تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الفوائد المنتقاة من ( درء تعارض العقل والنقل ) لشيخ الإسلام ابن تيمية



أبو مالك العوضي
2009-01-15, 01:27 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد

فإن من الناس من هو مفتاح للخير مغلاق للشر، ومنهم من هو مفتاح للشر مغلاق للخير !!

وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام رحمه الله، ممن نحسبه من الصنف الأول، ولا نزكي على الله أحدا.

فقد جاء كتابه هذا ( درء تعارض العقل و النقل) أو ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ) شامة في جبين الزمن، لا يدانيه في بابه كتاب آخر، بل لا يكاد يوجد أصلا في بابه كتاب، كما قال ابن القيم:

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ............. ما في الوجود له نظير ثان


لأن الكتب المعروفة في هذا الباب قبل شيخ الإسلام هي نحو:
- الحيدة لعبد العزيز الكناني
- الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد
- النقض على المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي

وكل هذه الكتب لم تستعمل قواعد المتكلمين في الرد عليهم.

فالمزية التي تميز بها هذا الكتاب أنه استعمل قوانين المتكلمين والفلاسفة نفسها في بيان بطلان مذاهبهم، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله:

ومن العجائب أنه بسلاحهم ................ أرداهم تحت الحضيض الداني


والكتاب يقع في عشر مجلدات، إلا أنه جاء على طريقة شيخ الإسلام في الإسهاب والتكرار بطرق مختلفة؛ لأن هذا ينتفع به القارئ كما نص شيخ الإسلام نفسه في بعض المواضع.

فالكتاب قابل للاختصار والتنقيح والترتيب، وهذا مشروع بحث لو قام عليه بعض الدارسين لكان جيدا؛ وذلك كما يلي:
- ترتيب الأوجه واختصار المكرر منها
- تنقيح العبارات الغامضة وصوغها بطريقة أسهل فهما
- استكمال كلام شيخ الإسلام الذي أشار إليه بقوله (بسطناه في موضع آخر)

وأسأل الله أن يجزي عنا شيخ الإسلام خير الجزاء.
وأن يستعملنا وإياكم في طاعته، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه

أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي

وإليكم الفوائد المنتقاة من هذا الكتاب النفيس:

أبو مالك العوضي
2009-01-15, 01:27 PM
[المجلد الأول]

5
وكان يقول – يعني أبا بكر بن العربي - شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر


6
ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه.
وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن؛ وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل.
فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء


12
وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علما يقينا أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه، وهؤلاء كثيرا ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض، فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه، لا يقصدون طلب مراد المتكلم به، وحمله على ما يناسب حاله، وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده وعلى الوجه الذي به يعرف مراده، فصاحبه كاذب على من تأول كلامه، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ.

14
لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه وإن كان موافقا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه وإن كان موافقا له وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره ويراد به صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك

وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى بل يريدون بالتأويل المعنى الأول أو الثاني

16
ومنهم من يقول بل تجرى على ظاهرها وتحمل على ظاهرها ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها وقالوا مع هذا إنها تحمل على ظاهرها وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى في كتاب ذم التأويل

29
فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواء كانت قياس شمول أو قياس تمثيل، ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك

30
ولم يسلك في ذلك ما يسلكه طوائف من أهل الكلام حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، فيقولون: هذا ممكن؛ لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال، فإن الشأن في هذه المقدمة فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال، فإن هذه قضية كلية سالبة فلا بد من العلم بعموم هذا النفي.

34
والرطوبة يعنى بها البلّة كرطوبة الماء، ويعنى بها سرعة الانفعال، فيدخل في ذلك الهواء، فكذلك يعنى باليبس عدم البلة، فتكون النار يابسة، ويراد باليبس بطء الشكل والانفعال، فيكون التراب يابسا دون النار، فالتراب فيه اليبس بالمعنيين، بخلاف النار

35
وكما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها هل هي جواهر أو أعراض
...... لكن أكثرهم يجعلون النفوس الفلكية عرضا لا جوهرا قائما بنفسه

38
كالأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق

42
والدليل أبدا يستلزم المدلول عليه، يجب طرده ولا يجب عكسه، بخلاف الحد، فإنه يجب طرده وعكسه.
وأما العلة فالعلة التامة يجب طردها بخلاف المقتضية

54
لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال الموصل إلي معرفته فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا

60
فأما أن يكون أمر اتفق أهل العلم والإيمان على أنه لا يطاق وتنازعوا في وقوع الأمر به فليس كذلك

63
وأما النوع الثاني : فكاتفاقهم على أن العاجز عن الفعل لا يطيقه كما لا يطيق الأعمي والأقطع والزمن نقط المصحف وكتابته والطيران فمثل هذا النوع قد اتفقوا على أنه غير واقع في الشريعة وإنما نازع في ذلك طائفة من الغلاة المائلين إلي الجبر من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإنما تنازعوا في جواز الأمر به عقلا حتى نازع بعضهم في الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين والنقيضين : هل يجوز الأمر به من جهة العقل مع أن ذلك لم يرد في الشريعة ؟ ومن غلا فزعم وقوع هذا الضرب في الشريعة - كمن يزعم أن أبا لهب كلف بان يؤمن بأنه لا يؤمن ـ فهو مبطل في ذلك عند عامة أهل القبلة من جميع الطوائف فإنه لم يقل أحد : إن أبا لهب أسمع هذا الخطاب المتضمن أنه لا يؤمن وإنه أمر مع ذلك بالإيمان كما أن قوم نوح لما أخبر نوح عليه السلام : أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن لم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار / المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب ففي هذا الحال انقطع تكليفه ولم ينفعه إيمانه حينئذ كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب

69
فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور وكان أحسن من نفيه وإن كان ظاهرا في المحتمل المعني الفاسد خشيه أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعا

71
فقال أبو عبد الله [أحمد بن حنبل] كلما ابتدع رجل بدعة اتسع الناس في جوابها

79
وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيا دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي؛ فإن الظن لا يرفع اليقين

80
وإذا قدر أن يتعارض قطعي وظني لم ينازع عاقل في تقديم القطعي لكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد

90
وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما [لعلها مما] لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع وهذا بين واضح وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها
وحينئذ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ولا من فساد هذه فساد تلك فضلا عن صحة العقليات المناقضة للسمع

102
وأيضا فالتجسيم نفي لأنه يقتضي القسمة والتركيب فيجب نفي كل تركيب فيجب نفي كونه مركبا من الوجود والماهية ومن الجنس والفصل ومن المادة والصورة ومن الجوهر المفردة ومن الذات والصفات وهذه الخمسة هي التي يسميها نفاة الصفات من متأخري الفلاسفة تركيبا

118
وأما كون ماله حقيقة أو صفة أو قدر يكون بمجرد ذلك مماثلا لما له حقيقة أو صفة أو قدر فهذا باطل عقلا وسمعا فليس في لغة العرب ولا غيرهم إطلاق لفظ المثل على مثل هذا وإلا فليلزم أن يكون كل موصوف مماثلا لكل موصوف وكل ما له حقيقة مماثلا لكل ما له حقيقة وكل ما له قدر مماثلا لكل ما له قدر وذلك يستلزم أن يكون كل موجود مماثلا لكل موجود وهذا ـ مع أنه في غاية الفساد والتناقض ـ لا يقوله عاقل فإنه يستلزم التماثل في جميع الأشياء فلا يبقى شيئان مختلفان غير متماثلين قط وحينئذ فيلزم أن يكون الرب مماثلا لكل شيء فلا يجوز نفي مماثلة شيء من الأشياء عنه وذلك مناقض للسمع والعقل فصار حقيقة قولهم في نفي التماثل عنه يستلزم ثبوت مماثلة كل شيء له فهم متناقضون مخالفون للشرع والعقل

120
والمقصود هنا أنه لو قدر أن الدليل يفتقر إلي مقدمات ولم يذكر القرآن إلا واحدة لم يكن قد ذكر الدليل إلا أن تكون البواقي واضحات لا تفتقر إلي مقدمات خفية فإنه إنما يذكر للمخاطب من المقدمات ما يحتاج إليه دون ما لا يحتاج إليه ومعلوم أن كون الأجسام متماثلة وأن الأجسام تستلزم الأعراض الحادثة وأن الحوادث لا أول لها ـ من أخفي الأمور وأحوجها إلي مقدمات خفية لو كان حقا وهذا ليس في القرآن

122
وأما كون السماوات والأرض مخلوقتين محدثتين بعد العدم فهذا إنما نازع فيه طائفة قليلة من الكفار كأرسطو وأتباعه
وأما جمهور الفلاسفة مع عامة أصناف المشركين من الهند والعرب وغيرهم ومع المجوس وغيرهم ومع أهل الكتاب وغيرهم فهم متفقون على أن السماوات والأرض وما بينهما محدث مخلوق بعد أن لم يكن ولكن تنازعوا في مادة ذلك هل هي موجودة قبل هذا العالم ؟ وهل كان قبله مدة ومادة أم هو أبدع ابتداء من غير تقدم مدة ولا مادة ؟

125
والمراد بالعالم في الاصطلاح هو كل ما سوى الله

129
فقد تبين أن قول من نفي الصفات أو شيئا منها لأن إثباتها تجسيم قول لا يمكن أحدا أن يستدل به بل ولا يستدل أحد على تنزيه الرب عن شيء من النقائص بأن ذلك يستلزم التجسيم لأنه لا بد أن يثبت شيئا يلزمه فيما أثبته نظير ما ألزمه غيره فيما نفاه وإذا كان اللازم في الموضعين واحدا وما أجاب هو به أمكن المنازع له أن يجيب بمثله لم يمكنه أن يثبت شيئا وينفي شيئا على هذا / التقدير وإذا انتهي إلي التعطيل المحض كان ما لزمه من تجسيم الواجب بنفسه القديم أعظم من كل تجسيم نفاه فعلم أن مثل هذا الاستدلال على النفي بما يستلزم التجسيم لا يسمن ولا يغني من جوع

131
حتى إن موسى بن ميمون صاحب (دلالة الحائرين) وهو في اليهود كأبي حامد الغزالي في المسلمين، يمزج الأقوال / النبوية بالأقوال الفلسفية ويتأولها عليها، حتى الرازي وغيره من أعيان النظار اعترفوا بأن العلم بحدوث العالم لا يتوقف على الأدلة العقلية، بل يمكن معرفة صدق الرسول قبل العلم بهذه المسألة، ثم يعلم حدوث العالم بالسمع
فهؤلاء اعترفوا بإمكان كونها سمعية
فضلا عن وجوب كونها عقلية
فضلا عن كونها أصلا للسمع
فضلا عن كونها لا أصل للسمع سواها.

133
الأدلة العقلية الصحيحة البينة التي لا ريب فيها، بل العلوم الفطرية الضرورية توافق ما أخبرت به الرسل لا تخالفه، وأن الأدلة العقلية الصحيحة جميعها موافقة للسمع لا تخالف شيئا من السمع وهذا ـ ولله الحمد ـ قد اعتبرته فيما ذكره عامة الطوائف فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلا صحيحا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه: ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه، وكذلك سائر طوائف النظار من أهل النفي والإثبات لا يذكرن دليلا عقليا في مسألة إلا والصحيح منه موافق لا مخالف.

135
وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة بل هذا يقول : ما أثبته عقلك فأثبته وإلا فلا، وهذا يقول : ما أثبته كشفك فأثبته وإلا فلا / فصار وجود الرسول صلي الله عليه وسلم عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية، بل وجوده ـ على قولهم ـ أضر من عدمه لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئا واحتاجوا إلي أن يدفعوا ما جاء به : إما بتكذيب وإما بتفويض وإما بتأويل

137
بل الواجب أن ينظر في عين الدليلين المتعارضين فيقدم ما هو القطعي منهما، أو الراجح إن كانا ظنيين، سواء كان هو السمعي أو العقلي، ويبطل هذا الأصل الفاسد الذي هو ذريعة إلى الإلحاد.

138
وهذا كما أن العامي إذا علم عين المفتي ودل غيره عليه وبين له أنه عالم مفت ثم اختلف العامي الدال والمفتي وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي فإذا قال له العامي : أنا الأصل في علمك بأنه مفت فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض قدحت في الأصل الذي به علمت بأنه مفت قال له المستفتي : أنت لما شهدت بأنه مفت ودللت على ذلك شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك كما شهد به دليلك وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان المسائل وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو اعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد وإستدلال ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئا في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده وإتباع قوله وإن لم تكن مخطئا في الاجتهاد والاستدلال الذي [خالفت به من يجب عليك / تقليده واتباع قوله، وإن لم تكن مخطئا في الاجتهاد والاستدلال الذي] به علمت أنه عالم مفت يجب عليك تقليده هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ والعقل يعلم أن الرسول صلي الله عليه وسلم معصوم في خبره عن الله تعالي لا يجوز عليه الخطأ فتقديمه قول المعصوم على ما يخالفه من أستدلاله العقلي أولي من تقديم العامي قول المفتي على قوله الذي يخالفه

141
فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره به من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات واستعمالها على وجه مخصوص مع ما في ذلك من الكلفة والألم لظنه أن هذا أعلم بهذا مني وأني إذا صدقته كان ذلك أقرب إلي حصول الشفاء لي مع علمه بأن الطبيب يخطئ كثيرا وأن كثيرا من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب بل قد يكون استعماله لما يصفه سببا في هلاكه ومع هذا فهو يقبل قوله ويقلده وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والسلام ؟!
/ والرسل صادقون مصدوقون لا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط والذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط ؟

150
بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي http://majles.alukah.net/imgcache/2014/08/148.jpg في الأمر والنهي أجمع المسلمون على تركه إلا أن يكون له حديث صحيح يدل على أنه منسوخ

152
وأما كلامه [أرسطو] وكلام أتباعه : كالإسكندر الأفروديسي وبرقلس وثامسطيوس والفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وأمثالهم في الإلهيات فما فيه من الخطأ الكثير والتقصير العظيم ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم بل في كلامهم من التناقض ما لا يكاد يستقصى

157
وأما المسائل المولدة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وغير ذلك ففيها من النزاع بينهم ما يطول استقصاؤه، وكل منهم يدعي فيها القطع العقلي.
....... والبصريون أقرب إلى السنة والإثبات من البغداديين

158
وكثير من حذاق النظر حار في هذه المسائل، حتى أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وأبي عبد الله بن الخطيب حاروا في مسألة الجوهر الفرد فتوقفوا فيها تارة وإن كانوا قد يجزمون بها أخرى، فإن الواحد من هؤلاء تارة يجزم بالقولين المتناقضين في كتابين أو كتاب / واحد وتارة يحار فيها، مع دعواهم أن القول الذي يقولونه قطعي برهاني عقلي لا يحتمل النقيض.

162
وأبو الحسن الآمدي في عامة كتبه هو واقف في المسائل الكبار يزيف حجج الطوائف ويبقى حائرا واقفا.

168
والناس إذا تنازعوا في المعقول لم يكن قولُ طائفة لها مذهب حجة على أخرى، بل يرجع في ذلك إلى الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوى

171
وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده

174
فإن قيل : نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة السمع المخالفة له باطلة إما لكذب الناقل عن الرسول أو خطئه في النقل وإما لعدم دلالة قوله على ما يخالف العقل في محل النزاع
قيل : هذا معارض بأن يقال : نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة العقل المخالفة له باطلة بعض مقدماتها فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلي مقدمات الأدلة السمعية

178
وطرق العلم ثلاثة: الحس والعقل والمركب منهما كالخبر

188
فإنا في هذا المقام نتكلم معهم بطريق التنزل إليهم كما نتنزل إلى اليهودي والنصراني في مناظرته وإن كنا عالمين ببطلان ما يقوله

193
ثم كثير من هؤلاء يقولون: إن التسلسل إنما هو ممتنع في العلل لا في الآثار والشروط

194
واعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة وليس في ذلك ولله الحمد دليل صحيح في نفس الأمر، ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل.

195
ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني سواء كان التواتر لفظيا أو معنويا كتواتر شجاعة خالد وشعر حسان وتحديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم وفقه الأئمة الأربعة وعدل العمرين ومغازي النبي صلي الله عليه وسلم مع / المشركين وقتاله أهل الكتاب وعدل كسري وطب جالينوس ونحو سيبويه يبين هذا أن أهل العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسوله بكلامه أعظم مما يعلمه الأطباء من كلام جالينوس والنحاة من كلام سيبويه فإذا كان من ادعى في كلام سيبونه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو والحساب من كلامهم كان قوله معلوم البطلان فمن ادعي في كلام الله ورسوله خلاف ما عليه أهل الإيمان كان قوله أظهر بطلانا وفسادا لأن هذا معصوم محفوظ

203
ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف
[ينظر بيان التلبيس 2/376]

205
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد

208
ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم الدين، كما قال مسروق: ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه.

210
وإن الواو واو الجمع التي يسميها نحاة الكوفة واو الصرف كما في قولهم (لا تأكل السمك وتشرب اللبن)

211
ولهذا تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه وهل يكون نهيا عن ضده مع اتفاقهم على أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده، ومنشأ النزاع أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد، ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا على ترك المأمور فقط لا يعاقبه على ترك لوازمه وفعل ضده.
[ثم تكلم بكلام نفيس عن مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب]

213
فما لا يتم الواجب إلا به كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك فعلى المكلف فعله باتفاق المسلمين.

216
المطلق الكلي عند الناس وجوده في الأذهان لا في الأعيان فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينا مشخصا متميزا في الأعيان وإنما سمي كليا لكونه في الذهن كليا وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلا
وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه كما تقدم، وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس حتى في وجود الرب تعالى وجعلوه وجودا مطلقا إما بشرط الإطلاق وإما بغير شرط الإطلاق وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج.

218
كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
[مسألة اشتباه أخته بأجنبية والمذكى بالميت]

232
[لماذا ذم السلف الكلام، وأن مقصودهم المعاني لا الألفاظ]

233
وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء

242
وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرا في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابا في العقل تجب في الشرع معرفته.

250
فلهذا صار الحذاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة وقالوا: النزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي.

262
وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق، ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مرادهم صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء.

277
ومن كان قصده متابعته من المؤمنين وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه غفر الله له خطأه سواء كان خطؤه في المسائل العملية الخبرية أو المسائل العلمية، فإنه ليس كل ما كان معلوما متيقنا لبعض الناس يجب أن يكون معلوما متيقنا لغيره.

279
فإذا قال القائل: استوى يحتمل خمسة عشر وجها أو أكثر أو أقل كان غالطا فإن قول القائل: (استوى على كذا) له معنى وقوله (استوى إلى كذا) له معنى وقوله (استوى وكذا) له معنى وقوله (استوى) بلا حرف يتصل به له معنى، فمعانيه تنوعت بتنوع ما يتصل به من الصلات

280
كما بينا انتهاءهم في نفي الصفات والأفعال إلى حجة التركيب والتشبيه والاختصاص، وانتهاءهم في جحد القدر إلى تعارض الأمر والمشيئة، وانتهاءهم في مسألة حدوث العالم والمعاد إلى إنكار الأفعال.

281
فالدور في العلل ممتنع، والدور في الشروط جائز.

295
وكلما أمعن الفاضل الذكي في معرفة أقوال هؤلاء الملاحدة ومن وافقهم في بعض أقوالهم من أهل البدع كنفاة بعض الصفات الذين يزعمون أن المعقول عارض كلام الرسول وأنه يجب تقديمه عليه فإنه يتبين له أنه يعلم بالعقل الصريح ما يصدق ما أخبر به الرسول، وما به يتبين فساد ما يعارض ذلك.

303
ونفاة الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام وأهل الفلسفة، كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية وكثير من الكرامية.

304
وقد وافق هؤلاء على إمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل طوائفُ كثيرة ممن يقول بحدوث الأفلاك من المعتزلة والأشعرية والفلاسفة وأهل الحديث وغيرهم، فإن هؤلاء جوزوا حوادث لا أول لها، مع قولهم بأن الله أحدث السماوات/ والأرض بعد أن لم يكونا، وألزموهم بالأبد

319
كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال للعفيف التلمساني أنت نصيري، فقال: نصير جزء مني

321
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات بأن يكون للفاعل فاعل وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء.
والثاني: التسلسل في الآثار بأن يكون الحادث الثاني موقوفا على حادث قبله وذلك الحادث موقوف على حادث قبل ذلك وهلم جرا فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء وأئمة السنة والحديث مع كثير من النظار أهل الكلام يجوزون ذلك وكثير من النظار وغيرهم يحيلون ذلك.

322
وأما إذا قيل: لا يحدث حادث قط حتى يحدث حادث، فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وصريح العقل، وقد يسمى هذا دورا
........
والتسلسل نوعان: تسلسل في العلل، وقد اتفق العلماء على إبطاله، وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء.

326
فهؤلاء إذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة وهم دائما إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر يحتجون عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة، فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة.
وهذا غالب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائما يتناقضون فيحتجون بالحجة التي يزعمون أنها برهان باهر، ثم في موضع آخر يقولون: إن بديهة العقل يُعلم بها فساد هذه الحجة.

354
فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي لازم لا محيد عنه، وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام فاعترض عليه بما لا يقدح فيه.

356
وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث، وذلك الإحداث هو التأثير، فإن كان عدميا بطلت الحجة، وإن كان موجودا فإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم فتبطل الحجة، وإن كان التأثير محدثا – والتقدير أن التسلسل ممتنع – فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث، فتبطل الحجة أيضا. وهذا جواب لا مخلص لهم عنه، به ينقطع شغبهم.

360
ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري

363
ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه، كما في لفظ الدور، فإن الدور يراد به الدور القَبْلي وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء، ويراد به الدور المعي الاقتراني وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء، ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول، أو هو غالط في الإطلاق.

367
وليس في أجزاء الزمان شيء قديم، وإن كان جنسه قديما، بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر، فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم كما ليس من أجزاء الزمن جزء قديم

376
وقد رأيت من هذا عجائب، فقل أن رأيت حجة عقلية هائلة لمن عارض الشريعة قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلها إلا رأيت بعد ذلك من أئمة تلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبينه.

377
ولأن النفوس إذا علمت أن ذلك القول قاله من هو من أئمة المخالفين استأنست بذلك واطمأنت به ولأن ذلك يبين أن تلك المسألة فيها نزاع بين تلك الطائفة فتنحل عقد الإصرار والتصميم على التقليد.
فإن عامة الطوائف وإن ادعوا العقليات فجمهورهم مقلدون لرؤوسهم فإذا رأوا الرؤوس قد تنازعوا واعترفوا بالحق انحلت عقدة الإصرار على التقليد.

..................
[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد الأول بحمد الله]

المخضرمون
2009-01-15, 01:36 PM
أحسن الله إليكم أبا مالك , واصل بارك فيك .

أبو مالك العوضي
2009-01-15, 01:59 PM
جزاك الله خيرا

[المجلد الثاني]

67
[عثمان الدارمي:] لقد ميزت بين ما جمع الله، وجمعت بين ما ميز الله، ولا يجمع بين هذين التأويلين إلا كل جاهل بالكتاب والسنة

72
[عثمان الدارمي:] وقد أجمع أهل العلم بالأثر على أن لا يحتجوا بالكلبي في أدنى حلال ولا حرام

83
وقال الحافظ أبو نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن: (اعلموا أرشدنا الله وإياكم أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالا منهم في / الباطن من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة وقالت – يعني علماء العربية – الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى .... فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا

86
[السجزي:] ومن عُلِم منه خرقُ إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر بل يجانب ويقمع

96
قال الشيخ أبو الحسن [الكرخي]: وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام

99
بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام، واتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابنَ كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف

100
وأبو بكر البيهقي موافق لابن الباقلاني في أصوله

102
ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.
[من أفضل ما أنت راءٍ من الكلام وأحسنه!]

106
ومعلوم أنه ليس بعد الشافعي وابن سريج مثل الشيخ أبي حامد الإسفرايني

155
وإذا كانت الدعوى خطأ لم تكن حجتها إلا باطلة، فإن الدليل لازم لمدلوله، ولازم الحق لا يكون إلا حقا

159
أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة ما يجده في كتب أبي الحسين البصري، وصاحبه محمود الخوارزمي وشيخه عبد الجبار الهمداني ونحوهم، وفي كلام الفلاسفة ما يجده في كتب ابن سينا وأبي البركات ونحوهما وفي مذهب الأشعري يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه وبعض كتب القاضي أبي بكر وأمثاله، وهو ينقل أيضا من كلام الشهرستاني وأمثاله، وأما كتب القدماء كأبي الحسن الأشعري وأبي محمد بن كلاب وأمثالهما وكتب قدماء المعتزلة والنجارية والضرارية ونحوهم فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها، وكذلك مذهب طوائف الفلاسفة المتقدمين وإلا فهذا القول الذي حكاه عن أبي البركات هو قول أكثر قدماء الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو وقول كثير منهم كما نقل ذلك أرباب المقالات عنهم فنقل أرباب المقالات الناقلون لاختلاف الفلاسفة في الباري ما هو؟ قالوا: قال سقراط وأفلاطون وأرسطو إن الباري لا يعبر / عنه إلا بهو فقط

174
وأما أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف والتفسير وغيرهم من علماء المسلمين وكذلك كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان فكلام الرازي يدل على أنه لم يكن مطلعا على ذلك.

225
فكما أن الأبد هو الدوام في المستقبل فالأزل هو الدوام في الماضي

237
أما ما لا يوصف بالوجود – كالأعدام المتجددة، والأحوال عند من يقول بها، والإضافات عند من لا يقول: إنها وجودية – فلا يصدق عليها اسم الحادث، وإن صدق عليها اسم المتجدد، فلا يلزم من تجدد الإضافات والأحوال في ذات الباري أن تكون محلا للحوادث.

241
والإحداث هو من مقولة (أن يفعل)، و(أن يفعل) أحد المقولات العشر، وهي أمور وجودية
[لمن لا يتذكر، فالمقولات العشر جمعها الناظم في قوله:
إن المقولات لديهم تحصر ................. في العشر وهي عرض وجوهر
فأول له وجود قاما ................. بالغير والثاني بنفس داما
ما يقبل القسمة بالذات فـ(كم) ................. و(الكيف) غير قابل بها ارتسم
(أينٌ) حصول الجسم في المكان ................. (متى) حصول خص بالأزمان
و(نسبة) تكررت إضافة ................. نحو أبوة إخا لطافة
(وضع) عروض هيئة بنسبة ................. لجزئه وخارج فأثبت
و(هيئة) بما أحاط وانتقل ................. (ملك) كثوب أو إهاب اشتمل
إن يفعل (التأثير) أن ينفعلا ................. (تأثر) ما دام كل كملا]

254
ولكن الجهمية تقول: خلق علما لا في محل، والبصريون من المعتزلة يقولون: خلق إرادة وقدرة لا في محل، وطائفة منهم يقولون: خلق بخلق بعد خلق لا في محل، وهذه المقالات ونحوها مما يعلم فساده بصريح العقل.

255
ولهذا كان من يقول: إن كلام الله قائم بذاته متفقين على أن كلام الله غير مخلوق، ثم هم بعد هذا متنازعون على عدة أقوال:
هل يقال: إنه معنى واحد أو خمسة معان لم تزل قديمة كما يقوله ابن كلاب والأشعري
أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل قديمة كما يذكر عن ابن سالم وطائفة
أو يقال: بل هو حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلما كما يقوله ابن كرام وطائفة.
أو يقال: إنه لم يزل متكلما إذا شاء، وإنه إذا شاء تكلم بصوت يسمع وتكلم بالحروف كما يذكر ذلك عن أهل الحديث والأئمة
والمقصود هنا أن ما قام بذاته لا يسميه أحد منهم مخلوقا، سواء كان حادثا أو قديما.

261
فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل أو بطلانه

264
ولهذا أنكروا على من قال: لم يكن قادرا على الفعل في الأزل. وكان من يبغض الأشعري ينسب إليه هذا لتنفر عنه قلوب الناس وأراد أبو محمد الجويني وغيره تبرئته من هذا القول

278
وإذا قال السلف والأئمة: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلما، بل نفس تكلمه بمشيئته قديم، وإن كان يتكلم شيئا بعد شيء فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات، وهو المسمى بتناهي الحوادث والذي عليه السلف وجمهور الخلف أن المقدورات المرادات لا تتناهى، وهم بهذا نزهوه عن كونه كان عاجزا عن الكلام كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام، وعن أنه كان ناقصا فصار كاملا، وأثبتوا مع ذلك أنه قادر على الكلام باختياره

282
التسلسل يراد به أمور، أحدها التسلسل في المؤثرات والفاعلين والعلل، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، ومنها التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثرا، وهذا [كالذي قبله] باطل بصريح العقل وقول جمهور العقلاء.
/ ومنها التسلسل الذي في معنى الدور، مثل أن يقال: لا يحدث حادث أصلا حتى يحدث حادث، وهذا أيضا باطل بضرورة العقل واتفاق العقلاء.
ومنها: التسلسل في الآثار المتعاقبة وتمام التأثير في الشيء المعين، مثل أن يقال: لا يحدث هذا حتى يحدث قبله ولا يحدث هذا إلا ويحدث بعده وهلم جرا، وهذا فيه نزاع مشهور بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف، فمن المسلمين وغيرهم من جوزه في المستقبل دون الماضي.
وإذا عرفت هذه الأنواع فهم قالوا: إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل لم يحدث عنه شيء حتى يحدث حادث به يتم كونه مؤثرا، إذ القول في ذلك الحادث كالقول في غيره، فيكون حقيقة الكلام أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء.
لكن هذا الدليل إن طلبوا به أنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا يناقض قولهم، وهو حجة عليهم، وإن أرادوا أنه كان [في الأزل] مؤثرا تاما في الأزل لم تتجدد مؤثريته لزم من ذلك أنه لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا، فيلزم أن لا يحدث في العالم / شيء. ولهذا عارضهم الناس بالحوادث اليومية. وهذا لازم لا محيد لهم عنه، وهو يستلزم فساد حجتهم.
وإن أرادوا أنه مؤثر في شيء معين فالحجة لا تدل على ذلك، وهو أيضا باطل من وجوه، كما قد بسط في موضع آخر. فالمؤثر التام يراد به المؤثر في كل شيء، والمؤثر في شيء معين، والمؤثر تأثيرا مطلقا في شيء بعد شيء: فالأول هو الذي يجعلونه موجب حجتهم، وهو يستلزم أن لا يحدث شيء، فعلم بطلان دلالة الحجة على ذلك. ويراد به التأثير في شيء بعد شيء، فهذا موجب الحجة، وهو يستلزم فساد قولهم، وأنه ليس في العالم شيء قديم، بل لا قديم إلا [الرب] رب العالمين. ويراد به التأثير في شيء معين، فالحجة لا تدل على هذا، فلم يحصل مطلوبهم بذلك، بل هذا باطل من وجوه أخرى.
فبهذا التقسيم ينكشف ما في هذا الباب من الإجمال والاشتباه، فكل حادث معين فيقال: هذا الحادث المعين إن كان مؤثره التام موجودا في الأزل لزم جواز تأخير الأثر عن مؤثره التام فبطل قولهم.
وإن قيل: بل لا بد أن يحدث تمام مؤثره عند حدوثه، فالقول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث تمام الأول. وذلك يستلزم التسلسل في حدوث تمام التأثير. وهو باطل بصريح العقل، فيلزم على قولهم حدوث الحوادث بغير سبب حادث. وهذا أعظم مما أنكروه على المتكلمين من التسلسل.

301
ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق

307
ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها.
وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه ولا يعرفون قائله، فالشهرستاني صنف الملل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله، والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره، والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وأبو الحسين البصري ومحمد بن الهيثم ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين، تجد أحدهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة، ويختار واحدا منها، والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم، مع أن / عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون إنهم متبعون للأئمة كمالك والشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد وغيرهم، لا سيما الإمام أحمد

وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي  لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس حتى صار الحق الذي جاء به / الرسول –وهو المطابق للمعقول- لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس، والمعنى المفهوم يعبَّر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام. والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات.

309
وكثيرا ما يكون الحق مقسوما بين المتنازعين في هذا الباب، فيكون في قول هذا حق وباطل وفي قول هذا حق وباطل، والحق بعضه مع هذا وبعضه مع هذا وهو مع ثالث غيرها، والعصمة إنما هي ثابتة لمجموع الأمة، ليست ثابتة لطائفة بعينها.

311
وأبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب، لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم، بل يذكر كلاما مجملا يتناول النقيضين، ولا يميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر، فيحكيه الحاكي مفصلا ولا يجمله إجمال القائل
........
وما كلُّ من قال قولا التزم لوازمه، بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم، فالحاكي يجعل ما / يظنه من لوازم قوله هو أيضا من قوله، لا سيما إذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازما، فإنه يجعله قولا له بطريق الأولى.

313
إذ المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء من لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل، لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل، بل لم يعرف إلا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام، ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم قول ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية، ولا هو قول المسمين بالحشوية، فأين ذلك القول؟ أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقا ولا باطلا؟

315
ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العملية [كذا والصواب العلمية] ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصودُه متابعةَ الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه، تحقيقا لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.

329
والناس لهم في مسمى الكلام أربعة أقوال: أحدها أنه اللفظ الدال على المعنى، والثاني أنه المعنى المدلول عليه باللفظ، والثالث أنه مقول بالاشتراك على كل منهما، والرابع: أنه اسم لمجموعهما، وإن كان مع القرينة يراد به أحدهما، وهذا قول الأئمة وجمهور الناس

338
ومعلوم أن المشهور عند أهل الكلام من عامة الطوائف أنهم يقسمون الصفات إلى صفات فعلية وغير فعلية، مع قول من يقول منهم: إن الأفعال لا تقوم به، فيجعلونه موصوفا بالأفعال، كما يقولون إنه موصوف بأنه خالق ورازق، وعندهم هذه أمور كائنة بعد أن لم تكن، ولما قال لهم من يقول بتسلسل الحوادث من الفلاسفة وغيرهم: الفعل إن كان صفة كمال لزم اتصافه به في الأزل، وإن كان صفة نقص امتنع اتصافه به في الأبد، أجابوا عن ذلك بأن الفعل ليس صفة كمال ولا نقص.

342
ومتنازعون في أن الأمور المتجددة الحادثة هل يمكن تسلسلها ودوامها في الماضي والمستقبل، أو في المستقبل دون الماضي، أو يجب تناهيها وانقطاعها في الماضي والمستقبل؟ على ثلاثة أقوال معروفة.

344
بل نفس الرازي قد ذكر في مواضع من كتبه نقضَ ما ذكره في الأربعين ولم يجب عن ذلك، كما قد حكينا كلامه في موضع آخر

360
وقد ذكر بعض الناس بين الماضي والمستقبل فرقا بمثال ذكره كما ذكره صاحب الإرشاد وغيره وهو أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل: لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده درهما، وهذا كلام صحيح، والماضي بمنزلة أن يقول: لا أعطيك درهما إلا أعطيتك قبله درهما، وهذا كلام متناقض.

374
ولقائل أن يقول: الحجة والاعتراض مبني على أن الصفات اللازمة للحقيقة تنقسم إلى ذاتي وعرضي، كما يقوله من يقوله من أهل المنطق، فإن تقسيم الصفات اللازمة للحقيقة إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة وما هو عرضي خارج عنها قول لا يقوم عليه دليل، بل / الدليل يقوم على نقيضه، ولهذا لما لم يكن في نفس الأمر بينهما فرق لم يحدد المفرقون بينهما حدا يفصل بينهما، بل ما ذكروه من الضوابط منتقض، كما هو مبسوط في موضعه

390
ولا ريب أن هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوما لا محيد عنه، وإنما التبس مثلُ هذا لأن الواحد من هؤلاء يبني على المقدمة الصحيحة في موضع ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر، فيظهر / من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها، لكن قد يكون ما أثبتوه في أحد الموضعين صحيحا متفقا عليه، فلا ينازعهم الناس فيه ولا في مقدماته، وقد تكون المقدمات فيها ضعف، لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها، وإنما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد الثاني بحمد الله]

أبو مالك العوضي
2009-01-15, 03:44 PM
[المجلد الثالث]

10
فليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة، إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء

11
وإنما أثبت ممكنا ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا والرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها – مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون أرسطو وسلفهم – وهو أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا. وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديما أزليا، وقال: لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا.
قلت: وابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا، فتناقض في ذلك تناقضا مبسوطا في غير هذا الموضع.

15
كما يقال لمن عمل مثل ما يعمل غيره: هذا عمل فلان بعينه، فالمقصود أنه ذلك النوع بعينه، ليس المقصود أنه ذلك العمل المشخص الذي قام بذات ذلك الفاعل فإنه مخالف للحس

17
وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع، وبينا أن لفظ الجزء والغير والافتقار والتركيب ألفاظ مجملة موهوا بها على الناس، فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده

21
ومن قال من متكلمة أهل السنة: إن الصفات زائدة على الذات فتحقيق قوله أنها زائدة على ما أثبته المنازعون من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات، ونحن نثبت صفاتها زائدة على ما أثبوته هم، لا أنا نجعل في الخارج ذاتا قائمة بنفسها ونجعل الصفات زائدة عليها، فإن الحي الذي يمتنع أن لا يكون إلا حيا كيف تكون له ذات مجردة عن الحياة؟ وكذلك ما لا يكون إلا عليما قديرا كيف تكون ذاته مجردة عن العلم والقدرة؟
والذين فرقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا: القيام بالنفس والقدم ونحو ذلك من الصفات النفسية بخلاف العلم والقدرة فإنهم نظروا إلى ما لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره فجعلوه من النفسية، وما يمكن تقديرها بدونه فجعلوه معنويا، ولا ريب أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه ليس قائما بنفسه، بخلاف ما يقدر أنه عالم فإنه يمكن تقدير ذاته بدون العلم.
وهذا التقدير عاد إلى ما قدروه في أنفسهم وإلا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية، فهو عالم بنفسه وذاته وهو عالم بالعلم وهو قادر بنفسه وذاته، وهو قادر بالقدرة / فله علم لازم لنفسه، وقدرة لازمة لنفسه، وليس ذلك خارجا عن مسمى اسم نفسه.

22
فما كان جوابا عن مواضع الإجماع كان جوابا في مورد النزاع

27
وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالامتناع، وكثير من الناس يشتبه عليه هذا بهذا، فإذا تصور ما لا يعلم امتناعه أو سئل عنه قال: هذا ممكن وهذا غير ممتنع، وهذا لو فرض وجوده لم يكن في فرضه محال.
وإذا قيل له: قولك (إنه لو فرض وجوده لم يلزم منه محال) قضية كلية وسلب عام، فمن أين علمت أنه لا يلزم من فرض وجوده محال، والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل؟ وهل علمت ذلك بالضرورة المشتركة بين العقلاء أم بنظر مشترك أم بضرورة اختصصت بها أم بنظر اختصصت به؟ فإن كان بالضرورة المشتركة وجب أن يشركك نظراؤك من العقلاء في ذلك وليس الأمر كذلك عندهم، وإن كان بنظر مشترك فأين الدليل الذي تشترك فيه أنت وهم؟ وإن كان بضرورة مختصة أو نظر مختص فهذا أيضا باطل لوجهين: أحدهما أنك تدعي أن هذا مما يشترك فيه العقلاء ويلزمهم موافقتك عليه وتدعي أنهم إذا ناظروك كانوا منقطعين معك بهذه الحجة وذلك يمنع دعواك الاختصاص بعلم ذلك والثاني أن اختصاصك بعلم ذلك ضرورة أو نظرا إنما يكون لاختصاصك بما يوجب تخصيصك بذلك كمن خص بنبوة أو تجربة أو نحو ذلك مما ينفرد به وأنت لست كذلك فيما تدعي إمكانه ولا تدعي اختصاصك بالعلم بإمكانه، وإن ادعيت ذلك لم يلزم غيرك موافقتك في ذلك إن لم تقم / عليه دليلا يوجب موافقتك، سواء كان سمعيا أو عقليا وأنت تدعي أن هذا من العلوم المشتركة العقلية.

30
فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر أو أن يكون الأرموي والآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره وهذا الاحتمال أرجح فإن هذين وأمثالهما وقفوا على كتبه التي فيها هذه / الحجج مع أن تضعيفها مما سبق هؤلاء إليه كثير من النظار، ومن تكلم من النظار ينظر ما تكلم به من قبله، فإما أن يكون أخذه عنه أو تشابهت قلوبهم.
وبكل حال فهما – مع الرازي ونحوه – من أفضل بني جنسهم من المتأخرين، فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات، لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه يعرف بها الحق من الباطل في ذلك، بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام، فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسالك، وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها، وعلى القدح فيها استقر أمرهم. وكذلك غيرهم قدح فيها، كأبي حامد الغزالي وغيره.

38
ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء ووجود أشخاصها دائما إلا إذا قيل: يمتنع جنس الحوادث الدائمة.

51
ثم ما لا يتناهى في المستقبل موجود باتفاق أهل الملل وعامة الفلاسفة، ولم ينازع في ذلك إلا من شذ كالجهم وأبي الهذيل ونحوهما ممن هو مسبوق بإجماع المسلمين محجوج بالكتاب والسنة، مخصوم بالأدلة العقلية مع مخالفة جماهير العقلاء من الأولين والآخرين

60
فتبين أن الجواب فيه مغلطة، وحقيقة الجواب [أي جواب الآمدي] أنه يجب الحكم على الجملة بما يحكم به على أفرادها، وقد بين هو وغيره فساد هذا / الجواب، فإنه إذا كان بعض الجملة أزليا كان ذلك سلبا للأزلية عن أفراد الجنس ونفي الأزلية هو الحدوث فيصير معنى الكلام إذا كان كل واحد من الأفراد أو الأبعاض المتعاقبة حادثا وجب أن يكون الجنس المتعاقب حادثا وقد عرف فساد هذا الكلام.

61
وقد ذكر هو [الآمدي] في كتابه المسمى بـ(دقائق الحقائق) نقيض ما ذكره هنا في كتابه المسمى (أبكار الأفكار)

65
وكون المعلول والمفعول لا يكون مفعولا معلولا إلا بعد عدمه هو من القضايا الضرورية التي اتفق عليها عامة العقلاء من الأولين والآخرين

70
وهؤلاء تجدهم مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها وأشرفها وأسناها لا يحققون ما هو المقصود منه بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق، وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها، بل قد يورثون الناس شكا فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية.

76
والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد، والرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع

77
فإن العرضي في اصطلاحهم أعم من العارض

84
فلا ريب أن المادة هنا التي يسمونها الهيولى هي أجسام قائمة بنفسها

93
ثم إنه في كتابه المسمى بدقائق الحقائق في الفلسفة ذكر هذه الحجة وزاد فيها إبطال إثبات علل ومعلولات لا نهاية لها ولكنه اعترض عليها باعتراض وذكر أنه لا جواب [له] عنه، فبقيت حجته على إثبات واجب الوجود موقوفة على هذا الجواب.

97
مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره لكون ذلك أظهر عنده فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي، مثل من يكون من شأنه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة، فإذا كان الكلام طويلا مستغلقا هابه وعظمه، كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد

97
وهؤلاء كثيرا ما يغلطون فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل، وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة.

97
ولهذا لما بنى الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل حصل ما حصل، فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به / يجاهدون وتركوا واحدا ظنا أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم، ثم إنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد.

104
وهاتان المقدمتان: وهو أن كل حادث فلا بد له من محدث، وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجودا، مع أنهما معلومتان بالضرورة فإن كثيرا من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية ويحتجون على ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة لكن / النتيجة أبين عند العقل من المقدمات، فيصير كمن يحد الأجلى بالأخفى، وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقا، فقد ينتفع به في مواضع، مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية، دون ما [هو] أخفى منها، ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة لمن يرى أن حصوص العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده وأحب إليه، وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة لم تكن مزية على العامة، ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك أن مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا لم ندعه عجزا وجهلا، وإنما أعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه، واشتغالا بما هو أنفع من تطويل لا يحتاج إليه إلى أمثال ذلك من المقاصد.

110
ولهذا اتفق العقلاء على أنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر، لا بمعنى كونه علة فاعلة ولا بغير ذلك من المعاني، وأما كون كل من الشيئين شرطا للآخر فإنه يجوز، وهذا هو الدور المعي، وذاك هو الدور القبلي

117
والتسلسل الذي يسمى التسلسل في العلل والمعلولات والمؤثر والأثر والفاعل والمفعول والخالق والمخلوق هو ممتنع باتفاق العقلاء وبصريح المعقول، بل هو ممتنع في بديهة العقل بعد التصور، وهو الذي أمر النبي  بالاستعاذة منه في قوله  يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فيقول الله، فيقول: من خلق الله، فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته

138
[الفرق بين العلم والمعرفة]

143
الدور نوعان والتسلسل نوعان

150
لا يمكن أحد* أن يقول كل منها مؤثر
[قال المحقق أن في جميع النسخ (أحدا).
قلت: وهو الصواب قولا واحدا]

157
واعلم أن تسلسل المؤثرات لما كان ممتنعا ظاهر الامتناع في فطر جميع العقلاء لم يكن متقدمو النظار يطيلون في تقريره لكن المتأخرون أخذوا يقررونه وكان من أسباب ذلك اشتباه التسلسل في الآثار التي هي الأفعال بالتسلسل في المؤثرين الذين هم الفاعلون

161
ومن أقدم من رأيته ذكر نفي التسلسل في إثبات واجب الوجود في المؤثرات خاصة دون الآثار ابن سينا، وهو بناه على نفي التسلسل في العلل فقط، ثم اتبعه من سلك طريقه كالسهروردي المقتول وأمثاله وكذلك الرازي والآمدي والطوسي وغيرهم.

161
لأن المستدل بدليل ليس عليه أن يذكر كل ما قد يخطر بقلوب الجهال من الاحتمالات وينفيه فإن هذا لا نهاية له، وإنما عليه أن ينفي من الاحتمالات ما ينقدح، ولا ريب أن انقداح الاحتمالات يختلف باختلاف الأحوال.
ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس يذكر في الأدلة من / الاحتمالات التي ينفيها ما لا يحتاج غيره إلى ذلك، ولكن هذا لا ضابط له، كما أن الأسولة والمعارضات الفاسدة التي يمكن أن يوردها بعض الناس على الأدلة لا نهاية لها، فإن هذا من باب الخواطر الفاسدة، وهذا لا يحصيه أحد إلا الله تعالى، لكن إذا وقع مثل ذلك لناظر أو مناظر فإن الله ييسر من الهدى ما يبين له فساد ذلك، فإن هدايته لخلقه وإرشاده لهم هو بحسب حاجتهم إلى ذلك وبحسب قبولهم الهدى وطلبهم له قصدا وعملا.

163
والقول بوحدة الوجود قول حكاه أرسطو وأتباعه عن طائفة من الفلاسفة وأبطلوه

178
فثبت أنه إذا قدر سلسلة العلل والمعلولات كل منها ممكن فلا بد لها من أمر خارج عنها، وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء وهو من أقوى العلوم اليقينية والمعارف القطعية.
ولولا أن طوائف من متأخري النظار طولوا في ذلك وشكك فيه بعضهم كالآمدي والأبهري لما بسطنا فيه الكلام.

184
[تكلم عن الآمدي ومقدمة كتابه أبكار الأفكار]
ولكن من عدل عن الطرق الصحيحة الجلية القطعية القريبة البينة إلى طرق طويلة بعيدة لم يؤمن عليه مثل هذا الانقطاع كما [قد] نبه العلماء على ذلك غير مرة وذكروا أن الطرق المبتدعة إما أن تكون مخطرة لطولها ودقتها، وإما أن تكون فاسدة ولكن من سلك الطرق المخوفة وكانت طريقا صحيحة فإنه يرجى له الوصول إلى المطلوب.
ولكن لما فعل هؤلاء ما فعلوا، وصاروا يعارضون بمضمون طرقهم / صحيح المنقول وصريح المعقول، ويدعون أن لا معرفة إلا من طريقهم أو لا يكون عالما كاملا إلا من عرف طريقهم، احتيج إلى تبيين ما فيها دفعا لمن يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا، وبيانا للطرق النافعة غير طريقهم، وبيانا لأن أهل العلم والإيمان عالمون بحقائق ما عندهم ليسوا عاجزين عن ذلك، ولكن من كان قادرا على قطع الطريق فترك ذلك إيمانا واحتسابا وطلبا للعدل والحق وجعل قوته في الجهاد في أعداء الله ورسوله كان خيرا ممن جعل ما أوتيه من القوة فيما يشبه قطع الطريق

187
مع أنه [الآمدي] من أكبر رؤوس طوائف أهل الكلام والفلسفة، بل قد يقال: إنه لم يكن فيهم في وقته مثله.

194
فلو قدر أن تلك المقدمة المتنازع فيها صحيحة لكان تقديرُ المقدمة المجمع عليها بمقدمة متنازعٍ فيها خلافَ ما ينبغي في التعليم والبيان والاستدلال، لا سيما وليست أوضح منها، ولا لها دليل يخصها، فإنه ربما ذكرت المقدمة المتنازع فيها لاختصاصها بدليل أو وضوح أو نحو ذلك، وأما بدون ذلك فهو خلاف الصواب في الاستدلال.

214
وذكر [الآمدي] عن قوم أنهم قالوا: المجموع واجب بنفسه بهذا الاعتبار، واستفسط هذا الاعتراض
[قلت: أي عده سفسطة، وهو فعل غريب لم أقف عليه عند غير شيخ الإسلام]

214
وإنما أُشكل على من أُشكل لعدم التصور
[كذا ضبطها المحقق، والصواب أَشْكَلَ]

220
لفظ المجموع فيه إجمال قد يعنى به الأفراد المجتمعة، وقد يعنى به اجتماعها، وقد يعنى به الأمران

226
وهذا من أحسن الدورات في النظر والمناظرة لإبطال الاعتراضات الفاسدة بمنزلة عدو قدم يريد محاربة / الحجيج، وهناك عدة طرق يمكن أن يأتي من كل منها، فإذا وكل بكل طريق طائفة يأخذونه كان من المعلوم أن الذي يصادفه طائفة، ولكن إرسال تلك الطوائف ليعلم أنه منع المحذور على كل تقدير، إذ كان من الناس من هو خائف أن يأتي من طريقه فيرسل إليه من يزيل خوفه ويوجب أمنه.

228
والهندي لم يجب عنه
[المحقق: في (ض) كأنها (والهنفري) ولم أعرف من هو، وكتب محقق (ق) ما يلي: قوله (والهندي) كذا في الأصل، وكتب بهامشه: لعله الآمدي فحرر، كتبه مصححه]

235
والأدلة العقلية إنما يعترض على معانيها، فإن كنت أوردت هذا سؤالا لفظيا كان قليل الفائدة، وإن كان سؤالا معنويا كان باطلا في نفسه، والقوم لما قالوا: الموجود إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه جعلوا الوجود منحصرا في هذين القسمين أي جعلوا كل واحد واحد من الموجودات منحصرا في هذين القسمين.

262
ثم إن هؤلاء الفلاسفة يقولون – كما زعم الآمدي – إن كمال النفس الإنسانية هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات، وهم مع هذا لم يعرفوا الموجود الواجب، فأي شيء عرفوه؟!
وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب (كشف الأسرار في المنطق) وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن أنه قال عند الموت: أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب. ثم قال: الافتقار وصف عدمي، أموت وما علمت شيئا.
وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال: (أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام) أو كلاما هذا معناه.
/ وذلك أن هذا الآمدي لم يقرر في كتبه لا التوحيد، ولا حدوث العالم، ولا إثبات واجب الوجود بل ذكر في التوحيد طرقا زيفها، وذكر طريقة زعم أنه ابتكرها، وهي أضعف من غيرها.
وكان ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات وغيرهما يعظم طريقته ويقول: إن الطريقة التي ابتكرها في التوحيد طريقة عظيمة أو ما هو نحو هذا، حتى أفضى الأمر ببعض أعيان القضاة الذين نظروا في كلامه إلى أن قال التوحيد لا يقوم عليه دليل عقلي وإنما يعلم بالسمع، فقام عليه أهل بلده وسعوا في عقوبته وجرت له قصة.
وكذلك الأصبهاني اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما فقال له: بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته.
وكذلك حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: (أبيت بالليل وأستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي وأبيت / أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء) كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة.

264
الناس قبلنا قد ذكروا له [التوحيد] من الأدلة العقلية اليقينية ما شاء الله، ولكن الإنسان يريد أن يعرف ما قاله الناس، وما سبقوا إليه، وبينا أيضا أن القرآن ذكر من ذلك ما هو خلاصة ما ذكره الناس، وفيه من بيان توحيد الإلهية ما لم يهتد إليه كثير من النظار ولا العباد، بل هو الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.

280
فإن كان يوجد منها
[الصواب بواحد منها]

285
وأما إذا قيل: كل واحد واحد فذلك أبعد لأنه يقتضي اجتماع مؤثرين مستقلين على أثر واحد وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء.

287
فلهذا صار كلما طال الزمان أورد المتأخرون أسولة سوفسطائية لم يذكرها المتقدمون.

289
فمن جوز وجود جسم قديم لم يزل متحركا لا يقول: إن شيئا معينا من الحركة قديم أزلي، بل يقول: نوع الحركة أزلي، وإن كان كل منها حادثا كائنا بعد أن لم يكن مسبوقا بالعدم.

301
وإنما يجوّز كونَ المفعول المعلول مقارنا لفاعله طائفة قليلة من الناس، كابن سينا والرازي ونحوهما.

303
ولكن كون الشيء دليلا على الشيء معناه أنه يلزم من ثبوته ثبوته والشيئان المتلازمان كل منهما يصلح أن يكون دليلا على الآخر ثم من شأن الإنسان أن يستدل بالظاهر على الخفي لكن الظهور والخفاء من الأمور النسبية فقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا وقد ظهر للإنسان في وقت ما يخفي عليه في وقت آخر فلهذا أمكن أن يستدل بهذا على ذاك وبذاك على هذا إذا قدر أن هذا أظهر من ذاك تارة وذاك أظهر من هذا أخرى وإما بحسب شخصين وإما بحسب حالين
وهذه المعاني من تفطن لها انجلت عنه شبه كثيرة فيما يورده الناس على الحدود والأدلة التي قد يقال إنه لا فائدة فيها ولا حاجة إليها وذاك صحيح وقد يقال : بل ينتفع بها وهذا أيضا صحيح
لكن من حصر العلم بطريق عينه هو مثل واحد معين ودليل معين أخطأ كثيرا كما أن من قال : إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا : لا يحصل العلم إلا به مطلقا أخطأوا والذين قالوا : لا حاجة إليه بحال بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال أخطأوا بل المعرفة / وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر والإنسان قد يستغني عنه في حال ويحتاج إليه في حال وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويتغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية والترجمة قد يحتاج إليها تارة وقد يستغنى عنها أخرى وهذا له نظائر

304
وكذلك كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى
وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا
ومن هنا يتبين لك أن الذين بنوا أمورهم على مقدمات إما ضرورية أو نظرية أو قطعية أو ظنية بنوها على أمور تقبل التغير والاستحالة فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وأما ما جاء به الرسول فهو حق لا يقبل النقيض بحال

308
وقد سئل بعض السالكين طريقة هؤلاء كالرازي ونحوه فقيل له : لم لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الوسواس بالبرهان المبين لفساد التسلسل والدور بل أمر الاستعاذة ؟ فأجاب بأن مثل هذا مثل من عرض له كلب ينبح عليه ليؤذيه ويقطع طريقة فتارة يضربه بعصا وتارة يطلب من صاحب الكلب أن يزجره قال فالبرهان هو الطريق الأول وفيه صعوبة والاستعاذة بالله هو الثاني وهو أسهل
واعترض بعضهم على هذا الجواب بأن هذا يقتضي أن طريقة البرهان أقوى وأكمل وليس الأمر كذلك بل طريقة الاستعاذة أكمل وأقوى فإن دفع الله للوسواس عن القلب أكمل من دفع الإنسان ذلك عن نفسه
فيقال : السؤال باطل وكل من جوابيه مبني على الباطل فهو باطل وذلك أن هذا الكلام مبناه على أن هذه الأسئلة الواردة على النفس تندفع بطريقين أحدهما البرهان والآخر الاستعاذة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعاذة وأن المبين لفساد الدور والتسلسل قطعه بطريق البرهان وأن طريقة البرهان تقطع الأسولة الواردة على النفس بدون ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بطريقة البرهان.
وهذا خطأ من وجوه بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية / نظر النظار ودل من البراهين على ما هو فوق استنباط النظار والذي أمر به في دفع هذا الوسواس [ليس] هو الاستعاذة فقط بل أمر بالإيمان وأمر بالاستعاذة وأمر بالانتهاء ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك

310
والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر بل إذا كان جاحدا معاندا عوقب حتى يعترف بالحق وإن كان غالطا إما لفساد عرض لحسه أو عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم وإما لنحو ذلك فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه فإن عجز عن ذلك لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية أو بالدعاء والرقي والتوجه ونحو ذلك وإلا ترك
ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرا على النظر لم تمكن مخاطبتة بالنظر والاستدلال
/ وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تُزال بالبرهان بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية
وهذا يزول بالاستعاذة بالله

318
ومما ينبغي أن يعرف في هذا المقام -وإن كنا قد نبهنا عليه في / مواضع- أن كثيرا من العلوم تكون ضرورية فطرية فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت ووقع فيها شك إما لما في ذلك من تطويل المقدمات وإما لما في ذلك من خفائها وإما لما في ذلك من كلا الأمرين
والمستدل قد يعجز عن نظم دليل على ذلك إما لعجزه عن تصوره وإما لعجزه عن التعبير عنه فإنه ليس كل ما تصوره الإنسان أمكن كل أحد أن يعبر عنه باللسان وقد يعجز المستمع عن فهمه ذلك الدليل وإن أمكن نظم الدليل وفهمه فقد يحصل العجز عن إزالة الشبهات المعارضة إما من هذا وإما من هذا وإما منهما
وهذا يقع في التصورات أكثر مما يقع في التصديقات فكثير من الأمور المعروفة إذا حدت بحدود تميز بينها وبين المحدودات زادت خفاء بعد الوضوح لكونها أظهر عند العقل بدون ذلك الحد منها بذلك الحد
ولكن قد يكون في الأدلة والحدود من المنفعة ما قد نبه عليه غير مرة ولهذا تنوعت طرق الناس في الحدود والأدلة وتجد كثيرا من الناس يقدح في حدود غيره وأدلته ثم يذكر هو حدودا وأدلة يرد عليها إيرادات من جنس ما يرد على تلك أو من جنس آخر وذلك لأن المقصود بالحدود : إن كان التمييز بين المحدود وبين غيره كانت الحدود الجامعة المانعة على أي صورة كانت مشتركة في حصول التمييز بها وإن لم تكن جامعة مانعة كانت مشتركة في عدم حصول التمييز وإن كان المطلوب بها تعريف المحدود فهذا لا يحصل بها مطلقا ولا يمتنع بها / مطلقا بل يحصل لبعض الناس وفي بعض الأوقات دون بعض كما يحصل بالأسماء فإن الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال فلا يمكن أن يقال الاسم لا يعرف المسمى بحال ولا يمكن أن يقال يعرف به كل أحد كذلك الحد.
وإن قيل إن المطلوب بالحد أن مجرد الحد يوجب أن المستمع له يتصور حقيقة المحدود التي لم يتصورها إلا بلفظ الحاد وأنه يتصورها بمجرد قول الحاد كما يظنه من يظنه من الناس بعض أهل المنطق وغيرهم فهذا خطأ كخطأ من يظن أن الأسماء توجب معرفة المسمى لمن تلك الأسماء بمجرد ذلك اللفظ.
وقد بسط الكلام على هذا في موضعه وبينا ما عليه جمهور النظار من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين والمشركين من أن الحدود مقصودها : التمييز بين المحدود وغيره وأن ذلك يحصل بالوصف الملازم للمحدود طردا وعكسا الذي يلزم من ثبوته ثبوت المحدود ومن انتفائه انتفاؤه كما هو طريقة نظار المسلمين من جميع الطوائف مثل أبي على هاشم وأمثالهما ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر و أبي المعالي الجويني والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأمثالهم.

324
وصنف الناس مصنفات في الرد على أهل المنطق، كما صنف أبو هاشم وابن النوبختي والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم.

336
فقد يمكن ضال* آخر أن يتصور كونها فاعلة مع عدم القيام بالنفس
[قال المحقق: في جميع النسخ (فقد يمكن ضالا).
قلت: وهو الصواب قولا واحدا]

340
فإثبات ماهية تقبل الوجود والعدم وهي مع ذلك مستلزمة للوجود ليس قول أحد من الطوائف

350
إذا الممكن لا يوصف
[الصواب (إذ)]

371
ثم العلم فيه من العموم ما ليس في القدرة، وفي القدرة من العموم ما ليس في الإرادة.

382
وقد أثبت طائفة منهم بعضها بالعقل، كما أثبت أبو إسحق الإسفراييني صفة اليد بالعقل، وكما يثبت كثير من المحققين صفة الحب والبغض والرضى والغضب بالعقل.

383
وأئمة أهل السنة والحديث من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية، لكن منهم من يقول: لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة، وما لم يقم دليل قاطع على إثباته نفيناه، كما يقوله ابن عقيل وغيره أحيانا، ومنهم من يقول: بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول، ومنهم من يقول: نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقا، ومنهم من يقول: يعطى كل دليل حقه، فما كان قاطعا في الإثبات قطعنا بموجبه، وما كان راجحا لا قاطعا قلنا بموجبه، فلا / نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع، وإذا قام دليل يرجح أحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين، وهذا أصح الطرق.

387
والآمدي نفسه قد بين بطلان قول من جعل الجواهر متماثلة.

388
وهذا مثل الموجود فإنه لا يقصد به أن غيره أوجده، بل يقصد به المحقق الذي هو بحيث يوجد، فكثير من الأفعال التي بنيت للمفعول واسم المفعول التابع لها قد كثر في الاستعمال حتى بقي لا يقصد به قصد فعل حادث له فاعل أصلا، بل يقصد إثبات ذلك الوصف من حيث الجملة.
وكثير من ألفاظ النظار من هذا الباب كلفظ الموجود والمخصوص والمؤلف والمركب والمحقق فإذا قالوا: إن الرب تعالى مخصوص بخصائص لا يشركه فيها غيره أو هو موجود لم يريدوا أن أحدا غيره خصه بتلك الخصائص ولا أن غيره جعله موجودا.
وبسبب ذلك تجد جماعات غلطوا في هذا الموضع في مثل هذه المسألة إذا قيل: الباري تعالى مخصوص بكذا وكذا أو مختص بكذا وكذا، قالوا: فالمخصوص لا بد له ممن خصه بذلك، والمخصص لا بد من مخصص خصصه بذلك.

400
[ابن رشد] لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل

403
[لفظ المركب]

405
فلهذا قال أبو حامد: هذا كقول القائل كل موجود يفتقر إلى موجد، ولو قال: إلى واجد لكان أقرب إلى مطابقة اللفظ.
وهذا صحيح فإن الموجود اسم مفعول من وجد يجد فهو واجد، فإذا قال القائل: كل موجود يفتقر إلى واجد أو موجد نظرا إلى اللفظ، كان كقوله: كل مركب يفتقر إلى مركب نظرا إلى اللفظ، ولكن لفظ الموجود إنما يراد به ما كان متحققا في نفسه لا يعنى به ما وجده أو أوجده غيره، كما أنهم يعنون بالمركب هنا ما كان متصفا بصفة قائمة به أو ما كان فيه معان متعددة وكثرة لا يعنون به ما ركبه غيره، فالذي جرى لهؤلاء المغالطين في لفظ التأليف والتركيب كما جرى لأشباههم في لفظ التخصيص والتقدير فإن الباب واحد، فليتفطن اللبيب لهذا فإنه يحل عنه شبهات كثيرة.

409
فيقال: ألقني بقولك
[الصواب أتعني بقولك]

413
أو واجب الوجود الذي يطلب الفلك التشبه به بإخراج ما فيه من الأيون والأوضاع
[الأيون: جمع أَيْن]

427
ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا بكلام فيه تلبيس وتدليس فإنه ذكر ما يلزم مثبة الصفات وما يلوم نفاتها
فقال : يلزم النفاة أن تكون الصفات ترجع إلى ذات واحدة فيكون مفهوم العلم والقدرة والإرادة مفهوما واحدا وأن يكون العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد واحدا وقد قال إن هذا عسير
قلت : بل الواجب أن يقال : أن هذا مما يعلم فساده بضرورة

431
والناس شنعوا على أبي الهذيل العلاف لما قال إن الله عالم بعلم وعلمه نفسه ونسبوه إلى الخروج من العقل مع أن كلامه أقل تناقضا من كلام هؤلاء

434
وما أعلم أحدا من نظار المسلمين يقول: كل عرض حادث وصفات الله القديمة عرض، فإن هذا تناقض بين

444
ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة -قول من أثبت ما لا يتميز بعضه عن بعض ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية- توقف من توقف من أفاضل النظار فيه فتوقف فيه أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني في بعض كتبه وأبو عبد الله الرازي في نهايته.

452
ولولا أن هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الأمور وإلا لكان ينبغي أن تبين أن مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه / السلف والأئمة وغيرهم من العقلاء فإن هؤلاء يقولون إن الله لا يمكن أن يفني شيئا من الأجسام والأعراض بل طريق فنائها أنه لا يخلق الأعراض التي تحتاج إلى تجديد وإحداث دائما فإذا لم يحدثها عدمت الأجسام وفنيت بأنفسها لأنه لا وجود لها إلا بالأعراض ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد الثالث بحمد الله]

عبدالله العلي
2009-01-15, 06:34 PM
بارك الله فيك أبا مالك
وأنت من مفاتيح الخير ، نفع الله بك .

أبو بكر العروي
2009-01-15, 08:49 PM
بارك الله فيك أبا مالك و نفع بك.
قلت حفظك الله:
"فالكتاب قابل للاختصار والتنقيح والترتيب، وهذا مشروع بحث لو قام عليه بعض الدارسين لكان جيدا"
ولست أدري إن كنت على علم بأن الكتاب لخصه د.محمد السيد الجليند بإشراف ومراجعة د. عبد الصبور شاهين في سلسلة "تقريب التراث" وقد اطلعت عليه منذ مدة في إحدى المكتبات.
"وكان يقول – يعني أبا بكر بن العربي - شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر"
فتشت على هذه العبارة كثيراً في كتب ابن العربي التي تمكنت من الاطّلاع عليها فما وجدتها ولعلها في كتابه "قانون التأويل"
فما رأيك؟

أبو مالك العوضي
2009-01-15, 09:05 PM
بارك الله فيك أبا مالك و نفع بك.

آمين وإياك أخي الفاضل


قلت حفظك الله:
"فالكتاب قابل للاختصار والتنقيح والترتيب، وهذا مشروع بحث لو قام عليه بعض الدارسين لكان جيدا"
ولست أدري إن كنت على علم بأن الكتاب لخصه د.محمد السيد الجليند بإشراف ومراجعة د. عبد الصبور شاهين في سلسلة "تقريب التراث" وقد اطلعت عليه منذ مدة في إحدى المكتبات.

نعم ، رأيته منذ مدة طويلة، وهو شديد الاختصار في مجلد صغير لا يشفي الغلة.


"وكان يقول – يعني أبا بكر بن العربي - شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر"
فتشت على هذه العبارة كثيراً في كتب ابن العربي التي تمكنت من الاطّلاع عليها فما وجدتها ولعلها في كتابه "قانون التأويل"
فما رأيك؟
نعم ، وأغلب الظن أنها مروية مشافهة.
والله أعلم.

أبو بكر العروي
2009-01-15, 11:33 PM
"والإحداث هو من مقولة (أن يفعل)، و(أن يفعل) أحد المقولات العشر، وهي أمور وجودية
[لمن لا يتذكر، فالمقولات العشر جمعها الناظم في قوله:
إن المقولات لديهم تحصر ................. في العشر وهي عرض وجوهر
فأول له وجود قاما ................. بالغير والثاني بنفس داما
ما يقبل القسمة بالذات فـ(كم) ................. و(الكيف) غير قابل بها ارتسم
(أينٌ) حصول الجسم في المكان ................. (متى) حصول خص بالأزمان
و(نسبة) تكررت إضافة ................. نحو أبوة إخا لطافة
(وضع) عروض هيئة بنسبة ................. لجزئه وخارج فأثبت
و(هيئة) بما أحاط وانتقل ................. (ملك) كثوب أو إهاب اشتمل
إن يفعل (التأثير) أن ينفعلا ................. (تأثر) ما دام كل كملا]"

ثمة بيتان في المقولات العشر أوردهما الشيخ رحمه الله إما في "الدرء" و إما في" المنهاج"- و غالب ظني أنهما في الأول -أسردُهما حفظاً، وربما وجدت فيهما خللاً فالرجاء إصلاحه والله يسددك.

زيد الطويل الأسود بن مالك في بيته بالأمس كان يتّكي
بيده سيف نضاه فانتضى تلك هي عشر مقولات سوى
1- زيد =الجوهر
2-الطويل= الكم
3- الأسود= الكيف
4- ابن مالك= الإضافة
5- ببيته= المكان
6- بالأمس = الزمان
7- يتّكي= الوضع
8- بيده= الملك
9- نضاه= الفعل( أن يفعل)
10- فانتضى= الانفعال (أن ينفعل)

أبو مالك العوضي
2009-01-17, 02:53 AM
[المجلد الرابع]

23
أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة صلوات الله عليه وسلام، أو ما أجمع عليه أهل العلم، وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه مع منازعة غيره له فلا يجوز إضافته إلى الملة.

35
وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وأنه أربعة أقسام تقابل السلب والإيجاب، والعدم والملكة، والتضايف والتضاد، وأن تقابل العلم والجهل والعمى والبصر هو عندهم من باب تقابل العدم والملكة.
[الآمدي] والملكة على اصطلاحهم: كل معنى وجودي أمكن أن يكون ثابتا للشيء: إما بحق جنسه كالبصر للإنسان، فإن البصر يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان، أو بحق نوعه ككتابة زيد، فإن هذا ممكن لنوع الإنسان، أو بحق شخصه كاللحية للرجل، فإنها ممكنة في حق الرجل.

59
ليس كل ما لا تعلم الحاجة إليه يجزم بنفيه، فإن الله أخبر أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم، ولا يعلم إلى ذلك حاجة، وكذلك قد خلق آدم بيده عند أهل الإثبات مع قدرته على أن يخلقه كما خلق غيره.
........
وعدم الدليل مطلقا لا يستلزم عدم المدلول عليه في نفس الأمر، وإن استلزم عدم علم المستدل به فضلا عن عدم الدليل المعين.

60
الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه.

61
وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر، لجواز أن يكون الحق في قول ثالث، لا قول هذا ولا قول هذا، لا سيما إذا عرف أن هناك قولا ثالثا

65
والناس لهم في وجود المقدور بمحل القدرة وخارجا عنها أقوال : منهم من يقول القدرة القديمة والمحدثة توجد في محل المقدور كأئمة أهل الحديث والكرامية وغيرهم
ومنهم من يقول القدرتان توجدان في غير محل المقدور كالجهمية والمعتزلة وغيرهم
ومنهم من يقول المحدثة لا تكون إلا في محل المقدور والقديمة لا تكون في محل المقدور وهم الكلابية ومن وافقهم
ومتنازعون أيضا هل يمكن أن تكون القدرتان أو إحداهما متعلقة بالمقدور في محلها وخارجة عن محلها جميعا
والمقصود هنا أن ما عارضهم به معارضة صحيحة ولكن كثير من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون في المقدور ما يقولون في المقبول ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات

82
العلة إذا كانت أعم من المعلول كانت منتقضة.

125
وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه.

133
كما يعبر بلفظ الحرف عن الحرف المكتوب ويراد به الشكل تارة مجردا عن المادة، ويراد به مجموع المادة والشكل، وهو المداد المصور.

134
أو أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة كما يقوله المعتزلة

135
ولما عسر جواب هذه على الرازي ونحوه من أهل الكلام اعتقدوا أن القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بأن أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت.
وليس الأمر كذلك فإن إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وجمهور العقلاء، وكثير من / طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية.
والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل، فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد؟

140
والشارع يفرق بين ما يدعى به من الأسماء فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاه عنه ناف لما يستحقه من الصفات، كما أنه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبرا عنه بما يستحقه: إنه قديم وواجب الوجود

140
ولا نقل عنها [أي العرب] إطلاق لفظ (ذات) بإزاء نفسه. وإنما لفظ (الذات) عندهم تأنيث (ذو) فلا تستعمل إلا مضافة
........ / ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ (ذات الله)

146
وأفردنا الكلام على قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} في مصنف مفرد

147
فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين .... وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب.
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه وهو من صفات كماله فقد أخطأ.

148
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها دل على فساد قوله

162
يقال له ولأمثاله كالرازي والشهرستاني ونحوهما من / المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا: إنه دليل على نفي ذلك: أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين للرسل فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم: لا نعلم دليلا على نفيها، أو قلتم بإثباتها، وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا: إن الخالق تعالى فوق خلقه، سعيتم في نفي لوازم هذا القول وموجباته وقلتم: لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته، فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة، وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين، أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون، ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلا وشرعا.

170
وحرف المسألة أن كلامه مبني على تماثل الجواهر
[المحقق: وحرف المسألة. كذا في جميع النسخ]
[قلت: لا إشكال فيه]

173
وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة، لكن تلك محلها العقل، وهذه محلها الخيال

175
وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار، يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تكلم به على طريقة أولئك، مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر، وهذا إما أن يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك، فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول، بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو، وهذا قبيح بمن يدعي النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ، وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر، وهذا أشبه أن يظن بمن له عقل وتصور صحيح، لكنه يدل على أن له في المسألة قولين، وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام لا يمشي مع الدليل مطلقا بل يتناقض، وإما أن يكون مع فهمه التناقض [كذا]، وحينئذ فإما أن لا يبالي بتناقض كلامه وإما أن يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن.

178
وجمهور الناس على أن الأجسام مختلفة من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم وقد ذكر الأشعري في مقالاته النزاع في ذلك.

180
والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص، وبيان تناقضهم في ذلك، وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا، ويبعد – أو يمتنع في العادة – أن يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد، مع الفهم التام في الموضعين، بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور، وخوفا أن لا يكون القولان متنافيين، فلا يهجم بإثبات التناقض أو لنوع من الهوى / والغرض، ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو من مشهورات أقوالها، ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة، ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم

184
الجواهر العقلية عند من يثبت جوهرا ليس بمتحيز كالعقول والنفوس، والمادة والصورة، فإن هؤلاء المتفلسفة المشائين يدعون أن الجوهر خمسة أقسام، وجمهور العقلاء يدفعون هذا ويقولون: هذه الأمور التي سميتموها جواهر عقلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان.

204
ومعلوم أن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها أزليا، فإن ذلك ممتنع، ولا في أن ذلك لا يكون، فإن ذلك نقص وعدم، بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة، فيكون وجود تلك المرادات الحادثة من الكمالات التي يستحقها ولا يحتاج فيها إلى غيره، فيكون فعله ما يفعله للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص، وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا، بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي من أعظم نعوت الكمال توهما أن إثباتها يقتضي الحاجة / إلى غيره، وذلك غلط محض، بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته، لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة.

206
وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها
والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين

208
وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك
[المحقق: ض: منازعهم. وفي سائر النسخ: منازعيهم ولعل الصواب ما أثبته]
[قلت: بل هو خطأ محض]

218
فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة للرؤية والنفاة لكونه فوق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي أنفسها تدل على نقيض قولهم
[في هامش ص كتب أمام هذا الموضع ما يلي: تأسيس التقديس للرازي ونقضه المصنف قدس الله روحه في نحو اثني عشر مجلدا، ويسمى بتخليص التقديس في تأسيس التلبيس]

227
فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة، إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات.

252
ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق وتقويتها إذا نصر بها باطل أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد، والمدلول حق لا ريب فيه، وإن قدر ضعف الحجة ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه، بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد.

258
والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشاراته وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم وعلى من اتبعهم كالرازي والسهروردي والطوسي وغيرهم.

265
وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين: هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص؟ على قولين مشهورين.
[يقصد بالشهرة أن القولين معروفان في الكتب المصنفة، وإن كان القول بالمناسبة يكادون يجمعون على ضعفه]

276
ونحن نذكر ما يقدح به الآمدي وأمثاله في حججهم التي احتجوا بها في موضع آخر، وإن كان بعض ذلك القدح ليس بحق، ولكن يعطى كل ذي حق حقه قولا بالحق واتباعا للعدل.

279
ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة، فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ، بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه، بل قد علم جواز الخطأ عليه، وعلم وقوع الخطأ منه، فيما هو دون الإلهيات فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بالأدلة المجملة والمفصلة.

290
والرازي وأتباعه يبينون حدوث الجسم في كتبه الكلامية كالأربعين ونهاية العقول والمحصل وغير ذلك، ثم يبينون فساد كل ما يحتج به على حدوث الأجسام في مواضع أخر، مثل المباحث المشرقية، وكذلك في المطالب العالية التي هي آخر كتبه، بين فساد حجج من يقول بحدوثها، وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا، ويذكر حججا كثيرة على دوام الفاعلية، ويورد عليها مع ذلك ما يدل على فسادها، ويعترف بالحيرة في هذه المواضع العظيمة مسائل الصفات وحدوث العالم ونحو ذلك.
وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالا تستلزم الجمع بين النقيضين تارة ورفع النقيضين تارة بل تستلزم كليهما. والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين لا يذكرون فيه إلا أقوالا ضعيفة.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد الرابع بحمد الله]

أبو مالك العوضي
2009-01-17, 02:55 AM
[المجلد الخامس]

4
هذا وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب، وأبعدهم عنه، وأعظمهم نكيرا عليه وعلى أهله، وللشيوخ المشهورين بالخير كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجنيد بن محمد / وسهل بن عبد الله التستري، وعمرو بن عثمان المكي، وأبي عثمان النيسابوري، وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي، ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية ما لا يتسع هذا الموضع لعشره.

26
فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي
[المحقق: لم أعرف من هم]

35
ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالما قادرا على قول الجمهور الذين ينفون أن تكون الأحوال زائدة في الخارج على الصفات ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وأبي المعالي في أول قوليه، فهؤلاء يقولون: ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال، وإثبات الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات لها وجود في الأذهان لا في الأعيان.


52
ومعلوم أن الاسم العلم لا ينكره أحد، ولو كانت أسماؤه أعلاما لم يكن فرق بين الرحمن والجبار، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في / الحديث المعروف في السنن: يقول الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته.
فإذا كانت الرحم مشتقة من اسم الرحمن امتنع أن يكون علما لا معنى فيه.

56
فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع / الناس فيها دقيقها وجليلها، كما قال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها، وقال مسروق: ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه.

61
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء الذين فهم نوع / من التجهم عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة لما ظهر قول الإثبات في بلدهم، بعد أن كان خفيا واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئا فريا، فقال: (هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول، وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول، ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ودهناه ثلاثين سنة، ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة)
وهو كما قال، فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور، وبين الباطل والظلام، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها، وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك.
وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق يحتاج إلى أعمال / عظيمة وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر أمرهم الشك بالرحمن وعبادة الطاغوت والشيطان وعمل الذهب المغشوش والفساد في الأرض والقليل منهم من ينال بعض غرضه الذي لا يزيده من الله إلا بعدا، وغالبهم محروم مأثوم يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمني الطغيان، سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين.

67
الطوينية
[المحقق: لم أعرف من هم]

68
ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبّس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره، وهذا / جهل، فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير، وكان مسلما موحدا حنيفا، وقد قيل: إن اسمه الإسكندر بن دارا، وأما اليوناني فهو ابن فيلبس الذي يؤرخ الروم به، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك.

71
فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم، الذين يسردون ألفاظا طويلة والمعنى خفيف؟


80
وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من أعظم التابعين علما وقدرا عند الأمة.

113
وهذا مما يبين لك أن من قال من المتفلسفة: إنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي، فحقيقة قوله: إنه لم يعلم شيئا من الموجودات، فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي، والكليات إنما تكون في العلم [الذهن] لا سيما وهم يقولون: إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية، كالأفلاك المعينة والعقول المعينة، وأول الصادرات عنه –على أصلهم- العقل الأول، وهو معين، فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا؟

130
[تكلم عن سوفسطا وأهل السفسطة]

134
وهذه الكليات المعقولة أعراض قائمة بالذات العاقلة، لا توجد إلا بوجودها وتعدم بعدمها

142
والتركيب يقع عندهم [الفلاسفة] كما ذكره ابن سينا وغيره وذكره الغزالي عنهم في تهافت الفلاسفة وغيره على خمسة أنواع
أحدها: تركب الموجود من الوجود والماهية.
والثاني: تركب الحقيقة من الأمور العامة والخاصة كالوجود العام والوجوب الخاص.
والثالث: تركب الذات الموصوفة من الذات والصفات.
والرابع: تركب الذات القائمة بنفسها المباينة لغيرها المشار إليها من الجواهر المنفردة التي يقال إنها مركبة منها.
والخامس: تركبها من المادة والصورة التي يقال إنها مركبة منها.

153
[الرازي] فإنا بالبديهة نعلم أن الشيء ما لم يوجد لا يكون شيئا [كذا ولعل الصواب سببا] لوجود غيره، ونعلم أن لا استبعاد في أن يكون الشيء موجودا / من ذاته

154
وهؤلاء كثيرا ما تشتبه عليهم العلل بالشروط في مسائل الدور والتسلسل وغير ذلك، ويجعلون الملزوم علة كما يقولون: إن ماهية الثلاثة والأربعة علة للفردية والزوجية، فيجعلون ذات الشيء علة لصفته اللازمة له، وأن فاعل الذات فاعل صفتها، فإن الدور في الشروط بمعنى توقف كل من الأمرين على وجود الآخر معه ممكن واقع وهو الدور المعي الاقتراني وأما الدور في العلل وهو أن يكون كل من الأمرين علة للآخر ومبدعا له فهذا ممتنع باتفاق العقلاء.

156
وإما أن يقال: الوجود مشترك في الخارج ولكن الماهية هي المختصة التي تميز وجودا عن غيره، وهذا هو الذي يحكيه الرازي عن أبي هاشم وغيره، وهو غلط عليهم، كما غلط على الأشعري وأبي الحسين / حيث حكى عنهم أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، وهذا الغلط منه حيث ظن أن الكلي الذي هو مورد التقسيم يكون ثابتا مشتركا في الخارج، وهذا أصل للمنطقيين يخالفهم فيه أئمة الكلام بحسب ما فهمه من كلام أهل المنطق فغلط.

170
وقد رأيت من هؤلاء [الحلولية] أيضا غير واحد، وجرت بيننا وبينهم محنة معروفة
[المحقق: محنة كذا بالأصل]
[قلت: ما الإشكال فيه، فقد جرت لابن تيمية كثير من المحن في مناظراته مع مخالفيه]

172
فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول.
فهذا أصل ينبغي معرفته فإنه بسبب هذا وقع من الخلل في كلام طوائف ما لا يحصيه إلا الله تعالى، كصاحب الكتب المضنون بها، وصاحب الملل والنحل وطوائف غيرهم.

200
ولهذا تفرق اللغة والشرع بين هذا وهذا، وتجعل هذا جنسا مخالفا لهذا في جميع الأحكام، بخلاف ما إذا كانت حقيقته باقية وقد تبدلت أعراضها، فالحكم المعلق بالذهب والفضة إذا تعلق بعينه – كالربا مثلا – هو ثابت فيه وإن تغيرت صوره وأشكاله، فسواء كان مجتمعا / مضروبا، أو مصوغا على أي صورة كان، أو مفترقا بالانكسار، بخلاف حكمه لما كان ترابا في المعدن قبل أن يصير ذهبا وفضة.

208
وهذا مما يبين أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله، لا يجوز معارضته بغير ذلك.

222
فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل علم علما يقينا لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاءا من مشكاة واحدة، لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها.

228
فإن قيل: فما ذكرتموه قد يشعر بأنه ليس لأحد أن يعارض حديثا ولا يستشكل معناه، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك
[ثم أجاب]

231
.... لم ننكر أنهم كانوا يعارضون نصا بنص آخر، وإنما أنكرنا معارضة النصوص بمجرد عقلهم

238
وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توقيفا، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود.


243
ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات ليس لها ضابط، ولا هي منحصرة في نوع معين، بل ما من أمة إلا ولهم ما يسمونه معقولات.
واعتبر ذلك بأمتنا، فإنه ما من مدة إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعا يزعم أنها معقولات.

248
بل أبو المعالي الجويني ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء.

255
وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات أو برهانيات أو وجديات أو ذوقيات أو مخاطبات أو مكاشفات أو مشاهدات أو نحو ذلك من الأمور الدهاشات [كذا]

258
وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل فذلك ولله الحمد هو علينا من أيسر الأمور.

259
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية
[المحقق: لم أتمكن من معرفة مكان هذا الأثر]

259
والاعتبار والقياس نوعان: قياس الطرد وقياس العكس، فقياس الطرد اعتبار الشيء بنظيره، حتى يجعل حكمه مثل حكمه، وقياس العكس اعتبار الشيء بنقيضه، حتى يعلم أن حكمه نقيض حكمه.
وقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} يتناول الأمرين، فيعتبر العاقل بتعذيب الله لمن كذب رسله، كما فعل ببني النضير حتى يرغب في نقيض ذلك، ويرهب من نظير ذلك، فيستعمل قياس الطرد في الرهبة وقياس العكس في الرغبة.

266
ومثل هذا كثير، قد ينفى الشيء الذي نفيه يستلزم نفي غيره، لكن تذكر تلك اللوازم على سبيل التصريح للفرق بين دلالة اللوازم ودلالة المطابقة

271
ولفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ متقاربة في أصل اللغة، وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات، فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي.
ولهذا يسمي أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر، وكل تعارض فهو / مستلزم للتناقض اللغوي؛ لأن أحد الضدين ينقض الآخر، أي يلزم من ثبوته عدم الآحر، كما يلزم من ثبوت السواد انتفاء البياض.
والنقيضان في اصطلاح كثير من أهل النظر هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان والضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان.
وفي [اصطلاح] آخرين منهم هما: النفي والإثبات فقط، كقولكك إما أن يكون وإما أن لا يكون.
ولهذا يقولون: التناقض اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب، على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فالتناقض في عرف أولئك أعم منه في عرف هؤلاء،

277
ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل، بل حيث كان المدلول باطلا لم يكن الدليل عليه إلا باطلا.

285
ومن العجائب أنك تجد أكثر الغلاة في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الطوائف عن تصديق خبره وطاعة أمره، وذلك مثل الرافضة والجهمية ونحوهم ممن يغلون في عصمتهم، وهم مع ذلك يردون أخباره، وقد اجتمع كل من آمن بالرسول على أنه معصوم فيما يبلغه عن الله، فلا يستقر في خبره خطأ، كما لا يكون فيه كذب، فإن وجود هذا وهذا في خبره يناقض مقصود الرسالة، ويناقض الدليل الدال على أنه رسول الله.
وأما ما لا يتعلق بالتبليغ عن الله من أفعاله، فللناس في العصمة منه نزاع وتفصيل، ليس هذا موضعه، ....... فمن كان من أصله أن الدلالة السمعية لا تفيد اليقين، أو أنه يقدم رأيه وذوقه على خبر الرسول، لم ينتفع بإثبات عصمته المتفق عليها، فضلا عن موارد النزاع من العصمة


292
وهم متنازعون في أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم بحدوث العالم أو القصد إلى النظر أو الشك السابق على القصد على ثلاثة أقوال لهم معروفة.

310
[التوراة خلت من ذكر اليوم الآخر]

314
ومثل هذه المعقولات لو تُصرِّف بها في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة، فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية، ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسوله وأنزل به كتبه؟!

315
وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذا حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر الذي ليس لهم منه حس ولا خبر، ولا وقعوا له على عين ولا أثر.

319
ما من قول موافق للسنة إلا وتجد العقلاء الذين يقرون به أكثر وأعظم من العقلاء الذين ينكرونه، بل تجد الموافقين له / من العقلاء قد اتفقوا على ذلك بغير مواطأة من بعضهم لبعض، وذلك يبين أنه موجب العقل الصريح، بخلاف الأقوال المخالفة فإنك لا تجد من يقولها من طوائف العقلاء إلا من تواطأ على تلك المقالة التي تلقاها بعضهم عن بعض وما تواطأ عليه الناس يجوز فيه من الغلط والكذب ما لا يجوز فيما اتفق عليه العقلاء من غير مواطأة ولا تشاعر، والله أعلم.

323
وقد رأيت كتابا لبعض أئمة الباطنية سماه (الأقاليد الملكوتية) سلك فيه هذا السبيل، وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل، فإنهم وافقوه على تأويل السمعيات ووافقوه على نفي ما يسمى تشبيها بوجه من الوجوه، فصار من أثبت شيئا من الأسماء والصفات كاسم الموجود والحي والعليم والقدير ونحو ذلك يقول له: هذا فيه تشبيه

328
وهذا الذي ذكرناه من أن هذا الأصل يوجب عدم الاستدلال بكلام الله ورسوله على المسائل العلمية، قد اعترف حذاقهم به، بل التزمه من التزمه من متأخري أهل الكلام كالرازي، كما التزمته الملاحدة الفلاسفة.

336
وهؤلاء الذين سماهم [الرازي] أهل التحقيق هم أهل التحقيق عنده، سماهم كذلك بناء على ظنه، كما يسمي الاتحادية والحلولية أنفسهم أهل التحقيق، ويسمي كل شخص طائفته أهل الحق بناء على ظنه واعتقاده.

329
وهذا الذي ذكره هذا في العقل ذكره طائفة أخرى في الكشف، كما ذكره أبو حامد في كتابه الإحياء في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول، وذكر أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري، وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه، ثم يعرض الوارد في / السمع عليه، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه.

354
وله [الغزالي] في كتاب (مشكاة الأنوار) من الكلام المبني على أصول هؤلاء المتفلسفة ما لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى، ومن هناك مرق صاحب خلع النعلين [هو ابن قسي] وأمثاله من / أهل الإلحاد

355
وخاتم الأولياء وإن كان قد تكلم به أبو عبد الله الترمذي [الحكيم] وغيره وتكلموا فيه بكلام باطل أنكره عليهم أهل العلم والإيمان، فلم يصلوا به إلى هذا الحد [يعني حد ابن عربي في تفضيله على النبوة]

357
كما قال السهيلي: أعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي

378
حتى أن كثيرا من المنتسبين إلى الكتاب والسنة يرون أن طريقة السلف والأئمة إنما هو الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبر معانيها وفقهها وعقلها.

383
وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله تعالى كما فهمه الصحابة والتابعون ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسوله لكن على وجه النفاق والخداع.

390
ثم هؤلاء يحكون إجماعات يجعلونها من أصول علمهم ولا يمكنهم نقلها عن واحد من أئمة الإسلام وإنما ذلك بحسب ما يقوم في أنفسهم من الظن، فيحكون ذلك عن الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المحافل.
فإذا قيل لأحدهم في الخلوة: أنت حكيت أن هذا قول هؤلاء الأئمة فمن نقل ذلك عنهم؟ قال هذا: العقلاء والأئمة لا يخالفون العقلاء، فيحكون أقوال السلف والأئمة لاعتقادهم أن العقل دل على ذلك.
[كذا والصواب: هذا قول العقلاء، والأئمة ..إلخ]
ومن المعلوم أنه لو كان العقل يدل على ذلك باتفاق العقلاء لم يجز أن يحكى عن الإنسان قول لم ينقله عنه أحد، ولهذا كان أهل الحديث يتحرون الصدق حتى إن كثيرا من الكلام الذي هو في نفسه صدق وحق موافق للكتاب والسنة يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيضعفونه أو يقولون: هو كذب عليه لكونه لم يقله أو لم يثبت عنه، وإن كان معناه حقا.

391
وهذا كحكاية الرازي وإجماع المعتبرين [كذا والصواب إجماع] على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يمكن أحد [كذا والصواب أحدا] أن ينقل عن نبي من أنبياء الله تعالى ولا عن الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأئمة ولا أعيان أئمتها وشيوخها إلا ما يناقض هذا القول، ولا يمكنه أن يحكي هذا عمن له في الأمة لسان صدق أصلا.
وكما تقول طائفة كأبي المعالي وغيره: اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها وانقسامها حتى تصير أفرادا فكل جزء لا يتجزأ وليس له طرف وحد [كذا] /
ومعلوم أن هذا القول لم يقله إلا طائفة من أهل الكلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وأكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية على خلاف ذلك.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد الخامس بحمد الله]

أبو مالك العوضي
2009-01-17, 03:00 AM
[المجلد السادس]

4
إلا أن يرووا في ذلك ما يعلم أنه كذب كحديث عوسجة وأمثاله
[المحقق: لم أعرف من هو المقصود بعوسجة وأي حديث يشير إليه ابن تيمية]

14
والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت في الفطرة، لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال، وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات.

19
والمقصود أن هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوه من ابن سينا، ومن تدبر كلامه وكلام أتباعه فيه وجده في غاية التناقض والفساد، فإنه قال في إشاراته التي هي كالمصحف لهؤلاء المتفلسفة الملحدة ...

37
واسم الجوهر عندهم يقال على خمسة أنواع، على العقل والنفس والمادة والصورة والجسم

46
فالقوة الوهمية عندهم هي التي يدرك بها الحيوان ما يحبه وما يبغضه / من المعاني التي لا تدرك بالحس والخيال

54
بل على قولهم كل معنى يدرك في الأعيان المحسوسة فإدراكه بالوهم

55
وقد قال الرازي: هذا الباب [يعني باب مقامات العارفين] أجل ما في هذا الكتاب [يعني الإشارات والتنبيهات لابن سينا] فإنه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا يلحقه من بعده

62
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وعلماؤها على أن الله يحب لذاته، لم ينازع في ذلك إلا طائفة من أهل الكلام والرأي الذين سلكوا مسلك الجهمية في بعض أمورهم فقالوا: إنه لا يحب ولا يحب.

78
وقد أعرض الرازي عن الكلام على هذا [يعني كلام ابن سينا في التصوف] فلم يمدحه ولم يذمه، وأما الطوسي فمدحه عليه، لأنه ملحد من جنسه، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضعه.

83
فهذا تصريح منهم بأن التوهم تصور صفاته، فقولهم مع ذلك بنفي إدراك هذه القوة له تناقض.
... القوة المتوهمة إذا كانت لا تتصور إلا في معين، والمعين لا يكون كليا، امتنع أن يكون هذا معقولا، إذا [كذا ولعل الصواب إذ] كانت المعقولات هي الكليات، كما قد يقولونه، ولأنه لا حجة لهم على إثبات معقول غير الكليات.

86
موجب ما ذكروه أن لا يكون الرب معبودا إلا بتعلق المعنى الذي سموه الوهم به، وأن من نفى تعلق الوهم بمعنى في الرب فقد أبطل كون الرب محبوبا معبودا، فمن قال بعد ذلك: إنه لا يقبل في الإلهيات هذه القضايا الوهمية، فقد نفى كون الرب مستحقا لأن يعبد وأن يحب، وهذا حقيقة قولهم، ولهذا كان حقيقة قولهم تعطيل الرب عن أن يكون موجودا، وأن يكون مقصودا، وأن يكون معبودا.

90
فإنه ما من عاقل إلا يجوّز أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشهده الآن، بل يجوّز أن تكون هناك أفلاك ونجوم لا ندركها فضلا عن غيرها.

92
وقد عرف بالاضطرار أن الكليات لا تكون كلية إلا في العقل لا في الخارج، بل ليس في الخارج كلي البتة، والذي يقال إنه كلي طبيعي لا يوجد إلا معينا جزئيا، فما كان كليا في العقل يوجد في الخارج معينا لا كليا، كما قد بسط في موضعه.

96
ومن ظن أن مذهب ابن سينا إثبات وجود خاص بمنزلة الوجود المشروط / بسلب جميع الحقائق، فجعل فيه وجودا مشتركا ووجودا مختصا، فلم يفهم مذهبه، كما فعل ذلك الطوسي منتصرا له فلم يفهم مذهبه.

106
وهذا حد العلم الضروري، وهو الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه معه دفعه عن نفسه

107
وليس للكليات وجود في الخارج، مع أنه قد يقال: إنه يمكن الإحساس بها أيضا، إذا أمكن الإحساس / بمحلها، كما يمكن الإحساس بأمثالها من الأعراض، كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك.

109
ومن كان له نوع خبرة بالجن إما بمباشرته لهم في نفسه وفي الناس، أو بالأخبار المتواترة له عن الناس، علم من ذلك ما يوجب له اليقين التام بوجودهم في الخارج، دع ما تواتر من ذلك عن الأنبياء.

122
[ذكر قول ابن كلاب أن قول من قال ليس فوق ولا تحت صفة المعدوم ثم قال]
وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة من متأخري الأشعرية، ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية، وغيرهم من طوائف الفقهاء الذين يقولون: ليس هو تحت وليس هو فوق.

125
والناس في هذا المقام: منهم من يزعم أن القياس البرهاني هو قياس الشمول، وأن قياس التمثيل لا يفيد اليقين، بل لا يسمى قياسا إلا بطريق المجاز، كما يقول ذلك من يقوله من أهل المنطق، ومن وافقهم من نفاة قياس التمثيل في العقليات والشرعيات كابن حزم وأمثاله.
ومنهم من ينفي قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كأبي المعالي ومتبعيه مثل الغزالي والرازي والآمدي وأبي محمد المقدسي وأمثالهم.
ومنهم من يعكس ذلك فيثبت قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كما هو قول أئمة أهل الظاهر مثل داود بن علي وأمثاله، / وقول كثير من المعتزلة البغداديين كالنظام وأمثاله، ومن الشيعة الإمامية كالمفيد والمرتضى والطوسي وأمثالهم.
وكثير من هؤلاء يقول: إن قياس التمثيل هو الذي يستحق أن يسمى قياسا على سبيل الحقيقة، وأما تسمية قياس الشمول قياسا فهو مجاز كما ذكر ذلك الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرهما.
والذي عليه جمهور الناس، وهو الصواب، أن كليهما قياس حقيقة، وأن كليهما يفيد اليقين تارة والظن أخرى، بل هما متلازمان، فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك الذي هو علة الحكم أو دليل العلة أو هو ملزوم للحكم وهذا المشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول. فإذا قال القايس: نبيذ الحنطة المسكر حرام قياسا على نبيذ العنب، لأنه شراب مسكر، فكان حراما قياسا عليه، وبين أن السكر هو مناط التحريم، فيجب تعلق التحريم بكل مسكر – كان هذا قياس تمثيل، وهو بمنزلة أن يقول: هذا شراب مسكر، وكل مسكر حرام، فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حدا أوسط، هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم، فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى، بل هما متلازمان، وإنما يتفاوتان في ترتيب المعاني والتعبير عنها، ففي الأول يؤخر الكلام في المشترك الذي هو الحد الأوسط، وبيان أنه مستلزم للحكم متضمن له، ويذكر الأصل الذي هو نظير الفرع ابتداء، وفي الثاني يقدم الكلام في الحد الأوسط ويبين شموله وعمومه، وأنه مستلزم للحكم ابتداء.

135
ويقول المنطقيون: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، والمتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعا، بخلاف المتقابلين تقابل العدم والملكة، كالحياة والموت والعمى والبصر، فإنهما قد يرتفعان جميعا إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات، فإنها لما لم تقبل الحياة والبصر والعلم لم يقل فيها إنها حية ولا ميتة، ولا عالمة ولا جاهلة، وقد أشكل كلامهم هذا على كثير من النظار وأضلوا به خلقا كثيرا، حتى الآمدي وأمثاله من أذكياء النظار اعتقدوا أن هذا كلام صحيح، وأنه يقدح في الدليل الذي استدل به السلف والأئمة ومتكلمو أهل الإثبات في إثبات السمع والبصر وغير ذلك من الصفات.
وهذا من جملة تلبيسات أهل المنطق والفلسفة التي راجت على هؤلاء فأضلتهم عن كثير من الحق الصحيح المعلوم بالعقل الصريح.

154
العقول تنفر عن التعطيل أعظم من نفرتها عن الحلول، وتنكر قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم مما تنكر أنه في كل مكان

155
وبهذا السبب وضعوا على ابن كلاب حكاية راجت على بعض المنتسبين إلى السنة، فذكروها في مثالبه، وهو أنه كان له أخت نصرانية، وأنها هجرته لما أسلم، وأنه قال لها: أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم، فرضيت عنه لأجل ذلك.

168
كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقا لم يسبق إليه، وكان آخر قوله: وأن الله في النار نار وفي الماء ماء، وفي الحلو حلو، وفي المر مر، وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء

170
ويجيء من هو من أفضل المتكلمين من النفاة للعلو يعتقد في مثل هذا [ابن الفارض] أنه كان من أفضل أهل الأرض أو أفضلهم ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه يرقي بها المرضى كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب.

173
[مناظرة الرافضي مع الناصبي]

179
طريقة الرازي والآمدي وأمثالهما في إثبات الصانع هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود، وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود.
وإن قيل: إنها تدل على ذلك، فلم تدل على أنه مغاير للعالم، بل يجوز أن يكون هو العالم.

183
يبين ذلك أن عمدة النفاة على أنه لو ثبتت هذه الصفات من العلو والمباينة ونحو ذلك للزم أن يكون جسما، وكون الواجب القديم جسما ممتنع. وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم
[المحقق: نظرية: كذا في الأصل، ولعل الصواب: فطرية، وسيأتي قول ابن تيمية بعد قليل وفيه: علم أنها ليست مقدمات فطرية ضرورية .. إلخ]
[قلت: الصواب ما في الأصل، وكلام المحقق متناقض]

189
وهذا يقوله من يقول: إنه أحدث الحوادث بتخليق قديم أزلي قائم بذاته، كما تقول ذلك طوائف من المسلمين

193
وأيضا فاتفاق العدد الكثير على تعمد الكذب الذين يعلمون أنه كذب يجوز إذا كان ذلك عن تواطئ [كذا] منهم، وأما اتفاق الخلق الكثير على الكذب خطأ، فهو ممكن بالنظر والأمور الضرورية فقد يعبر عنها بعبارات فيها إجمال واشتباه، يظن كثير من الناس أن مفهومها لا يخالف الضرورة، وإنما يعلم أنها مخالفة للضرورة من ميز بين معانيها وفصل المعنى المخالف للضرورة من غيره، فإذا كان قد سبق قليل من الناس إلى اعتقاد خطأ يتضمن مخالفة الضرورة، كان هذا جائزا باتفاق العقلاء، فإن السفسطة تجوز على الطائفة القليلة تعمدا، فكيف خطأ؟!
فإذا تلقى تلك الأقوال عن أولئك السابقين إليها عدد آخرون واشتهرت بين من اتبعهم فيها صاروا متواطئين على قبولها، لما فيها من الاشتباه والإجمال، مع تضمنها مخالفة الضرورة، وإن كان كثير من القائلين بها أو أكثرهم لا يعلمون ذلك، وهذا هو السبب في اتفاق / طوائف كثيرة على مقالات يعلم أنها باطلة بضرورة العقل، كمقالات النصارى والرافضة والجهمية.

210
الرد على أهل الباطل لا يكون مستوعبا إلا إذا اتبعت السنة من كل الوجوه، وإلا فمن وافق السنة من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالف فيه السنة واحتجوا عليه بما وافقهم عليه من تلك المقدمات المخالفة للسنة.
وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم، فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي / أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم، ووجدت كثيرا من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه يوافقون خصومهم تارة على الباطل ويخالفونهم في الحق أخرى، ويستطيلون عليهم بما وافقوهم عليه من الباطل وبما خالفوهم فيه من الحق، كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات أو لبعضها كالعلو وغيره لمن نفى ذلك من المتفلسفة وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة أو وجوب تناهي جنس الحوادث ونحو ذلك.

231
[ابن رشد] ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط، لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس، فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة، وهذا كله خلاف ما يعقل، وقد اضطر المتكلمون لمكان / هذه المسألة وما أشبهها إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن لا تسمع [كذا والصواب أن ترى] وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان

234
[ابن رشد] ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع، ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة

239
وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين، وإن كانوا قد يقولون إنه رجع عن ذلك، لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة ويوافقهم أخرى، فعلماء المسلمين يذمونه بما وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول، كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه أبي الحسن المرغيناني وأبي نصر القشيري وأبي بكر الطرطوشي وأبي بكر بن العربي وأبي / عبد الله المازري وأبي عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي وابن عقيل وأبي البيان الدمشقي ويوسف الدمشقي وابن حمدون القرطبي القاضي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي محمد المقدسي وأبي عمرو بن الصلاح وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم.

247
فالفارابي لون، وابن سينا لون، وأبو البركات صاحب المعتبر لون، وابن رشد الحفيد لون، والسهروردي المقتول لون، وغير هؤلاء ألوان أخر

248
دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد لا تتناقض وتتعارض

267
فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على جحد العلوم البديهية، فإنه / ما من طائفة من طوائف الضلال وإن كثرت إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية.

270
فوجود الأقوال التي يقول جمهور الناس إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب، فكيف يقال: لا يجوز إطباق الجمع الكثير على [إنكار] ما علم بالبديهة؟

271
ولكن إذا قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منفيٍ أو نفي ثابت كما في خبر أهل التواتر.
كان الجواب: أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة، فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب الذي يعلمون كلهم أنه كذب، وإن تضمن من جحد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله. وأما في المذاهب فقد يجتمع على جحد الضروريات جمع كثير، إذا كان هناك شبهة أو هوى، فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم، مثل التعبير عن هذا [كذا] المسألة بنفي الجهة والحيز والمكان، فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصورا في خلقه أو مفتقرا إلى مخلوق، فيوافقون على هذا المعنى الصحيح ظانين أنه مفهوم تلك العبارة

273
هذه المعاني الكلية هي كلية باعتبار مطابقتها لمفرداتها، كما يطابق اللفظ العام لأفراده. وأما هي في نفسها / فأعراض معينة، كل منها عرض معين قائم في نفس معينة، كما يقوم اللفظ المعين بالفم المعين، والخط المعين بالورق المعين، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق المعنى الذهني، والمعنى يطابق الموجود الخارجي، وكل من تلك الثلاثة قد يقال له: عام وكلي ومطلق باعتبار شموله للأعيان الموجودة في الخارج، وأما هو في نفسه فشيء معين مشخص.

287
ومن المعلوم أن أصحاب فيثاغورس لما أثبتوا عددا مجردا قائما بنفسه أنكر ذلك عليهم جماهير العقلاء من إخوانهم وغيرهم، وكانوا أضعف قولا من أصحاب أفلاطن الذين أثبتوا الحقائق المجردة الكلية قائمة بأنفسها التي يسمونها (المثل الأفلاطونية)


304
فهؤلاء القائلون بأنه بذاته في كل مكان [كزهير الأثري وأبي معاذ التومني وأبي طالب المكي وغيرهم] على أقوال: منهم من يقول: له قدر، ومنهم من يقول: ليس له غاية ولا نهاية، ومنهم من يقول: هو جسم، ومنهم من يقول: ليس بجسم، ثم من هؤلاء من / يقول: إنه غير متناه من جميع الجوانب، وهو مع ذلك لا يخالط الأشياء، وأيضا فإنهم إذا قالوا: إنه يخالط الأشياء، قالوا: هذا لا يقدح في كماله، كما أن الشعاع لا يقدح فيه أنه فوق الأقذار.

309
ومن الناس من يقول: الحركة من خصائص الجسم، ومنهم من يقول: الحركة يوصف بها ما ليس بجسم، كمن يقول بإثبات نوع من الحركة للنفس، ويقول: إنها غير جسم، وكذلك قول من قال مثل ذلك في الواجب.

311
وقد تقدم قول الرازي: إن عامة الطوائف يلزمهم القول بحلول الحوادث وإن أنكروا ذلك

313
قول القائل: (إنه في مكان) لفظ فيه إجمال وتلبيس، والمثبتون لعلو الله على خلقه لا يحتاجون أن يطلقوا القول بأنه في مكان، بل منهم كثير لا يطلقون ذلك، بل يمنعون منه لما فيه من الإجمال.

316
وهؤلاء يريدون بالحيز تارة ما هو موجود، ويريدون به تارة ما هو معدوم، وكذلك لفظ المكان، لكن الغالب عليهم أنهم يريدون بالحيز ما هو معدوم، وبالمكان ما هو موجود، ولهذا يقولون: العالم في حيز وليس في مكان.

323
وما يذكر من هذه الأقوال ونحوها – وإن قيل إنه باطل – فالقائلون بغير ذلك بهذه الأقوال هم المعارضون لنصوص الكتاب والسنة وهم الذين يدعون أن معهم عقليات برهانية تنافي ذلك فإذا خوطبوا على موجب أصولهم وبين أنه ليس في العقليات ما ينافي النصوص الإلهية على كل مذهب، كان هذا من تمام نصر الله لرسوله وإظهار لنوره

324
والمقصود بيان فساد أمثال هذا الكلام بالحجج العقلية المحضة، فإن هؤلاء النفاة يستعينون على معارضة النصوص الإلهية بأقوال الفلاسفة وغيرها المخالفة لدين المرسلين فإذا احتُج لنصر النصوص الإلهية بما هو من هذا الجنس كان هذا خيرا من فعلهم.

324
ومن الناس من يقول بثبوت أبعاد لا نهاية لها

326
إذا قدر تعارض الأدلة السمعية كان الترجيح مع الأكثر الأقوى دلالة بلا ريب

332
أنتم تقولون: لم يقم دليل عقلي على نفي النقص عن الله تعالى، كما ذكر ذلك الرازي متلقيا له عن أبي المعالي وأمثاله، وإنما ينفون النقص بالأدلة السمعية، وعمدتهم فيه على / الإجماع، وهو ظني عندهم

333
فإنه إذا كان عمدتهم الإجماع، فلا إجماع في موارد النزاع، ولا يجوز الاحتجاج بإجماع في معارضة النصوص الخبرية بلا ريب، فإن ذلك يستلزم انعقاد الإجماع على مخالفة النصوص، وذلك ممتنع في الخبريات، وإنما يدعيه من يدعيه في الشرعيات، ويقولون: نحن نستدل بالإجماع على أن النص منسوخ.

340
وقد ذُكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل، فقال للسائل: إذا كان باشق كبير، وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكا لها في حال طيرانه، وهو فوقها ومحيط بها؟ فإذا كان مثل هذا ممكنا في المخلوق، فكيف يتعذر في الخالق؟

343
ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع طرفه ورأسه إلى السماء، وقال: يا الله، فقلت له: أنت متحقق، لمن ترفع طرفك / ورأسك؟! وهل فوق عندك أحد؟! فقال: أستغفر الله، ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول، فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم.
[تظهر هنا خبرة شيخ الإسلام التربوية الناجحة، فجزاه الله خيرا]

345
وإذا قيل: إن الحكم الواحد بالنوع يجوز أن يعلل بعلتين مختلفتين كما يعلل حل الدم بالردة والقتل والزنا، وكما يعلل الملك بالإرث والبيع والاصطياد وكما يعلل وجوب الغسل بالإنزال والإيلاج والحيض، فالوجوب الثابت بهذا السبب ليس هو بعينه الوجوب الثابت بهذا السبب، لكنه نظيره، مع أنهما يختلفان بحسب اختلاف الأسباب، فليس الملك الثابت بالإرث مساويا للملك الثابت بالبيع من كل وجه، بل له خصائص يمتاز بها عنه، وكذلك حل الدم الثابت بالردة ليس مساويا لحل الدم الثابت بالقتل، بل بينهما فروق معروفة.
وكذلك الغسل المشروع بالحيض مخالف للغسل المشروع بالإيلاج من بعض الوجوه، وأما الإنزال والإيلاج فهما نوع واحد.

347
فإن كل قول يكون أبعد عن الحق / تكون حجج صاحبه أضعف من حجج من هو أقل خطأ منه.
وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة، كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم، ولما كان مرض التعطيل أعظم كان عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم، وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، مع تنزيهه عن أن يكون له فيها مثيل، بل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات، ويأتون بإثبات مفصل ونفي مجمل

350
فأنت [أي الرازي] في غير موضع من كتبك ومن تقدمك كالغزالي وغيره تبينون فساد حجج المتكلمين على أن كل جسم محدث، وتقدحون فيها بما لا يمكن إبطاله، كما فعلت في المباحث المشرقية والمطالب العالية، بل كما فعل من بعدك كالآمدي والأرموي وغيرهما، وأنتم في مواضع أخر تقدحون في حجج من احتج على أن الجسم مركب وكل مركب فهو مفتقر بذاته، وتقدحون في أدلة الفلاسفة التي احتجوا بها على إمكان كل مركب كما فعل ذلك الغزالي في تهافت الفلاسفة وكما فعله الرازي والآمدي وغيرهما.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد السادس بحمد الله]

أبو مالك العوضي
2009-01-17, 03:02 AM
[المجلد السابع]

3
والقول بأن الفلك مستدير هو قول جماهير علماء المسلمين، والنقل بذلك ثابت عن الصحابة والتابعين، بل قد ذكر أبو الحسين بن المنادي وأبو محمد بن حزم وابن الجوزي وغيرهم أنه ليس في ذلك خلاف بين الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وقد نازع في ذلك طوائف من أهل الكلام والرأي من الجهمية والمعتزلة وغيرهم.

9
ألا ترى أن الأرض مع قولهم: إنها كرية فإن هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن أشرف من الجهة التي غمرها الماء؟

10
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه في أن يغرق بني آدم فيمنعه ربه
[المحقق: لم أجد هذا الحديث]

12
الناس متنازعون في صفاته: هل بعضها أفضل من بعض، مع أنها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه؟ وهل بعض كلامه أفضل من بعض مع كمال الجميع؟
والسلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض، وبعض صفاته أفضل من بعض، مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها كما دلت / على ذلك نصوص الكتاب والسنة

16
فأما أن يكون في جوف السموات فليس هذا قول أهل الإثبات أهل العلم والسنة ومن قال بذلك فهو جاهل كمن يقول إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه، أو يقول إنه يحصره شيء من مخلوقاته فهؤلاء ضلال كما أن أهل النفي ضلال.
[في هذا الكلام رد على من نسب إلى شيخ الإسلام أنه يقول إن الله محدود من الجهات الست!!]

19
وهؤلاء النفاة كثيرا ما يتكلمون بالأوهام والخيالات الفاسدة .... فإنك لا تجد أحدا سلب الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال إلا وقوله يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك من النقائص والعيوب ولمثيله بالمخلوقات وتجده قد توهم وتخيل أوهاما وخيالات فاسدة غير مطابقة بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال، وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش كان محتاجا إلى العرش، كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجا إلى كرسيه.

20
كما في شعر حسان:
تعالى علوا فوق عرشٍ إلهنا ............... وكان مكان الله أعلى وأعظما

24
وأما رفع البصر حال الدعاء خارج الصلاة ففيه نزاع بين العلماء، وإنما نهي عن رفع البصر في الصلاة لأنه ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة.
..........
ورأى عمر رضي الله عنه رجلا يصلي وهو يلتفت فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه

26
القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ... / ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك؛ لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين. والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول، فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم، بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه، مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه، وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره، لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك، فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري.
ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمدا رسول الله وأنه صادق ويقولون إنه لم يرسل إليهم بل إلى الأميين؛ لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة التي تبين أنه كان يقول: إن الله أرسله إلى أهل الكتاب بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية، مع أن هذا من أعظم الأمور تواترا لإعراضهم.
وكثير من الرافضة تنكر أن يكون أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي / صلى الله عليه وسلم، وفي الغالية من يقول: إن الحسن والحسين لم يكونا ولدين لعلي، وإنما ولدهما سلمان الفارسي، وكثير من الرافضة لا تعلم أن عليا زوّج بنته لعمر، ولا أنه كان له ابن كان يسمى عمر.

28
وبعض المعتزلة أنكر وقعة الجمل وصفين، وكثير من الناس لا يعلمون وقعة الحرة، ولا فتنة ابن الأشعث وفتنة يزيد بن المهلب ونحوها من الوقائع المتواترة المشهورة.
بل كثير من الناس بل من المنسوبين إلى العلم لا يعلمون مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة المشهورة وترتيبها، وما كان فيه قتال أو لم يكن، فلا يعلمون أيما قبل بدر أو أحد؟ وأيما قبل الخندق أو خيبر؟ وأيما قبل فتح مكة أو حصار الطائف؟ ولا يعلمون هل كان في تبوك قتال أو لم يكن؟ ولا يعلمون عدد أولاد النبي صلى الله عليه وسلم الذكور والإناث، ولا يعلمون كم صام رمضان، وكم حج واعتمر؟ ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته؟ ولا أي سنة فرض رمضان؟ ولا يعلمون هل أمر بصوم يوم عاشوراء في عام واحد أو أكثر؟ ولا يعلمون هل كان يداوم على قصر الصلاة في السفر أم لا؟ ولا يعلمون هل كان يجمع بين الصلاتين وهل كان يفعل ذلك كثيرا أم قليلا؟
إلى أمثال هذه الأمور التي كلها معلومة بالتواتر عند أهل العلم / بأحواله وغيرهم ليس عنده فيها ظن فضلا عن علم بل ربما أنكر ما تواتر عنه.

29
ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف، وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعا مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعا وليس بإجماع، وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات وهي جهليات، لا سيما مثل الرازي وأمثاله الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة.

31
فأبو الحسين وأمثاله من المعتزلة وكذلك الغزالي والرازي وأمثالهما من فروع الجهمية، هم من أقل الناس علما بالأحاديث النبوية وأقوال السلف في أصول الدين وفي معاني القرآن وفيما بلغوه من الحديث حتى إن كثيرا منهم لا يظن أن السلف تكلموا في هذه الأبواب

32
فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك
قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في الحقيقة مقلدون فيها وقد اعتقد أقوال السلف أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث / وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي ومثل أبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي والقاضي عياض وأبي الفرج بن الجوزي وأبي الحسن على ابن المفضل المقدسي وأمثالهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا / يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما
وهذه حال أبي محمد بن حزم وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وأمثالهم
ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأمثالهما
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار وعظموا مذهب السلف وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها ولا من جهة الفهم لمعانيها وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية ورأوا ما بينهما من التعارض
وهذا حال أبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأمثالهم /
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار
وتارة يفوضون معانيها ويقولون : تجرى على ظواهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك
وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع وما له لفظ يدفع الإشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث : أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يرى في الآخرة فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض /
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأمثالهما ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما ويقول : إنه يقول بكل ما قالوه وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفصيلها

38
وعامة من تجده من طلبة العلم المنتسبين إلى فلسفة أو كلام أو تصوف أو فقه أو غير ذلك إذا عارض نصوص الكتاب والسنة بما يزعم أنه برهان قطعي ودليل عقلي وقياس مستقيم وذوق صحيح ونحو ذلك إذا حاققته وجدته ينتهي إلى تقليد لمن عظمه إذا كان من الأتباع أو إلى ما افتراه هو - أو توهمه - إن كان من المتبوعين

40
فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه من ربه هو الحق، وأما من كان عنده ما يظنه علما وهو جهل فذاك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه، مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه وكان في قلبه مرض، فزاده الله مرضا

43
إذا تنازع الناس وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر، فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه.

53
وحكمه [أي الرسول] لازم للأمة باتفاق المسلمين، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه، وإن كان بعض الناس / ينازع في الأمر المطلق: هل يفيد الإيجاب أم لا؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته، ولا أنه إذا صرح ابتداء بالإيجاب تجب طاعته.
ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق: هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب؟ فهذا نزاع في العلم بمراده، لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب، فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به.

54
فإذا أمر [أي الرسول] المسلمين أو نهاهم أمرا ونهيا علموا به مراده لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء، وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل إذا لم يعلموا مراده بالقول كما تكلموا في نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى. فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاما بل خاص إذا لم يكن حائل، ويوفق بين القول والفعل ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض / ويظن بعضهم أن الفعل خاص له، فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم، وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله

58
لكن كانت معارضة ابن الزبعرى وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار، أي إذا كانت آلهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين وجب أن يكون كل معبود يدخل النار والمسيح معبود فيجب أن يدخلها فعارضوه بالقياس، والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد، فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله لا يصلح / أن يعبد [كذا والصواب يعذب] لأجل الانتقام من غيره، بخلاف الأوثان فإنها حجارة فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة وانتقاما ممن عبدها كان ذلك مصلحة ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب.

60
إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم الاشتراك، وهذا كله خطأ فاحش وبعضه أفحش من بعض، فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فأما ما ليس من لوازمه فلا يجب اشتراكهما فيه.

65
وهذه السورة [أي ق] قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المجامع العظام فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح وكل ذلك ثابت في الصحيح.

66
والمقصود هنا أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم كان يعارضه من / المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه، ولم تكن إلا من جهل المعارض، ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناها ما يخالفه صريح المعقول، بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة، فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله من أسمائه وصفاته ونحو ذلك ما يخالف ظاهره صريح المعقول، لكان هذا أحق بالمعارضة وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد لا معارضة دافع طاعن ولا معارضة مستشكل مسترشد، فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته وأنه رسول الله إليهم؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين.

76
ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود، فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل، وأن يردوه، فإن هذا لا نهاية له، بخلاف ما هو حق معلوم بصريح العقل في حق الله تعالى، لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده، بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته، فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة مع كثرة أهلها وفضلهم عقلا ودينا لم يعلموها ولم يقولوها.

77
ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيهم من يعرف بطلان ذلك، فيتكلم بذلك مع من يثق به وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض.
ولهذا تجد خلقا من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم ويتكلمون بذلك مع من يثقون به.
وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى وكذلك بين اليهود.
وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله، وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر، وهم طوائف متباينة، فما يمكن أحدا أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات، أو بعض الصفات، لا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب ولا من سائر الكافرين.
[هذا فيه رد على من زعم أن من السلف من يقول: إن الشرع قد يأتي بما يناقض العقل!]

79
وقد ذكروا أن / أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط وأفلاطن قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان.

80
ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتابا في طب وحساب أو نحو أو فقه أو ينشئ خطبة أو رسالة أو ينظم قصيدة أو أرجوزة فيلحن فيه لحنة أو يغلط في المعنى غلطة، فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك، ويخرجون من الحق إلى زيادة من الباطل وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه ويذم من يخالفه فضلا عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه، فإذا كان الذي جاء بالقرآن ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء دق ولا جل ويقول: إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه ويعظم مطيعيه ويعدهم بكل خير ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم، فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوى لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها، وهم الرسول الصادقون أو أكذب الناس وأبعدهم عنها كالمتنبئين الكاذبين، / ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة تعاديه النفوس وتحسده، كما قال ورقة بن نوفل .... ومعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا إذا كان المفهوم من كلامه والظاهر من خطابه هو كذب على الله ووصفه بما يجب تنزيهه عنه وبما يعلم بصريح العقل أن الله منزه عنه وأنه من وصفه بذلك كان قائلا من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل بل يكون صاحبه كافرا كاذبا مفتريا على الله، كان هذا من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به والطعن في ذلك والقدح في نبوته به.

83
ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد، لا تتناقض ولا تتعارض، وإن قدر أن / أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحيانا، فلا بد أن يظهر خطؤه وكذبه، وهذا مما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية، لا يعرف أن أحدا منهم غلط أو كذب إلا وظهر لأهل صناعته كذبه أو خطؤه.
وكذلك الناظرون أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية ما يكاد يغلط غالط منهم إلا ويعرف الناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم.

88
ومن المعلوم لمن له عناية بالقرآن [كذا] أن جمهور اليهود لا تقول إن عزير[ا ا]بن الله، وإنما قاله طائفة منهم، كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن / عازورا، أو هو وغيره.
وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل، ولكن الخبر عن الجنس.
[يشير إلى قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله}، ومن هذا الباب أيضا {كذبت قوم نوح المرسلين} أي جنس المرسلين]

94
ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات، وإنما حدث فيهم بعد ذلك لما صار فيهم جهمية: إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله، وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله، فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه، ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة، كما أن كثيرا من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى

97
ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضا للسمع، بل ما جعله معاضدا له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه بالعقل.

97
والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال؛ مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة كالحارث المحاسبي وأبي علي الثقفي وأبي بكر بن إسحاق الصبغي مع أنه قد قيل: إن / الحارث رجع عن ذلك وذكر عنه غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك، وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا.

106
المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار بحجج عقلية، لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول ورد أخباره ونصوصه، لكن احتجوا بحجج عقلية إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام فاحتاجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها لتسلم عن النقص [النقض] والفساد فوقعوا في أنواع من رد معاني الأخبار الإلهية وتكذيب الأحاديث النبوية.

118
يؤيد هذا أنهم يقولون: اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعا بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس، وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها وقالوا: المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركا، وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركا فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة، فضلا عن أن يعلموا أن لفظ الحركة موضوع له.

123
دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته

139
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان، وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم، بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم، ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم، وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم، كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرمات

147
هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد [يقصد قوله: ألست تحكي بدعتهم]، وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب الذي وافق المعتزلة / على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب، ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقا، بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق عال على العالم موصوف بالصفات، ويقررون ذلك بالعقل وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره، وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن.

148
ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك كما ذكره معمر بن زياد في أخبار / شيوخ أهل المعرفة والتصوف، وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت، وهذا يناقض قول ابن كلاب.

149
وأبو حامد ليس له من الخبرة بالآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك، الذين يميزون بين صحيحه وسقيمه، ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها.

153
هذا الذي ذكره أبو المعالي من إنكار القياس في المعقولات وافقه عليه طائفة من المتأخرين كأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي، وقالوا: قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات. والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن، وأما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن، فإن ما يجعل في قياس الشمول حدا أوسط يجعل في قياس التمثيل مناط الحكم، ويسمى العلة والوصف والمشترك.

153
حتى قال أبو البقاء العكبري لمن قرأ عليه كتاب (البرهان): هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب الإمام أحمد، وهو كما قال، فإن أحمد لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب، بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية / على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه.
ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأئمة وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة والكلام في الله ودينه بغير علم.

157
وأبو عمر من أعلم الناس بالآثار والتمييز بين صحيحها وسقيمها.

163
[الغزالي] وأما منفعته [الكلام] فقد يُظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود.
[نقل نفيس جدا عن الغزالي]

167
والمناظرة المحمود نوعان والمذمومة نوعان

171
ولكن ليس كل من عرف الحق إما بضرورة أو بنظر أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه، فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع وما به يعرّفه [يعرّف] به غيره نوع، وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به، فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة، فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه، وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به.

174
ومنشأ الباطل من نقص العلم أو سوء القصد، كما قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} ومنشأ الحق من معرفة الحق والمحبة له

209
[الأشعري] من قِبَل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها

213
[الأشعري] ولذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصا على معرفة الحق من وجهه وطلبا للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه وتسكن نفوسهم إلى ما يتدينون به ويفارقوا بذلك من ذمه الله في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك.

232
وأنه على هذا التقدير لا يُنفى [الصواب لا يبقى] لهم دليل على إثبات واجب الوجود

233
والهيولى في لغتهم معناه المحل، وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص، كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعرَّبة

235
فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة من جنس بحوثه / معهم في غير ذلك من أصولهم، فإنه يبين تناقضهم ويلزمهم فيما نفوه نظير ما يلزمونه لأهل الإثبات فيما أثبتوه، فيستفاد من مناظرته لهم معرفة فساد كثير من أصولهم، ولكن سلم لهم أصولا وافقهم عليها، مثل تسليمه لهم صحة طريق الأعراض مع طولها، ومثل إثباته للصانع بهذه الطريق التي هي من جنسها، وبنى ذلك على إثبات الجوهر الفرد فلزم من تسليمه ذلك لهم لوازم أراد أن يجمع بينها وبين ما أثبته من الرؤية وإثبات الكلام والصفات والعلو لله تعالى، فقال جمهور طوائف العقلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم ومن المعتزلة والفلاسفة غيرهم: إن هذه مناقضة مخالفة لصريح المعقول.

237
وجاء كثير من أتباعه المتأخرين كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول التي سلمها للمعتزلة حقها من اللوازم فوافقوا المعتزلة على موجبها وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه فنفوا الصفات الخبرية ونفوا العلو، وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة، وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى، وإنما خلافهم مع المجسمة، وكذلك قالوا في القرآن إنه القرآن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق نحن نوافقهم على خلقه، ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم.

240
فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة مع موافقتي للكتاب والسنة أولى من موافقتك على هذه المقدمة، وهي امتناع وجود ما لا يتناهى، فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان، فللفلاسفة فيها قولان، وللمعتزلة فيها قولان، وللأشعرية فيها قولان، ولأهل السنة والحديث والفقه قولان.
وأكثر العقلاء على جواز وجود ما لا يتناهى في الجملة، لكن منهم / من يجوز ذلك في الماضي كما يجوزه في المستقبل، ومنهم من يجوزه في المستقبل دون الماضي، والأدلة الدالة على امتناع ذلك قد عرف ضعفها.


249
وروى [ابن عساكر] عن الشافعي قال: ما ناظرت أحدا أحببت أن يخطئ إلا صاحب بدعة، فإني أحب أن ينكشف أمره للناس.

250
وأهل المقالات متفقون على أن حفصا لم يكن من نفاة القدر بل من / مثبتيه، وقد ظن البيهقي وغيره أنه إنما ذم مذهب القدرية

255
قال الحسين [بن الفضل البجلي]: فأعلمته [زهير بن حرب] ما يجب من القول، وقلت له: قد كان المكي [عبد العزيز الكناني صاحب الحيدة] يختلف إليكم ويقول لكم إني أعلم من هذا الباب ما لا تعلمون، فتعلموا ذلك مني فتحملكم الرياسة على ترك ذلك، ويقول لكم: يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم، فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة / فتأبون ذلك والحجة في هذا الباب كيت وكيت.
فقال: والله لوددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على المأمون وأن ثلث روايتي ساقطة عني
[هذا فيه بيان أن ذم السلف للكلام لا يشمل النظر الصحيح في العقليات]

أبو مالك العوضي
2009-01-17, 03:03 AM
261
ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبّر به عن المفعول كثيرا، كما يقولون: درهم ضرب الأمير

263
حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك وقالوا: هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات، كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى (بنفي التشبيه وإثبات التنزيه) وذكره أبو الفرج بن الجوزي في (منهاج الوصول) وغيره، وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة.

265
والفرق بين البابين أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.

271
ثم ما أخبر به عن نفسه ... أفضل مما أخبر به عن خلقه ... وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون: إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه بناء على أنه قديم، والقديم لا يتفاضل ..... / ...... والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة أن بعض كلام الله أفضل من بعض كما دل على ذلك الشرع والعقل.

280
[الخطابي في الغنية] ثم إني تدبرت هذا الشأن، فوجدت عظم السبب / فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة وعد واحدا من الجمهور والكافة، وأنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه، فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا / عن حقائقها ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوها بيقين علم

284
كما قال بعض السلف: يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر، فإذا جاء الأثر كان نورا على نور.

291
وكما أصاب كثيرا من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم، فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم فيعاونونهم على الإثم والعدوان، وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر، فيخرجون عليهم / ويقاتلونهم بالسيف، وهو قتال الفتنة، فمن الناس من يوافق على الظلم ولا يقابل الظلم مثل ما كان بعض أهل الشام ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان ولا يوافق على حق ولا على باطل كالخوارج ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم وتارة يدفع الظلم بالظلم مثل حال كثير من أهل العراق.

312
النظر في الدليل الفاسد يستلزم الجهل المركب لا محالة

314
[الخطابي] كقول الشاعر فيهم:
حجج تهافتُ كالزجاج تخالها ............ حقا وكلٌ كاسر مكسور

315
[كلام الخطابي في التواتر المعنوي]

319
وذلك الوصف الذي علق به الحكم يسمونه علة وسببا وداعيا وموجبا ومناطا وباعثا وأمارة وعلامة ومشتركا وأمثال ذلك

320
ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة بل عديمها وإما أن يكون كثير الخطأ والغلط، وإما أن يجتمع فيه الأمران

322
فإن من قال: كل نار فإنها تحرق ما لاقته، إنما قاله لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي، وقد انتقض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك

324
فطرق العلم ثلاث:
أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها.
والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس، فما أفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس كليا مطلقا، فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين، لكن يجعل الخاص عاما والمعين مطلقا فإن الكليات إنما تعلم بالعقل كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس.
والثالث: الخبر والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب فهو أعم وأشمل، لكن الحس والعيان أتم وأكمل.

325
وقد تنازع الناس في السمع والبصر أيهما أكمل
....... والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل والسماع أعم وأشمل، فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافا مضاعفة، ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر، ثم يصير المغيب شهادة، والمخبَر عنه معاينا، وعلم اليقين عين اليقين.

325
والمقصود هنا أن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل

329
ولهذا يقال: العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول

331
[الخطابي] والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات: القول بالحس حسبُ وهو مذهب الدهرية، فإنهم قالوا بما يدركه الحس، ولم يقولوا بمعقول ولا خبر، وقال قوم بالحس والمعقول حسب ولم يقولوا بالخبر، وهو مذهب الفلاسفة، لأنهم لا يثبتون / النبوة، وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر والأثر وهم جماعة المسلمين وهو قول علمائنا وبه نقول

335
وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصا، فهذا كلام في القياس العملي الشرعي وهو مبسوط في موضعه.
والناس في هذا بين إفراط وتفريط، كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري، فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص، بل إنما تعلم بالقياس، وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط ويردون قياس الأولى، وفحوى الخطاب والعلة المنصوصة ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال.
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة، فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما، وقصرت في معرفتهما وفهمهما، واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي لا تغني من الحق شيئا أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله.
وكثيرا ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك، من غير دليل يدله على ذلك، بل بمجرد اشتباه قام في نفسه، / أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف، وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد، التي متى حوقق عليها سقط بناؤه، وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب فضلا عن أن يكون من كلام المعصوم، وقد يتمسكون بما يظهر لهم من ألفاظ المعصوم ولا تكون دالة على ما فهموه.
وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله في زعم أحدهم مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها ويفرق بين المتماثلين تفريقا لا يأتي به عاقل، فضلا عن نبي معصوم، وتجمد على ما تراه ظاهر النص مع خطئها في فهم النص ومراد قائله، وتسلب الشريعة حِكَمها ومحاسنها ومعانيها وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل والرجل العاقل.
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه، الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة، التي نطق بها الكتاب والسنة، وهذا هو الذي يسمَّى تحقيق المناط، كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه والاجتهاد في عدل الشخص المعين والنفقة بالمعروف للمرأة المعينة والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، والمثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة ودخول أنواع / من المسكرات في اسم الخمر وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر، وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه.
فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء وهو ضروري في كل شريعة

338
ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم وإن سماه المسمي قياسا كليا بل هو عمدتهم وعصمتهم هو واستصحاب الحال، فهذا نوع. ومن نازع في القياس والعموم جميعا كما فعل ذلك من فعله من الرافضة فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام، فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم، ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط وهي داخلة فيه وليس كذلك فإن هذه فيها نزاع.

339
وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس أو أكثرهم وكثير من الفقهاء لا يسميه قياسا بل يثبتون به الكفارات والحدود وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس، فإنه / هنا قد علم يقينا أن الحكم ليس مخصوصا بمورد النص، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق، كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط، فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها، إلا بدليل يدل على ذلك، ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات ظهر خطؤهم يقينا، فإن الشارع صلوات الله عليه لم يعلق الحكم في خطابه بفأرة وقعت في سمن، ولكن السائل سأله عن ذلك، والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة أو نوع باسمه لم يجب أن يكون الحكم معلقا مختصا بما سأل عنه السائل، بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلا في حكم عام
.........
وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم، فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل أن يقول القائل: الحكم هنا ليس متعلقا بمجرد الميتة بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ..... / .... والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس، وكذلك العلة المنصوصة، وكذلك القياس في معنى الأصل، وقياس الأولى، وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة فهذا محل اجتهاد، ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك، فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة، ومنهم من يقول بالمؤثر / وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم، كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتا لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر، وأما إذا لم يكن مؤثرا فهو الذي يسمونه المناسب الغريب، وفيه قولان مشهوران، فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة.

342
ومن تدبر الأدلة الشرعية منصوصا ومستنبطها تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالعدل فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقتضي تلك التسوية، ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق، ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح، كما لا يتناقض معقول صريح ومنقول صحيح، بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس كان أحد الأمرين لازما إما أن القياس فاسد وإما أن النص لا دلالة له.

343
والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر، وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه

348
وأما الذين سماهم [ابن رشد] بالحشوية فهذا الذي ذكره عنهم إن أريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفى فيه مجرد إخبار من لم يُعلم صدقه بعد، فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول، فضلا عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول، أو قول سلف الأمة وأئمتها، ولكن غاية ما قد يقال: إن الجزم بوجود الرب تعالى يكفي في الإيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك

348
وقد تنازع الناس في الجزم هل يمكن أن يكون بغير علم أم لا؟ وهل يحصل الإيمان بدون العلم به أم لا؟ وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل يجب بعد ذلك طلب العلم به أم لا؟
وتنازعوا في العلم به هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسبا، ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها.

351
لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المعتزلة ونحوهم، رووا عن عمرو بن عبيد أنه قال: كان عبد الله بن عمر حشويا وهم يسمون العامة الحشو كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو

361
وأما ما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل [أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا] وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل وما بعث به الرسول، حتى قد يقول بعضهم: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن، بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية.
وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول مع مخالفتهم لصحيح المنقول، ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

362
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصّل العلم في المطالب الإلهية

366
اللات لأهل المدينة، والعزى لأهل مكة، ومناة الثالثة الأخرى لأهل الطائف
[ينظر كتاب الأصنام لابن الكلبي ص 27]

369
وليس في الموجودات ما يكون وحده مولدا لشيء، بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين، وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له.

370
وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار

371
وكذلك النظار يقولون: النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من / الحيوان لأن هذين أصلان في التوليد وهذين أصلان في التولد

372
وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه، فلا يكون عبده من هذه الآية لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد.
[في هذا إشارة إلى أن معرفة النصوص الشرعية جميعها مهم للمجتهد، لا نصوص الأحكام فقط كما ذكر بعض الأصوليين]

376
فخذ أربعة من الطير ... فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلا مضروبا لاختلاط الأخلاط الأربعة

381
ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الآدميين، فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل أفلا يكون ذلك دالا على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعيى بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأحرى؟

381
وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول، ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من / جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لتبينوا أنه الجامع لكل خير.

384
والملاحدة المنكرون للمعاد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته، ونفي العي يثبت هذه الصفات، فتنتفي أصول شبههم

390
كما قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته.

394
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان كان من سلك الطريق العقلي دله على الطريق السمعي، وهو صدق الرسول، ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية كما بين ذلك القرآن، وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا، كما قال أهل النار {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}
[هذه الآية من أوضح الأدلة على أن العقل والنقل لا يتعارضان؛ لأن (أو) تفيد أن أيا من الطريقين ينتهي إلى النتيجة نفسها]

404
والسفسطة حال يعرض لكثير من الناس إما عمدا وإما خطأ، وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية والمعارف الفطرية في الحسيات والحسابيات وكذلك في الإلهيات ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس في العلوم الطبيعية والحسابية رأى عجائب وغرائب، وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات فإنهم جنس عظيم التفاوت ليس في المخلوقات أعظم تفاضلا منه خيارهم خير المخلوقات عند طائفة أو من خيرها عند طائفة وشرهم شر المخلوقات أو من شرها.

422
لفظ الضرورة فيه إجمال فقد يراد به ما يضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه، وقد يراد به ما لا يقبل الشك وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوما لا يمكن الانفكاك عنه.
ومنها أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولا ضروريا مع توهمه أنه لم يحصل له كما يقع مثل ذلك في القصد والنية، فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية، والنية من جنس القصد والإرادة محلها القلب باتفاقهم فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه.
ثم إن كثيرا من الناس اشتبه عليهم أمر النية حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة فيُرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين، حتى قيل: الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل أو جهل بالشرع.

424
فهكذا العلم الضروري وغيره قد يكون حاصلا في نفس الإنسان وهو يشك في وجوده أو يطلب وجوده أو لا يحسن أن يعبر عنه لأن وجود الشيء في النفس شيء والعلم بوجوده في النفس شيء آخر، فالتمييز [في نسخة والتمييز] بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر.

424
والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه ومنه ما يحصل دفعة كالعلم بما أحسه، ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها.

429
بل كثير من الناس يقول: إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها، فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري، يضطر إليه الإنسان وهذا اختيار أبي المعالي وغيره.
وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة، من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعا معنويا، وليس كذلك. كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري والكسبي هو النظري، ومنهم من يفرق بينهما، فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه لا في / تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه، وإن كان عن نظر اضطر إليه [من غير كسب منه] فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم وقد يختار اكتساب أسبابه وهذا في الحسيات وغيرها كمن يفجأه ما يراه ويسمعه من غير قصد إلى رؤيته وسمعه ومن يسعى في رية الشيء واستماعه والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي والثاني يدخل تحت الأمر والنهي.

430
كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي / ورأيتها بخطه عن الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى [كذا] قال: دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم فقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين، فقلت: نعم أنا أعلم علم اليقين. فقالا [لي] كيف تعلم علم اليقين، ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا وكلما أقام حجة أبطلتها وكلما أقمت حجة أبطلها؟ فقلت: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين، فقالا: فبين لنا ما هذا اليقين. فقلت: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها. فجعلا يرددان هذا الكلام ويقولان: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها.
وتعجبا من هذا الجواب؛ لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها. ثم قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها، فاعتذر الرازي بما له من الموانع. وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات فإن الشبهات قد أحرقت قلبي، فأمره الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك، ففتح الله عليه بهذه الواردات.

440
وكان أبو المعالي يقول: لم يكلف الناس العلم فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق، وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علما لم يمنع من إطلاقه.
قال: وقد كنا ننصر هذه الطريقة زمانا من الدهر وقلنا مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة، فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم، ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع.
قال: وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادئ النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن.
[المحقق: بحثت عن هذه النصوص في كتب الجويني الإرشاد والشامل ولمع الأدلة والعقيدة النظامية فلم أجدها]

452
هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه مجهولا من وجه وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وقول كثير من أصحاب الأشعري أو أكثرهم وهو قول جهم [بن صفوان] وكثير من المرجئة.
لكن جمهور الناس على خلاف هذا، وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد روايتين وهذا يشبه تنازع الناس في العقل هل / يتفاضل؟ فمذهب الجمهور أنه يتفاضل، وهو قول أكثر أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء كالتميمي والقاضي وأبي الخطاب وغيرهم من العلماء.
وقالت طائفة لا يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب الأشعري وابن عقيل وغيرهم.
وهو يشبه تنازعهم في أن بعض الواجبات هل تكون أوجب من بعض؟ فابن عقيل وغيره ينكرون التفاضل في هذا وجمهور الفقهاء يجوزون التفاضل في هذا

457
والناس متنازعون في المعرفة هل حصلت بالشرع أو بالعقل؟ وهل وجبت بهذا أو بهذا؟
والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيره.
فإن الناس لهم في العقل هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها والوجوب والتحريم قولان مشهوران أحدهما أنه لا يعلم به ذلك وهو قول الأشعري وأصحابه وابن حامد والقاضي أبي يعلى والقاضي يعقوب وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما.
والثاني أنه يعلم به ذلك وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم وهو قول أبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وغيرهما من أصحاب أحمد وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأبي نصر السجزي وقول كثير من أصحاب مالك والشافعي وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة وذكروه عن أبي حنيفة نفسه.

461
قال أبو جعفر السمناني أحمد أئمة الأشعرية: هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الاعتزال لمن اعتقدها، وذلك لكون الأشعري كان معتزليا تلميذا لأبي علي الجبائي ثم رجع عن ذلك إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد السابع بحمد الله]

أبو مالك العوضي
2009-01-17, 03:13 AM
[المجلد الثامن]

3
وكثير من نزاع الناس يكون نزاعا لفظيا أو نزاع تنوع لا نزاع تناقض.
فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا هو معنى اللفظ الذي يقوله هذا وإن اختلف اللفظان فيتنازعان لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر وهذا كثير.
والثاني أن يكون هذا يقول نوعا من العلم والدليل صحيحا ويقول الآخر نوعا صحيحا.
وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب وكثير منه نزاع في المعنى، والنزاع المعنوي إما أن يكون في ثبوت شيء وانتفائه وإما أن يكون في وجوب شيء وسقوطه.
فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوي، وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان أو توقف صحة الإيمان عليه ونحو ذلك.

8
واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلما لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين.

11
وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا تطهر قبل البلوغ لم يجب عليه إعادة الوضوء إذا بلغ، وكذلك لو كان عليه ديون فقضاها أو قضاها وليه لم يجب عليه إعادة القضاء بعد البلوغ، بل لو صلى الفرض في أول الوقت ثم بلغ ففي إعادة الصلاة عليه نزاع معروف بين العلماء، ومذهب الشافعي لا تجب الإعادة وهو قول في مذهب أحمد، ومن الناس من يضعف هذا القول، ولعله أقوى من غيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الصبيان بإعادة الصلاة مع العلم بأن كثيرا منهم يحتلم بالليل، وقد صلى العشاء مع بقاء وقتها.

15
وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر إذا طلب الإمهال للنظر فأوجبه من أوجبه من المتكلمين من المعتزلة ومن تبعهم على هذه الطريقة كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيرهما.
وأما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقا أما في حال المقاتلة فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية إن كانوا من أهلها، فإذا أسر الرجل منهم فهذا لا يتعين قتله فإذا طلب مثل هذا الإمهال ورجي إسلامه أمهل، وأما المرتد فلا يؤخر عند الجماهير أكثر من ثلاث، وأما من له عهد، فذلك لا يكره على الإسلام فهو في مهلة النظر دائما.
ولو طلب أهل دار ممتنعين من الإمام أن يمهلهم مدة ورجا بذلك إسلامهم ولم يخف مفسدة راجحة أمهلهم.
والحربي إذا طلب الأمان حتى يسمع القرآن وينظر في دلائل الإسلام أمناه كما قال تعالى : {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}
وأما من قال بالوجوب العقلي كما هو قول المعتزلة والكرامية ومن / وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم فهؤلاء هم الذين قالوا ابتداء أول ما يجب المعرفة أو النظر المؤدي إليها. لكن أخذ كلامهم من أراد أن يبنيه على أصوله من الأشعرية ونحوهم فتناقض كلامه.

16
وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس فقد يجب على هذا ابتداء ما لا يجب على هذا ابتداء، فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين، وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها. وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهرا، وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها.

21
ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع، وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر، فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى، ومتبع هؤلاء ضال شقي، إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك بل يظنه صدقا ما لا يحصيه إلا الله.

22
[مسألة التحسين والتقبيح]

25
حتى إن بعض متأخري أصحاب أحمد وهو أبو الفرج صدقة بن الحسين البغدادي صنف مصنفا سماه (محجة الساري في معرفة الباري) سلك فيه مسلك ابن عقيل وأمثاله من المتكلمين المنتسبين إلى السنة مشوب من كلام المعتزلة مع مخالفتهم لهم في شعار مذهبهم

38
ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل وجد المسفسطين فيها أعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع، فعلم أن معرفته في الفطرة أثبت وأقوى، إذ كان وجود العبد ملزوم وجوده وحاجاته معلقة به سبحانه وتعالى

41
وأما الرؤية بالعين في الدنيا وإن كانت ممكنة عند السلف والأئمة لكن لم تثبت لأحد ولم يدعها أحد من العلماء لأحد إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم على قول بعضهم وقد ادعاها طائفة من الصوفية لغيره لكن هذا باطل؛ لأنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن أحدا لا يراه في الدنيا بعينه.

43
[تكلم عن نقض اشتراط أن يكون خبر التواتر عن حس]

46
[طريق الإلهام للمعرفة إذا لم يخالف دليلا]

51
القول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء، ليس له ضابط، وإنما المعروف معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع، وصار هذا كالنهي عن المنكر وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل الصحابة وأنكروه، ومع هذا فلا يُقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار المشركين والصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات وبينوا بطلانها لمن سألهم.

52
كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسائل الفقه مثل مسألة قتل المسلم بالذمي أو القتل بالمثقل ونحو ذلك فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه، فيعرف الفقيه الفاضل مما نقل ما لم ينقل.

54
وكان طوائف من المنتسبين إلى الحديث والسنة كالأشعري والقاضي أبي بكر ومن وافقهم في أصل قولهم وإن كان قد يختلف كلامه كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وطوائف لا يحصيهم إلا الله ينكرون التعليل جملة ولا يثبتون إلا محض المشيئة، ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر إلى غير ذلك من لوازم قولهم.

57
وهكذا كل طائفة سلكت فانتهت إلى حيث رأت أنه منتهى الخلق فإنها تقضي على كل من تعظمه بأن هذا منتهاه، كما قد رأينا طائفة من الفلاسفة لما رأوا أن قول الفلاسفة هو منتهى معارف العقلاء صاروا إذا رأوا شخصا ظهر عنه ما يدل على كمال عقله وعظم علمه وفضله ومعرفته بأقوالهم على الحقيقة يجعلون قوله هو قولهم في الباطن وإن تظاهر بتكفيرهم والرد عليهم. فإن قيل لأحدهم: نحن قد سمعنا منه ورأينا من كلامه ما ينقض قول الفلاسفة يقول ذلك الفيلسوف الفاضل: هذا والله قد عرف حقيقة قولنا، ومن عرف حقيقة قولنا لم يعدل عنه، إلا أن يكون هناك شيء أعلى منه، ثم / يبقى حائرا: هل فوق قولهم ما هو أكمل منه، لما ظهر منه من كون العارف بحقيقة قولهم مع حسن قصده وعدله قد عدل عنه إلى قول يناقضه أو ليس فوقه ما هو أكمل منه لأن هذا الفيلسوف لا يعرف أن فوقه ما هو أكمل منه.
وهكذا الاتحادية أهل الوحدة ينسبون كل من عرف علمه وعقله وكماله إلى أنه منهم، وإن كان مظهرا للإنكار عليهم وهكذا أهل الحيرة في الصفات الخبرية يجعلون السلف والأئمة يُمِرُّون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت مع عدم علمهم بمعانيها.

59
وقد رأينا من ذلك أمورا، حتى إن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار، فإذا قيل له: أهذا نقله أحد عن الشافعي أو فلان أو فلان؟ قال: لا، ولكن هذا قاله العقلاء، والشافعي لا يخالف العقلاء، أو نحو هذا الكلام.

60
ولابن عقيل أنواع من الكلام فإنه كان من أذكياء العالم كثير الفكر والنظر في كلام الناس، فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية وينكر على من يسميها صفات ويقول: إنما هي إضافات موافقة للمعتزلة كما فعله في كتابه ذم التشبيه وإثبات التنزيه وغيره من كتبه واتبعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه (كف التشبيه بكف التنزيه) وفي كتابه (منهاج الوصول) وتارة يثبت / الصفات الخبرية ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات وتارة يوجب التأويل كما فعله في الواضح وغيره، وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهى عنه كما فعله في كتاب (الانتصار لأصحاب الحديث) فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور، ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور.

63
[ابن عقيل في الفنون] وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم: هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزالة المرض ويصبح على أرض أخرى، ومنزل / بعيد وطبه مجازفة لأنه يأمن الموافقة والمعاينة والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة لأن الحادة من الأدوية وإن عجلت سكون الألم فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب

65
[ابن عقيل في الفنون] ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين. هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول، وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان، يحبون البطالات والاجتماع على اللذات وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات، وأولئك يجرئون الشباب والأحداث على البحث وكثرة السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمناقضات.

67
[ابن عقيل في الفنون] أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يُعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير صلى الله عليه وسلم، الله الله، الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السنة أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة

81
مضمون هذا الكلام [للباقلاني] أن العلم بأن المحدَث لا بد له من محدِث يستدل عليه بأن ذلك يتضمن الاختصاص بزمان دون زمان، والتخصيص لا بد له من مخصص، لأنه ترجيح لأحد المتماثلين على الآخر، وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح معلوم الفسادة بالضرورة، ولم يحتج بعد هذا أن يستدل على أن الترجيح لا بد له من مرجح، لأن ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر، فلا بد له من مرجح، وقد ذكرنا فيما بعد أن هذا هو الطريق الذي سلكه أبو الحسين وأبو المعالي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم

84
ولكن سلوك هؤلاء [الباقلاني ومن وافقه] لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول دون / الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع، قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية، إما عنادا منه وإما لشبهة عرضت له أفسدت عقله وفطرته، مثلما يعرض كثيرا لهؤلاء فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمة مقدمة، إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره، وإن كانت المقدمات التي مانعها أبين وأقطع من المقدمات التي سلمها، لكن هذا يحتاج إليه كثيرا في مخاطبة الخلق، فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم ويقبل شهادة من هو دونهم إما لجهله وإما لظلمه، وكذلك كم من الخلق من يرد أخبارا متواترة مستفيضة، ويقبل خبر من يحسن به الظن، لاعتقاده أنه لا يكذب، وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية، ويقبله إذا رأى مناما يدل على ثبوته أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا، وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه فيقبلها حينئذ، لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده، ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة، ومثل هذا كثير.
فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعا من النظر والاستدلال، فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله، وإذا أتاه على غير ذلك الوجه لم / يقبله، وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب، كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها.
وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء، قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور، ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة.

88
والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق، ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها، فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط، وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفطر السليمة، ثم إذا اتفق معاند أو جاهل كان من يخاطبه / من المسلمين، مخاطبا له بحسب ما تقتضيه المصلحة كما يحتاج إلى الترجمة أحيانا وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والإنجيل.

91
فالقاضي أبو بكر وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين بخلاف أصول الفقه من أبي المعالي وأتباعه، والأشعري أقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر، وأبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من أبي الحسن، والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من ابن كلاب، فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول، لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه، وهو المبلغ عن الله كلامه، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.

103
والشيء قد يكون ضروريا مع إمكان إقامة الأدلة النظرية عليه، فلا منافاة بين كونه ضروريا مستقرا في الفطر وبين إمكان إقامة الدليل عليه.

108
ولكن لازم المذهب ليس بمذهب، وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح بفسادها، بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها، ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل: إن التخصيص الحادث لا بد له من محدِث مخصص، أو أن الممكن لا بد له من مرجح أعظم مما يرد على أن المحدَث لا بد له من محدث.

165
فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية؛ وهو كون العلة لفظا مشتركا، فإن هذا من باب الإعنات في الخطاب والخروج عن المقصود.
والاستفسار مع ظهور المقصود نوع من اللدد في الكلام وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.

174
تقسيم الوجود إلى ما له علة وإلى ما لا علة له فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات لا يمكن المنازعة فيه، كما إذا قيل: الموجود ينقسم إلى ما يقوم بنفسه وإلى ما لا يقوم بنفسه، وإلى ما هو موجود بنفسه وما ليس موجودا بنفسه، ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات، فهذا تقسيم حاصر؛ إذ لا واسطة بين النفي والإثبات وهما النقيضان والنقيضان كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضا.

180
ولما كان هذا منتهى كلامهم [الفلاسفة] صار السالكون لطريقهم نوعين: نوعا يقول: لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون: لا جواب عنه، كالآمدي وغيره


183
وتسلسل المحدثات إذا قدر إلى ما لا يتناهى لا يخرجها عن كونها جميعها محدثة، وأن جميعها مفتقر إلى محدث خارج عنها، والمحدث الخارج عن جميع المحدثات لا يكون إلا قديما، وعلى هذا التقدير فليس فيها معلول قديم أزلي ولا معلول ضروري كما قدره أولئك، حيث قدروا عللا ومعلولات لا تتناهى، كل منها محدث وكل منها ممكن، مع أن الممكن قد يكون ضروريا ممتنع العدم واجب الوجود، فكانوا محتاجين إلى بيان أن الضروري الوجود القديم الأزلي يكون معلولا حتى يكون المجموع من ذلك معلولا، وهذا ممتنع عليهم حيث جمعوا بين النقيضين.

185
[يفسر كلام ابن رشد] ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات، لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم إذا قدر تسلسلها.

185
فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسلة كل منها محدث الآخر ليس فيها قديم، فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي لوجب بعد هذا أن يُنظر في امتناع التسلسل وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه، فكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم؟

191
[ابن رشد] والعجب كل العجب كيف خفي هذا على أبي نصر وابن سينا لأنهما أول من قال هذه الخرافات، فقلدهما الناس ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة لأنهم إذا قالوا إن الكثرة التي في المبدأ الثاني إنما هي مما يعقل من ذاته ومما يعقل من غيره لزم عندهم أن تكون ذاته ذات طبيعتين أعني صورتين فليت شعري أيتهما الصادرة عن المبدأ الأول وأيتهما التي ليست الصادرة.

198
[ابن رشد] وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين، والغلط في واحد من هذه المبادي هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات.

201
وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكنا يمكن وجوده وعدمه، فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة، وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي، لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن

233
فإن ابن سينا أدخل في الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين، وطرق الفلاسفة والصوفية، ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا، حتى نفقت على كثير من أهل الملل، بخلاف فلسفة القدماء، فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفى على أحد.
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية، وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جدا، قليل / الفائدة إذا كان صحيحا، مع أنه لا يوصَل إليه إلا بتعب كثير، مع أنه يقول: هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا.
وهو كما قيل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.

238
وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم.

239
والذي أحدثه الفلاسفة كابن سينا وأمثاله عن المعتزلة منه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل، فالصحيح كقولهم: إن تخصيص شيء دون / شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص. والباطل نفي الصفات.

264
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع، فهذا ليس قولا معروفا لطائفة معروفة، بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع. وهذا ضروري في العقل.
وعلى قولكم: الحوادث دائما تحدث، وليس لها صانع، فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلا. وأيضا فإن الحوادث مختلفة في / صفاتها ومقاديرها، كما أن الفلك مختلف في صفته وقدره.
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره. وإن جاز ذلك بطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه، سواء كان صادرا عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول، أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة، فكيف ما قدروه، فلا بد لهم من لزوم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه.

271
ومنها: أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد. وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء، وهو تسلسل علل ومعلولات، أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها، فإنه كلما حدث حادث، فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة، وتكون حادثة معه، وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ما هو كذلك، فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى، أو تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد.

273
[مسألة حوادث لا أول لها]
فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية كالأربعين ونهاية العقول وغيرهما: امتناع حوادث لا أول لها، كما تقدم تقريره، واعتراض إخوانه عليه، فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة، ويقرر وجوب دوام الفاعلية، وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب، وامتناع حدوثها في غير زمان، ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب، كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره.

274
ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك، واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك، فإن الناظر إما أن يكون ناظرا بنفسه حتى يتبين له الحق، أو يقلد المعصوم، فهذان طريقان علميان، وإما أن يكون محسنا للظن بشيوخ تقدموا من شيوخ هذا الكلام المحدث، فهؤلاء قد عارضهم من هو أعلم منهم. فالسلف والأئمة عارضوهم، وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم، وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم، والفلاسفة أيضا عارضوهم وناقضوهم.

278
ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس، وقد بلغه أن لبقراط وجالينوس وأمثالهما فيها نصا، لم ينبغِ له أن يثبت القول فيها / حتى يعرف ما قاله هؤلاء، مع جواز غلطهم في نفس الأمر، فكيف بنصوص الأنبياء في الأمور الإلهية؟

280
وجميع ما ذكروه [الفلاسفة] ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل، وأن الفاعل لم يزل فاعلا، وأن الحوادث لا أول لها، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها.

283
وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين. وهذا القدر خلاف ما يُعقل من الإرادة، فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه، بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح.

284
وإذا قيل: إنه قامت به إرادات متعاقبة، كما قاله الأبهري، وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث، كان ذلك وفاء بموجب دليلهم [الفلاسفة]

292
فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجودا في كتاب الله أو سنة رسوله، أو هو مما انعقد عليه إجماع المسلمين، ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم، فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم.

295
ثم هؤلاء الذين أبطلوا التسلسل خير من الذين أقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي.

303
ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولا ما يلزمه هو على تقدير رده. ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول وأن الحق يمكن تصحيحه بدونه، وأنه إذا صححه بذلك الطريق، كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده أعظم مما يلزمه إذا أعرض عن ذلك.

309
ثم يقال: من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه وأن بعض الحوادث حدث من غير محدث أحدثه، قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية، أو طوائف من نظار المسلمين.
والقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل، وأن المخلوقات تتعلق بفاعل، وأن المخلوقات تتعلق بخالق – علم ضروري، إنما قاله شرذمة لا / يعتد بقولها، وأن الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا بالفحص والبحث، مع أنه لا يُعلم أن أحدا من المشهورين بالعلم، طلب على هذا دليلا، ولم يُذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا، ولا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من السلف والأئمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال. أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه: من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخر فلا بد له من مرجح.

312
وأبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد

313
فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعا وعقلا، كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها، حتى آل الأمر / بهم إلى الجهل العظيم، وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتا ووجودا، وأكثرها وأقواها أدلة، وأولاها بالعلم من كل معلوم، وأحقها بأن يكون مستقرا في الفطرة، دائم الحصول في القلوب، حاصلا بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم.

319
وحينئذ [أي على أحد الوجوه] فيكون كلام الأشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر، كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة

320
فقالت طائفة: إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ، وهي الجواهر المنفردة، وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية.
وقالت طائفة: بل فيها أجزاء لا نهاية لها، وهو المذكور عن النظام. وعليه انبنى القول [بطفرة النظام]. ولهذا يقال: ثلاثة لا يعلم لها حقيقة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري.

321
وأذكياء المتأخرين: مثل أبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، و[أبي عبد الله] الرازي: كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد. فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحدا أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان، باعتبار تركبه من الجواهر أو المادة والصورة حتى يثبت ذلك أولا.

323
ومن قال .... فهو لا يتصور ما يقول، أو هو معاند مسفسط. فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض. وهذا أصل كل ضلال، وهو الجهل أو العناد، والعناد وصف المغضوب عليهم، والجهل وصف الضالين.

330
فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل

338
وقد رأيت في كتب كثير [من المتكلمين] من المعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة، وجعلوها ضرورية. واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث.
والأول ظاهر معلوم لكل أحد.
وأما الثاني فليس كذلك، فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول، وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله، وأنهم به يردون على من خالف الملة، وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث، إلى هذه المقدمة، وهي لفظ مجمل فيه عموم، وإطلاق أحد نوعيه بين.

339
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس، وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم، وإن كانوا لم يعتمدوا [يتعمدوا] التلبيس لا على أنفسهم، ولا على من يعلمونه ويخاطبونه، لكن اشتبه الأمر عليهم فوقعوا في شبهات ظنوها بينات.
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم، الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات، ويغرقون في مثل هذه المجملات، ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب، والتقسيم المميز للصحيح من السقيم.
ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة الذين ذموا مثل هذا الكلام، وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام.

344
ولما تفطن كثير من أهل الكلام لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام، وأنه لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع، ميزوا بين النوعين، كما فعل ذلك أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني، والشهرستاني والرازي وغيرهم. فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث، وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها. فأخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه، وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع.

346
والقول الثاني قول من يقول بامتناع ما لا يتناهى في الماضي دون المستقبل، لأن الماضي قد وجد، والمستقبل لم يوجد بعد. وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم.

358
وإيجاب النظر مطلقا غير إيجاب النظر في الطريق المعين، طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام، فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين الذين يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبعونه إذ كان معلوما بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجب النظر في هذه الطريقة، بل ولا دل على صحتها، بل ما أخبر به يناقض موجبها

363
ومن ظن أن المراد به [الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا] الطبع على قلبه، وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار، فهو غالط. فإن ذلك لا يقال فيه: طبع يوم طبع، إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره.

421
وكثيرا ما يقع لمن هو من أهل الحق – في أصل مقصوده وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى، مثل أن يتكلموا في مسألة فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها ردا غير مستقيم.

422
وأما قول القائل: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى طائع وكاره، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم، إلا عن السدي في تفسيره.

423
ومثل هذا لا يوثق به فإن هذا في مثل تفسير السدي وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها، إذ كان السدي – وإن كان ثقة في نفسه – فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل، إن كانت أخذت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا؟ وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل، لا / سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضته لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار.

425
كما قال: {لا تبديل لخلق الله} ولم يقل لا تغيير، فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله، فلا يكون خلقٌ بدل هذا الخلق، ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله.

427
ولفظ (الطبع) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة، التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث.

427
وإن كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة، أو على قول من يقول: إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام، كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم

428
فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء، فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا، وإن كان أبواه مؤمنين، ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة، لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ.

429
والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارَض إلا بما يصلح أن يعارض به

430
وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا، فإنه لا بد له من مرب يربيه، وإنما يربيه أبواه، فكان تابعا لهما ضرورة، ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه، وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما، ففيه نزاع للعلماء.

431
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما، لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين، ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطرة، فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينه وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضي السالم عن المعارض، ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين، لكان الصبي المسبي بمنزلة البالغ الكافر.
..........
يبين ذلك أنه لو سباه كفار، لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلما [كذا ولعل الصواب (ولم يكن معه أبواه لم يصر مسلما) بتقديم الواو] فهو هنا كافر في حكم الدنيا، وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه.

432
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واستقراقهم إذا كان آباؤهم محاربين وغير ذلك صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر، كالذي تكلم بالكفر وعمل به.

433
فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا، وأن أولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة، وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين.

434
والرواية الأخرى كقول الجمهور إنه لا يحكم بإسلامه
وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها.

435
وقد تنازع الناس في أطفال المشركين ..... كلهم في الجنة ... اختاره أبو يعلى وغيره وحكوه عن أحمد، وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه.

441
وإلا فالأمر النظري مستلزم للشك قبل العلم، لا سيما إذا كانت طرقه خفية طويلة، فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه

445
ففي الجملة كل ما كان قابلا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما

446
فإن النفس / بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد

466
والمراد لذاته لا يكون نوعا؛ لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر، فلو كان هذا مرادا لذاته للزم أن لا يكون الآخر مرادا لذاته، وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مرادا لذاته، وإذا لم يكن مرادا لذاته لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مرادا لذاته.

482
والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم وذلك ضروري فيهم.

491
لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم

494
وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه (في أصول السنة والتوحيد)
[المحقق: لم يجد له ترجمة]

502
وهذا الشيخ أبو محمد بن عبد البصري المالكي، طريقته طريقة أبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي، وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف، واتباع السلف وأئمة السنة والحديث، كمالك وسفيان الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد بن حنبل وأمثالهم، وكذلك ينتسبون إلى سهل بن عبد الله التستري وأمثاله من الشيوخ.

506
[نقلا] قال صلى الله عليه وسلم: (إن البهائم أبهمت إلا عن ثلاث، فذكر معرفة بارئها)
.........
وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها، وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول، وكل تام بغيره معلول

511
[نقلا] قال: وقد قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله، بماذا أقول: عرفتُ الله؟ فقال: إنك إن قلت بمن فقد أشركت، وإن حلت كفرت، وإن وسطت واسطة ضللت.

516
قلت: وذكر ابن عبد أشياء، وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت وكلام مستدرك، فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية

518
[نقلا] وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول – ويكتب بذلك إلى عماله- احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة

525
قال: وقد ثبّت أهل الكلام معارف ضرورية كمعرفة الإنسان بوجود نفسه، فالربوبية أولى بذلك

532
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان: أقيسة وآيات، فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي، لا تدل على معنى معين.

532
فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه، بحيث يميز بينه وبين ما سواه، كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره، ولهذا كل من تُطلب معرفته بالدليل، فلا بد أن يكون مشعورا به قبل هذا، حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله.
وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوبا لها، وإذا كان مطلوبا لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء، حتى يعلم أنه يلزم من تحقق / الدليل تحققه، وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوبا بالحد، وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعورا به من بعض الوجوه، فيطلب الشعور به من وجه آخر.
ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفا بالمحدود، إن لم يعرف أن الحد مطابق له، وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود، وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد.

534
ومما ينبغي أن يُعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء، وعلمه بأنه عالم به شيء، وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث.

534
وهذا مما يبين لك أن كثيرا من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه، وقد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا، فإن كان فاسدا فهو لا يوجب العلم، وهم يظنون أن العلم إنما حصل به وهم غالطون.
/ بل العلم قد حصل بدونه، وإن كان صحيحا فقد يكون مؤكدا للعلم ومحضرا له ومبينا له وإن كان العلم حاصلا بدونه.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد الثامن بحمد الله]

الواحدي
2009-01-17, 07:39 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
جزاك الله خيرًا.

"[المجلد الخامس]
26
فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي
[المحقق: لم أعرف من هم]"

تعليق:
أهل البطاقة المراد بهم باطنية الشيعة عمومًا، وأحيانا الإسماعيلية تحديدًا وما تفرَّع عنهم من فرق. و"البطاقة" و"الجفر" و"الهفت" و"الجدول": كتب منسوبة إلى جعفر الصادق، وبعضهم ينسبها إلى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه، ثم أصبحت تُطلَق ويُراد بها "علوم" باطنية تمكِّن من كشف الغيب والإخبار به، حسب زعمهم. وهي ممّا يشترك فيه باطنية الشيعة وباطنية الصوفية. وقد اعتنى بها بعض المغاربة اعتناءَ بعض الشيعة...
والله أعلم.

الواحدي
2009-01-17, 08:30 AM
"67
الطوينية
[المحقق: لم أعرف من هم]"
وضبطُها: الطُّويِنِيَّة؛ نسبة إلى "طُويِن"، ومعناه: الراهب البوذي. وهي فرقة من فرق البوذية. والمرجع في هذا التصويب هو الكتاب التالي:
جان بيار رو، "تاريخ الإمبراطورية المنغولية".
(Jean Pierre Roux, Histoire de l’empire mongol)
وكذا الأمر بالنسبة للبخشية: في الأصل يراد بعض رهبان المغول. وتطلق ويراد بها رهبان البوذية.
ويعتبرهم ابن تيمية في موضع آخر "من كُهّان الترك". وفي موضع مغاير اعتبرهم من سحرة التتار. وفي موضع ثالث نسبهم إلى البراهمة.
وثبتت نسبة "البخشية" لفرقة صوفية متفرعة عن الخلوتية تدعى "البخشية"، نسبة إلى مؤسسها: نور بخش؛ لكنها متأخرة عن عصر ابن تيمية. ثم إنه لا يقصدها بكلامه، لاعتبارها من فرق المشركين.
والله أعلم.

أبو مالك العوضي
2009-01-17, 08:33 AM
جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل

الواحدي
2009-01-17, 08:50 AM
جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل
بارك الله فيك
كان ينبغي أن تضيف إلى كلمة "شيخنا" عبارة (ابتسامة)
وهي ابتسامة لا يدرك مدلولها إلا أنت وكاتب هذه الأسطر..
جزاك الله خيرًا..

الواحدي
2009-01-17, 03:33 PM
"المجلد السادس:
4
إلا أن يرووا في ذلك ما يعلم أنه كذب كحديث عوسجة وأمثاله
[المحقق: لم أعرف من هو المقصود بعوسجة وأي حديث يشير إليه ابن تيمية]"

*تعليق:
والحديث الذي يشير إليه ابن تيمية: حديث موضوع هذا نصه: " قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: "أين الله؟" فقال: "إنَّ الذي أيَّنَ الأيْنَ لا يقال له: أين؟" فقيل له: "كيف الله؟" فقال: "إنَّ الذي كيَّفَ الكيف لا يقال له: كيف؟"
وهذا "الحديث" ذكره ابن عساكر في مجلس أملاه في نفي الجهة عن الله تعالى. قال ابن تيمية في "درء التعارض":
"والحديث الذي يحتجون به في نفي العُلُوِّ، كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيحة بن عبد الله العوسجي عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "الذي أَيَّنَ الأين فلا يقال له: أين"، وعارض به حديث ابن إسحاق الذي رواه أبو داود وغيره، الذي قال فيه : "يستشفع بك على الله، ويستشفع بالله عليك". وأكثر فيه في القدح في ابن إسحاق، مع احتجاجه بحديثٍ أجـمَع العلماء على أنه من أكذب الحديث؛ وغاية ما قالوا فيه: إنه غريب."
وفي بعض الطبعات "عن شيخه"، وهو تصحيف.
قال ابن حجر في "الإصابة": "شيحة العوسجي: قرأت بخط الذهبي في "التجريد": جاء ذكره في خبر موضوع لا يحل سماعه، أخرجه ابن عساكر في مجلس نفي الجهة".
وفي التابعين شيحة الضبعي. روى عن علي. ذكره ابن أبي حاتم. وهو غير هذا".
وجاء في "لسان الميزان"، في ترجمة الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
"وروى عن إبراهيم بن عبد الله الصنعاني عن عبد الرزاق بسند الصحيحين حديث شيحة العوسجي، وهو في "مجلس نفي الجهة" لابن عساكر".
وشيحة الضُّبَعي هو: أبو حِبَرة شِيحة بن عبد الله الضُّبَعي.
أمّا شيحة العوسجي، فلم أقف على غير اسمه ونسبته. وابن تيمية يذكره تارةً بالنسبة، وتارة يقول "حديث عوسجة". ولعل "العوسجي" نسبة إلى عوسجة، أحد أجداده. ولا يدرى هل قول ابن تيمية "شيحة بن عبد الله" وهمٌ منه؟ أم ابن حجر هو الذي توهَّم حين ميَّز بينه وبين شيحة بن عبد الله الضُّبَعي؟
وهذا الكلام نفسه المنسوب إلى رسول الله –صلّى الله عليه وسلَّم- منسوبٌ أيضًا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد كان شيحة بن عبد الله الضُّبَعي أحد أصحابه. وبعض الأشاعرة يذكره منسوبًا إلى علي، وكذا الشيعة. فيُحتمَل أنه كان لشيحة بن عبد الله صاحب علي بن أبي طالب نسبتان: الضبعي والعوسجي. وهو احتمال لا قرينة له سوى الذي ذكرت.
والله أعلم.

نضال مشهود
2009-01-18, 12:27 AM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد

فإن من الناس من هو مفتاح للخير مغلاق للشر، ومنهم من هو مفتاح للشر مغلاق للخير !!

وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام رحمه الله، ممن نحسبه من الصنف الأول، ولا نزكي على الله أحدا.

فقد جاء كتابه هذا ( درء تعارض العقل و النقل) أو ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ) شامة في جبين الزمن، لا يدانيه في بابه كتاب آخر، بل لا يكاد يوجد أصلا في بابه كتاب، كما قال ابن القيم:

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ............. ما في الوجود له نظير ثان


لأن الكتب المعروفة في هذا الباب قبل شيخ الإسلام هي نحو:
- الحيدة لعبد العزيز الكناني
- الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد
- النقض على المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي

وكل هذه الكتب لم تستعمل قواعد المتكلمين في الرد عليهم.

فالمزية التي تميز بها هذا الكتاب أنه استعمل قوانين المتكلمين والفلاسفة نفسها في بيان بطلان مذاهبهم، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله:

ومن العجائب أنه بسلاحهم ................ أرداهم تحت الحضيض الداني


والكتاب يقع في عشر مجلدات، إلا أنه جاء على طريقة شيخ الإسلام في الإسهاب والتكرار بطرق مختلفة؛ لأن هذا ينتفع به القارئ كما نص شيخ الإسلام نفسه في بعض المواضع.

فالكتاب قابل للاختصار والتنقيح والترتيب، وهذا مشروع بحث لو قام عليه بعض الدارسين لكان جيدا؛ وذلك كما يلي:
- ترتيب الأوجه واختصار المكرر منها
- تنقيح العبارات الغامضة وصوغها بطريقة أسهل فهما
- استكمال كلام شيخ الإسلام الذي أشار إليه بقوله (بسطناه في موضع آخر)

وأسأل الله أن يجزي عنا شيخ الإسلام خير الجزاء.
وأن يستعملنا وإياكم في طاعته، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه

أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي

وإليكم الفوائد المنتقاة من هذا الكتاب النفيس:

لا زلتم تواصلون الإفادة ، شيخنا الفاضل . . وبارك الله فيكم ونفع بكم .

وعلى فكرة ، ما ملاحظاتكم لما بدأ به العبد الفقير من تهذيب هذا الكتاب ؟

أبو مالك العوضي
2009-01-18, 06:48 AM
وفقك الله وسدد خطاك

هل وضعت التهذيب المذكور هنا في المجلس العلمي ؟

الواحدي
2009-01-18, 07:31 AM
"المجلد الثالث:
228
والهندي لم يجب عنه
[المحقق: في (ض) كأنها (والهنفري) ولم أعرف من هو، وكتب محقق (ق) ما يلي: قوله (والهندي) كذا في الأصل، وكتب بهامشه: لعله الآمدي فحرر، كتبه مصححه]"

* تعليق:
بل هو "الهندي"، والله أعلم.
والهندي هو: صفي الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم الصفي الهندي الأرموي (ت. 715هـ). استوطن دمشق في زمن ابن تيمية، وهو الذي ناظر ابن تيمية في بعض محاكماته.
والهندي من تلاميذ سراج الدين الأرموي (ت. 682هـ)، لازمه لفترة طويلة. وسراج الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي هو صاحب "لباب الأربعين" الذي يردُّ عليه ابن تيمية.
وفي بعض المواضع من تآليفه، يقول شيخ الإسلام: "وجاء بعد الأرمويِّ الهنديُّ..."
والآمدي سابق للسراج الأرموي (توفي سنة 631هـ )
والله أعلم.

الواحدي
2009-01-18, 09:21 AM
"المجلد الثامن:
63
(...) ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة..."

كذا. والصواب: الـحَوَادّ (من الـحِدَّة). والكلام الذي يليه يؤكِّد هذا التصويب.
والله أعلم.

أبو مالك العوضي
2009-01-18, 10:39 AM
أحسنت يا شيخنا الفاضل (من غير ابتسامة)

تنبيهات نافعة، بارك الله فيك

نضال مشهود
2009-01-18, 12:36 PM
وفقك الله وسدد خطاك

هل وضعت التهذيب المذكور هنا في المجلس العلمي ؟

وإياكم شيخنا الكريم .
أي نعم ، وضعته في المجلس . لكنني انقطعت عنه مدة طويلة .
وهذا هو الرابط بارك الله فيكم :
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=15732


(1) أصول هذا الدين الذي أرسل به الله رسوله وأنزل به كتابه : إما أن تكون (مسائل) يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولا أو تعمل عملا كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد ، أو (دلائل) هذه المسائل .

(2) وكل من مسائل أصول الدين ودلائلها قد بينه الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر . إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين ، فيمتنع أن يهملها الله والرسول . بل الكتاب والسنة يشتملان على مسائل أصول الدين ودلائلها على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب .

(3) وأما ما يدخله بعض المتكلمين والفلاسفة في مسمى (أصول الدين) من الباطل في المسائل والدلائل ، فليس ذلك من (أصول دين الإسلام) الذي شرعه الله لعباده وإن أدخلوه فيه ، مثل نفي الصفات وإنكار القدر ونحو ذلك ، ومثل الاستدلال على وجود الصانع بـ(ـستلزام الأجسام للأعراض) أو (إمكانها و تماثلها) ما يعلم بالاضطرار أنها من المحدثات في الدين . وفيها من الأباطيل في الدليل والمدلول عقلا ونقلا . وقد اعترف بعض الحذاق منهم أنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها .

(4) ثم لهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان : طريقة (التبديل) ، وطريقة (التجهيل) . وأهل التبديل نوعان : أهل (الوهم والتخييل) من المتفلسفة والباطنية وملاحدة الصوفية الذين زعموا أن أخبار الأنبياء تخييل لمصلحة الجمهور وإن لم يطابق الواقع ، وأهل (التحريف والتأويل) من طوائف المتكلمين وغيرهم الذين قالوا إن الأنبياء لم يقصدوا بتلك الأخبار ظواهرها بل قصدوا ما علموه بعقولهم من الحق المخالف للظاهر . وأما أهل طريقة (التجهيل والتضليل) ، فنفوا علم العلماء أو حتى الصحابة والأنبياء بالحقائق التي أرادها الله تعالى بما وصف به نفسه من الآيات كما لم يعلموا وقت الساعة .

(5) وهؤلاء الفرق مشتركون في القول إن الرسول لم يبين لأمته المراد بالنصوص التي يجعلونها (مشكلة) أو (متشابهة) بحسب ما قرروه من الأصول والعقائد التي يزعمون أنها حق . ولهذا ، يجعل كل فريق المشكلَ من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر مشكلاً . فمنكر (الصفات) يجعل نصوصها مشكلة ، ومنكر (القدر) يجعل نصوصه مشكلة ، ومنكر (مشيئة العباد) يجعل نصوص الأمر والنهي والوعيد مشكلة ، ومنكر (معاد الأبدان) يجعل نصوصها وما وصف به الجنة والنار مشكلة . ويقول كل منهم فيما يستشكله : إن معاني نصوصه لم يبينها الرسول .

(6) وقد يقولون : نحن عرفنا الحق بعقولنا ، فاجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلوله . وعلى هذا ، وضعوا لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى . فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ويجعلون ما جاءت به الرسول تبعا له ، فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه . فقد زعموا أن الحق المعلوم بالعقول قد يخالف ما جاء في نصوص الرسول .

(7) وقد وضع الرازي وأمثاله قانونا فيما يزعمون من التعارض بين العقل والنقل ، فقالوا : ” إذا تعارض العقل والنقل تعارض النقيضين : فإما أن يجمع بينهما أو يردا جميعا ، وكلاهما محال ؛ وإما أن يقدم النقل ، وهو محال لأن العقل أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه ؛ وإما أن يقدم العقل وهو حق ، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض “ . وقد يضم بعضهم إلى هذا القانون الزعم بأن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين وأن لا تفيد بغير طريق الاستدلال بصدق المخبر . فقد غلطوا في العقل والنقل جميعا ، والعياذ بالله .

(8) ولما كان بيان مراد الرسول في هذه الأبواب لا يتم إلا بتقرير أن الأدلة السمعية قد تفيد اليقين والقطع ، وبدفع المعارض العقلي لمدلولها : بينا في هذا الكتاب فساد ذلك القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر . إذ كان أي دليل أقيم علي بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه . وقد بسطنا الكلام على تقرير الأدلة السمعية وإفادتها بعضها القطع في موضعه قديما ، فنتكلم في هذا الكتاب عن بيان انتفاء المعارض العقلي وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقا . ونبين أن صريح العقل موافق لصحيح النقل ، وأن الشرع قد أتى في نصوصه بالأقسية العقلية الصحيحة السليمة ما لا يقدر كثير من الفلاسفة والمتكلمين قدره ، وأن نهاية ما يذكرونه من الأدلة العقلية قد جاء الشرع بخلاصته علي أحسن وجه . فإن الرسول قد بلغ البلاغ المبين ، وبيانه للحق أكمل من بيان كل أحد .

(9) وفساد ذلك المعارض يعلم جملة وتفصيلا . أما الجملة ، فإن من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا ، تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج : فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية في معارضتهم الحقائق . وأما التفصيل ، فعلم فساد تلك الحجج المعارضة من نفس صريح المعقول ، وتمييز ما فيها من الحق والباطل في الألفاظ والمعاني ، مع اعتبارها بما جاء به الشرع في ذلك الباب من المسائل والدلائل .

(10) ولما كان في كلام هؤلاء المتكلمين والفلاسفة من المصطلحات المحدثة ، وقد استعملوا تلك الألفاظ – مع ما فيها من الإجمال والاشتباه – نفيا وإثباتا ، احتجنا إلى معرفة مرادهم بتلك العبارات ، واحتجنا إلى معرفة المعاني الثابية بالكتاب والسنة لنعبر عنها بتلك المصطلحات لمن يفهمها كي يتبين ما وافق الحق من معانى هؤلاء وما خالفه . ومخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم ليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة . والسلف والأئمة لم يذموا (الكلام) لمجرد ما فيه من الصطلحات المولدة المحدثة ، بل لأن المعانى التي يقصد أهله بها فيها من الأباطيل ما يجب النهي عنه ، ولاشتمال تلك الالفاظ أيضا على معان مجملة بعضها حق وبعضها باطل ما هو خلاف البيان والصراط المستقيم .

أبو مالك العوضي
2009-01-22, 08:34 AM
[المجلد التاسع]

5
[ابن أبي موسى] .... علم أنها مفتقرة إلى صانع، غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع، فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل، ووقع له فهم في السمع، وتحقق صحة الخبر وعرف الله من ناحية السمع، لا من ناحية العقل، لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط، وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز، فيبقى أن يفعل الجماد نفسه، ويقضي بالشاهد على الغائب، فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع

7
[ابن أبي موسى] والمعرفة عندنا موهبة من الله، وتقع استدلالا لا اضطرارا، لأنها لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء.

9
فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية، فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع، فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام.

10
فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة، لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته، وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك.

14
ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم: هل هو شيء أم لا؟ وفي مسألة الأحوال، وفي مسألة وجود الموجودات: هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك؟ والكلي الطبيعي: هل هو ثابت في الخارج أم لا؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل -كالمطلقات الكلية ونحوها- أمورا موجودة موجودة ثابتة في الخارج وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل وذلك ضلال.

16
والناس متنازعون في كونه فوق العالم: هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة، وهو قول ابن كلاب وابن كرام وآخر قولي القاضي أبي يعلى، أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع، كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري، وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه.

17
وهؤلاء يريدون بالعقل الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء، وأن ذلك بمجرده لا يوجب المعرفة، بل لا بد من أمر زائد على ذلك

17
الطرق القياسية العقلية النظرية وإن كان منها ما يفضي إلى العلم فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض؛ تارة لدقتها وغموضها وتارة لأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية.
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة.

21
وفيه أن الله يعرف ويعبد بالعلم، لا بمجرد الغريزة العقلية، وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول.
ومن يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إنما تحصل بعلوم عقلية، أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل، لا يقول: إن نفس العقل -الذي هو الغريزة ولوازمها- يوجب حصول المعرفة والعبادة.
وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل، أيهما أشرف؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية. فإن العقل قد يراد به الغريزة، وقد يراد به علم يحصل بالغريزة، وقد يراد به عمل بالعلم.

22
ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان مرسلا- إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
[لم يجده المحقق]

24
وقد قال ابن عباس: التفسير أربعة أوجه ...

28
ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس

29
فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله –كما تقوله القدرية- كان ضالا

33
وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح العلم: هل هو / بطريق التضمن الذي يمتنع انفكاكة عنه عقلا؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها؟

34
وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.

44
وما ذكرناه من كون الإقرار بالصانع فطري ضروري هو قول أكثر الناس، حتى عامة فرق أهل الكلام، قال بذلك طوائف منهم من المعتزلة والشيعة وغيرهم.

45
وكون المعرفة يمكن حصولها بالضرورة، لم ينازع فيه إلا شذوذ من أهل الكلام، ولكن نازع كثير منهم في الواقع، وزعم أن الواقع أنها لا تحصل لأكثر الناس إلا بالنظر، وجمهور الناس نازعوه في هذا وقالوا: بل هي حاصلة لأكثر الناس فطرة وضرورة.

46
[نقلا] وقال طوائف منهم الجاحظ وصالح قبة وفضل / الرقاشي والصوفية وكثير من الشيعة: معارف الدين كلها حاصلة بطريق الضرورة

49
وهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف. فلكل طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فيه قولان، وأما الحنفية فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه، ونقلوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى.
ولأصحاب الحديث والصوفية وغيرهم في هذا الأصل نزاع، ومن / القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما، وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها، وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وغيرهما، بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس

54
قال [أبو الخطاب]: دليل ثالث: أنه لو لم يكن في قضاء العقول إلزام وحظر، لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلا، لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب.

59
وأبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية أو أكثرهم مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ، بل تجب قبل البلوغ، بخلاف الواجبات الشرعية.

61
وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى
[المحقق: لم أعرف من هو]

63
وأيضا فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز باتفاق العلماء

64
فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة، فضربهم على الكذب والظلم أولى، وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته.

65
فإن أحد القولين في مذهب أحمد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز أن الصلاة تجب على ابن عشر وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه

66
كما أن كثيرا منهم يذكر أقوالا متعددة، والقول / الذي جاءت به الرسل وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه.
وهذا موجود في عامة الكتب المصنفة في المقالات والملل والنحل، مثل كتاب أبي عيسى الوراق والنوبختي وأبي الحسن الأشعري والشهرستاني، تجدهم يذكرون من أقوال اليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم من الكفار، ومن أقوال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة والكلابية والكرامية والمجسمة والحشوية أنواع من المقالات.
والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين لا يعرفونه ولا يذكرونه بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول إنه الحق تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك وينصرون أحدها ويكون كل ما ذكروه أقوالا فاسدة مخالفة للشرع والعقل والقول الذي جاء به الرسول وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح العقول لا يعرفونه ولا يذكرونه فيبقى الناظر في كتبهم حائرا ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه، ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على بعض علمه ببطلان تلك المقالات كلها.

72
وكثير من الناس لا يميز في هذا المقام بين ما هو بعينه حادث، وما تكون آحاد نوعه حادثة والنوع لم يزل، حتى إن كثيرا من أهل الكلام إذا رأوا أن الحركات حادثة أو غيرها من الأعراض اعتقدوا أن ما لا يسبق ذلك فهو حادث، ولم يميزوا بين ما لا يسبق الحادث المعين وما لا يسبق النوع الدائم الذي آحاده حادثة، فهو لا يسبق النوع وإن سبق كل واحد واحد من آحاده.

76
[ابن رشد] فأما المقدمة الأولى وهي القائلة إن الجوهر لا يعرى من الأعراض فإن عنوا الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة، وإن عنوا بالجوهر الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ففيها شك ليس باليسير، وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفا بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند، وليس في قوة صناعة الكلام تلخيص الحق منها

78
[ابن رشد] وإن قيل: إنه يقبلها بالفعل، فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفنى، كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء، وإذا استحالت عند تناهي صغرها لم يلزم أن تكون باقية قابلة لانقسامات لا تتناهى

80
هذا هو الشبهة المشهورة من أن فعل الفاعل وإحداث المحدث ونحو ذلك إن قيل يتعلق بالشيء وقت عدمه لزم كونه موجودا معدوما وإن قيل: يتعلق به وقت وجوده لزم تحصيل الحاصل ووجوده مرتين.
/ وجوابه أنه يتعلق به حين وجوده، بمعنى أنه هو الذي يجعله موجودا، لا بمعنى أنه كان موجودا بدونه فجعله هو أيضا موجودا.


98
[ابن رشد] فليس يمتنع إن وجد ذلك [الفاعل] يفعل فعلا لا نهاية له بآلات غير متناهية متبدلة، أن يكون فعله لأشخاص بالناس على الدوام بأشخاص لا نهاية لها، أعني أنه يفعل الأبناء بالآباء.
[ابن تيمية] قلت: مضمون هذا الكلام أن التسلسل في العلل ممتنع، لأن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول، وأما في الشروط والآثار مثل كون / الوالد شرطا في وجود الولد، ومثل كون الغيم شرطا في وجود المطر فلا يمتنع، وهذا فيه نزاع معروف

92
لكن قول القائل: إن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، عند منازعه فرق لا تأثير له، فإن أدلته النافية لإمكان دوام ما لا يتناهى كالمطابقة والشفع والوتر وغير ذلك يتناول الأمرين، وهي باطلة في أحدهما، فيلزم بطلانها في الآخر، ومن اعتقد صحتها مطلقا كأبي الهذيل والجهم طردوها في الماضي والمستقبل، وهو خلاف دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل.


99
فمعنى ما لا نهاية له الذي جعل مقتضاه محالا، هو الذي لا يقبل أن يزاد عليه، وهو ما لا أول له ولا آخر، وأما إذا قيل: وجد قبل هذه الدورة دورة وقبلها دورة إلى غير نهاية، فهنا إنما نفيت النهاية عن الجانب الماضي دون المستقبل، فلا يطلق على الجملة أنها لا تتناهى، لأنها تناهت من أحد الجانبين، وإن كانت غير متناهية من الجانب الآخر، فهو يسلم امتناع انقضاء وجود ما لا يتناهى في المضي إذا أريد به ما لا يتناهى من الجانبين.
وما قدر متناهيا من أحدهما فلا يسلم امتناع انقضائه ولا يطلق عليه أنه لا يتناهى، بل هو عنده قد تناهى لأنه انقضى، والتناهي / والانقضاء واحد

101
فلفظ (انقضى) و(انتهى) و(انصرم) ونحو ذلك معناه متقارب، فإذا قال المتكلم: الحوادث الماضية قد انقضت، فلو لم تكن متناهية للزم انقضاء ما لا نهاية له، كان هذا تلبيسا، فإنه إذا جعلت منقضية فإنما انقضت من جهتنا لا من البداية، ومن هذه الجهة هي متناهية، وأما من جهة الابتداء فلا انتهاء لها ولا انقضاء، وما لا يتناهى هو ما لا ينقضي ولا ينصرم، فإذا قيل: انصرم وانقضى ما لا يتناهى كان هذا تناقضا بينا.

113
ولكن من المتكلمين من ينازع في هذا، وهذا حق، وإن قاله ابن سينا، فليس كل ما يقوله ابن سينا هو باطلا

117
بل قدماؤهم [الفلاسفة] قسموه إلى جوهر وتسعة أعراض، كما هو معروف في كتاب (قاطيغورياس) وجعلوا العلة الأولى من مقولة الجوهر.

132
وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري، وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد، حتى في كتابه الذي سماه (غرر الأدلة)

136
وأما طريقة الحركة والسكون التي اعتمدتها المعتزلة فهي التي يعتمدها الرازي وهي أقوى مما سلكه الآمدي وغيره، حيث سلكوا طريقة الأعراض مطلقا بناء على أن العرض لا يبقى زمانين، فإن هذه أضعف الطرق، وطريقة الحركة أقواها، وطريقة الاجتماع والافتراق بينهم، وهي طريقة أبي الحسن الأشعري وطريقة الكرامية وغيرهم ممن يقول إنه جسم.

143
[بيان أوضح لمسألة تسلسل الحوادث]

145
والفرق بين هذا وهذا أن الحكم الذي ثبت للأفراد إن كان للمعنى الذي يوجد في المجموع ثبت له، وإن لم يكن لذلك المعنى لم يلزم ثبوته له، فكون المحدث ممكنا أو مفتقرا إلى الفاعل ثبت لحقيقة الحدوث، وهذا ثابت للأفراد والمجموع، وكذلك افتقار الممكن إلى ما ليس بممكن ثبت / لحقيقة الإمكان، فإن حقيقة الممكن هو الذي لا يوجد إلا بغيره لا بنفسه، وهذه الحقيقة لا تفرق بين الأفراد وبين المجموع.

147
وبالجملة هذا الموضع من أعظم الأصول التي ينبني عليها دليل المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على حدوث الأجسام، وتنبني عليه مسألة كلام الله تعالى وفعله وخلقه للسموات والأرض، ثم استوائه على العرش وتكلمه بالقرآن وغيره من الكلام.

151
والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد، وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة

156
هذا هو الذي ينازعكم فيه جمهور المسلمين وغيرهم، ويقولون لكم: لم يزل الله قادرا على الفعل، والقدرة عليه مع امتناع المقدور جمع بين النقيضين، فإن القدرة على الشيء تستلزم إمكانه، فكل ما هو مقدور للرب تعالى فلا بد أن يكون ممكنا لا ممتنعا.

158
ثم إنه صار من تقلدكم [؟] ينقل عن المسلمين واليهود والنصارى أن هذا قولهم.
ولا يعرف هذا القول عن أحد من الأنبياء ولا أصحابهم، بل المعروف عنهم يناقض ذلك

160
وهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل، إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة، فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبن، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري، ولهذا يوجد في كلامه نصر كلامهم تارة، وإبطاله تارة، فإنه كان ذكيا كثير الكلام والتصنيف، فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله، كما يوجد لأبي حامد والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم.

166
ولهذا يوجد كلام الرازي ونحوه من هؤلاء متناقضا في هذا الأصل، فإذا ناظروا القدرية استدلوا على أن القادر لا يرجح مقدورا إلا بمرجح، وإذا أرادوا إثبات حدوث العالم وردوا على الدهرية بنوا ذلك على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار، ولا يصح من العلة الموجبة، وادعوا الفرق بين الموجب بالذت وبين الفاعل بالاختيار في هذا الترجيح.

174
وهؤلاء غالبهم إذا ذكروا طريقتهم في حدوث الأجسام، بأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، ذكروا ذلك مسلما، كأنه بين، وإذا ذكروا مع ذلك أن الحوادث يجب تناهيها، جعلوا ذلك بمنزلة المسلم أو المقدمة الضرورية، تسوية بين النوع وأشخاصه، فيقولون مثلا إذا أثبتوا حدوث الأعراض وأن الجسم مستلزم لها: الحوادث لها أول ابتدئت به خلافا لابن الراوندي وغيره من الملحدة.

179
بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء، واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء، ولم يوافقه عليه الأنبياء، كان أقرب إلى أقوال / أهل الإلحاد، ولكن قد تشتبه على كثير من النظار فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلا عقليا، ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس، لا القول من أقوال الأنبياء بل قد يكون مناقضا لها، ولا يكون الدليل دليلا صحيحا في العقل بل فاسدا، فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما، ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع، وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء، وما فطر الله عليه العقلاء، فمن خالف هذين كان مخالفا للشرع والعقل، كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال.

182
وليس الاطراد [الصواب: المراد] بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها بل المراد انتهاء ...

185
وقول القائل من هؤلاء: إنه كان قادرا في الأزل على ما لم يزل، كلام متناقض، فإنه يقال لهم: حين كان قادرا: هل كان الفعل ممكنا؟ فلا بد أن يقولوا: لا، فإنه قولهم.
فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه قادر على الفعل.

189
الرازي مثلا إذا قرر في مثل نهاية العقول / وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث، واستوعبت [؟] ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة، ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه، مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري: اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته كما أنه واجب الوجود لذاته فهو واجب الوجود من جميع جهاته، وإذا كان كذلك وجب أن تدوم أفعاله بدوامه وبينا أيضا أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني وحللنا فيه الشكوك والشبه.
قال: وأيضا العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود يجب أن يكون دائم الوجود، فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود

195
فالمنازع لهم من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ونحوهم إما أن يقول: الفعل في الأزل ممتنع، كما قاله طوائف منهم، وإما أن يقول: هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد، فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد، إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال: الفعل في الأزل إما ممكن وإما / ممتنع، وإذا كان ممكنا، فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد، وإما أن لا يحصل.

201
قلت: هذا كقولهم: الحركة غير موجودة، والصوت غير موجود، والكلام غير موجود، وهذا لفظ مجمل، فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد، فهذا غير موجود، وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئا بعد شيء، فهذا كله موجود، وهو من حيث هو موجود شيئا بعد شيء لا موجود على سبيل الاقتران.


207
وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء، وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم، إذ هم ولله الحمد أكمل الناس عقلا وأتمهم إدراكا وأصحهم دينا وأشرفهم كتابا وأفضلهم نبيا وأحسنهم شريعة.

211
كما ن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين، وإن كان قد يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام.

211
ونحن نبين هنا ما ننصر به أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الإسلام والسنة من هؤلاء الفلاسفة وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة
[من الإنصاف العالي عند شيخ الإسلام رحمه الله]

228
وقد صور السهروردي هذه الحجة في كتابه المسمى (بحكمة الإشراق) وهو الذي ذكر فيه خلاصة ما عنده، ولم يقلد فيه المشائين، بل بين فيه خطأهم في مواضع، وذكر فيه طريقة فلاسفة الفرس المجوس والهند.
كما أن ابن سينا في كتابه المسمى (بالحكمة المشرقية) ذكر فيه بيان ما تبرهن عنده، وكذلك الرازي في (المباحث المشرقية)

230
[السهروردي] فينبغي أن يكون في الوجود حادث متجدد لا ينقطع، وما يجب فيه لماهيته التجدد إنما هو الحركة.
وذكر تمام الكلام في وجوب استمرار حركة دائمة، وأنها حركة الأفلاك.

233
وإذا قال: الذي يدوم بدوامه هو جنس الأفعال والمفعولات أو جنس الحوادث لا شيء بعينه.
قيل: فهذ يبطل حجتك على قدم شيء بعينه، ويناقض أيضا مذهبك في قدم شيء بعينه.

235
[ابن سينا] وإذا جاز أن يكون شيء متشابه الحال في كل شيء وله معلول، لم يبعد أن يجب عنه سرورا [كذا والصواب سرمدا] فإن لم يسم هذا مفعولا بسبب أن لم يتقدمه عدم فلا مضايقة في الأسماء بعد ظهور المعنى

238
وهذا الموضع مما يشتبه على كثير من الناس، فإن التسلسل في الآثار تارة يعنى به التسلسل في أعيان الآثار، مثل كونه فاعلا لهذا بعد هذا، ولهذا بعد هذا، وأنه لا يفعل هذا إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد هذا، وهلم جرا، فهذا التسلسل جائز عند الفلاسفة، وعند أئمة أهل الملل، أهل السنة والحديث.
/ وعلى هذا التقدير فقول القائل: الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري في العالم إما أن تكون بأسرها أزلية، وإما أن لا تكون، أتريد به التي يتم بها مؤثريته في كل واحد واحد من آحاد العالم؟ أو في جملة العلم؟

239
وأما إن أريد بالتسلسل في الآثار التسلسل في جنس التأثير، وهو أن يكون جنس التأثير متوقفا على جنس التأثير بحيث لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا، فهذا باطل لا ريب فيه، وهو تسلسل في تمام كون المؤثر مؤثرا، وهو من جنس التسلسل في المؤثر.
لكن بطلان هذا يستلزم أنه لم يفعل بعد أن لم يكن فاعلا لشيء، فيلزم دوام نوع الفاعلية، لا دوام مفعول معين، وحينئذ فلا يدل على قدم شيء من العالم، وهذا بين لمن تدبره.
ويراد بالتسلسل معنى ثالث، وهو أن فاعليته للحادث المعين لا تحصل حتى يحصل تمام المؤثر لهذا الحادث المعين، فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد، وهذا ممتنع أيضا باتفاق العقلاء.

240
وبما ذكرناه من الفرق بين التسلسل في أصل التأثير وتمامه وبين التسلسل في الآثار يظهر صحة الدليل الذي احتج به غير واحد من أئمة السنة على أن كلام الله غير مخلوق، مثل سفيان بن عيينة.
وبيان ذلك أنه إذا دل على أن الله لم يخلق شيئا إلا بكن، فلو كانت كن مخلوقة لزم أن يخلق بكن أخرى، وتلك الثانية بثالثة، / وذلك هو من التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء، فإنه تسلسل في أصل التأثير، فإنه لا يخلق شيئا إلا بكن، فإذا لم يخلق كن لم يخلق شيئا، ولو خلق كن لكان قد خلق بعض المخلوقات بغير كن فيلزم الدور الممتنع، وهو المستلزم للجمع بين النقيضين، وهو أن تكون موجودة معدومة.

242
وقد بين في غير هذا الموضع أن تسلسل العلل والمعلولات ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء، وكذلك تسلسل الفعل والفاعلين، والخلق والخالقين، فيمتنع أن يكون للخالق خالق، وللخالق خالق إلى غير نهاية.

245
وهؤلاء فروا من حدوث الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب، وادعوا دوام حدوثها بلا سبب، فكان الذي فروا إليه شرا من الذي فروا منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار.

249
كل طائفة أقامت برهانا على بطلان قول الأخرى، لا على صحة قولها، إذ لا يلزم من بطلان أحد القولين صحة الآخر، إلا إذا انحصر الحق فيهما، وليس الأمر كذلك.

252
ومنشأ ضلال هاتين الطائفتين هو نفي صفات الله وأفعاله القائمة بنفسه، فإنهم لما نفوا ذلك ثم أرادوا إثبات صدور الممكنات عنه، مع ما يشاهدون من حدوثها، لم يبق هناك ما يصلح أن يكون هو المرجح لوجود الممكنات إلا لما شوهد حدوثها منها ولا لغير ذلك.
وصارت المتفلسفة تحتج على هؤلاء المتكلمة بالحجج التي توجب تناقض قولهم، فيجيبونهم بما يتضمن الترجيح بلا مرجح

245
الإشارات التي هي مصحف هؤلاء الفلاسفة

257
والقائلون بالقدماء الخمسة كديمقراطيس ومن اتبعه، كابن زكريا الطبيب الملحد، يقولون بقدم الباري والنفس والمادة والدهر والخلاء.

260
والرازي قد ذكر في شرح الإشارات من كتبه أن هؤلاء يقولون إن الباري هو الواجب بذاته، وأن النفس وغيرها معلولة له. وذكر هنا / عنهم أنهم يصفون الجميع بوجوب الوجود، وهذا تناقض في نقل أقوالهم.

262
فنقل الرازي لمقالة أهل الملل، كنقل ابن سينا لمقالات الفلاسفة. فكلا الرجلين لم يذكر في هذا المقام أقوال أئمة الفلاسفة المتقدمين الأساطين، ولا أقوال الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم من الصحابة والتابعين كأئمة المسلمين وعلماء الدين

268
فإن حجة القائلين بقدم العالم التي اعتمدها أرسطوطاليس وأتباعه كالفارابي وابن سينا وأمثالهما، لا تتم إلا بنفي أفعال الرب القائمة بنفسه، بل وتبقى صفاته [كذا والصواب وبنفي]

268
ولهذا كان مآل القائلين بنفي أفعال الرب الاختيارية القائمة به في مسألة قدم العالم إما إلى الحيرة والتوقف، وإما إلى المعاندة والسفسطة، فيكونون إما في الشك وإما في الإفك، ولهذا كان الرازي يظهر منه التوقف في هذه المسألة في منتهى بحثه ونظره، كما يظهر في المطالب العالية، أو يرجح هذا القول تارة كما رجح القدم في المباحث المشرقية، وهذا تارة، كما يرجح الحدوث في الكتب الكلامية.

272
ما بعد الطبيعة
ثابت بن قرة

275
ثم هذه طريقة أرسطو وأتباعه المشائين: مضمونها أن كل جسم لا يتقوم إلا بطبيعته، ولا تتقوم طبيعته إلا بحركة إرادية، ولا تتقوم تلك إلا بمحبوب معشوق لا يتحرك، ثم إن أرسطو أورد على نفسه سؤالا بأنه يمكن تقدير بطلان طبيعة الجسم الخاصة وبطلان حركته، بانحلاله إلى شيء أبسط منه، فلا يكون المحرك علة لذاته، بل علة للتركيب فقط.
وأجاب بأن البسيط إنما يوجد في الذهن لا في الخارج، وأجاب أتباعه بجواب ثان، وهو أنه يكون فيما انحل إليه قبول والقبول حركة.
وهذا الجواب ساقط، فإنه إذا قدر أن فيه قبولا، لم يجب أن يكون ذلك حركة إرادية شوقية، وإذا لم تكن الحركة إرادية شوقية لم يستلزم وجود محبوب، بل يستلزم وجود فاعل مبدع، وهم لم يثبتوا ذلك.

276
وهذا مقام يتبين فيه جهل هؤلاء القوم وضلالهم، لكل من تدبر نصوص كلامهم الموجود في كتبهم، الذي نقله أصحابه عنهم، فإنا نحن لا نعرف لغة اليونان، ولم ينقل ذلك عنهم بإسناد يعرف رجاله، ولكن هذا نقل أئمة أصحابهم الذين يعظمونهم ويذبون عنهم بكل طريق، وقد نقلوا ذلك إلينا وترجموه باللسان العربي، وذكروا أنهم بينوه وأوضحوه وقدروه وقربوه إلى أن تقبله العقول ولا ترده، فكيف إذا أخذ كلام أولئك على وجهه؟ فإنه يتبين فيه من الجهل بالله أعظم مما يتبين من كلام المحسنين له.

276
ولهذا يوجد لابن سينا من الكلام ما هو خير من كلام ثابت بن قرة، ويوجد لأبي البركات صاحب المعتبر من الكلام ما هو خير من كلام ابن سينا، وكلام أرسطو نفسه دون كلام هؤلاء كلهم في الإلهيات.


283
ثم إذا قيل: إنه محب لشيء منفصل عنه، لزم احتياجه إلى المحبوب، وأما كون مجرد المحبوب هو المبدِع له، الموجب لذاته وصفاته من غير اقتضاء ولا إيجاب ولا إبداع من المحبوب، بل لمحض كونه محبوبا – فهذا مما يعرف ببديهة العقل فساده.
وهم وكل عاقل يفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلة، فالمحبوب يقتضي ثبوت العلة الغائية، ولا بد من علة فاعلية

283
قال ثابت بن قرة: وأرسطوطاليس ينكر هذا الرأي المجدد. والظن الذي يظنه كثير من الناس من أنه يلزم من رأي أرسطو: أن العالم أبدي، أن يكون غير معلول في جوهره لعلة خارجة عنه – ظن كاذب.

290
فيلزم أنه [أي الخالق] كان صانعا بالقوة، ثم صار صانعا بالفعل، من غير سبب خارج عنه، إذ الخارج عنه كله على هذا التقدير ممكن مفعول له، ففعله له لو توقف على تأثير فيه لزم الدور.

290
ثم من جوز أن يوجد الممكن بلا فاعل، فلأن يجوز تغير الواجب أولى وأحرى، لأن هذا فيه مصير ما ليس بشيء شيئا من غير فاعل، فلأن يصير شيئا بفاعل متغير أولى وأحرى.

294
ويقال لك ثانيا: إن كان مجرد الإمكان موجبا لكون الممكن مقارنا للواجب لزم أن يكون كل ما يمكن وجوده أزليا، وهذا مكابرة للحس والعقل.

301
فأنتم [الفلاسفة] بين أمرين: إما سلب الإرادة عن العالم القديم، وإما إثباتها للأول القديم. وأيهما قلتم بطل قولكم ببطل قولكم

302
يبين ذلك أن الحركة ثلاثة: الطبيعية والقسرية والإرادية، فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية لا تكون إلا إذا خرج الجسم عن مركزه، فيميل بطبعه إلى مركزه، فكلاهما عارضة، وإنما الحركة الأصلية هي الإرادية.

313
ويقال للذهب: قاتول [كذا]

334
فمن كان له نظر ثاقب في هذه الأمور عرف حقيقة الأمر، ومن كان لا يفهم بعض الدقيق من كلامهم، كفاه أن يعلم أن هؤلاء النظار يقدح بعضهم في أدلة بعض، وأنهم لم يتفقوا على مقدمتين عقليتين، ولا مقدمات ولا مقدمة واحدة يمكن أن يستنتج منها دليل عقلي، يصلح لمعارضة أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن اتفقوا على مطلوب كاتفاق طائفة من أهل الكلام وطائفة من أهل الفلسفة على نفي العلو مثلا – فهؤلاء يثبتون ذلك وينفون التجسيم بدليل الأعراض، والآخرون يطعنون في هذا الدليل ويثبتون فساده في العقل، وهؤلاء يثبتون ذلك بدليل نفي التركيب العقلي، وأولئك يثبتون فساد هؤلاء، فصار هذا بمنزلة من ادعى حقا وأقام عليه بينتين، وكل بينة تقدح في الأخرى، وتقول: / إنها كاذبة فيما شهدت به، وتبدي ما يفسد شهادتها، وأنها غير صادقة، فلا يمكن ثبوت الحق بذلك، لأنا إن صدقنا كلا منهما فيما شهدت به من الحق وفي فسق أولئك الشهود لزم أن لا تقبل شهادة أولئك الشهود، فلا تقبل شهادة لا هؤلاء ولا هؤلاء، فلا يثبت الحق. وإن عينا إحدى البينتين بالقبول أو قبلنا شهادتهما في الحق دون جرح الأخرى، كان تحكما.

338
قلت: المعلوم بنفسه أنه لا يكون المفعول الواحد بعينه فعلا لفاعلين على سبيل الاستقلال ولا التعاون، ولا يكون المعلول الواحد بالعين معلولا لعلتين مستقلتين ولا متشاركتين، وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء بعد تصوره

341
ولهذا منع في شريعتنا من إضافة الرب إلى المكلفين، كما قال صلى الله عليه وسلم : لا يقل أحدكم اسق ربك أطعم ربك.
/ بخلاف إضافته إلى غير المكلفين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجشمي: أرب إبل أنت أم رب شاء؟ وقولهم: رب الثوب والدار.

344
وأن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم، ولا أثبت أحد إلهين متماثلين، ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال، ولا أثبت أحد قديمين متماثلين، ولا واجبي الوجود متماثلين.

346
لكنهم [الثنوية] جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين، فجعلوه فاعلا لأصل الشر، ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص، وجعلوها سببا لحدوث أصل الشر.

346
ولذلك من قال من الملاحدة كمحمد بن زكريا الرازي الطبيب / وأمثاله الذين اتبعوا قول طائفة من الملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة التي هي: واجب الوجود، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء، وأن سبب حدوث العلم أن النفس تعلقت بالهيولى، فلم يمكن واجب الوجود أن يخلصها منها حتى تمتزج بالعالم، فتذوق ما فيه من الشرور.

349
فإن اختلاف الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحدا والعالم واحدا
[المحقق: في الأصل: واحد، وهو خطأ]
[قلت: بل هو الصواب]

354
قلت: بل الذي ذكره النظار عن المتكلمين، الذي سموه دليل التمانع، برهان تام على مقصودهم. وهو امتناع صدور العالم عن اثنين، وإن كان هذا هو توحيد الربوبية.

357
كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجده هذا، ولا يوجد هذا حتى يوجده الآخر، فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل، ولم ينازع العقلاء في امتناع ذلك، وهذا يسمى الدور القبلي.
بخلاف ما إذا قيل: لا يكون هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، كالأمور المتلازمة، فإن هذا يسمى الدور المعي الاقتراني.
وذلك جائز، كما إذا قيل: ذات الرب لا تكون إلا مع صفاته اللازمة لها، وصفاته اللازمة لها لا تكون إلا مع ذاته

369
فإن الشريكين قد يتهابّان بالمكان وقد يتهابّان بالزمان.
[المحقق: يتهابان كذا بالأصل، ولم أدر ما المقصود بذلك]

373
والحركات ثلاثة: طبيعية وقسرية وإرادية

376
فيمتنع أن يكون المرادَيْن [كذا] مستقلين بالإرادة

377
ولكن أهل الكلام الذين ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية، وهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء، اعتقدوا أن الإله بمعنى الآلِه، اسم فاعل، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع، كما يقوله الأشعري وغيره، ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع.

393
وقوله [ابن رشد] إنما أتى هذا من قياس الغائب على الشاهد [يعني وهو باطل]
فيقال: جميع ما تذكره أنت وأصحابك والمتكلمون في هذا الباب، لا بد فيه من مقدمة كلية تتناول الغائب والشاهد، ولولا ما يوجد في الشاهد من ذلك، لما تصور من الغائب شيء أصلا، فضلا عن معرفة حكمه، فإن أبطلت هذا بطل جميع كلامكم.

397
وأما ما ذكره من أن الفلاسفة لا يقولون: إنه لا يعلم الجزئيات بل يرون أنه لا يعلمها بالعلم المحدث، وإنكاره أن يكون المشاؤون من الفلاسفة ينكرون علمه بجزئيات العالم، فهذا يدل على فرط تعصبه لهؤلاء الفلاسفة بالباطل، وعدم معرفته بحقيقة مذهبهم، فإنه دائما يتعصب لأرسطو، صاحب التعاليم المنطقية والإلهية

410
ولهذا يقول بعض الناس ويحكونه عن علي: قيمة كل امرئ ما يحسن، ولا يصح هذا عن علي. ويقول أهل المعرفة: قيمة كل امرئ ما يطلب.
فكمال النفوس ونقصها بمرادها، أعظم من كمالها ونقصها بمعلومها.
بل نفس العلم بأي معلوم كان لا يوجب لها نقصا، وأما إرادة بعض / الأشياء فيوجب لها نقصا، فإذا كان فعله لكل ما في الوجود لا يوجب له نقصا، فكيف بعلمه بذلك؟ وإذا كان فعله لها لا يوجب كونه محتاج إليها مستكمَلا بها، فكيف يوجب ذلك علمه بها؟

411
ونحن نعلم أن كون الفاعل لا يفعل بعض الأشياء أكمل من فعلها، وأما كونه لا يعلمها [كذا والصواب حذف لا] فلا يعقل كونه نقصا، إلا إذا اقترن بالعلم ما يذم، لا أن نفس العلم يذم

414
ولكن النفوس الظالمة إذا علمت بعض الأشياء فقد تستعين بالعلم على الظلم، والنفوس الجاهلة به إذا عرفت بعض الحقائق، فقد يضرها معرفة تلك الحقائق، فيحصل الضرر لما في النفوس من الشر.

424
[أبو البركات] ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه، بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته

427
[أبو البركات] وأعجب من هذا قوله [أرسطو] بأنه يتعب، حيث قال: وإذا كان هذا هكذا لا محالة إنه يلزمه الكلال والتعب من اتصال المعقولات، وهو القائل في كتاب السماء إنها لا تتعب بدوام حركتها / المتصلة، لأن طبعها لا يخالف إرادتها، فجعل علة التعب هناك مخالفة الطبيعة للإرادة، وهاهنا كثرة الأفعال واتصالها، وكثرة الخروج من القوة إلى الفعل.
والقوة قوتان: استعداد وقدرة، والاستعداد إذا كمل بالخروج إلى الفعل صار قدرة، ثم عن القدرة تصدر الأفعال، والتي بمعنى الاستعداد نقص يفتقر إلى كمال، والأخرى كمال تصدر عنه الأفعال. فهذه القوة من قبيل القدرة الدائمة القارة على حد لا ينقص ولا يزيد، وليست بمعنى الاستعداد الذي يخرج إلى الكمال.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد التاسع بحمد الله]

أبو مالك العوضي
2009-01-23, 01:18 AM
[المجلد العاشر]

7
[أبو البركات] وأما كونها عارضا لها أن تعقل، وإلزامه منه أنه لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته، فكأنه [من] مدح الشعراء، أو من / كلام محسني الألفاظ بالتخيلات من الخطب والمدائح، وإلا فما معنى (من جميع جهاته)؟

10
[أبو البركات] فقد أجبنا عنه في جواب كلام أرسطوطاليس ولم يبعد، فتحسن إعادته
[كذا والصواب وضع الفاصلة قبل ولم يبعد]

12
وهذا كما يقولونه في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع المعنى الذي عناه المتكلم، ودلالة التضمن دلالة اللفظ على ما هو داخل في ذلك المعنى، ودلالة الالتزام دلالة اللفظ على ما هو لازم لذلك المعنى خارج عن مفهوم اللفظ.

20
ومعلوم أن كون الرب بكل شيء عليما، هو أظهر في الأدلة الشرعية والعقلية من كونه لا تقوم به الأمور المتجددة، فلو قدر أن لهذا أدلة تعارض تلك، وكان ثبوت العلم مستلزما لثبوت الأمور المتجددة للزوم القول بثبوت العلم، فإن ثبوت العلم حق، ولازم الحق حق، فكيف إذا كان ما يمنع الأمور المتجددة إنما هو من أضعف الأدلة؟

21
لكن ما كان لا يمكن وجوده إلا باختياره من الأفعال ولوازم الأفعال، فهذا يمتنع كونه بعينه أزليا، بل يجب تأخره سواء قيل إنه عالم بذاته أو قيل إنه منفصل عنه، وهو الموجب له عند وجوده، لا موجب له غيره.

25
وحينئذ فإذا قيل: جنس الفعل لازم، وإنما الحادث أعيانه.
كان أن يقال: جنس العلم لازم بطريق الأولى والأحرى.

28
أهل الأرض من المسلمين وغيرهم لهم في تنزيه الرب عن بعض الأفعال قولان مشهوران:
فطائفة تقول: ليس في فعله لشيء من الممكنات نقص، والظلم لا حقيقة له إلا ما هو ممتنع، بل كل ممكن ففعله جائز عليه، وإن لم يفعله فلعدم مشيئته له، لا لكونه نقصا.
وهذا قول الجهمية والأشعرية وطوائف من الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم. وعلى هذا لا يسلم هؤلاء أن إثبات شيء من الأفعال لواجب الوجود نقص، وإذا منعوا هذا في الفعل ففي العلم أولى وأحرى.
والقول الثاني: قول من يقول: بل هو منزه عن بعض الأفعال المقدورة، وهذا قول أكثر الناس من المثبتين للقدر، كالكرامية وغيرهم من المعتزلة وغيرهم نفاة القدر، وهو قول كثير من أهل المذهب الأربعة وأهل الحديث والصوفية والعامة وغيرهم.

33
وإنما منع [ابن سينا] حلول الحوادث به لكونه يمنع قيام الصفات، أو أن يقول بما ذكر عن أرسطو من أن ذلك يوجب تعبه وكلاله، وكل ذلك فضيحة من الفضائح، ما يظن بأضعف الناس عقلا أن يقول بمثل ذلك.
ولولا أن هذا نقل أصحابهم عنهم في كتبهم المتواترة عنهم عندهم، لاستبعد الإنسان أن يقول معروف بالعقل مثل هذا الهذيان.

39
ثم إن الطوسي في شرحه قرر ما ذكره الرازي وزاد عليه، هذا مع كثرة مناقضته للرازي وحرصه على ذلك وعلى نصر ابن سينا

44
قلت: فليتدبر العاقل الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل، وما قاله غيرهم، كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته [الطوسي]، وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى. لما كان ابن سينا – وهو أفضل متأخريهم – قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح، مع موافقته للنقل الصحيح، فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصارا لطائفته الملاحدة، فقال في الكلام الذي عظَّم قدره وتبجح به، ما يظهر / لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدميين، وأشبه الأشياء بأقوال المجانين.
ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها، لما ألحدت في صفات الله تعالى، وأرادت نصر التعطيل، وقعت في هذا الجهل الطويل.
فجعل [الطوسي] نفس الحقائق المعلومة الموجودة المباينة للعالم، هي نفس علم العالم بها، ولا ريب أن هذا أفسد من قول من جعل العلم نفس العالم، كما يقوله طائفة من النفاة، كابن رشد ونحوه، وقول أبي الهذيل خير منه.

51
والفلاسفة مع سائر العقلاء متفقون على هذا، ويقولون: أول الفعلة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك، ويقولون: العلة الغائية هي أول في التصور آخر في الوجود.

56
ولقد قدر [كذا والصواب ولو قدر] أنه لم تنحل هذه الشبهة، فنحن نعلم علما ضروريا أن هذا سفسطة، وأن من جعل نفس المعلوم الموجود المخلوق، هو نفس علم العالم به، فهو مكابر جاحد للخالق.

59
وهذا الطوسي وأمثاله هم الجهمية النفاة المتفلسفة الملاحدة. وهو في التعطيل شر من المعتزلة وغيرهم.
وكذلك ابن سينا وأمثاله هم من أتباع الملاحدة النفاة. وكان هذا الطوسي من أعوان الملاحدة الذين بالألموت، ثم صار من أعوان المشركين الترك، لما استولوا على البلاد.
وكذلك ابن سينا، وقد ذكر سيرته فيما ذكره عنه أصحابه، فذكر أن أباه كان بلخيا وأنه تزوج بقرية من قرى بخارى، في أيام نوح بن منصور، بامرأة منها فولد بها، وأنهم انتقلوا إلى بخارى. .... [إلخ]

61
ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين – بني عبيد الباطنية – كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقا وإلحادا في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم نسبا ودينا، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل.

63
وهذا أمر معلوم بالضرورة واتفاق العقلاء، لكن هؤلاء القوم يدعون أن علم الله بالأشياء بلا علم يقوم به، ويسمونه عاقلا، ويفرقون بين عقل وعقل، مع جعل العقل جنسا واحدا، وهو تناقض بين، وقول بلا علم، بل مما يعلم بطلانه.

73
ولفظ العلة فيه اشتراك كثير بحسب اصطلاحات الناس، ينبغي لمن خاطب به أن يعرف مقصود المخاطب به. فقد رأيت مِن / غلط الناس بسبب اشتراك هذا اللفظ لتعدد الاصطلاحات فيه، ما لا يمكن إحصاؤه هاهنا.

93
إما أن يقولوا: ليس قائما بنفسه إلا الجسم، كما يقوله ابن حزم وغيره.
[المحقق: في الأصل قائم، وهو خطأ]
[قلت: بل هو صواب مبتدأ نكرة موصوفة، والمراد واضح به]

97
وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول، وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض، فإن هذا يؤنس نفوسا كثيرة، قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك.

107
ولهذا يقال: للشيء وجود في الأعيان، وفي الأذهان، وفي اللسان، وفي البنان، ووجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي.
[الأعيان: عيني، والأذهان: علمي، واللسان: لفظي، والبنان: رسمي]

109
ويعرض للممرورين وغيرهم من التخيلات الباطلة ما يطول وصفه
[لم يشرحها المحقق، والممرور من تغلب عليه المرة]

112
لكن إذا سمي علميا انفعاليا فلا بأس، فإنه علم حادث. وأما علم الرب تعالى فإنه من لوازم نفسه المقدسة لم يحدث، فليس انفعاليا بهذا الاعتبار
[كذا والصواب إذا سمي علمنا]

119
فإن هذه اللوازم عند نظار المسلمين كلها صفات ذاتية، فإنهم لا يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين الذاتي المقوم والعرضي الخارج، بل الجميع عندهم ذاتي. بمعنى أنه لازم لذات الموصوف، لا تتحقق الذات إلا بتحققه.

121
ولهذا لما تكلم الناس في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، فاعتبر بعضهم اللزوم مطلقا، واعتبر بعضهم اللزوم الذهني، قالوا: لأن اللزوم الخارجي لا نهاية له، لأن للازم لازما، وللازم لازما، فلفظ البيت إذا دل على الحيطان والأرض والسقف بالمطابقة، وعلى بعض ذلك بالتضمن، فهو مستلزم للأساس، ولأساس الأساس، وللصانع، ولأب الصانع، ولأب أبيه، ولصانع الآلات، وأمور أخر، فيجب اعتبار اللزوم الذهني.
فيقال لهم: اللزوم الذهني ليس له ضابط، فإنه قد يخطر لهذا من اللوازم ما لا يخطر لهذا.
فإن قلتم: كل ما خطر للمستمع لزومه، فقد دل اللفظ عليه باللزوم وإلا فلا.
قيل لهم: فحينئذ يخطر له لزوم هذا، ثم لزوم هذا، ويلزم ما ذكرتم من التسلسل فلا فرق.
/ وحينئذ فالتحقيق أن كلا اللزومين معتبر، فاللزوم الخارجي ثابت في نفس الأمر، وأما معرفة المستمع به فموقوف على شعوره باللزوم، فمهما شعر به من اللوازم استدل عليه باللزوم، وليس لذلك حد، بل كل ملزوم فهو دليل على لازمه لمن شعر بالتلازم.
وهذا هو الدليل، فالدليل أبدا مستلزم للمدلول من غير عكس، وليس المراد بدلالة الالتزام أن المتكلم قصد أن يدل المستمع بها، فإن هذا لا ضابط له، بل المراد أن المستمع يستدل هو بثبوت معنى اللفظ على ثبوت لوازمه، وهي دلالة عقلية، تابعة للدلالة الإرادية، وجعلت من دلالة اللفظ لأنه دل على اللازم، بتوسط دلالته على الملزوم.
وفي الجملة فكل دليل في الوجود هو ملزوم للمدلول عليه، ولا يكون الدليل إلا ملزوما، ولا يكون ملزوم إلا دليلا، فكون الشيء دليلا وملزوما أمران متلازمان، وسواء سمي ذلك برهانا أو حجة أو أمارة أو غير ذلك.

129
فينبغي تدبر هذه المعاني الشريفة، فإنه يبين كثرة الطرق البرهانية الدالة على علمه سبحانه، بخلاف من يقول: لا يمكننا إثبات علمه إلا بطريق الإرادة ونحو ذلك.
وهكذا كلما كان الناس أحوج إلى معرفة الشيء، فإن الله يوسع عليهم دلائل معرفته، كدلائل معرفة نفسه، ودلائل نبوة رسوله، ودلائل ثبوت قدرته وعلمه، وغير ذلك، فإنها دلائلا كثيرة قطعية، وإن كان من الناس من قد يضيق عليه ما وسعه الله على من هداه، كما أن من الناس من يعرض له شك وسفسطة في بعض الحسيات والعقليات، التي لا يشك فيها جماهير الناس.

140
وكون ابن سينا خالفهم [الفلاسفة] في هذا هو من محاسنه وفضائله التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحسانا منه في هذا الباب.
فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره، كان ذلك مما يفضل به ويمدح، وهو لم يقل: إن عقله لنفسه مستلزم لغيره، بل قال: يستلزم عقله لمفعولاته كما تقدم.

143
ولا ريب أن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل، وفيه خطأ كثير، بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير وصوابه فيه كثير.

146
وموجب الدليل شيء، وفساد الدليل شيء آخر. فمطالبته بموجب دليله الصحيح هو الصواب، دون القدح في دليله الصحيح.

157
ولفظ (ذات) لفظ مولد، وهو تأنيث ذو، ومعنى ذات: أي ذات علم، وذات قدرة، وذات حياة.
فتقدير ذات بلا صفات، تقدير المضاف المستلزم للإضافة بدون الإضافة.
ولهذا أنكر طائفة من أهل العربية كابن برهان والجواليقي النطق بهذا اللفظ، وقالوا: هذا مؤنث، والرب لا يجري عليه اسم مؤنث، ولكن الذين أطلقوه عنوا به نفسا ذات علم، أو حقيقة ذات علم.

169
وخسوف القمر لا يكون إلا في الليالي البيض
[المحقق: في الأصل: ليالي وهو تحريف]
[قلت: بل هو صواب مسموع نحوه كثيرا عن العرب]

172
ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية، مثل إيجاب الزكوات، وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به ونهيه عما نهاه الله عنه، إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية، وإلا فمجرد العلم بها لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور، إلا بعلم معين، بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخل فيما نهى الله عنه، وهذا الذي يسمى تحقيق المناط.

185
والحجج العقلية إنما تعتبر فيها المعاني لا الألفاظ، والحجج السمعية يعتبر فيها كلام المعصوم

188
فأحد الأمرين لازم:
/ إما أن العلم بالعلة التامة لا يستلزم العلم بالمعلول، وإلا فلا يكون عالما علما تاما بالعلة التامة.
وكلا المقدمتين يسلمون صحتها، فكيف يجوز أن يسلم هاتين المقدمتين اللتين يقوم عليهما البرهان اليقيني، من ينازع في نتيجتهما اللازمة عنهما بالضرورة؟! وهل هذا إلا جهل بموجب البرهان القياسي في ذلك الذي هم دائما يقررونه مادة وصورة؟!

201
امتلأ الحوض وقال قطني
قطني رويدا قد ملأت بطني
وقالت: اتساع بطنه.
وقال الحائط للوتد: لم تشقني؟
[يراجع!]

222
فهذه لوازم المذهب [الأشعري] الذي قد يُستدل بها، إن كانت لازمة، على فساده، وليس كل من قال قولا يلتزم لوازمه.

222
والناس لهم في الكلام ثلاثة أقوال: هل هو اسم اللفظ والمعنى جميعا؟ كما هو قول الأكثرين، أم للفظ فقط بشرط دلالته على المعنى؟ كقول المعتزلة وكثير من غيرهم، أو للمعنى المدلول عليه باللفظ، كقول الكُلاَّبية؟ ومن متأخريهم من جعله مشتركا بينهما اشتراكا لفظيا.
وأما المتكلم ففيه أيضا ثلاثة أقوال: أحدها أنه من فعل الكلام، ولو في غيره، كما يقوله المعتزلة. والثاني: من قام به الكلام، وإن لم يفعله، ولم يكن مقدورا مرادا له، كما يقوله الكلابية. والثالث: من جمع الوصفين فقام به الكلام وكان قادرا عليه.
ولا ريب أن جمهور الأمم يقولون: لا يكون متكلما إلا من قام به الكلام، كما لا يكون متحركا إلا من قامت به الحركة، ولا عالما إلا من قام به العلم، ونحو ذلك. لكن الكلابية اعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث، فامتنع لهذا عندهم أن يكون الكلام مقدورا له مرادا. قالوا: لأن المقدور المراد حادث لا يكون صفة لازمة له.

223
وأعظم ما شنع الناس به في الصفات على المعتزلة قول رئيسهم أبي الهذيل، قوله: إن الله عالم بعلم هو ذاته، وليست ذاته علما.

228
[ابن رشد] فالذي ينبغي أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها دون / تفصيل الأمر فيها، فإنه ليس يمكن عند الجمهور أن يحصل في هذا يقين أصلا.
وأعني هنا بالجمهور كل من لم يُعْنَ بالصنائع البرهانية. وسواء كان قد حصلت له صناعة الكلام أو لم تحصل له، فإنه ليس في قوة صناعة الكلام الوقوف على هذا القدر من المعرفة، إذ أعلى مراتب [صناعة] الكلام أن يكون حكمة جدلية لا برهانية، وليس في قوة صناعة الجدل الوقوف على الحق في هذا.

231
فمن قال: إن هذه الأسماء الحسنى لا تدل على هذه المعاني، فهو مكابر للغة التي نزل بها القرآن، فإن الأسماء التي تسميها النحاة اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المعدولة عنها كفعيل وغيره – هي أسماء مشتقة تتضمن المصادر، بخلاف رجل وفرس.

233
وصفاته اللازمة له كلها نفسية، بمعنى أنها داخلة في مسمى أسمائه، لا يفتقر إلى أمور مباينة له، وهي لازمة لنفسه لا يوجد بدونها، ولا يمكن وجوده منفكا عنها.

234
وإذا قالوا [الأشعرية] هو عالم بالعلم وقادر بالقدرة، لم يريدوا بذلك أن هنا ذاتا منفصلة عنه، صار بها عالما قادرا، كما يظنه بعض الغالطين عليهم، فإن هذا لم يقله أحد من عقلاء بني آدم فيما نعلم، ولكن بعضهم وهم مثبتة الحال كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما يقولون: إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما، وكونه عالما حال معللة بالعلم.

236
وأيضا فأنت [ابن رشد] تقول: إن الشرع لم يصرح بنفي التجسيم، وإن التصريح به بدعة. والشرع قد صرح بإثبات الصفات، فكيف تعيبنا [الأشعرية] بإثبات ما أثبته الشرع، لكونه مستلزما لإثبات ما لم ينفه الشرع؟
ومن المعلوم أن الشرع إذا أثبت شيئا له لوازم، لم يكن إثبات ذلك بدعة. وتلك اللوازم إن كانت ثابتة في نفس الأمر، فلازم الحق حق، وإن لم تكن لازمة فلا محذور.

237
أدلة إثبات الصفات أقوى من أدلة نفي الجسم، فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا لم يجز نفي ما هو معلوم ثابت خوفا من لزوم ما ليس دليل انتفائه كدليل ثبوت ذلك

239
من المعلوم أن للناس في مسمى الجوهر والعرض اصطلاحات. منهم من يسمي كل قائم بنفسه جوهرا، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين والنصارى والفلاسفة، وهؤلاء يسمونه جوهرا. ومنهم من لا يطلق الجواهر إلا على المتحيز، ويقول: إنه ليس بمتحيز، فلا يكون جوهرا، كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي المسلمين واليهود والفلاسفة.
ومن الفلاسفة من يقول بإثبات جواهر غير متحيزة، لكن يقول: الجوهر هو ما إذا وجد وجد لا في موضوع، وهذا لا يصلح إلا لما يجوز وجوده، لا لما يجب وجوده.
وبالجملة فالنزاع في هذا الباب لفظي، ليس هو معنى عقليا، والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم وأمثاله، لا بنفي ولا بإثبات، فليس له في الشريعة ذكر حتى يحتاج أن ينظر في معناه.
والنظر العقلي إنما يكون في المعاني لا في مجرد الاصطلاحات، فلم يبق فيه بحث علمي: لا شرعي ولا عقلي.

240
فلا يجوز التزام نفي الصفات الذي فيه مناقضة الأدلة الشرعية والعقلية حذرا من التزام مسمى هذا الاسم الذي لا يقوم على نفيه من الدليل شيء من أدلة إثبات الصفات

242
وإذا قُدِّر أنه عنى بالبرهان القياس العقلي المنطقي، فمن المعلوم أن صورة القياس لا تفيد العلم بمواده، والبرهان إنما يكون برهانه بمواده اليقينية وإلا فصورته أمر سهل يقدر عليه عامة الناس.
وأهل الكلام لا ينازعون في الصورة الصحيحة. وهب أن الإنسان عنده ميزان، فإذا لم يكن معه ما يزن به، كان من معه مال لم يزنه / أعنى [كذا والصواب أغنى] من هذا

250
وذلك لأنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة، فإن الجسم في اللغة هو البدن، وهؤلاء يسمون كل ما يشار إليه جسما، فلزم على قولهم أن يكون ما جاء به الكتاب والسنة وما فطر الله عليه عباده وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها تجسيما، وهذا لا يختص طائفة لا الحنابلة ولا غيرهم، بل يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة على أتباع السلف كلهم، حتى يقولوا في كتبهم: ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى مالك بن أنس، ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى الشافعي.
[قاله أبو حاتم بن حمدان الرازي في كتاب الزينة]

255
وهؤلاء [الفلاسفة] من أصول ضلالهم ما في لفظ (العلة) من الإجمال، فإن لفظ (العلة) كثيرا ما يريدون به ما لا يكون الشيء إلا به، فتدخل في ذلك العلة الفاعلة، والقابلة والمادة والصورة.
وكثيرا ما يريدون بذلك الفاعل فقط، وهو المفهوم من لفظ / العلة.

256
وإلا فالصواب عند أهل السنة والجماعة أن وجود كل شيء وهو الوجود الذي في الخارج هو عين حقيقته الموجودة في الخارج، فكل موجود فله حقيقة مختصة به في الخارج عن الذهن، والوجود الذي يشار إليه في الخارج هو تلك الحقيقة نفسها، لا وجود آخر قائم بها.

258
ومن الحنابلة من يصرح بنفيه [لفظ الجسم] كأبي الحسن التميمي وأهل بيته، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، وغيرهم ممن سلك مسلك ابن كلاب والأشعري في ذلك، ومنهم من يسلك مسلك المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وغيرهم.

261
ولقائل أن يقول: إن كان هذا المعلوم حقا، فيمتنع أنه لم يعلمه أحد قبل ابن التومرت ممن هو أعلم بالله وأفضل منه
..... وهكذا كل من سلك طريقا في النفي زعم أنه لم يسلكه غيره، فإنه يوجب أن ذلك لم يُعلم قبله، فلا يكون من تقدم من خيار هذه الأمة / معتقدين لهذا النفي، ولو كان حق لاعتقدوه.

263
[ابن رشد] ..... في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنها ملشية [لم يعرفها المحقق، ولعلها من (لا شيء)، أو من (التلاشي)]، واعتقدت التي نفتها في المثبتة أنها مكثرة.

270
وأبو حامد في مواضع يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في (إلجام العوام) و(التفرقة بين الإيمان والزندقة) مبني على هذ الأصل [أصل الفلاسفة في تخييل الرسل!]، وهؤلاء يرون إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها، مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علما ينبغي للعلماء معرفته، وإنما المورث عندهم للعلم الحقيقي هم الجهمية والدهرية ونحوهم من حزب التعطيل والجحود.
وما ذكره هذا في النور أخذه من مشكاة أبي حامد [مشكاة الأنوار] وقد دخل معهم في هذا طوائف ممن راج عليهم هذا الإلحاد في أسماء الله وآياته، من أعيان الفقهاء والعباد.
وكل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك. وهؤلاء كثيرون في المتأخرين، قليلون في السلف. ومن تدبر كلام كثير من مفسري القرآن وشارحي الحديث ومصنفي العقائد النافية والكلام وجد فيه من هذا ما يتبين له به حقيقة الأمر.

276
ولهذا كان حقيقة الأمر أن الحدود المقولة في جواب (ما هو) إنما يحصل بها التمييز بين المحدود وغيره، وأما نفس تصور حقيقته فذاك لا يحصل بالقول والكلام، لا على وجه التحديد ولا غيره، بل بإدراك النفس المحدودة.

277
ولكن لولا القدر المشترك لما كان في الكلام فائدة، ثم القدر المميز يحصل بالإضافة، فيعلم أنه نور ليس كالأنوار، موجود ليس كالموجودين، حي لا كالأحياء.

283
ومن هنا دخل الملحدون من الاتحادية، الذين قالوا بوحدة الوجود، وقالوا: إن الخلق مجالٍ ومظاهر، لأن وجود الحق ظهر فيها وتجلى، فجعلوا نفس وجوده هو نفس ظهوره وتجليه.
ومن المعلوم أن الشيء يكون موجودا في نفسه، ثم يظهر ويتجلى تارة، ويحتجب أخرى، سواء كان تجليه لوجود سبب الرؤية في الرائي، كالأعمى إذا صار بصيرا، أو لزوال المانع في الظاهر، كالحجب المانعة أو لهما جميعا.
وهؤلاء جعلوا وجود الحق في المخلوقات هو نفس ظهوره وتجليه فيها، وسموها مجالي ومظاهر، وذلك لأن حقيقة قولهم إنه ليس موجودا في الخارج، ولكنهم يظنون أنهم يعتقدونه موجودا في الخارج / فإذا شاهدوا الوجود الساري في الكائنات ظهر لهم هذا الوجود وهم يظنونه الله، فسموها مظاهر ومجالي، لأنها أظهرت لهم ما ظنوا أنه الله.

284
وما ذكره هذا الرجل موافقا فيه لصاحب المشكاة أن النور سبب وجود الألوان، وسبب إدراكنا لها، كما أن الله سبب وجود الموجودات، وسبب معرفتنا بها – ليس بمستقيم، فإن الألوان موجودة في نفسها، سواء أدركناها أو لم ندركها، وهي في نفسها مستغنية عن النور، ولكن النور شرط في إدراكنا لها لا في وجودها.

285
ومن هذا الباب قول من جعل المعدوم شيئا ثابتا في الخارج / مستغنيا عن الخالق، ومن جعل الماهيات غير الأعيان الموجودة

286
ولهذا كان الأئمة منهم كالجنيد وأمثاله، يتكلمون بالمباينة، كقول الجنيد: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، وفي كلام الشاذلي والحرالي، بل وابن برجان، بل وأبي طالب وغيرهم من / ذلك ما يعرفه من فهم حقيقة الحق، وفهم مقاصد الخلق.

287
والناس في هذه المسألة على أربعة أقوال:
منهم من يقول بالحلول والاتحاد فقط كقول صاحب الفصوص وأمثاله.
ومنهم من يثبت العلو ونوعا من الحلول وهو الذي يضاف إلى السالمية أو بعضهم وفي كلام أبي طالب وغيره ما قد يقال إنه يدل على ذلك.
ومنهم من لا يثبت لا مباينة ولا حلولا ولا اتحادا، كقول المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم.
والقول الرابع إثبات مباينة الخلق للمخلوق بلا حلول، وهذا قول سلف الأمة وأئمتها.

288
ولهذا كان انقياد القلوب إلى قول الحلولية أقرب من انقيادهم إلى قول نفاة الأمرين. وجمهور الجهمية وعبادهم وصوفيتهم إنما يتكلمون بالحلول، وإلا فالنفي العام لا تقبله غالب العقول، وإنما يقوله من يقوله من متكلمتهم.

298
يبين هذا أن البدن والنفس يؤثر كل منهما في الآخر، والنفس إذا أحبت ورضيت وفرحت وحزنت أثر ذلك في البدن، والبدن إذا سخن أو برد أو جاع أو شبع أثر ذلك في النفس فالتأثير مشترك.

298
[ابن التومرت]

300
ومن المعلوم أن فلسفة اليونان والهند ونحوهم كانت موجودة إذ ذاك [عهد الصحابة] كوجودها اليوم وأكثر، إذ كانت اليونان موجودين قبل مبعث المسيح

302
فلفظ (الهيولى) ونحوها من كلام الفلاسفة ليس غريبا في لغتهم، معناه مثل معنى المحل والموضع ونحو ذلك.
ولفظ العقل والمادة ونحوهما في كلامهم غير معناه عن معناه في لغة العرب، فإنهم يعنون بالعقل جوهرا قائما بنفسه، والعقل في لغة العرب عرض هو علم أو عمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك.
والمادة من جنس الهيولى عندهم.

307
ونفاة الصفات وإن كانوا لا يعتقدون أن ذلك متضمن لنفي الذات، لكنه لازم لهم لا محالة، لكنهم متناقضون

308
وقد ذهبت طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث وغيرهم وفيهم طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما إلى أن النفس صفة من الصفات، والصواب أنها ليست صفة، بل نفس الله هي ذاته سبحانه، الموصوفة بصفاته سبحانه، وذلك لأنه بإضافته إليه قطع المشاركة

313
... من الدين الواجب إذا جاء في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع. فإن معرفة مراد الله ومراد رسوله ومراد أهل الإجماع واجب، لأن قول الله ورسوله وقول أهل الإجماع قول معصوم عن الخطأ يجب اتباعه.

317
فإن الله تعالى إذا أقام لكل طائفة تعارض الرسول من جنسها من يبين فساد قولها المعارض له، ويكشف جهلها وتناقضها – كان بمنزلة أن يقيم لكل طائفة تزيد [كذا ولعل الصواب تريد] محاربته من جنسها من يحاربها بالسلاح. ثم المؤمن المجاهد يمكنه جهاد هؤلاء، كما يمكنه جهاد هؤلاء، ويمكنه أن يستعين بما فعلته / كل طائفة بالأخرى، فإذا أغارت طائفة على أخرى وهزمتها، أتاها من الناحية الأخرى ففتح بلادها، وإن كان هو لم يستعن بأولئك ابتداء، لكن الله يسر بما فيه الهدى والنصر لعباده المؤمنين وكفى بربك هاديا ونصيرا.

[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد العاشر بحمد الله]

[وبهذا تنتهي الفوائد المنتقاة من هذا الكتاب القيم النفيس]

الواحدي
2009-01-29, 11:07 PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
جزاك الله خيرًا أيها المفضال!

* تعليق:

_ 76 (تاسع):
"(...) وليس في قوة صناعة الكلام تلخيص الحق منها."
_ الذي في "الكشف عن مناهج الأدلة": "تخليص الحق منها"

_ 160 (التاسع)
"وهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل، إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة، فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبن، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري".
_ الصواب: "وأبي القاسم ابن التَّبَّان"
التصويب من "الذيل على طبقات الحنابلة" و"سير أعلام النبلاء" وغيره...

_ 263 (العاشر)
[ابن رشد] ..... في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنها ملشية [لم يعرفها المحقق، ولعلها من (لا شيء)، أو من (التلاشي)]، واعتقدت التي نفتها في المثبتة أنها مكثرة.

_ والصواب: مُلَيِّسة، من ليس؛ والليس (النفي) ضد الأيس (الإثبات).
والتصويب من "الكشف عن مناهج الأدلة" (طبعة مركز دراسات الوحدة العربية).
والله أعلم.

الواحدي
2009-01-30, 03:43 AM
_ 201 (العاشر)
امتلأ الحوض وقال قطني
قطني رويدا قد ملأت بطني
وقالت: اتساع بطنه.
وقال الحائط للوتد: لم تشقني؟
[يراجع!]

_ والصواب: "وقالت أَنْساعُ بطنه". والكلام مأخوذ من بيت لأبي النجم، هو:
قَدْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْـحَقِ(ي) --- قدْماً فَآضَتْ كَالْفَنِيقِ الْمُحْنِقِ
والفقرة متعلقة بلسان الحال ونسبة القول إلى الجمادات. قال صاحب "نفح الطيب":
"وقد تضيف العرب الكلام (والصواب: القول) إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات، ومن أحلاه قول بعضهم: "قال الحائط للوتد: لِمَ تشقّني؟ قال: سَلْ مَن يَدُقُّنِي."
والله أعلم.

عدنان البخاري
2010-10-07, 09:02 PM
/// لو أذن لنا الشيخ أبومالك وفَّقه الله في ذكر هذه الفائدة التي أرى أن هذا أنسب مكان لذكرها.
/// في الدرء (8/286) في ذكر مذاهب الفلاسفة في قدم العالم وحدوثه: «وليس في قولهم ما يوجب قِدَم شيءٍ من العالَم فقولهم بقِدَمه باطلٌ، ولهذا لم يُحْفَظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة، بل أوَّل من حُفِظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه.
وأمَّا أساطين القدماء فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك، فهم قائلون بحدوث صورة العالم، ولهم في المادة كلام فيه اضطراب.
فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم موافقٌ لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم».

أبو جرير المالكي
2011-11-22, 10:30 PM
رحم الله بن تيمية رحمة واسعة والله اسأل أن يقيظ لهذه الأمة مثله

سعيدالأثري
2014-05-16, 09:32 AM
جزاكم الله خير الجزاء

سعيدالأثري
2014-05-16, 09:38 AM
هل يتكرم علينا أحد الأخوة بجمع هذه الفوائد في ملف وورد، ممن يتقن ذلك؟
وبارك الله فيكم

عبد الله عمر المصري
2014-05-16, 02:32 PM
جزاك الله خيراً