المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تصحيح الأحاديث وتضعيفها بالسكوت .



لطفي بن محمد الزغير
2007-04-22, 05:54 PM
إن من يطالع كتب التخريج والمصطلح يلاحظ استعمالهم لكلمة : (( سكت عليه فلان فهو صحيح عنده ، أو صالح عنده )) ، وبناء على ذلك يأتي من جاء بعدهم ويذكر أن العالم الفلاني قد صحح الحديث بناء على سكوته عليه ، فهل نعتمد هذا التصحيح أم نكون منه على حذر ، ولا نعتمده إلا بعد دراسة وتمحيصٍ ؟
إنَّ أشهر من اتبع هذا المنهج هو الإمام أبو داود السِّجستاني ، صاحب السنن المشهور ، حيث قال في رسالته إلى أهل مكة ( ص72 )- وهي في بيان منهجه في السنن - : (( وما لم أذكر في شيئاً فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض )) ، وممن اشتهر بهذا الأسلوب أيضاً الإمام عبد الحق الإشبيلي في مقدمة كتابه (( الأحكام الوسطى )) حيث ذكر أن ما سكت عنه فهو صحيح .
في البداية أريد أن اقرر أنَّ غالب الأحكام العامة تنقصها الدقة ، وبعد الاستقراء يتبين لنا عدم صواب تعميم الأحكام ، باستثناء من يسلك منهجاً محدداً يسير عليه ، وغالب أحكامه تتوافق مع هذا المنهج ، ولا يُظهر الاستقراء فجوة واسعة بين ما شرطه هذا العَلم على نفسه ، وما استنتجناه من خلال البحث والاستقصاء ، كصنيع صاحبي الصحيحين البخاري ومسلم ، ولهذا فلا حرج بعد ذلك من إطلاق اسم الصحيح على كل حديث عندهما على طريق الإجمال .
أما من جاء بعدهما فحتى لو ذكر أنَّه لا يورد في كتابه إلا ما صح فلا نقبل كلامه في كل ما ذكره في كتابه ، بل لا بد من دراسة أحاديثه والحكم عليه بعد ذلك ، كتصحيح ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم في مستدركه ، إذ إننا عرفنا أن شروطهم تقصر عن شروط الصحيح الذي صححه البخاري ومسلم ، فإذا كان الأمر هكذا فيمن سمى كتابه بالصحيح ، فالأمر أبين وأوضح فيمن سكت عن حديث وقال عنه صحيح أو صالح ، بالرغم من أنه يصحح ويضعف صراحةً .
ولهذا فقد انتقد العلماء هذا الصنيع ممن ذكر ذلك ، وبخاصة صنيع أبي داود في سننه ، وكلمته التي ذكرها في رسالته ، قال السخاوي في ((فتح المغيث )) ( 1/79 ) : (( وبالجملة فالمسكوت عنه – أي عند أبي داود – اقسام ؛ منه ما هو في الصحيحين ، أو على شرط الصحة ، أو حسن لذاته ، أو مع الاعتضاد ، وهما كثير في كتابه ومنه ما هو ضعيف ، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه )) .
وقد فصل الحافظ ابن حجر تفصيلاً طويلاً دقيقاً في كلمة أبي داود هذه وفي شرطه ، وقال في كتابه (( النكت على ابن الصلاح )) ( 1/435 – 444 ) : ومن هنا تظهر لك طريقة من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود ، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل : ابن لهيعة ، وصالح مولى التوأمة ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وموسى بن وردان ، وسلمة بن الفضل ، ودلهم بن صالح ، وغيرهم .، فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ، ويتابعه في الاحتجاج بهم ، بل طريقه أن ينظر : هل لذلك الحديث متابع يعتضد به ، أو هو غريب فيتوقف فيه ؟لا سيما إن كان مخالفاً لرواية من هو أوثق منه ، فإنَّه ينحط إلى قبيل المنكر .
وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير ، كالحارث بن دحية ، وصدقة الدقيقي ، وعمرو بن واقد العمري ، ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني ، وأبي جناب الكلبي ، وسليمان بن أرقم ، وإسحاق بن أبي فروة ، وأمثالهم من المتروكين . وكذلك ما فيه الأسانيد المنقطعة ، وأحاديث المدلسين بالعنعنة ، والأسانيد التي فيها من أُبهمت أسماؤهم ، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود ، لأنَّ سكوته تارة يكون اكتفاءً بما تقدَّم من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه ، وتارة يكون لذهولٍ منه ، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته كأبي الحويرث ، ويحيى بن العلاء ، وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه ...... إلى أن قال : والصواب عدم الاحتجاج على مجرد سكوته لما وصفنا من أنَّه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس )) .
فانظر كيف أنَّ الحافظ ابن حجر قد عالج مقولة أبي داود وسكوته من جانبين ، أولهما : أن عدداً من الأحاديث المسكوت عليها هو من قبيل الضعيف ، بله الضعيف جداً لوجود الرواة المتروكين في أسانيدها ، وثانياً من حيث أن أبا داود يقدم الحديث الضعيف على القياس ، كما هو مذهب الإمام أحمد ، ولعل كثيراً من المسكوت عليه هو عنده صالح للاحتجاج حتى ولو كان ضعيفاً في مقابلة الرأي .
أما بالنسبة لصنيع الحافظ عبد الحق فقد وجد تتبعاً شاملاً من الإمام المبدع ابن القطان الفاسي في كتابه العجاب (( بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام )) وانتقد مئات من الأحاديث التي سكت عليها عبد الحق وبيَّن ضعفها

محمد بن عبدالله
2007-04-22, 11:36 PM
حياكم الله يا شيخ لطفي ، وشكر لكم هذه المقالة المهمة .

وربما ارتبط بما ذكرتم ما تتايع عليه جمعٌ من أن سكوت الذهبي في تلخيص المستدرك إقرارٌ للحاكم .

والعجيب أن الإمام قد يبيّن العلة - تصريحًا أو إشارةً - في بعضِ أحاديثِ كتابٍ له اشترط فيه الصحة ، ثم يُنسب إليه تصحيحه ! ولعلّ في ابن خزيمة مثالاً واضحًا على هذا .

ويشبهه نسبة توثيق الراوي إلى ابن حبان ؛ لأنه ذكره في الثقات ، مع أنه ربما كان غمزه في ترجمته .

وفقكم الله ، وجزاكم خيرًا .

لطفي بن محمد الزغير
2007-04-23, 07:35 AM
بارك الله فيك أخانا الكريم محمد بن عبد الله وشكر لكم ، وهو كما قلتم ، فهناك من لا يرضي التصريح أو الإشارة كما تفضلتم ويتمسك بعموم قول العالم ، مع أن الكلمات العامة لا تجري عليها الأحكام الخاصة لكل حديث على حدة ، والكتب التي ذكرتها خير دليل على ذلك ، بل إن هناك من ينقل من كتاب الثقات لابن حبان ويحكم للراوي بأنه ثقة تمسكاً بعمومٍ مع أن ابن حبان قال فيه : يخطئ ويخالف ، ولا يكون للراوي أحياناً إلا رواية أو روايتين ، وهو بهذه المثابة إلى الجرح أقرب ، فإذا نوقش قال وثقه ابن حبان وهو حقيقة لم يوثقه اللهم إلا أنه وضعه في كتاب الثقات .
والكلام في هذا يطول ، ولقد شنع الحافظ ابن القطان على عبد الحق الإشبيلي كثيراً عند تتبعه إياه في بيان الوهم والإيهام ، لأجل هذه المسألة .

ابن رجب
2007-05-18, 04:01 PM
جزاكم الله خيرا ,, على هذه المقولة النافعة

علي ياسين جاسم المحيمد
2007-05-21, 08:53 PM
جزاكم الله خيرا مشايخنا الكرام
وأحببت أن أضيف أن من القواعد الفقهية لدى السادة الشافعية أنه لا ينسب لساكت قول؛ فبالتالي السكوت عن الحديث ليس تصحيحا له، وأما سكوت أبي داود عن الحديث في رسالته لأهل مكة فهو تصحيح للحديث؛ لأنه لم يسكت بل نص أن المسكوت عنه صحيح عنده، ولكنَّ تعقب العلماء عليه بيان لما وقع فيه من خطأ في التصحيح السكوتي؛ لأنه في الحقيقة لم يسكت إنما نص على أن سكوته تصحيح، وقد حذر العلماء الأجلاء كابن حجر من الأخطاء التي وقع فيها ابو داود كما أشرتم، لكن من سكت ابتداء دون أن ينص على أن ما في مصنفه صحيح فلا ينسب إليه قول لا بالتصحيح ولا بالتضعيف، أما كونه يورد الأحاديث الضعيفة لأنه يقدمها على القياس فلا وجه له؛ ذلك أنه نص على أنها صحيحة ولم يناقش مسألة الاحتجاج بها، ولو قال وكل ما ذكرته في كتابي فهو إما صحيح أو محتَّجٌ به لما قلت إن ذكره للحديث ليس تصحيحا عنده ولكنه لم يقل ذلك أنما نص على مجرد التصحيح فجانب الصواب في بعض التصحيحات فتعقبه العلماء، وهكذا الحال مع أمثاله ممن أشرتم إليهم.
وكتاب أبن حبان الثقات أسماه باعتبار التغليب والدليل أنه ترجم فيه لمن لم يصل لمرتبة الثقة عند ابن حبان نفسه وقد أحسن الإمام العلامة السيد أو بكر بن أبي القاسم الأهدل رحمه الله بنظم القاعدة المذكورة بقوله:
اعلم هُديت أنه لا ينسب * لساكت قولٌ كما قد أعربوا
وهذه العبارة المذكورة * عن الإمام الشافعي مأثورة
ثم بدأ بنظم المستثنيات من هذه القاعدة وليس بها شيء يتعلق بموضوعنا
والله أعلم بالصواب

لطفي بن محمد الزغير
2007-07-07, 05:54 PM
الأخوة الكرام :
ابن رجب بارك الله فيك على المرور .
علي ياسين : بارك الله فيك ، وما قلته صحيح ما لم يلزم نفسه بذلك ، كأم ينص على أن السكوت يعني كذا كحال أبي داود وعبد الحق في الأحكام ، أو أن يُلزم نفسه من خلال الاسم ، فمن سمى كتابه الصحيح ، فلا يجوز لنا أن نقول أن سكوته لا يعني تصحيحه ، وكذا الحال في الثقات لابن حبان ، فما وجدناه يخالف هذا الشرط يبين ولا نقول أن سكوته لا يعني التوثيق لأن الاسم ينبيء عن ذلك .