
ومن اعتقد ارتداتهم = فهو المرتد .
ومن سب أحدا منهم = فهو المسبوب .
ومن نال من أحد منهم = فهو مبتدع ضال مارق .
رضي الله عنهم ، وأرضاهم ، وأخزى الله من أبغضهم وقلاهم .
ولذلك شيخ الإسلام – هنا – يبين - في هذا البيت - أنه يتقرب إلى الله بحبهم ، والتقرب بحب الصالحين = عمل صالح ، ليس المراد بالتقرب : التمسح بالصالحين ، أو التعلق بهم من دون الله ، أو دعائهم ، أو الاستغاثة بهم ، لا الصحابة ، ولا غير الصحابة ، ولا الأنبياء .
حتى الأنبياء لا يستغاث بهم ، ولا يدعون من دون الله ، ولا الصحابة ، ولا الصالحون ، ولا الأولياء ؛ فالاستغاثة بهم ، أو دعاؤهم من دون الله = شرك أكبر = يخرج من حظيرة الإسلام ، لكننا نتوسل إلى الله بحبهم ، وهو التوسل المشروع ، وحبهم = عمل صالح من أعمال القلوب الصالحة ؛ ولذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : من السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه .
ويقول – صلى الله عليه وسلم – : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار .
تنبهتم إخوتي ؟!
ولذلك فإن حب جميع المسلمين المخلصين ، أهل السنة = عبادة ، وعمل يقرب إلى الله – سبحانه وتعالى – .
فيجب أن نحب المسلمين أهل السنة لإسلامهم ، المسلمين : أهل السنة ، المستقيمين على طاعة الله ، السائرين على هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وعلى رأسهم – كما ذكرنا – أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ الذين بهم قام القرآن ، وبه قاموا ، وبهم نطق القرآن ، وبه نطقوا = أولئك الأفذاذ الذين نضَّرَ الله وجوههم بصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، والتلقي عنه مباشرة ، فهم نقلة السنة ، وهم نقلة القرآن ، وهم نقلة الإسلام ؛ فالنيل منهم = نيل من الإسلام كله ، وتنقصهم تنقص للدين كله ، وسبهم سب للدين ، وتوليهم تولي لدين الله ؛ فيجب أن نواليهم ، وأن نوالي من يواليهم ، وأن نحبهم ، وأن نحب من يحبهم ، وأن نبغض من يبغضهم ؛ رضوان الله عليهم أجمعين ، وقاتل الله من نال منهم ، أو سبهم ، أو شتمهم ، ولعن الله من كفرهم – أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – : أعلام الهدى ، ومصابيح الدجى .
اسمع بعض ما ورد في فضلهم من آيات القرآن الكريم :
قال الله – عز وجل - في حق المهاجرين لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحشر : 8 {هؤلاء المهاجرون .
وقال في الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر : 9 {
ثم قال في حق بقية الصحابة وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } الحشر : 10 { .
ومما يجدر التنبيه له : الكف عما شجر بينهم ، ومما حصل من فتن ، بسبب من اندسوا في الإسلام من أمثال عبد الله بن سبأ اليهدوي – قاتله الله - ، وغيره من المندسين ؛ فحدثت فتن في عهد الصحابة ؛ فلا يجب أن نلوك أعراضهم ، ولا يجوز أن نستغل هذه الأحداث للنيل من أحد منهم ، سواء ما جرى في وقعة الجمل بين علي ، وطلحة ، والزبير – رضي الله عنهم أجمعين - ، وأم المؤمنين الطاهرة المطهَّرة ، الصدِّيقة بنت الصديق عائشة – رضي الله عنها - ، أو ما جرى بين علي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص – رضي الله عنهم أجمعين – في صفين ، وفي غير صفين ، بل يجب أن نكف عن الخوض في هذه القضايا ، إلا بقدر ما تذكر الواقعة ؛ لبيان الواقع ؛ للتحذير من الفتن ، ثم الكف عن ذلك بعدُ ، ولا يجوز أن نعتمد على روايات المسعودي ، واليعقوبي الرافضيين فيما يتعلق بما جرى بين الصحابة ؛ فإن أكثر ما ينسب ، وينسج في هذين الكتابين ، من روايات الواقدي ، والكلبي ، وغيرهما = كله لا يصح ، وإنما هي من مخترعات أهل البدع والزيغ والضلال ؛ فيجب أن نحذر من ذلك ، وأن نكف عما شجر بين الصحابة .
يقول علي – رضي الله عنه – بعد انتهاء موقعة الصفين والجمل ، وغيرهما ، وبعد أن ندم الصحابة على ما جرى بسبب بعض المندسين ، يقول علي – رضي الله عنه - : إني لأرجو أن أكون أنا ، وطلحة ، والزبير ، ومعاوية ؛ ممن قال الله فيهم وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } الحجر : 34 { .
ونزعنا ما صدورهم من غل – رضي الله عنهم ، وأرضاهم ، وأخزى الله من أبغضهم وقلاهم - .
يقول عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - : أولئك قوم طهر الله أيدينا ، وسيوفنا من دمائهم ؛ فلنطهر ألسناتنا من أعراضهم .
وأكثر الروايات التاريخية التي تتداول في مدارسينا – ويا للأسف ! – أكثرها غير صحيحة ؛ ولذلك يجب على المسلم أن يأخذ الروايات المحقـقَّـة الصحيحة ؛ ويكاد قسم التاريخ في الجامعة الإسلامية – ولله الحمد والمنة – بالمدينة النبوية ، أن يغطي كلَّ هذه الأحداث مع الدقة في البحث عن الروايات الصحيحة ، وتفنيد الروايات الباطلة ، ولا سيما ما نسجه المبتدعون ، والمنحلون حول قضية التحكيم ، وما زيد فيها ، ونقص ، وما حيك حولها من حكايات باطلة لا تصح ، ولا تثبت عن الصحابة ، ومن أراد التوسع في هذا فليقرأ كتاب ( العواصم من القواصم ) لابن العربي ، وليس النكرة ابن عربي ! ابن العربي المالكي الإشبيلي المعارفي القرطبي أبو بكر – رحمه الله تعالى - في كتابه المعروف بـ ( العواصم من القواصم ) ، واقرأوا من الكتب الحديثة كتاب ( الانتصار للصحب والآل في الرد على السماوي الضال ) لأخينا فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم الرحيلي – حفظه الله – .
وكثير من الكتب في الرد على المبتدعة في هذا الباب ؛ فينبغي للمسلمين أن يتنبهوا .
أغرب ما مر عليّ في هذا الباب أن باحثا أكادميا ، أستاذا جامعيا أرسل إليَّ بحثا من بلد ما من بلاد المسلمين يريد أن أقومه له ؛ ليترقى به إلى درجة أستاذ مشارك ، وهي درجة معروفة عند الأكادميين ، والجامعيين ، الكتاب بعنوان ( خدعة التحكيم ) تصوروا ماذا في هذا الكتاب – عباد الله ! – ماذا في هذا الكتاب ؟
ليس في هذا الكتاب إلا سب معاوية وعمرو بن العاص – رضي الله عنهما - ، لا يوجد في الكتاب شيء غير ذلك – أبدا – ما فيه إلا السب لهذين ، ولكن أبشركم – ولله الحمد – أن الرجل قد اهتدى ورجع .
كتبتُ له جوابا على بحثه يكاد أن يكون مثل بحثه ، يزيد عن ثلاثين صفحة ، وصححت مفهومه ، وهو اعتمد – فقط – على هذين الكتابين : اليعقوبي ، والمسعودي ، وهي من أشهر كتب الضلال في التاريخ ، حتى كتب التاريخ الأخرى لم تسلم ، ولكن هذه كلها ضلال ، فلا يجوز الاعتماد عليهما .
ولا تلتفتوا – يا إخواني ! – إلى بعض شطحات الكُـتَّـاب المعاصرين الذين وقعوا ، وولغوا في أعراض الصحابة ؛ فمنهم من كفر معاوية وعمرا ، ومنهم من كفر عليا – رضي الله عنهم أجمعين - ، ومنهم من كفر كلَّ من شارك في صفين والجمل ، ومنهم من وصف معاوية وعمرا بشراء الذمم ، وبالظلم ، وبالكفر ، ونحو ذلك ، وكل هذا = قلدوا فيه إخوان القردة والخانزير ، بل إن إخوان القردة والخنازير لو سئلوا عن أفضل قومهم ؛ لقالوا : أصحاب عيسى ، ولو سئل النصارى عن أفضل أمتهم – بعد عيسى – ؛ قالوا : أصحاب عيسى ، ولو سئل هؤلاء القوم الضالون عن شر قومهم – أو عن شر الأمة - ؛ لقالوا : أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – ، عليهم من الله ما يستحقون .
فانتبهوا ! واحذروا من هذا المسلك .
هؤلاء الكُتَّاب – ويا للأسف ! – أنهم محسبون على أهل السنة ، ومع ذلك يغتر بعض الناس بكتاباتهم ، ويسميهم شهداء ! فانتبه !
الصحابة لا نسمي شهيدًا إلا من شهد له النبي – صلى الله عليه وسلم – ، أما من قتل ولم يشهد له النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ فنقول : نرجو الله أن يكون شهيدا ، أما نأتي إلى كُتَّاب ، سبوا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وكفروهم ، ونصفهم بالشهادة ! فهذه مصيبة من المصايب ، نعم نحن نترك مآلهم إلى ربهم – سبحانه وتعالى - ، ونكل مصيرهم ؛ لأنهم جهلة ، قد يعذرون بجهلهم ، الله أعلم بحالهم ، أمرهم إلى الله – سبحانه وتعالى - ، لكن هل نسكت عن كتاباتهم ، في سب الصحابة ، وتكفيرهم ؟ لا ! فالساكت عن ذلك = شيطان أخرص ، فنتبه يا عبدَ الله !
حب الصحابة = قربة ، يقرب إلى لله – عز وجل - ؛ ولذلك بـيَّـن – رحمه الله – هنا – في هذا البيت : أنه يتوسل ويتقرب إلى الله بحبهم ، لا بالتعلق بأشخاصهم ، لا بالتبرك بأجسامهم ، لا بعبادتهم ، لا بدعائهم ، لا بسؤالهم شيئا من دون الله كما يفعل كثير من المشركين في هذا العصر ، لا بالاستغاثة بهم ، وإنما نتوسل إلى الله بمحبتهم ، ومحبة كل مسلم صالح ؛ لأن هذا من الأعمال الصالحة ، ثم بـيَّـن توسله بذوي القربى ؛ من هم ؟ آل البيت المؤمنين الصالحين ، وعلى رأسهم : علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، والعباس ، وغيرهم من بني هاشم ، وبني المطلب .
وكذلك أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – = كلهم يعتبرون من آل البيت يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } الأحزاب : 33 { .
فأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يعتبرن – أيضا – مـن أهـل البيت ؛ فيجب محبتهن ، واعتقاد أنهن أمهات المؤمنين وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } الأحزاب : 6 { .
ولا يجوز أن ننال من أحد منهن ، ولا من آل البيت الطاهرين الطيبين ، كما تفعل النواصب والخوارج ؛ فنحن نبتعد – في هذا - عن منهج الروافض المارقين ، وعن منهج النواصب الخوارج المارقين ؛ فنكون وسطا في محبة أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وفي محبة آل بيته على المنهج الذي قرره أهل السنة والجماعة ، ونرى أن ذلك عمل صالح يقرب إلى الله ، كما بـيَّـن الشيخ – هنا – رحمه الله تعالى - .
(( المتن ))
وَلِكُلِّهِمْ قَـدْرٌ علا وَفَضائلٌ /// لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَـل
(( الشرح ))
الآن يبين فضله من حيث الدرجات ؛ فالصحابة كلُّـهم فاضلون ، على نحو ما بينا قبل قليل ، وكـلُّـهم عدول ، وكـلُّـهم تجب محبتهم ، وكـلُّـهم يجب اعتقاد عدالتهم ، ويجب اعتقاد أنهم أفضل الأمة بعد نبيها – صلى الله عليه وسلم – ، ولا نفرق بين أحد منهم ، لكن لا شك أن بعضهم يفضل بعضا ، فأفضلهم – على الإطلاق – الصديق أبو بكر – رضي الله عنه وأرضاه – رفيق النبي – صلى الله عليه وسلم – في الغار ، والذي قال فيه : ما طلعت على أفضل من أبي بكر .
وقال – صلى الله عليه وسلم – : ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا .
وكثيرا ما كان يردد – صلى الله عليه وسلم – ويقول : جئت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ؛ فهذا هو الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها – صلى الله عليه وسلم – ، أول من أسلم من الرجال - رضي الله عنه وأرضاه - ، والحديث عن فضله يطول ، لكننا نريد شرح هذه الأبيات باختصار .
(( المتن ))
وَلِكُلِّهِمْ قَـدْرٌ علا وَفَضائلٌ /// لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَـل
(( الشرح ))
يعني كل الصحابة لهم فضائل ، وكـلُّـهم عدول – كما بينا - .
وأفضلهم – كما بين النبي – صلى الله عليه وسلم – هو أبو بكر الصديق – رضي الله عنه وأرضاه - ، فمن نال منه = فإنما ينال من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وينال من القرآن ، وقد أثنى الله عليه في كتابه كما قال – جل وعلا - وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } الليل : 19-21 { .
وأثنى عليه في سورة الأنفال فقال إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } التوبة : 40 { فمن هو هذا الثاني ؟
أبو بكر – رضي الله عنه وأرضاه ، وأخزى الله من أبغضه وقلاه - .
(( المتن ))
وأقول في القُرآنِ ما جاءَتْ بِـه /// آياتُـهُ فَهُوَ الكريم المُنْـزَلُ
(( الشرح ))
يعني يقف في اعتقاده تجاه القرآن كما جاء في القرآن ، وكما جاء في السنة من أنه كلام الله الحق ، الذي تكلم به حقيقة ، والذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } فصلت : 42 { .
كتاب الله نزل به الروح الأمين على قلب نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – بلسان عربي مبين ، ويجب أن نفهم ما يلي ؛ حتى نسلم من الذين حرفوا في كلام الله ، وبدلوا ، ووصفوه بأنه مخلوق ، أو أنه الكلام النفسي ، أونحو ذلك ، ولا يتسع الوقت للرد على كلامهم ، وتفنيده ، لكن سنقرر عقيدة أهل السنة في هذا الباب ؛ ولذلك يجب مراعاة الأمور الآتية في معتقدك تجاه القرآن المنزل من عند الله – سبحانه وتعالى - :
أولاً : أن نعتقد أنه كلام الله : لفظه ومعناه ، لم يعبر به أحد عن الله ، ولم يتلكم به أحد نيابة عن الله ، بل هو كلام الله الذي تكلم به حقيقة وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } التوبة : 6 { .
ثانيا : يجب أن نعتقد أن جبريل سمعه من الله مباشرة ، أنه كلام الله المسموع ، بأن الله يتكلم بصوت وحرف مسموعين .
ثالثا : يجب أن نعتنقد أنه تكلم به بحرف وصوت ؛ خلافا لمن يزعم أنه عبارة عن كلام الله ؛ ولذلك ألف الإمام السجزي من تلاميذ الإمام أحمد كتابا بعنوان ( الحرف والصوت ) .
ليس ككلامنا ، وليس كنطقنا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الشورى : 11 { .
ولا يتبادر إلى ذهنك التشبيه الذي تبادر إلى أذهان الجهمية ؛ فاضطروا إلى نفي صفات الله – جل وعلا - ، لكن نقول : تكلم به كما يليق بجلاله وعظمته ، سمعه منه جبريل كما يليق بجلاله وعظمته ، بصوت وحرف كما يليق بجلاله وعظمته .
رابعا : أنه كلام الله المنزل غير مخلوق ، لماذا قيدنا بكلمة ( غير مخلوق ) ؟
لأن الجهمية ، والمعتزلة ، والرافضة ، والخوارج ، وغيرَهم من الفرق الضالة ، كلهم يَـدَّعون أن القرآن مخلوق .
وقد التحق بهم طوائف أخرى ، ولكن أخطر هذه الأقوال : هو قول القائلين : بأن القرآن مخلوق كسائر المخلوقات ، ونحن نقول : إنه كلام الله الذي تلكم به حقيقة ، وأنزله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – بواسطة رسوله ، وسفيره بينه وبين رسله : جبريل – عليه السلام - .
خامسا : أن يعتقد المؤمن أن القرآن المتلوَّ بالألسن = هو كلام الله .
سادسا : أن نعتقد أن القرآن المحفوظ في الصدور = هو كلام الله .
سابعا : أن نعتقد أن القرآن المكتوب في المصحف = هو كلام الله .
ثامنا : يقال إن المداد الذي هو الحبر ، والورق مخلوقة كما قال ابن القيم – رحمه الله – : ومداده والرق مخلوقان .
أما ما تقدم من الأوصاف ؛ فإنه بتلك الأوصاف غير مخلوق .
لماذا قيدنا بهذه القيود : أن القرآن المتلوَّ ، أن القرآن المحفوظ ، أن القرآن المكتوب = هو كلام الله ، لماذا قيدنا ؟
لأن هناك من يعتقد أنه عبارة ، أو حكاية عن كلام الله .
(( المتن ))
وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّهـا ///حَقـاً كما نَقَـلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ
(( الشرح ))
المقصود بهذا البيت أن ما ثبت في كتاب الله – جل وعلا – من الأسماء والصفات يمرها كما جاءت على مراد الله – تبارك وتعالى – دون أن يخوض فيها بأي تأويل ، أو تعطيل ، أو تكييف ، أو تمثيل ، أو تشبيه ، أو تأويل ، على حد قوله – تعالى – لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى : 11 {.
وقوله ( كما قال الطراز الأول ) أي كما قال السلف الصالح ؛ لأنه من المعلوم أن كل خير في اتباع من سلف ؛ فالسلف ، والطراز الأول ، والقرون الأولى الذين قعَّدوا هذه القواعد وفق هدي النبي - صلى الله عليه وسلم – هم الذين يجب أن نتبع هديهم ، وأن نسير على منهاجهم ، وأن نحذو حذوهم كما قال الله – جل وعلا - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه } التوبة : 100 { .
وقال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} الأنعام : 90 { .
وقال – جل وعلا - وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } النساء : 115 { .
يقول حذيفة – رضي الله عنه - : عليكم بالعتيق .
ويقول ابن مسعود – رضي الله عنه - : من كان متأسيا ؛ فليتأس بأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبكل حال .
ومذهبهم في الأسماء والصفات أنهم يمرونها كما جاءت بلا كيف ، نقلت هذه العبارة عن عشرات من السلف الصالح ، لاسيما في القرون – القرنين : الثاني والثالث ، بعد أن كثر اللغط والتأويل والتعطيل في أسماء الله وصفاته ؛ فقالوا عبارتهم المشهورة ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) قالها مالك ، والأوزاعي ، وقالها مكحول ، وقالها الليث ، وقالها غيرث واحد من السلف ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) ، بمعنى أن كلَّ ما ورد في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات يجب إمراره ، والإيمان به على مراد الله – جل وعلا - ولا نأوله ، ولا نعطله ، ولا نحرفه ، ولا نشبهه ، ولا نمثله ، ولا نكيفه ، والميزان في ذلك قول الله – سبحانه وتعالى - لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الشورى : 11 {.
فإذا أخبر الله – جل وعلا – عن نفسه بصفة وجب إثباتها ، والإيمان بمعناها وآثارها ، كما قال الإمام مالك – رحمه الله – في الاستواء ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ) ، وكذا نقول في سائر الصفات .
اليد معلومة ، والكيف مجهول ، والإيمان بها واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة .
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } الرحمان : 27 { .
الوجه معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة .
وكما قال - تبارك وتعالى - وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } الفجر : 22 { .
نقول : المجيء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ؛ فنتجنب – بذلك - مزالق الجهمية ، والمعتزلة ، والخوارج ، والرافضة ، ومن نهج نهجهم من الفرق الأخرى .
(( المتن ))
وأَرُدُّ عُهدتها إلى نُقَّالِهـا ///وأصونُها عـن كُلِّ ما يُتَخَيَّلُ
(( الشرح ))
وأرد عهدتها يعني : أرد معناها إلى أولئك النَّـقَـلَة الذين نقلوها لنا بكل صدق وأمانة ، ولا نتجاوز ما هم عليه من الإيمان بها ، وبمعانيها على الوجه الذي يليق بجلال الله وعظمته ؛ فلا نكيف ، ولا نمثل ، ولا نعطل ، ولا نتجاوز مواقفهم : بإفراط ، أو تفريط ، بتشبيه ، أو تعطيل ؛ وبهذا الأمر كان أهل السنة وسطا بين المشبهة والمعطلة ، كانوا وسطا في باب الصفات بين المشبهة والمعطلة ، فهو يقول : أنا لا أتحول عن منهج السلف في باب الأسماء والصفات ؛ فأثبت لله ما أثبت لنفسه ، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم – ، وأنفي عنه ما نفى عن نفسه ، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم – ، ولا أتحول عن هذا المبدأ الذي كان عليه السلف الصالح .
(( المتن ))
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القرآن وراءَهُ /// وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ
(( الشرح ))
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القرآن وراءَه ، ويجوز تسهيل الهمزة ؛ فنقول : القران ، وأصلا ( القرآن ) وتسهل فيقال : القران .
من هو الأخطل ؛ حتى نعرف أصحاب هذه العقيدة ؟
الأخطل شاعر نصراني في الصدر الأول في عهد الدولة الأموية ، وهذا الأخطل نصراني ، وهو معروف بسكره وفجره ؛ فضلا عن كونه كافرا نصرانيا .
هناك فرقتان بالأحرى تفرعتا عن الجهمية والمعتزلة ، وهما أقرب الناس إلى أهل السنة ، وهم مسلمون ، لكنهم مبتدعة في هذا الباب ، أي باب الأسماء والصفات ، هاتان الفرقتان يقولون في الصفات بخلاف ما قرره القرآن ، والشيخ – هنا – يقول : أنا أقرر ما قرره القرآن ، ولا أقرر من الأخطل ؛ لأن الأشاعرة ، والماتريدية - نسأل الله لنا ولهم الهداية ، والعودة إلى الصواب - ماذا يقولون في القرآن ؟ إنه عبارة عن كلام الله ! أو حكاية عن كلام الله ، طيب يا مساكين ! لماذا قلتم هذا ؟
قالوا : لأنا لو قلنا : إن القرآن كلام الله على الحقيقة ، للزم من ذلك التجسيم ، والتشبيه ؛ لأن الكلام لا يصدر إلا من لسان ، وأسنان ، وشفتين ، وحنجرة ، وبلعوم ، وحبال صوتية !
أول ما خطر ببالهم التشبيه – والعياذ بالله – ؛ فلما خطر ببالهم التشبيه = انتقلوا إلى بيت الأخطل ، وقالوا : الكلام هو المعنى القائم بالنفس ، وإن الله لا يتكلم حقيقة ، وإنما يتكلم كلاما نفسيا ؛ فإن كان الكلام باللغة العربية سمي قرآنا ، وإن كان بالسريانية سمي إنجيلا ، وإن كان بالعبرية سمي توراة .
طيب ! سؤال يا مساكين ! تعالوا !
أنتم تقولون : عبارة عن كلام الله ؛ من الذي عبر عن الله ؟ أهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، أم جبريل – عليه السلام - ؟
يلزمكم أحد أمرين :
إما أن تقولوا بقول المعتزلة ، وأن الله خلقه في الهواء ، وسمعه جبريل من الهواء ، أو النبي – صلى الله عليه وسلم – من الهواء .
وإما أن ترجعوا إلى قول أهل السنة ، وهو أنه كلام الله الذي تكلم به حقيقة على الوجه اللائق بجلاله وعظمته .
هم قالوا : نحن لو قلنا : بأنه الكلام الحقيق لزم منه كذا ، وكذا ، وكذا ، مما ذكرتُه قبل قليل .
طيب ما الحل ؟
قالوا : الحل نقول : إنه حكاية ، أو عبارة عن كلام الله .
القرآن حكاية عن كلام ، أو عبارة عن كلام الله !! من الذي ناب عنه ؟
وهل هو عاجز عن الكلام حتى يُـعَـبَّـر عنه ؟ - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - .
ما زادوا في هذا على أن شبهوا الله بالأخرص الذي لا يستطيع الكلام - تعالى الله عما يقولون علوا كبير - .
وهذه العقيدة من أفسد العقائد ، وكأنهم ينسبون الله إلى العجز ، والخرص ، وعدم القدرة على الكلام ، وهذا أمر في غاية الخطورة .
طيب ! لماذا يا مساكين ؟!
قالوا : يلزم منه كذا ، وكذا ، طيب ! ما دام قلتم : إنه يلزم من الكلام كذا ، وكذا ، يلزم من عدم الكلام ماذا ؟
الخرص ، وعدم القدرة على الكلام ؛ فأنتم فررتم مما تصورتم أنه تشبيه بالموجود ؛ فشبهتم الله بالمعدوم ؛ ولذلك يقول أهل السنة : إن المعطلة يعبدون عدما ، وإن المشبهة يعبدون صنما .
المشبهة - كاليهود - يعبدون أصناما ، الذين قالوا : إن طوله كذا ، وعرضه كذا ، وأنه يستوي كما نستوي ، ويتكلم كما نتكلم ؛ هؤلاء شبهوه بالأصنام ، المعطلة الذين نفوا الصفات شبهوه بالعدم ؛ فأصبحوا يعبدون عدما .
الآن : أنا أسأل سؤالا : يعين لو جاءنا واحد من المعاتيه ، فقال : فلان من الناس ، زيد من الناس ليس في الحرم ، ولا خارج الحرم ، لا فوق الأرض ، ولا تحت الأرض ، ولا في السماء ، ولا في الأرض ، ولا في الشرق ، ولا في الغرب ، ولا أمام لاو خلف ، ولا يمين ، ولا شمال ، ولا فوق ، ولا تحت ؛ النتيجة ماذا ؟ العدم . أن هذا الشيء ما هو إلا أمر خيالي ، وجوده وجود ذهني ، ليست له حقيقة في واقع الأمر ، وهذا ما انتهت إليه المعتزلة في نهاية المطاف ؛ عندما قالوا : لا نقول موجود ، ولا معدوم ، ولا متصل ، ولا منفصل ، ولا فوق العالم ، ولا تحت العالم ، ولا فوق ، ولا شمال ، ولا جنوب ، ولا يمين ، ولا ... إلى آخره .
إذًا النتيجة ماذا ؟ تصبح العنقاء أقرب منه وجودا – المستحيلة – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - ، وأصبح قولهم قريبا من قول فرعون مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } القصص : 38 { .
فإذًا القضية خطيرة جدا ، هم لا يدركون هذه الحقيقة ؛ ولذلك لو سألتهم من الذي عبر عن القرآن : جبريل ، أم محمد ؟
سيسكتون ، لا يجيبون .
إذًا قولكم ، واستدلالكم ببيت الأخطل = استدلال فاسدٌ ، باطلٌ .
ما هو بيتُ الأخطلِ ؟
قال :
إن الكلام لفي الفؤاد /// وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
أولا : هذا البيت لا يثبت في ديوان الأخطل المعروف ، نعم ، الأخطل يقال : إنه من آخر من يحتج بشعرهم في باب اللغة ، والنحو ، لا في باب العلم الشرعي ، يعني في باب اللغة العربية ، ومع هذا فإن هذا البيت لا يوجد في دواوينه .
ثانيا : الأخطل رجل نصراني يعتقد اتحاد اللاهوت بالناسوت ، ومعنى ذلك أن الإله اتحد مع الناس ؛ فلا فرق – حينئذ – بين الإنسان والله – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ، وهذه ما سرت إلى عقيدة بعض المتصوفة أتباع ابن عربي القائلين بأن :
العبد رب والرب عبد /// فليت شعري من المكلف
إذًا عقيدة نصرانية ، وهو لا يفرق بين الصفة والموصوف ، ولا بين الخالق والمخلوق – حينئذ - ؛ فهل يعتد ، أو يحتج بشعر من كان هذا معتقده ؟!
ثالثا : أن الذي يروى في المشهور :
إن البيان ، وليس : إن الكلام ...
إن البيان لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
يعني يبدأ بفكرة في الفؤاد ، ثم توضح بالكلام ؛ فأصبح - بهذه الرواية – لا حجة فيه لهم .
رابعا : من المعلوم أن الكلام في الصلاة محرم أليس كذلك ؟
ومن تكلم في الصلاة متعمدا = بطلت صلاته ، طيب ! من وسوس ، أو حدثته نفسه ، تبطل صلاته ، أو لا تبطل ؟
لا تبطل ، ومعنى كلامهم – أننا لو قلنا بهذا - الكلام في الفؤاد ؛ لقلنا : كل من حدثته نفسه بشيء بطلت صلاته ؛ لأنه يعتبر متكلما ، يعتبر متكلما بهذا المعنى الفاسد ، وقد أجمع أهل السنة على أن الذي تحدثه نفسُـه ، أو تهجم عليه بعض الوسوسة في صلاته ؛ فإن صلاته صحيحة ؛ لأنه لم يتلكم ، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس ) .
فلذلك بطل استدلالهم ببيت الأخطل . فيقرر شيخ الإسلام : إنني أعتقد ما جاء في القرآن من أن الله يتكلم متى شاء ، إذا شاء ، كيف شاء ، وأن القرآن كلام الله الذي تكلم حقيقة : لفظه ، ومعناه - المكتوب في المصاحف ، والمحفوظ في الصدور ، والمتلوُّ بالألسن = كـلُّه كلام الله غير مخلوق ، ولا أقرر ما يقرره الأخطل النصراني ، كما يستدل على ذلك بعض المبتدعة .
(( المتن ))
والمؤمنون يَـرَوْنَ حقـاً ربَّهُمْ /// وإلى السَّمـاءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ
(( الشرح ))
قرر في هذا البيت – رحمه الله – مسألتين :
المسألة الأولى : مسألة رؤية الباري – سبحانه وتعالى - ؛ فهو يعتقد – كما يعتقد سائر أهل السنة – أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر ، أو كما يرون الشمس ليس دونها سحاب ، وهذا هو معتقد أهل السنة قاطبة ، وخالف في هذا المعتقد أربع طوائف ، وبعض الطوائف توافقهم – أحيانا - ، وتخالفهم - أحيانا أخرى - .
الطوائف التي أنكرت الرؤية هم : الجهمية ، والمعتزلة ، والرافضة ، والخوارج ، وحري بمن أنكر رؤية الباري – سبحانه وتعالى – يوم القيامة في الجنة أن يحرم منها . يقول الإمام الشافعي – رحمه الله – في معنى قول الله – سبحانه وتعالى – كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } المطفيفين : 15 { ؛ بما أن هؤلاء قد حجبوا عن الله – تعالى - حال السخط ؛ فإن المؤمنين يرونه حال الرضا ، أو كما قال – رحمه الله تعالى - .
فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة : أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة رؤية حقيقة ، وقد دلت عليها النصوص من الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة : أعني إجماع أهل السنة ؛ لأن تلك الفرق لا يعتد برأيها ، ولا بآرائها ، ولا بأقوالها ، ومن شذ شذ في النار .
إذًا أجمع أهل السنة على أن المؤمنين يرون ربهم ، وسنذكر دليلا واحدا من الكتاب ، ومن السنة ، وبيان إجماع الأمة ونمضي .
استدل أهل السنة بأدلة كثيرة من القرآن ، منها قول الله - تعالى – وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } القيامة : 22 – 23 { وجه الاستدلال من الآية من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول : أن الله عبر بالوجوه التي هي محل النظر ؛ لأن موقع العينين في الوجه ، والعينان هما محل النظر .
الوجه الثاني : أن الله – تبارك وتعالى – عدى الفعل بحرف ( إلى ) ( إلى ربها ناظرة ) ، الأولى ( ناضرة ) بالضاد ، المقصود : فرحة ، مسرورة ، منبسطة ، نضرة ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ؛ فأداها كما سمعها ) .
فـ( إلى ربها ناظرة ) الثاني تعديته الفعل ( نظر ) بحرف ( إلى ) .
الوجه الثالث : خلو الفعل ، أو خلو السياق من قرينة تصرف عن هذا المعنى الذي هو الرؤية الحقيقة إلى معنى آخر .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } القيامة : 22 – 23 { كما استدلوا بقول الله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} يونس : 26 { ؛ وهذه الآية فسرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؛ فعن صهيب – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ينادي الله أهل الجنة ، إذا دخل أهل الجنة نادى منادٍ : يا أهل الجنة ! إن لكم موعدا سوف ننجزكموه ؛ فيقولون :
يا ربنا ! ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة ؟ ألم تزحزنا عن النار ؟
قال : بلى ؛ إن لكم موعدا لن تخلفوه ؛ فيتجلى لهم ؛ فيرونه ، وينظرون إليه ، وهذا أفضل نعيم يراه المؤمنون ؛ حيث ينسون كل شيء مع هذه الرؤية ، وأما الأحاديث فهي كثيرة ومنها قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : إنكم سترون ربكم ، كما ترون القمر ليلة البدر لا تُـضَـامون في رؤيته ، وفي رواية لا تُـضُأرُّونه ، وفي رواية لا تَـضَامُون أي لا تتزاحمون .
كل كأنه ينظر إليه وحده ، وهم يرونه جميعا ، لكن كل واحد كأنه ينظر إليه مستقلا ، وهذا فضل من الله ، ومنة الله – سبحانه وتعالى - .
فانتبه لهذا ! وانتبه لهذا الاستدلال العظيم !
وهذا محل إجماع بين أهل السنة .
المسألة الثانية : أن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل ؛ فماذا يقول الناس ؟ أو ماذا ينبغي أن يفعلوا في مثل تلك اللحظات ؟
عندما يتجلى ؛ فينزل إلى السماء الدنيا ؛ فيتجلى لعباده ، وينادي : من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له ، من يسألني فأعطيه .
فأهل السنة يؤمنون بأنه ينزل نزولا يليق بجلاله وعظميته .
كيف ينزل ؟
ينزل كيف يشاء .
متى ينزل ؟
حين يبقى الثلث الأخير من الليل ؟
ما الطريقة التي ينزل بها ؟
الله أعلم .
هل يخلو منه العرش ، أو لا يخلو ؟
الله أعلم .
هذا علمي غيبي .
كيف يأتي والسماوات طباقا ؟
الله أعلم .
استبعد كلمة ( كيف ) فإنها خطيرة ، لو أدخلت نفسك في كلمة ( كيف ) = لما انتهيت إلى الأبد ؛ ولذلك لو قال لنا قائل :
ما دليل النزول ؟
قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأحاديث المتواترة ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل ؛ فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له ، من يسألني فأعطيه ) هو حديث يبلغ حد التواتر المعنوي ؛ ولذلك يجب الإيمان به ، وعدم تكييفه ، أو تفويضه ، نقول : ينزل نزولا يليق بجلاله وعظمته ، مثل الاستواء ، نقول : النزول معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة = هذا هو ما يجب اعتقاده في نزول الرب – سبحانه وتعالى - ، ولسنا مكـلَّـفين أن نبحث كيف ينزل ؟ ولا كيف يكون ذلك ؟ مع أن النزول عندنا – الآن - غير النزول في أمريكيا ، أو في اليابان شرقا - مثلا - .
إذًا المقصود أن نؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة ، ولا نناقش بغير دليل ؛ فيجب الإيمان بصفة النزول .