سلمان أبو زيد
2007-04-20, 08:30 PM
تعقيب على تعقيب
بين الشيخ القاري والشيخ السقَّاف
في مسألة التبرك بالآثار النبوية المكانية
للشيخ عبدالله بن صالح العجيري -وفقه الله تعالى -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اطَّلعت على مقالة لفضيلة الشيخ عبدالعزيز القاري - حفظه الله - يتعقب فيها ما كتبه الشيخ (علوي بن عبدالقادر السقَّاف)، بخصوص ما أثاره الأول من القول بجواز التبرك بالآثار النبوية المكانية، وذلك في كتابه "الآثار النبوية بالمدينة المنورة.. وجوب المحافظة عليها، وجواز التبرك بها".
ولقد أحسن الشيخ السقَّاف في ردِّه غاية الإحسان، وكفى من بعده تبعة الرد أو البيان، وبيَّن بالأدلة الشرعية الصحيحة عدم جواز ذلك التبرك، وبدعيته، وأنه على خلاف الهَدْي الأول؛ فعاد الشيخ القاري - حفظه الله - في مقاله هذا للانتصار لرأيه بالجواز، في محاولة لإقامة ما يراه من الأدلة، والرد على بعض الإشكالات التي أثيرت عنها، وجمهور ما ذكره الشيخ في تعقيبه هذا إنما هو تكرارٌ لنفس الشبهات التي ساقها في كتابه الأصل، إضافةً إلى لون تراجع أو توضيح بخصوص هذه المسألة، مع إعراضٍ عن بعض ما أورده الشيخ السقَّاف من أدلة وإشكالات، ونسبة بعض القضايا إليه، وهو منها بريء.
فأحببت تقييد بعض الكلمات بخصوص تعقيب الشيخ هذا، تنبيهاً للقارئ على جملة من القضايا التي أرى أن الشيخ كان - ولا زال - مجانباً للصواب فيها، مُذكِّراً ببعض ما سبق إلى ذكره الشيخ السقَّاف في تعقبه على الشيخ القاري، وذلك لظني أن جملةً عريضةً من القرَّاء - وللأسف - قد يتأثر بكلام المتأخر في المناقشات العلمية، لمجرد كونه آخر المتكلمين، دون أن ينظر في أدلة الفريقَيْن، ويرى أيَّ القولين أقرب إلى الحق والدليل، ولأني أحسب أن البعض قد لا يقرأ مقال الشيخ السقَّاف - حفظه الله - إلا عبر مقال الشيخ عبدالعزيز، وبعيونه، ووفق فهمه، الذي سيظهر أن الشيخ - غفر الله له - لم يكن مصيباً في فهم كثير من كلام الشيخ السقَّاف؛ فلم يحسن الجواب عليه. أسأل الله أن يغفر لنا وله ولعموم المسلمين.
وأهم القضايا التي سيتم معالجتها -إن شاء الله- في هذه المقالة، التي أرى أن الشيخ لم يكن موفقاً في معالجتها:
- توضيحٌ لحقيقة التبرك بالآثار النبوية المكانية، بين ما ذكره الشيخ القاري في تعقيبه، وما أورده في الكتاب.
- عودة الشيخ إلى الاستدلال بنصوص خارجة عن محل البحث.
- حقيقة موقف الإمام مالك من التبرك بالآثار النبوية المكانية.
- اتهام الشيخ القاري للشيخ السقَّاف بإنكار التبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً.
- اتهام الشيخ للشيخ السقَّاف بتوقيت البركة النبوية، وأن للتبرك بآثاره مدة صلاحية لا تصلح بعدها تلك الآثار للتبرك.
- إصرار الشيخ على نسبة القول بجواز التبرك بالآثار النبوية المكانية للشيخ عبدالعزيز بن باز، وبراءة الشيخ ابن باز من ذلك.
- موقف جمهور الصحابة من تتبع ابن عمر لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نسبه الشيخ إليهم.
- حقيقة الفرق بين مذهب ابن عمر في تتبع الآثار النبوية، وما يريد الشيخ تقريره في هذه المسألة، وأن الشيخ لا سلف له من الصحابة فيما يذهب إليه.
وغيرها من المسائل التي ستراها بإذن الله - جلَّ وعلا - في هذه المقالة. أسأل الله لي وللشيخ التوفيق والسداد.
ولستُ بحاجة هنا للتأكيد على تقديري للشيخ عبدالعزيز، ومحبتي له، ومعرفتي لفضله وعلمه -حفظه الله - فإن هذه كلها محفوظة له، ولكنها لا تمنع المُحِبَّ أن يراجع، وأن ينقد، وأن ينصح، شريطة أن يكون بعلم وحِلْم، وإني لأرجو أن يكون فيما سيأتي علماً نافعاً، وحلماً يكسر حدَّة القلم، فإلى بعض الملاحظات والاستدراكات على مقال الشيخ عبدالعزيز القاري "الآثار النبوية.. تعقيبٌ على تعقيب"، والمنشور في موقع (الإسلام اليوم)، بتاريخ 13/2/1428هـ:
1- بيَّن الشيخ في أول تعقيبه مقصوده بالتبرك بالآثار المكانية؛ فقال: "والمقصود بالتبرك بالأماكن النبوية هو: قَصْدُها للصلاة فيها والدعاء، أو المكث بها"، وقال: "ولكن مقصودنا - أنا وغيري - بالتبرك بالأماكن النبوية هو: قصدها للصلاة فيها والدعاء، أو المكث بها".
وهذا التنبيه من الشيخ لم يرد له ذكر في كتابه على هذا النحو، وأحسب أنه يعد لوناً من التراجع، أو التوضيح لما في كتابه من إطلاقات لكلمة التبرك، دون تقييد لها بما ذُكر هنا، بدءاً بعنوان الكتاب "الآثار النبوية بالمدينة المنورة.. وجوب المحافظة عليها، وجواز التبرك بها"، مروراً بكلمات الشيخ وإطلاقاته في أثناء الكتاب، وكان الأوْلى بالشيخ أن ينصَّ صراحةً على هذا الضابط للتبرك بالآثار النبوية المكانية في الكتاب؛ دفعاً للَّبس؛ إذ لفظة التبرك -كما لا يخفى- لفظةٌ مجملةٌ، يدخل تحتها أنواعٌ وأجناسٌ من الأفعال التي يُتطلب بها بركة الشيء؛ كاللمس، والتمسُّح، وغيرها.
وتقييد الشيخ هنا للتبرك وفق المعنى المذكور، وقصره على هذه الأنواع الثلاث – الصلاة، والدعاء، والمكث - دون غيرها، مما يخفف من حجم الخلاف - بحمد الله - لكنه لا يلغيه بالكلية؛ إذ القول بالتبرُّك بالأماكن التي لبث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة - على المعنى المذكور - مما يُنازع فيه الشيخ، ولا يُسلَّم له - كما سيتضح - بل هو قولٌ لم يقل به أحدٌ من الرعيل الأوَّل.
2- عاد الشيخ للتدليل على قوله بمشروعية التبرك بنفس الأدلة التي استدل بها في كتابه الأصل، فأورد في تعقيبه أحاديث عتبان، وسلمة، وجابر، وغيرها، مستدلاً بها على جواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية، وعذراً إن أعدت بعضاً مما ذكر في مناقشة هذه الأدلة؛ فإن الشيخ أعاد ذكر أدلته، دون أن يورد وجهاً جديداً يحسن التعلُّق به في تقوية ما ذهب إليه! وجمهور ما ذكره الشيخ من أدلة في كتابه ومقاله هو في الحقيقة خارجٌ عن بحث مسألتنا، وعن محل النزاع؛ وبيان ذلك:
أن الشيخ عبدالعزيز – حفظه الله - يقول بمشروعية التبرك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بالصلاة، أو الدعاء، أو المكث، سواءٌ صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان أو لم يصلِّ، وسواءٌ قصدها النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو لم يقصد، لكن ما أورده من أدلة لا تصحِّح له هذه الدعوى.
فهو حين يستدل، يستدل بأحاديث في قصد ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصده من الأماكن للصلاة، وذلك كتحري سلمة - رضي الله عنه - الصلاة في المكان الذي (يتحرَّاه)! النبي - صلى الله عليه وسلم – للصلاة. وفرقٌ كبيرٌ بين ما يريد الشيخ تقريره من هذا الحديث، وما يدل عليه ظاهر الحديث، وفرقٌ كبيرٌ بين أن يقصد العبد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن لأداء عبادة من العبادات، وقصد العبد لمكان لم يقصده النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما وقعت العبادة منه فيه اتفاقاً، فلسنا ننازع الشيخ في مشروعية تحري ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحراه من الأماكن أو الأوقات أو الأحوال للصلاة أو الدعاء، إنما المنازعة في تحري ما لم يتحراه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقصده على وجه الخصوص من الأماكن؛ بل وقعت منه الصلاة - مثلاً - على وجه الاتفاق في مكان من الأماكن، دون أن يكون لذات المكان خصوصية.
وحديث سلمة السابق وإن أورده الشيخ - حفظه الله - كما هو في "الصحيحين" في بداية المقال، بإثبات (تحري) النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة في ذلك المكان، لكنَّ هذا التحري الوارد سقط من نص الأثر في آخر المقال؛ فجاء هكذا: "فسلمة - رضي الله عنه - تحرّى المكان الذي كان يصلي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روضته الشريفة".
وشتَّان بين أن يُتحرى ما كان يتحراه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو نص الأثر، وبين أن يتحرى ما صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم.
والشيخ يرى أن ما وقع من سلمة وغيره إنما كان على سبيل التبرُّك بالبقعة التي مكث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس على سبيل التأسِّي والاقتداء، وأنَّ حَمْل هذا النص على هذَيْن لا يصح. يقول - حفظه الله -: "وأما القول بأنه من باب الاقتداء بالنبي والتأسِّي به - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يصحُّ هنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقال إنه كان يتبرَّك بنفسه! إنما يصح هذا القول إذا كان المقصود الفعل، وهو الصلاة.. ولكن في هذه النصوص التي أوردناها الكلام كله يدور عن المكان، وليس عن الصلاة، فسلمة - رضي الله عنه - تحرّى المكان الذي كان يصلي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روضته الشريفة، ولم يتحرَّ فعله، الذي هو الصلاة، حتى يسوِّغ لك أن تقول: إن مقصوده الاقتداء والتأسِّي". اهـ.
وهذا الكلام غير صحيح؛ بل كان سلمة - رضي الله عنه - يتحرَّى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصلاة في المكان الذي تحرَّاه، فكيف يقال بعد ذلك: "ولم يتحرَّ فعله، الذي هو الصلاة"؟!
وعليه: فما وقع من الصحابة - من هذا الجنس - وقع تأسِّياً به في صورة الفعل، وفي القصد والمكان، وليس للتبرُّك كما زعم الشيخ، والذي لا ذكر له مطلقاً في هذه النصوص جميعاً، فكيف يُترك ما نُصَّ عليه في الحديث إلى ما لم يُنصّ عليه.
وإني لا زلت أعجب من تمسك الشيخ بحديث سلمة هذا، مع كونه خارج محل النزاع ودائرة البحث!!
ولتأكيد ذلك أقول: الشيخ - حفظه الله - يستدل بالحديث على مشروعية الصلاة والدعاء والمكث في كل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة، ولازم ذلك أن سلمة - رضي الله عنه - كان يتتبع مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتحرَّاها بصلاته ودعائه، لكن حقيقة الأمر: أنه ما كان يتحرَّاها - لا هو ولا غيره - بفعل شيء من ذلك، إنما كان يقتصر على ما تحرَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصده من الأماكن، وهذا بيِّنٌ بحمد الله.
أما حديث عتبان - الذي فيه: "... وددتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي؛ فأتخذه مصلّى. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سأفعل إن شاء الله))... الحديث - فلا يخرج عمَّا تقدَّم من قصد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن عتبان أحبَّ أن يتخذ في بيته مصلّى، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه، فوافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى في مكان مخصوص؛ نزولاً عند رغبة عتبان - رضي الله عنه - فأين في الحديث مشروعية الصلاة بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة؟! وأين في الحديث ما يدلُّ على جواز التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم – المكانية؟!! ولو كان الأمر على ما يريده الشيخ؛ لم يلزم أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عتبان؛ بل كان يكفي أن يلبث - ولو لمدة قصيرة - في مكان من البيت، ليُتخذ هذا المكان مصلّى؟!
وأُذكِّر هنا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في هذا الحديث - وإن لم يَرُقْ للشيخ - فإن كلامه - رحمه الله - كلامٌ سديد، لا غبار عليه.
يقول - عليه رحمة الله -: "فإنه قصد أن يبني مسجداً، وأحبَّ أن يكون أوَّل من يصلِّي فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأن يبنيه في الموضع الذي صلَّى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد، وأراد أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي يبنيه؛ فكانت الصلاة مقصودةً لأجل المسجد، لم يكن بناء المسجد مقصوداً لأجل كونه صلى فيه اتفاقاً، وهذا المكان مكان قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فيه ليكون مسجداً؛ فصار قصد الصلاة فيه متابعةً له، بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد". [مجموع الفتاوى: 17/467].
أما استدراك الشيخ القاري على الشيخ السقَّاف تنبيهه على ما أورده (الحافظ ابن حجر) من احتمالات في فهم حديث عتبان، وقوله بضعفها، فبعضها ضعيفٌ صراحةً، لكنَّ الشيخ السقَّاف ما أراد بذكرها إلا التنبيه على الخلاف في فهم الحديث، وأن الكاتب - غفر الله له - اقتصر على جزء من كلام الحافظ، وأعرض عن جزء، وأن دلالة الحديث على جواز التبرُّك ليست قطعية كما ادَّعى الشيخ في كتابه، وكرره في مقاله هذا؛ بل لا دلالة في الحديث على ما يريده الشيخ من تجويز هذا التبرُّك، فضلاً عن كون تلك الدلالة المزعومة دلالة قطعية.
وأما قول الشيخ عبدالعزيز: "وأبعد من ذلك قول أخي الشيخ السقَّاف: كل ما في الأمر أن عتبان كلَّ بصره، وفعل فعلاً كان يُرى عليه فيه غضاضة - وهو صلاته في بيته - فأراد إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على فعله. وأقول لأخي إن هذا جيل البلاغة والبيان، أما كان يمكنه أن يقول: يا رسول الله، هل تجد لي رخصةً أن أصلي في بيتي؟ فيقول له الرسول: لا أجد لك رخصة، أو: افعل ولا حرج. فأين منطوق الحديث ودلالته الظاهرة من هذه التأويلات البعيدة المتكلَّفة". اهـ.
ويريد الشيخ هنا الاعتراض على ما ذكره الشيخ السقَّاف من حمل الحديث على المعنى المذكور، وبيان أنه أبعد من القول بأن عتبان أراد من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعْلِمَه باتجاه القبلة على وجه القطع، ولا شك أن ما ذكره الشيخ السقَّاف هنا ليس بأبعد ولا أضعف من هذا القول؛ بل ذاك القول هو الأضعف الأبعد، ومن تأمَّل في سياق نصِّ الحديث كاملاً، رأى أن هذا المعنى الذي أبداه الشيخ السقَّاف ممكنٌ محتملٌ، وليس كما يصوِّره الشيخ - غفر الله له - وإليك النصّ تامّاً - بين يديك - لتتأمل فيه:
"عن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدراً من الأنصار -: أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قد أنكرتُ بصري، وأنا أصلِّي لقومي، فإذا كانت الأمطار، سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي، فأتخذه مصلَّى. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سأفعل إن شاء الله)). قال عتبان: فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنتُ له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: ((أين تحب أن أصلِّي من بيتك؟)). قال: فأشرتُ إلى ناحية من البيت؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين، ثم سلَّم..." الحديث؛ رواه (البخاري: 425).
وبكل حال؛ فليس في النص دليلٌ على ما يريده الشيخ من تجويز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق.
وأما ما ذكره الشيخ بخصوص الواقدي، وما رواه عن الصحابة وأهل المدينة من قصدهم لمسجد عتبان للصلاة، فالواقدي - كما يعلم الشيخ - متروكٌ كذَّاب، ولا يصلح لمسألتنا هذه التعلُّق بروايته - مع كونه حافظاً لجملة واسعة من التواريخ، وكونه وعاءً من أوعيته - إذ مسألتنا من مسائل الدين والشريعة، التي لا يصلح أن يُستدل فيها إلا بالأخبار الصحيحة الثابتة، وهذا ما لا ينبغي أن يُختلف عليه، وليت الشيخ إذ أراد الاستدلال برواية الواقدي المتروك أن يبين - ولو أطال - الموقف العلمي الصحيح من رواية الواقدي وأمثاله؛ حتى نتبين وجه الحُجَّة، وإني لأعجب من وصف الشيخ لرواية الواقدي (بالثبوت)، وهو المتروك في علم الرواية!!
ثم نقولُ: فهب أن الصحابة كانوا يصلُّون في ذلكم المسجد؛ بل ويقصدونه للصلاة، فما الضير في ذلك، وقد قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه نزولاً عند رغبة عتبان، وليكون ذلك المكان مصلَّى؟!
أما حديث جابر: فلو سُلِّم بصحة ما جاء من قصد جابر للدعاء في مسجد الفتح فيما بين الأذانين، على ما في رواية "الأدب المفرد"؛ فليس ذلك من قبيل التبرُّك بذلكم المكان، وإنما هي المتابعة والتحرِّي لِمَا قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد تحرَّى الدعاء في هذا المسجد - في وقت مخصوص - ثلاثة أيام متتالية، فاستجيب له في آخرها! فليس فيه دليلٌ على ما يريده الشيخ من جواز التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية - كما لا يخفى - بل غاية الأمر متابعةٌ فعلها جابر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه، في مكان وزمان مخصوص.
فما سبق دالٌّ على أن دعوى الشيخ بجواز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أوسع من دلالة ما أورده من نصوص، فالشيخ يقول بمشروعية التبرُّك – الصلاة، والدعاء، والمكث - بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة، وما أورده دالٌّ على مشروعية قصد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو الدعاء من الأماكن، دون ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً، وليت شعري؛ لِمَ اقتصر هؤلاء الصحابة على فعل ما فعلوا في أماكن مخصوصة، مادام كل موطن لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحاً لذلك؟!!
3- يتضح بهذا: أن ما أورده الشيخ عقب أثر سلمة السابق من كلام الإمامين الكبيرَيْن مالك وأحمد لا مورد له في تقرير مسألتنا، فغاية المنقول عن مالك موافقٌ للمنقول عن سلمة، وهو ما لا نُنازع فيه، وليس في كلامه - رحمه الله - جواز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة.
يقول الشيخ عبدالعزيز: "ومن هذا الحديث - أي حديث سلمة - أخذ مالك -إمام دار الهجرة، رحمه الله - استحباب أن يصلِّي النوافلَ في هذا المكان؛ كما في (البيان والتحصيل لابن رشد: 17/133): ".. روى ابن وهب، عن مالك، أنه سُئل عن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل له: أيُّ المواضع أحبُّ إليكَ الصلاة فيه؟ قال: أمَّا النافلة؛ فموضع مصلاَّه، وأما المكتوبة؛ فأوَّل الصفوف". فالأمر لا يعدو تحرِّياً لما تحرَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن، كتحرِّيه للصلاة في مسجد قُبَاء، وخلف مقام إبراهيم عقب الطواف.. وهكذا، وليس هذا محلُّ النزاع - كما تقدَّم.
وإني أُذكِّر - وليعذر القارئ - بما نقله الشيخ السقَّاف من كلام الإمام مالك بخصوص هذه المسألة، الذي أعرض الشيخ عنه، ولم يعلِّق عليه!
قال ابن وضَّاح القرطبي في (البدع والنهي عنها: ص108): "وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم – ما عدا قُباءً وأُحُداً – يعني: شهداء أحد".
وقال ابن بطَّال في (شرح البخاري: 3/159): "روى أشهب، عن مالك، أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يعجبني ذلك؛ إلا مسجد قباء".
وأزيد هنا ما ذكره الحافظ ابن عبدالبر، عن الإمام مالك، مما له صلة بمسألتنا. يقول - عليه رحمة الله -: "وقد كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بُويع تحتها بيعة الرضوان، وذلك - والله أعلم - مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في مثل ذلك" (الاستذكار: 2/360).
فلِمَ الإعراض عن هذه الأقوال الصريحة لمالك - عليه رحمة الله - والتعلق بقول خارج عن محل بحثنا؟!
أمَّا الإمام أحمد: فمن الغريب أن ينقل الشيخ هنا خبر التبرُّك بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن ثمَّة منازعة في مشروعية ذلك، أو أن الشيخ السقَّاف لا يقول به، وهو ما حاول الشيخ أن يُلِّمح إليه في مقاله، وهو ظلمٌ يُنسب للشيخ السقَّاف، وخطأٌ يُحمل عليه، كما سيأتي.
4- من الغريب محاولة الشيخ عبدالعزيز إظهار الشيخ السقَّاف في مظهر المنكر للتبرُّك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، ومن المعلوم لكل من قرأ مقال الشيخ السقَّاف: أنه قائلٌ بمشروعية التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المنفصلة منه؛ كشَعْره، ورِيقِه، وعَرَقه... وغيرها، أو ما لامسه؛ كقصعته، وثيابه... وغير ذلك، لكنه يقول باندراس هذا التبرُّك المشروع؛ لاندراس هذه الآثار، وفرقٌ كبيرٌ بين مَنْ ينكر أصل مشروعية هذا اللون من التبرُّك، وبين مَنْ يقول: هو مشروعٌ، لكنه لا يمكن في هذه الأعصار؛ لانعدام ما يُتبرَّك به.
ثم إن كلام الشيخ عبدالعزيز في تصوير موقف الشيخ من هذه القضية لا يخلو من إيهام - أرجو أن لا يكون مقصوداً - قال الشيخ عبدالعزيز: "فإن الأخ الفاضل (علوي بن عبدالقادر السقَّاف) لا يعترف بمشروعية التبرُّك مطلقًا؛ لا بالآثار التي هي جزءٌ من جسده الشريف؛ كشعره، أو لامست جسده الشريف - صلى الله عليه وسلم - كثيابه وقصعته؛ لأنها اندرست، فاندرس معها التبرُّك بها، ولا بالآثار النبوية المكانية؛ لأن التبرك بها مرفوضٌ عنده؛ مع وجودها وتوافرها؛ إذن فلا تبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بأيِّ حال؛ فهو منفيٌّ عنده جملةً وتفصيلاً"!!
وإني لأتساءل: هل يقول الشيخ القاري بمشروعية التبرُّك بهذه الأمور جميعاً ليُنكر على الشيخ السقَّاف هذا الإنكار، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!
وأمَّا ما أثاره الشيخ في نهاية المقال، بقوله: "وإنني أتعجب من هذه العقدة في نفوس البعض من إثبات البركة النبوية، والتلهُّف إلى نفيها بالكليَّة؛ لأنها أصبحت مرتبطة في أذهانهم بالشرك والبدعة"، فليس من العدل ولا الإنصاف في محاكمة الخصوم، وإنها لتهمةٌ كبيرةٌ عريضةٌ، أُعظِم أن تخرج من مثل الشيخ، أو تصدر عنه، وإني لأحرج على الشيخ أن يقولها أو ينطق بها غاية التحريج، ووالله لو كان في الأدلة الشرعية ما يصحِّح دعوى الشيخ؛ لأخذنا به، ونشرناه، وأذعناه، ولوضعناه فوق رؤوسنا؛ لكننا نظرنا في خطابات الشارع وأحوال الصحابة، فلم نر فيها ما يدل - أدنى دلالة - على ما يريده الشيخ؛ فليست المسألة مسألة عقدة في إثبات البركة النبوية – وحاشا - فهي والله لثابتة له - صلى الله عليه وسلم - لكنه الدوران مع الأدلة الشرعية حيث دارت، فما أثبتته الشريعة من ألوان التبرُّك أثبتناه، وما لم تثبته تركناه.
5- من الغريب كذلك محاولة الشيخ - غفر الله له - أن ينسب للشيخ السقَّاف قولاً غريباً، وهو أن آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بركةٌ مؤقتةٌ، ووقتاً لا تصلح بعده للتبرك!!
يقول الشيخ عبدالعزيز: "فالبركة النبوية إذن – عند أخي السقَّاف - لها وقت معين، تنتهي صلاحيتها بانتهائه، من غير أن يحدد وقت هذه الصلاحية؛ بل يطلق كلامًا مبهمًا: "سنوات معدودات"... ولا شك أن مئتي سنة فأكثر تعتبر خارجة على هذا التوقيت؛ حيث كان الإمام أحمد (المتوفَّى سنة 241 هـ) يتبرك بتلك الشعرة النبوية – وفي رواية أنها ثلاث شعرات، (انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/337) - وكذلك لمَّا تبرّك بقصعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن مئتي سنة ليست مدة قليلة، ولا "سنوات معدودة". والتحديد الزمني يحكَّم بلا دليل، والصواب أنه لا توقيت للتبرُّك بأشياء النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بأجزاء جسده الشريف – كشعره - مادامت باقية، وغلب على الظن نسبتها إليه - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو ما يُفهم من صنيع الإمام أحمد - رحمه الله".
وهذا الكلام فيه ما فيه من التعدي والتجاوز في نسبة قول لا يقول به الشيخ قطعاً؛ بل الشيخ يقول بمشروعية التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المتقدِّم، ما دامت الآثار موجودة، أمَّا إذا عُدِمَت؛ فكيف يمكن أن يقع التبرُّك؟
أما ما يحاول الشيخ – غفر الله له - نسبته للشيخ السقَّاف؛ من أن لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - مدةً مخصوصةً يُتبرَّك بها، وأنه متى ما انتهى ذلكم الوقت؛ انتهت صلاحية الأثر للتبرُّك، مع بقاء عينها، فنسبةٌ باطلة، وإلزامٌ للشيخ بما لا يلزمه، وقد نقل الشيخ كلام الشيخ السقَّاف في هذه المسألة، وليس فيه ما يدلُّ على هذا الكلام.
يقول الشيخ السقَّاف: "أما آثاره، سواءٌ كانت جزءًا منه ثم انفصلت عنه، أو خارجةً عنه لكنها لامست جسده الطاهر؛ فهذه هي التي كان الصحابة يتبرَّكون بها دون توسع، وربما استمر الأمر على ذلك سنوات معدودات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت الآثار، وانقرض تبعًا لذلك هذا التبرُّك". وهو صريحٌ في أن سبب انقراض هذا التبرك هو انقراض الأثر، لا انتهاء مدة صلاحية الأثر للتبرُّك، وهو ما أوهمه الشيخ عبدالعزيز - غفر الله له – نعم؛ لو عبَّر الشيخ السقَّاف بغير قوله "سنوات معدودات" لكان أحسن؛ دفعاً للإيهام، أما الكلام بمجموعه؛ فبيِّنٌ صريحٌ، لا إشكال فيه.
6- من العجيب كذلك إصرار الشيخ - غفر الله له - على نسبة القول بجواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- وذلك في قوله ردّاً على الشيخ السقَّاف: "وسكتّ عن إقرار الشيخ (عبدالعزيز بن باز) لدلالة حديث عتبان على التبرُّك بالآثار المكانية، وذلك يوحي بأنني حمَّلتُ كلام الشيخ ابن باز - رحمه الله - ما لا يحتمل، حين نقلتُ عبارته الواضحة من (هامش فتح الباري)".
وقال: "وحتى الشيخ ابن باز؛ أيَّد ولم ينكر دلالة حديث عتبان على مشروعية التبرُّك بالأماكن النبوية". ونسبة هذا القول للشيخ ابن باز باطلة بيقين، وقد نقل الشيخ السقَّاف كلاماً صريحاً للشيخ عبدالعزيز بن باز في إنكار مشروعية ما ينادي به الشيخ القاري، فأعرض الشيخ - غفر الله له - عن نقله، مع وضوحه وصراحته، واطِّلاعه عليه، يقول الشيخ ابن باز - رحمه الله -: "والحق أن عمر - رضي الله عنه - أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء، سدّ الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه - رضي الله عنهما - وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر، وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك؛ لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسَّى به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها؛ فإن التأسِّي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع، كما دل عليه فعل عمر، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلوِّ والشرك؛ كما فعل أهل الكتاب،، والله أعلم". (هامش فتح الباري: 1/569).
فلو قُدر أن الشيخ ذهل عن هذا الكلام مع وجوده في إحدى صفحات "الفتح"، التي نقل منها الشيخ كلاماً للحافظ ابن حجر، وكان تعليق الشيخ ابن باز استدراكاً على نفس كلام الحافظ المنقول؛ أقولُ: لو قُدِّر ذلك، فما بال الشيخ - غفر الله له - يعرض عنه بعد اطِّلاعه عليه في كلام الشيخ السقَّاف!!
بل للشيخ ابن باز جملة من الفتاوى الدالة على عدم مشروعية تتبع الآثار النبوية، فضلاً عن التبرُّك بها؛ فمن ذلك قوله - مثلاً - في حكم قصد المساجد السبعة بالمدينة ومسجد القبلتين: "أما المساجد السبعة، ومسجد القبلتين، وغيرها من المواضع التي يذكر بعض المؤلفين في المناسك زيارتها؛ فلا أصل لذلك، ولا دليل عليه، والمشروع للمؤمن - دائماً - هو الاتباع دون الابتداع" (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: 6/321).
ويقول كذلك في فتوى أخرى: "وأما ما نُقل عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - واستلامه المنبر؛ فهذا اجتهادٌ منه - رضي الله عنه - لم يوافقه عليه أبوه، ولا غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعلمهم موافقٌ لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر - رضي الله عنه - الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها، ويصلُّون عندها؛ خوفاً من الفتنة بها، وسدّاً للذريعة" (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: 9/109).
ويقول كذلك: "لا يجوز للمسلم تتبع آثار الأنبياء؛ ليصلي فيها، أو ليبني عليها مساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - ينهى الناس عن ذلك، ويقول: "إنما هلك من كان قبلكم، بتتبعهم آثار أنبيائهم"، وقطع - رضي الله عنه - الشجرة التي في الحديبية، التي بويع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتها؛ لما رأى بعض الناس يذهبون إليها ويصلون تحتها؛ حسماً لوسائل الشرك، وتحذيراً للأمة من البدع، وكان - رضي الله عنه - حكيماً في أعماله وسيرته، حريصاً على سدِّ ذرائع الشرك، وحسم أسبابه؛ فجزاه الله عن أمة محمد خيراً. ولهذا لم يبن الصحابة - رضي الله عنهم - على آثاره - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة وتبوك وغيرهما مساجد؛ لعلمهم بأن ذلك يخالف شريعته، ويسبب الوقوع في الشرك الأكبر، ولأنه من البدع التي حذر الرسول منها - عليه الصلاة والسلام - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ))؛ متفقٌ عليه من حديث عائشة - رضي الله عنها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ)؛ رواه مسلم في "صحيحه". وكان - عليه الصلاة والسلام - يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعدُ، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))؛ خرجه مسلم في "صحيحه"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله". (مجموع فتاوى ومقالات: 17/421).
فهذا كلام الشيخ ابن باز، فهل يصحُّ بعد ذلك أن يُنسب القول بجواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية إليه؟!
7- نقل الشيخ كلاماً لإسحاق بن راهويه في معرِض كلامه عن عدم الفرق بين التبرُّك بالمكان، وبين التبرُّك بما اتصل من المكان بجسد النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتراب ونحوه، وذلك في معرِض ردِّه على الشيخ السقَّاف، في بيان الفرق، وأنه بتقدير جواز التبرُّك في الثاني، لوجود عَيْن لامست جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يجوز التبرُّك بالمكان بعد انعدام تلك العَيْن، فأتى الشيخ بكلام إسحاق؛ لبيان عدم تفريق السلف بين المسألتين؛ فقال: "وعبارة إسحاق بن راهويه - شيخ الإمام أحمد - تدل على أن السلف لا يفرقون بين هذين القسمين. يقول: "ومما لم يزل من شأن من حج؛ المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتبرُّك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه".
فيقال أولاً: ليس إسحاق بن راهويه بشيخ للإمام أحمد، وإنما هو من أقرانه، وأحمد أسنُّ منه، ولا ضير أن روى أحمد عن إسحاق؛ فإن روايته عنه لا تصيره تلميذاً له؛ بل هي من قبيل رواية الأقران، ولعل الشيخ أراد أن يُضفي على كلام إسحاق نوع جلالة بذكر هذه المشيخة، ويستميل قلوب القراء بهذا الأسلوب.
ويقال ثانيا: ليس في كلام إسحاق ما يُتعلَّق به في شأن مسألتنا؛ إذ غاية ما في كلام إسحاق أن الحجاج بعد فراغهم من حجهم، يقصدون المدينة للصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتكتحل عيونهم بمرأى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتبركوا (برؤية) روضته، (ورؤية) منبره، (ورؤية) قبره، (ورؤية) مجلسه، (ورؤية) ملامس يديه، (ورؤية) مواطئ قدميه. وإني لأعتذر للقارئ عن تكرار كلمة (رؤية)؛ لأنها مقصودةٌ في العطف في كلام إسحاق، كما هو بين واضحٌ، وإلا فهل يُتصوَّر في إسحاق أن يبيح التبرُّك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم!!
ولقد كنتُ في غنى عن هذا التعليق؛ لولا أن الشيخ عبدالعزيز - غفر الله له - قد علَّق على كلمة إسحاق فقال: "فالروضة الشريفة يُتبرَّك برؤيتها، والمكث بها، والصلاة فيها من باب أوْلى، ومنبره - صلى الله عليه وسلم - يُتبرَّك بالتمسُّح به - كما كان يفعل الصحابة - ومنبره اندرس، ولم يبق منه شيءٌ، لكن بقيت البقعة؛ فيُتبرَّك بالمكث بها - إن أمكن. وأما قبره، وجدار الحجرة النبوية التي بها قبره وقبرا صاحبيه؛ فلا يوصل إلى شيء من ذلك ليتبرَّك به؛ لأنه أُحيط بالجدران الثلاثة. وأما مجلسه – أي: الأماكن التي كان يجلس بها؛ كأسطوانة الوفود، وأسطوانة السرير - فيُتبرَّك بالجلوس فيها والدعاء والصلاة".
وليت شعري؛ لو أمكن للشيخ أن يصل لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفيجيز التبرُّك ساعتئذٍ؟! ظاهر عبارته: نعم، وهو باطلٌ بيقين، وقد كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يوصَل إليه زمن الصحابة؛ فهل عُرف عن واحد منهم التبرُّك به، بأي لون من ألوان التبرُّك؟! وحاشا إسحاق - رحمه الله - أن يقول بجواز التبرُّك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبارته كما تقدَّم لا تدلُّ عليه.
8- من الغريب جدّاً ظن الشيخ أن مخالفيه في هذه المسألة يَعتقدون أن هذا اللون من التبرُّك - الذي يعتقده الشيخ - لونٌ من ألوان الشرك؛ فيقول: "هنا قاعدة مهمة: عدم المخالفة يدل على الموافقة في هذه المسائل؛ لأن مسألة التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية لو كانت مرتبطة بالشرك؛ لما سكت الصحابة، وكذلك التابعون؛ فإنهم لا يسكتون على منكر؛ فكيف يسكتون على شرك؟!".
وكنتُ أربأ بالشيخ أن يتهم مخالفيه بمثل هذه التهمة، دونما مستند أو دليل، ثم يبني عليها مثل هذا الكلام؛ ليجعله دليلاً على المطلوب، والمخالفة في هذه المسألة لا تصل بصاحبها حدَّ الشرك - كما لا يخفى- فما بناه الشيخ على وصف الشرك - والحالة هذه - غير وارد. ثم نقول: ليس في أفعال الصحابة والتابعين تبرُّك بالبقعة - كما تقدَّم - بل غاية ما ثبت موافقة بعضهم لقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبقعة معينة، وما وقع من بعضهم من قصد ما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم – اتفاقاً، فليس من قبيل التبرُّك كما يظنه الشيخ، وهذا ما سيتضح في نهاية المقال - إن شاء الله - ثم إنكار ما يريده الشيخ موجودٌ من فعل عمر؛ فلما الإعراض عنه، والتكلُّف في تأويله؟!
9- أعاد الشيخ في ردِّه هذا الكلام على أثر عمر، والمروي عن المعرور بن سُوَيْد، في محاولة لتضعيف دلالة الحديث على عدم مشروعية تَقَصُّد ما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنازل اتفاقاً. يقول المعرور بن سُوَيْد: "وافيتُ الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما انصرف إلى المدينة وانصرفت معه، صلى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل} [الفيل: 1] و: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]، ثم رأى أناساً يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما أُهلك من كان قبلكم بأشباه هذه، يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً، ومَنْ أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله؛ فليصلِّ فيها، ولا يتعمدنَّها".
ولا شك أن هذا الأثر في غاية القوة في الدلالة على عدم مشروعية تتبُّع المواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً، وتَقَصُّد الصلاة فيها، ومع ذلك فالشيخ مُصِرٌّ أنه لا دلالة لهذا الأثر؛ فيقول: "وأما حديث عمر الذي رواه المعرور بن سُوَيْد؛ فأجاب عنه الحافظ ابن حجر، وملخص الأجوبة: أنها واقعة عَيْن، ولها أسبابٌ كانت حاضرة في تلك الواقعة، وإلا فكيف تفسر سكوت الفاروق عن ابنه طوال الوقت؟ أيحابي عمر ابنه عبد الله؟!".
والشيخ يشير إلى ما ذكره في كتابه من أجوبة الحافظ ابن حجر على أَثَر عمر هذا، وأن إنكار عمر إنما كان لأحد أمرين:
أ- إمَّا أنه أنكر على قوم يزورون هذه الأماكن ولا يصلون.
ب- أو خشية أن يُعتقد وجوب ذلك.
وكلا الوجهين لا يخلو من تكلُّف بيِّن؛ فالأول: على خلاف نص الحديث؛ بل وعلى خلاف ما يراه الشيخ، فهو لا يرى غضاضة من تَقَصُّد هذه الأماكن للزيارة والمكث المجرَّد.
أما الثاني: فكسابقه، على خلاف ظاهر الأثر، ولقد كان يكفي عمر أن يبيِّن ذلك بكلامٍ عربيٍّ مبين، دون الحاجة لأن ينكر عليهم إنكاره هذا، ويقول لهم ما قال.
يؤكد هذا ما أورده الشيخ من أثر عمر - رضي الله عنه - في قطع شجرة الرضوان، وذلك في سياق نقله من كلام الحافظ ابن حجر، وفيه: "ثم وجدتُ عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع: أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة، فيصلون عندها؛ فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقُطعتْ".
قال الشيخ معلِّقاً: "لقد ذكر أخي الفاضل خبر قطع الفاروق عمر - رضي الله عنه - الشجرة، وهو مرسلٌ؛ لأن نافعاً لم يلقَ عمر؛ قال الإمام أحمد: "نافع عن عمر منقطعٌ" (انظر: "التهذيب" لابن حجر: 10/414). لكن هذا الخبر مشهور، وإن كان مرسلاً فهو مقبول".
أليس هذا الفعل من عمر كفعله السابق في حديث المعرور، في إنكار قصد هذه المواقع للصلاة، سواءً بسواء، وهو ما لا يراه الشيخ - غفر الله له؟!
أما قوله فيمن كان يصلي عندها: إنهم إمَّا صحابة وإمَّا تابعون، وأن طارق بن عبدالرحمن مر بمَن كان يصلي عندها، ولا ينكر عليهم. فلا أدري ما وجهه، وما الحُجَّة فيه، وكيف يُترك إنكار عمر الصريح لفعل مجاهيل لا تُعرف أعيانهم، وهل من الإنصاف الإعراض عن الأمر المحكم المعلوم إلى أمر مجهول، وليس ينفع الشيخ قيام الاحتمال بكون بعض أولئك من الصحابة؛ إذ الاحتمال قائم بكونهم ليسوا منهم، ولو قدر أن بعضهم من الصحابة؛ فمن علم - وهو عمر - حُجَّةً على مَنْ لم يعلم، وليس فعلهم هذا بأبلغ مما كان يفعله ابن عمر، ولم يوافقه عليه جماهير الصحابة، كما سيتضح - إن شاء الله.
10- أما ما ذكره الشيخ - غفر الله له - من أن عدم مخالفة الصحابة لابن عمر - على حدِّ زعمه - دالٌّ على الموافقة، وقوله: "فعدم نقل المخالفة أو الإنكار يدلُّ على الموافقة؛ بخلاف العكس، وهو ما حاولتَ الاستدلال به، فجزمتَ بأن أبا بكر وعمر وبقية الصحابة كانوا يخالفون ابن عمر، ولا يرون التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية، ودون أن تثبتَ ذلك خرط القتاد؛ لكنك تستدل بأنه لم يُنقل عنهم، وعدم النقل هنا ليس دليلاً".
فالشيخ يعتقد أن عدم النقل هنا لا يفيد نقل العدم، وأنه من الممكن المحتمل أن أبا بكر وعمر وبقية الصحابة كانوا يصنعون صنيع ابن عمر، وهذا في الحقيقة أمر عجيب! ولو فتح هذا الباب لانفتحت علينا أبواب البدع؛ فكلما قلنا هذا لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمكن أن يُدعى ما ادَّعاه الشيخ هنا، من أن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، ومعلومٌ أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ بل هي فيما أمكن أن لا ينقل لقلته وندرته، وعدم توافر الهمم على نقله، أما مسألتنا هذه؛ فلو كان من ذلك شيئ لنُقل، ولا أعلم أحداً من أهل العلم ادَّعى أن هذا ليس خاصّاً بابن عمر، وأن الصحابة كانوا مثله في شدَّة تحري أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما نُقل عنه، ولم يُنقل عنهم، مع اشتراك الكل في هذا التحرِّي، كيف وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تقول: "ما كان أحدٌ يتَّبع آثار - صلى الله عليه وسلم - في منازله كما كان يتبعه ابن عمر"؟ فما كان أحد يصنع كصنيعه، ولا يتحرى تحريه، بل أنكر عمر - وإن أبى الشيخ – على مَنْ صنع صنيع ابنه، وليت شعري؛ أيهما أقرب للمعقول والإمكان: عدم نقل إنكار عمر على ابنه لو وقع، أو عدم نقل موافقة عمر وغيره لابنه؟!!
وهذا كله لو سُلِّم أن ما جرى من ابن عمر كان على وجه التبرُّك، والصواب أن ذلك لم يكن منه - رضي الله عنه - ولا من غيره على وجه التبرُّك بالبقعة على النحو الذي يريده الشيخ – غفر الله له- وهذا يتضح بالنقطة التالية.
11- أختم مقالتي هذه بهذه النقطة - بعدما تقدم - للتأكيد على مسألة غاية في الأهمية؛ وهي أن ثمة فرقاً حقيقياً بين مَنْ يستدل الشيخ بأفعالهم من السلف، وما يذهب إليه - حفظه الله - في هذه المسألة، فالشيخ يرى أن الاعتبار في التبرُّك بالآثار النبوية المكانية هو سريان البركة فيها، ولذا فهو يرى مشروعية الصلاة والدعاء والمكث بها لبركة المكان، ولا فرق لديه بين أن يكون المكان مما أَحْدَثَ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة أو لم يُحْدِث، وبين أن يكون قاصداً للمكان لإحداث العبادة أو غير قاصد، فكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة؛ فيُشرع أن يُتبرَّك به -أي بالصلاة والدعاء والمكث.
ولا يختلف الحكم بين مكان صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو دعا أو جلس، فمجرد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المكان هذه الخصوصية؛ ولذا يقول الشيخ مبيناً حقيقة الأماكن النبوية: "أي: الأماكن التي وطئتها قدماه الشريفتان، صلى فيها، أو مكث بها ولو لمدة قصيرة"، ويقول مبيناً سريان بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل ما مسَّه - صلى الله عليه وسلم - ووطئته قدماه: "فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جسده الشريف كله بركة، وما انفصل من جسده فهو مباركٌ؛ كشَعْره، وعَرَقه، ودمه، وما باشر جسده الشريف تسري إليه البركة؛ كجبَّته، وقصعته، والتراب الذي وطئه، وما لامسته يداه؛ كرمَّانة المنبر. وتسري بركته - صلى الله عليه وسلم - إلى المكان أيضاً؛ مثل مصلاه، وبيته، وحجرته، والمواضع التي صلى فيها، أو التي مكث بها؛ قال ابن حجر: "ولو لمدة قصيرة". وقد بينّا ذلك. وأوضح مثال لهذا المدينة النبوية كلها، بوركت بوجوده فيها - صلى الله عليه وسلم – بذاته، وبجسده الشريف؛ فالتراب والجدار الذي باشره يُتبرَّك به - إذا وجد - ويُتبرَّك بقصد المكان للمكث فيه أو الصلاة فيه.. كما نقلنا عن السلف؛ فلا معنى لنفي البركة عن المكان".
فهذا هو المعنى الذي لأجله يرى الشيخ جواز التبرك بالآثار النبوية المكانية، ولست أدري لما اقتصر الشيخ على ثلاثة أنواع من التبرُّك دون غيرها، إن كان الأمر كما ذكر، ولما لا يبيح التمسُّح بالمكان الذي لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسَّه، ما دام مباركاً، وما الفرق حقيقةً - إن كان الأمر كما يدعي- بين رمَّانة منبره والأرض التي جلس عليها، ما دامت البركة سارية فيها؟! ثم ما الدليل على دعوى الشيخ هذه: أن بركته تسري لكل مكان لبث فيه؟!
أما إذا تأملنا في أحوال من يستدل الشيخ بأفعالهم من سلفنا الصالح – كابن عمر وغيره - فسنلحظ أنهم كانوا يفعلون ما يفعلون، لا طلباً لبركة المحل والمكان؛ وإنما تحرِّياً لأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يأتوا بها على وجه الموافقة التامة، في هيئتها وصفتها، ومكانها وزمانها، إن قدروا عليه.
فتأمل صنيع سلمة، وتحرِّيه الصلاة حيث كان يتحرَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلِّي، وكذا جابر؛ كان يدعو في المكان الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، فلا سلمة بالذي اقتصر على الدعاء أو مجرد المكث في ذلك المكان، ولا جابر بالذي حرص على الصلاة أو مجرد المكث في المكان الآخر!
وهذا المعنى أوضح ما يكون في سيرة ابن عمر، الذي كان لشدة تحرِّيه يَتَقَصَّد أن يصلي حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتقدَّم في المواقف بعرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وقف فيها، ويقول برأس راحلته بمكة، يثنيها ويقول: "لعل خُفّاً يقع على خُفٍّ"! بل ويبول في المكان الذي بال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قيل فيه - رضي الله عنه - وعن شدة تتبعه لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو رأيت ابن عمر يتَّبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت مجنون"! فهل كان هذا الاتباع منه تبرُّكاً بالبقعة، أم هي المتابعة والموافقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله بالمكان الذي فعل؟
فلم يكن ابن عمر ولا غيره يفعل هذه الثلاث (الصلاة والدعاء والمكث) في كل مكان نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان لا يفعل فيها إلا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وفرقٌ عظيمٌ بين ما يقول به الشيخ، وما وقع من بعض الصحابة، من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا بيٍّنٌ بحمد الله، وإلا فهل كان ابن عمر يفعل واحداً من هذه الثلاث في المكان الذي نزله النبي - صلى الله عليه وسلم – ليبول؟! وهل بوله حيث بال النبي - صلى الله عليه وسلم - دالٌّ على تبرُّكه بهذه البقعة؟! بل هذا الصنيع منه مخالفٌ لمطلوب الشيخ؛ إذ حظّ المكان المبارك أن يُحترم ويُكرم، ويُجنَّب مثل هذا الصنيع.
وعليه: فلو أن الشيخ قد قال بجواز موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله، بأدائها حيث فعل - ولو اتفاقاً - من غير تحرٍّ للمكان؛ لكان له سلفٌ من السلف الصالح، كابن عمر وغيره، مع قولنا بأن هذا الاجتهاد منه - رضي الله عنه - اجتهادٌ مرجوحٌ، وهو على خلاف رأي أبيه - رضي الله عنه - ورأي جماهير الصحابة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه رحمة الله -: "وكذلك ابن عمر؛ كان يتحرَّى أن يسير مواضع سير النبي - صلى الله عليه وسلم -وينزل مواضع منزله، ويتوضَّأ في السَّفر حيث رآه يتوضَّأ، ويصبَّ فضلَ مائه على شجرةٍ صبَّ عليها، ونحو ذلك مما استحبَّه طائفةٌ من العلماء، ورأوه مستحبّاً، ولم يستحبّ ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبّه ولم يفعله أكابر الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل... وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر، ولو رأوه مستحبّاً لفعلوه، كما كانوا يتحرُّون متابعته والاقتداء به.
وذلك لأن المتابعة: أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة؛ شُرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة؛ خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يلتمس الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرَّى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
وأما ما فعله بحكم الاتفاق - ولم يقصده - مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه؛ لكونه نزله، لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه. فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول؛ لم نكن متَّبعين؛ بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب.
كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة، عن سليمان التَّيمي، عن المعرور بن سُوَيْد، قال: "كان عمر بن الخطاب في سفرٍ، فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلَّى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتَّبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً؛ فمن عرضت له الصلاة فليصلِّ، وإلا فليمضِ".
فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه؛ بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعةً؛ بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبُّه بهم في ذلك. ففاعل ذلك متشبِّهٌ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصورة، ومتشبِّهٌ باليهود والنصارى في القَصْد، الذي هو عمل القلب. هذا هو الأصل؛ فإن المتابعة في النية أبلغ من المتابعة في صورة العمل" (قاعدة جليلة، في التوسل والوسيلة: 201).
وهذا كلام متين، من إمام محقِّق؛ فاستمسك به.
أما قول الشيخ بجواز التبرك بكل ما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمكنة فقولٌ غريب، لا دليل عليه، وليس بثابت في أفعال الصحابة كما قد تبيَّن، وعليه؛ فإن قول الشيخ - حفظه الله - في صنيع ابن عمر: "وذكرتُ الحديثَ الصحيح في البخاري، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - وعن سالم ابنه، ونافع مولاه، تتبُّعهم للأماكن النبوية؛ ولا شك أن تتبُّعهم للتبرُّك، وإلا لم يكن له كبير معنى" غير صحيح كما قد تبيَّن.
والتبرُّك عند الشيخ بهذه الأماكن على ثلاثة أنواع كما سبق: الصلاة، والدعاء، والمكث.
وإني لأتساءل ما فائدة المكث المجرَّد فيما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن لصلاة وغيرها؟! وأي خير يستفيده الإنسان من مثل هذا؟! هل يرجو الأجر بمجرد هذا الجلوس، أو الشفاء، أو الخير، أو ماذا؟! وهل جرى مثل هذا من أحد من الصحابة؛ فتَقَصَّد أن يجلس في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مصلاه، أو غير ذلك من منازله، جلوساً مجرَّداً؛ رجاء بركة البقعة؟!
هذا ما لا أعلم ثبوته عن واحد منهم - رضي الله عنهم - وبهذا يتبين بطلان ما قاله الشيخ – حفظه الله - في تقرير هذه المسألة: "بل أقولُ أكثر من ذلك: إن التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية لا خلاف فيه طوال القرون الثلاثة المفضَّلة، وطوال القرون بعد ذلك، ولا أعلم أحدًا خالف في ذلك؛ إلا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله".
والخلاصة :
أن ما كان يجري من ابن عمر وأمثاله إنما هو المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الهيئة الظاهرة، فيفعل مثل ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي فعل، وهذا على خلاف رأي الشيخ الذي يعلِّل ذلك بالتبرُّك - كما سبق - وعلى كلٍّ؛ فجماهير الصحابة وساداتهم على خلاف صنيع ابن عمر؛ بل إن عمر - رضي الله عنه - قد أنكر على من فعل مثل صنيع ابنه كما تقدم مراراً.
هذا ما تيسر ذكره من ملاحظات عن تعقيب الشيخ عبدالعزيز القاري - غفر الله له - على أخيه الشيخ علوي السقَّاف، وإني لأدعو الشيخ أن يتأمل في المسألة، ويراجعها، وينظر؛ لعل شيئاً فاته، ولعل فيما ذَكر ما يستحق أن يستدرك.
أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يهدينا، ويغفر لنا، ويرحمنا، اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
مصدر التّعقيـب :
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=596
بين الشيخ القاري والشيخ السقَّاف
في مسألة التبرك بالآثار النبوية المكانية
للشيخ عبدالله بن صالح العجيري -وفقه الله تعالى -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اطَّلعت على مقالة لفضيلة الشيخ عبدالعزيز القاري - حفظه الله - يتعقب فيها ما كتبه الشيخ (علوي بن عبدالقادر السقَّاف)، بخصوص ما أثاره الأول من القول بجواز التبرك بالآثار النبوية المكانية، وذلك في كتابه "الآثار النبوية بالمدينة المنورة.. وجوب المحافظة عليها، وجواز التبرك بها".
ولقد أحسن الشيخ السقَّاف في ردِّه غاية الإحسان، وكفى من بعده تبعة الرد أو البيان، وبيَّن بالأدلة الشرعية الصحيحة عدم جواز ذلك التبرك، وبدعيته، وأنه على خلاف الهَدْي الأول؛ فعاد الشيخ القاري - حفظه الله - في مقاله هذا للانتصار لرأيه بالجواز، في محاولة لإقامة ما يراه من الأدلة، والرد على بعض الإشكالات التي أثيرت عنها، وجمهور ما ذكره الشيخ في تعقيبه هذا إنما هو تكرارٌ لنفس الشبهات التي ساقها في كتابه الأصل، إضافةً إلى لون تراجع أو توضيح بخصوص هذه المسألة، مع إعراضٍ عن بعض ما أورده الشيخ السقَّاف من أدلة وإشكالات، ونسبة بعض القضايا إليه، وهو منها بريء.
فأحببت تقييد بعض الكلمات بخصوص تعقيب الشيخ هذا، تنبيهاً للقارئ على جملة من القضايا التي أرى أن الشيخ كان - ولا زال - مجانباً للصواب فيها، مُذكِّراً ببعض ما سبق إلى ذكره الشيخ السقَّاف في تعقبه على الشيخ القاري، وذلك لظني أن جملةً عريضةً من القرَّاء - وللأسف - قد يتأثر بكلام المتأخر في المناقشات العلمية، لمجرد كونه آخر المتكلمين، دون أن ينظر في أدلة الفريقَيْن، ويرى أيَّ القولين أقرب إلى الحق والدليل، ولأني أحسب أن البعض قد لا يقرأ مقال الشيخ السقَّاف - حفظه الله - إلا عبر مقال الشيخ عبدالعزيز، وبعيونه، ووفق فهمه، الذي سيظهر أن الشيخ - غفر الله له - لم يكن مصيباً في فهم كثير من كلام الشيخ السقَّاف؛ فلم يحسن الجواب عليه. أسأل الله أن يغفر لنا وله ولعموم المسلمين.
وأهم القضايا التي سيتم معالجتها -إن شاء الله- في هذه المقالة، التي أرى أن الشيخ لم يكن موفقاً في معالجتها:
- توضيحٌ لحقيقة التبرك بالآثار النبوية المكانية، بين ما ذكره الشيخ القاري في تعقيبه، وما أورده في الكتاب.
- عودة الشيخ إلى الاستدلال بنصوص خارجة عن محل البحث.
- حقيقة موقف الإمام مالك من التبرك بالآثار النبوية المكانية.
- اتهام الشيخ القاري للشيخ السقَّاف بإنكار التبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً.
- اتهام الشيخ للشيخ السقَّاف بتوقيت البركة النبوية، وأن للتبرك بآثاره مدة صلاحية لا تصلح بعدها تلك الآثار للتبرك.
- إصرار الشيخ على نسبة القول بجواز التبرك بالآثار النبوية المكانية للشيخ عبدالعزيز بن باز، وبراءة الشيخ ابن باز من ذلك.
- موقف جمهور الصحابة من تتبع ابن عمر لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نسبه الشيخ إليهم.
- حقيقة الفرق بين مذهب ابن عمر في تتبع الآثار النبوية، وما يريد الشيخ تقريره في هذه المسألة، وأن الشيخ لا سلف له من الصحابة فيما يذهب إليه.
وغيرها من المسائل التي ستراها بإذن الله - جلَّ وعلا - في هذه المقالة. أسأل الله لي وللشيخ التوفيق والسداد.
ولستُ بحاجة هنا للتأكيد على تقديري للشيخ عبدالعزيز، ومحبتي له، ومعرفتي لفضله وعلمه -حفظه الله - فإن هذه كلها محفوظة له، ولكنها لا تمنع المُحِبَّ أن يراجع، وأن ينقد، وأن ينصح، شريطة أن يكون بعلم وحِلْم، وإني لأرجو أن يكون فيما سيأتي علماً نافعاً، وحلماً يكسر حدَّة القلم، فإلى بعض الملاحظات والاستدراكات على مقال الشيخ عبدالعزيز القاري "الآثار النبوية.. تعقيبٌ على تعقيب"، والمنشور في موقع (الإسلام اليوم)، بتاريخ 13/2/1428هـ:
1- بيَّن الشيخ في أول تعقيبه مقصوده بالتبرك بالآثار المكانية؛ فقال: "والمقصود بالتبرك بالأماكن النبوية هو: قَصْدُها للصلاة فيها والدعاء، أو المكث بها"، وقال: "ولكن مقصودنا - أنا وغيري - بالتبرك بالأماكن النبوية هو: قصدها للصلاة فيها والدعاء، أو المكث بها".
وهذا التنبيه من الشيخ لم يرد له ذكر في كتابه على هذا النحو، وأحسب أنه يعد لوناً من التراجع، أو التوضيح لما في كتابه من إطلاقات لكلمة التبرك، دون تقييد لها بما ذُكر هنا، بدءاً بعنوان الكتاب "الآثار النبوية بالمدينة المنورة.. وجوب المحافظة عليها، وجواز التبرك بها"، مروراً بكلمات الشيخ وإطلاقاته في أثناء الكتاب، وكان الأوْلى بالشيخ أن ينصَّ صراحةً على هذا الضابط للتبرك بالآثار النبوية المكانية في الكتاب؛ دفعاً للَّبس؛ إذ لفظة التبرك -كما لا يخفى- لفظةٌ مجملةٌ، يدخل تحتها أنواعٌ وأجناسٌ من الأفعال التي يُتطلب بها بركة الشيء؛ كاللمس، والتمسُّح، وغيرها.
وتقييد الشيخ هنا للتبرك وفق المعنى المذكور، وقصره على هذه الأنواع الثلاث – الصلاة، والدعاء، والمكث - دون غيرها، مما يخفف من حجم الخلاف - بحمد الله - لكنه لا يلغيه بالكلية؛ إذ القول بالتبرُّك بالأماكن التي لبث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة - على المعنى المذكور - مما يُنازع فيه الشيخ، ولا يُسلَّم له - كما سيتضح - بل هو قولٌ لم يقل به أحدٌ من الرعيل الأوَّل.
2- عاد الشيخ للتدليل على قوله بمشروعية التبرك بنفس الأدلة التي استدل بها في كتابه الأصل، فأورد في تعقيبه أحاديث عتبان، وسلمة، وجابر، وغيرها، مستدلاً بها على جواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية، وعذراً إن أعدت بعضاً مما ذكر في مناقشة هذه الأدلة؛ فإن الشيخ أعاد ذكر أدلته، دون أن يورد وجهاً جديداً يحسن التعلُّق به في تقوية ما ذهب إليه! وجمهور ما ذكره الشيخ من أدلة في كتابه ومقاله هو في الحقيقة خارجٌ عن بحث مسألتنا، وعن محل النزاع؛ وبيان ذلك:
أن الشيخ عبدالعزيز – حفظه الله - يقول بمشروعية التبرك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بالصلاة، أو الدعاء، أو المكث، سواءٌ صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان أو لم يصلِّ، وسواءٌ قصدها النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو لم يقصد، لكن ما أورده من أدلة لا تصحِّح له هذه الدعوى.
فهو حين يستدل، يستدل بأحاديث في قصد ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصده من الأماكن للصلاة، وذلك كتحري سلمة - رضي الله عنه - الصلاة في المكان الذي (يتحرَّاه)! النبي - صلى الله عليه وسلم – للصلاة. وفرقٌ كبيرٌ بين ما يريد الشيخ تقريره من هذا الحديث، وما يدل عليه ظاهر الحديث، وفرقٌ كبيرٌ بين أن يقصد العبد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن لأداء عبادة من العبادات، وقصد العبد لمكان لم يقصده النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما وقعت العبادة منه فيه اتفاقاً، فلسنا ننازع الشيخ في مشروعية تحري ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحراه من الأماكن أو الأوقات أو الأحوال للصلاة أو الدعاء، إنما المنازعة في تحري ما لم يتحراه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقصده على وجه الخصوص من الأماكن؛ بل وقعت منه الصلاة - مثلاً - على وجه الاتفاق في مكان من الأماكن، دون أن يكون لذات المكان خصوصية.
وحديث سلمة السابق وإن أورده الشيخ - حفظه الله - كما هو في "الصحيحين" في بداية المقال، بإثبات (تحري) النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة في ذلك المكان، لكنَّ هذا التحري الوارد سقط من نص الأثر في آخر المقال؛ فجاء هكذا: "فسلمة - رضي الله عنه - تحرّى المكان الذي كان يصلي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روضته الشريفة".
وشتَّان بين أن يُتحرى ما كان يتحراه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو نص الأثر، وبين أن يتحرى ما صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم.
والشيخ يرى أن ما وقع من سلمة وغيره إنما كان على سبيل التبرُّك بالبقعة التي مكث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس على سبيل التأسِّي والاقتداء، وأنَّ حَمْل هذا النص على هذَيْن لا يصح. يقول - حفظه الله -: "وأما القول بأنه من باب الاقتداء بالنبي والتأسِّي به - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يصحُّ هنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقال إنه كان يتبرَّك بنفسه! إنما يصح هذا القول إذا كان المقصود الفعل، وهو الصلاة.. ولكن في هذه النصوص التي أوردناها الكلام كله يدور عن المكان، وليس عن الصلاة، فسلمة - رضي الله عنه - تحرّى المكان الذي كان يصلي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روضته الشريفة، ولم يتحرَّ فعله، الذي هو الصلاة، حتى يسوِّغ لك أن تقول: إن مقصوده الاقتداء والتأسِّي". اهـ.
وهذا الكلام غير صحيح؛ بل كان سلمة - رضي الله عنه - يتحرَّى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصلاة في المكان الذي تحرَّاه، فكيف يقال بعد ذلك: "ولم يتحرَّ فعله، الذي هو الصلاة"؟!
وعليه: فما وقع من الصحابة - من هذا الجنس - وقع تأسِّياً به في صورة الفعل، وفي القصد والمكان، وليس للتبرُّك كما زعم الشيخ، والذي لا ذكر له مطلقاً في هذه النصوص جميعاً، فكيف يُترك ما نُصَّ عليه في الحديث إلى ما لم يُنصّ عليه.
وإني لا زلت أعجب من تمسك الشيخ بحديث سلمة هذا، مع كونه خارج محل النزاع ودائرة البحث!!
ولتأكيد ذلك أقول: الشيخ - حفظه الله - يستدل بالحديث على مشروعية الصلاة والدعاء والمكث في كل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة، ولازم ذلك أن سلمة - رضي الله عنه - كان يتتبع مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتحرَّاها بصلاته ودعائه، لكن حقيقة الأمر: أنه ما كان يتحرَّاها - لا هو ولا غيره - بفعل شيء من ذلك، إنما كان يقتصر على ما تحرَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصده من الأماكن، وهذا بيِّنٌ بحمد الله.
أما حديث عتبان - الذي فيه: "... وددتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي؛ فأتخذه مصلّى. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سأفعل إن شاء الله))... الحديث - فلا يخرج عمَّا تقدَّم من قصد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن عتبان أحبَّ أن يتخذ في بيته مصلّى، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه، فوافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى في مكان مخصوص؛ نزولاً عند رغبة عتبان - رضي الله عنه - فأين في الحديث مشروعية الصلاة بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة؟! وأين في الحديث ما يدلُّ على جواز التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم – المكانية؟!! ولو كان الأمر على ما يريده الشيخ؛ لم يلزم أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عتبان؛ بل كان يكفي أن يلبث - ولو لمدة قصيرة - في مكان من البيت، ليُتخذ هذا المكان مصلّى؟!
وأُذكِّر هنا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في هذا الحديث - وإن لم يَرُقْ للشيخ - فإن كلامه - رحمه الله - كلامٌ سديد، لا غبار عليه.
يقول - عليه رحمة الله -: "فإنه قصد أن يبني مسجداً، وأحبَّ أن يكون أوَّل من يصلِّي فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأن يبنيه في الموضع الذي صلَّى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد، وأراد أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي يبنيه؛ فكانت الصلاة مقصودةً لأجل المسجد، لم يكن بناء المسجد مقصوداً لأجل كونه صلى فيه اتفاقاً، وهذا المكان مكان قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فيه ليكون مسجداً؛ فصار قصد الصلاة فيه متابعةً له، بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد". [مجموع الفتاوى: 17/467].
أما استدراك الشيخ القاري على الشيخ السقَّاف تنبيهه على ما أورده (الحافظ ابن حجر) من احتمالات في فهم حديث عتبان، وقوله بضعفها، فبعضها ضعيفٌ صراحةً، لكنَّ الشيخ السقَّاف ما أراد بذكرها إلا التنبيه على الخلاف في فهم الحديث، وأن الكاتب - غفر الله له - اقتصر على جزء من كلام الحافظ، وأعرض عن جزء، وأن دلالة الحديث على جواز التبرُّك ليست قطعية كما ادَّعى الشيخ في كتابه، وكرره في مقاله هذا؛ بل لا دلالة في الحديث على ما يريده الشيخ من تجويز هذا التبرُّك، فضلاً عن كون تلك الدلالة المزعومة دلالة قطعية.
وأما قول الشيخ عبدالعزيز: "وأبعد من ذلك قول أخي الشيخ السقَّاف: كل ما في الأمر أن عتبان كلَّ بصره، وفعل فعلاً كان يُرى عليه فيه غضاضة - وهو صلاته في بيته - فأراد إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على فعله. وأقول لأخي إن هذا جيل البلاغة والبيان، أما كان يمكنه أن يقول: يا رسول الله، هل تجد لي رخصةً أن أصلي في بيتي؟ فيقول له الرسول: لا أجد لك رخصة، أو: افعل ولا حرج. فأين منطوق الحديث ودلالته الظاهرة من هذه التأويلات البعيدة المتكلَّفة". اهـ.
ويريد الشيخ هنا الاعتراض على ما ذكره الشيخ السقَّاف من حمل الحديث على المعنى المذكور، وبيان أنه أبعد من القول بأن عتبان أراد من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعْلِمَه باتجاه القبلة على وجه القطع، ولا شك أن ما ذكره الشيخ السقَّاف هنا ليس بأبعد ولا أضعف من هذا القول؛ بل ذاك القول هو الأضعف الأبعد، ومن تأمَّل في سياق نصِّ الحديث كاملاً، رأى أن هذا المعنى الذي أبداه الشيخ السقَّاف ممكنٌ محتملٌ، وليس كما يصوِّره الشيخ - غفر الله له - وإليك النصّ تامّاً - بين يديك - لتتأمل فيه:
"عن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدراً من الأنصار -: أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قد أنكرتُ بصري، وأنا أصلِّي لقومي، فإذا كانت الأمطار، سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي، فأتخذه مصلَّى. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سأفعل إن شاء الله)). قال عتبان: فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنتُ له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: ((أين تحب أن أصلِّي من بيتك؟)). قال: فأشرتُ إلى ناحية من البيت؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين، ثم سلَّم..." الحديث؛ رواه (البخاري: 425).
وبكل حال؛ فليس في النص دليلٌ على ما يريده الشيخ من تجويز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق.
وأما ما ذكره الشيخ بخصوص الواقدي، وما رواه عن الصحابة وأهل المدينة من قصدهم لمسجد عتبان للصلاة، فالواقدي - كما يعلم الشيخ - متروكٌ كذَّاب، ولا يصلح لمسألتنا هذه التعلُّق بروايته - مع كونه حافظاً لجملة واسعة من التواريخ، وكونه وعاءً من أوعيته - إذ مسألتنا من مسائل الدين والشريعة، التي لا يصلح أن يُستدل فيها إلا بالأخبار الصحيحة الثابتة، وهذا ما لا ينبغي أن يُختلف عليه، وليت الشيخ إذ أراد الاستدلال برواية الواقدي المتروك أن يبين - ولو أطال - الموقف العلمي الصحيح من رواية الواقدي وأمثاله؛ حتى نتبين وجه الحُجَّة، وإني لأعجب من وصف الشيخ لرواية الواقدي (بالثبوت)، وهو المتروك في علم الرواية!!
ثم نقولُ: فهب أن الصحابة كانوا يصلُّون في ذلكم المسجد؛ بل ويقصدونه للصلاة، فما الضير في ذلك، وقد قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه نزولاً عند رغبة عتبان، وليكون ذلك المكان مصلَّى؟!
أما حديث جابر: فلو سُلِّم بصحة ما جاء من قصد جابر للدعاء في مسجد الفتح فيما بين الأذانين، على ما في رواية "الأدب المفرد"؛ فليس ذلك من قبيل التبرُّك بذلكم المكان، وإنما هي المتابعة والتحرِّي لِمَا قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد تحرَّى الدعاء في هذا المسجد - في وقت مخصوص - ثلاثة أيام متتالية، فاستجيب له في آخرها! فليس فيه دليلٌ على ما يريده الشيخ من جواز التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية - كما لا يخفى - بل غاية الأمر متابعةٌ فعلها جابر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه، في مكان وزمان مخصوص.
فما سبق دالٌّ على أن دعوى الشيخ بجواز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أوسع من دلالة ما أورده من نصوص، فالشيخ يقول بمشروعية التبرُّك – الصلاة، والدعاء، والمكث - بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة، وما أورده دالٌّ على مشروعية قصد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو الدعاء من الأماكن، دون ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً، وليت شعري؛ لِمَ اقتصر هؤلاء الصحابة على فعل ما فعلوا في أماكن مخصوصة، مادام كل موطن لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحاً لذلك؟!!
3- يتضح بهذا: أن ما أورده الشيخ عقب أثر سلمة السابق من كلام الإمامين الكبيرَيْن مالك وأحمد لا مورد له في تقرير مسألتنا، فغاية المنقول عن مالك موافقٌ للمنقول عن سلمة، وهو ما لا نُنازع فيه، وليس في كلامه - رحمه الله - جواز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة.
يقول الشيخ عبدالعزيز: "ومن هذا الحديث - أي حديث سلمة - أخذ مالك -إمام دار الهجرة، رحمه الله - استحباب أن يصلِّي النوافلَ في هذا المكان؛ كما في (البيان والتحصيل لابن رشد: 17/133): ".. روى ابن وهب، عن مالك، أنه سُئل عن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل له: أيُّ المواضع أحبُّ إليكَ الصلاة فيه؟ قال: أمَّا النافلة؛ فموضع مصلاَّه، وأما المكتوبة؛ فأوَّل الصفوف". فالأمر لا يعدو تحرِّياً لما تحرَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن، كتحرِّيه للصلاة في مسجد قُبَاء، وخلف مقام إبراهيم عقب الطواف.. وهكذا، وليس هذا محلُّ النزاع - كما تقدَّم.
وإني أُذكِّر - وليعذر القارئ - بما نقله الشيخ السقَّاف من كلام الإمام مالك بخصوص هذه المسألة، الذي أعرض الشيخ عنه، ولم يعلِّق عليه!
قال ابن وضَّاح القرطبي في (البدع والنهي عنها: ص108): "وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم – ما عدا قُباءً وأُحُداً – يعني: شهداء أحد".
وقال ابن بطَّال في (شرح البخاري: 3/159): "روى أشهب، عن مالك، أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يعجبني ذلك؛ إلا مسجد قباء".
وأزيد هنا ما ذكره الحافظ ابن عبدالبر، عن الإمام مالك، مما له صلة بمسألتنا. يقول - عليه رحمة الله -: "وقد كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بُويع تحتها بيعة الرضوان، وذلك - والله أعلم - مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في مثل ذلك" (الاستذكار: 2/360).
فلِمَ الإعراض عن هذه الأقوال الصريحة لمالك - عليه رحمة الله - والتعلق بقول خارج عن محل بحثنا؟!
أمَّا الإمام أحمد: فمن الغريب أن ينقل الشيخ هنا خبر التبرُّك بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن ثمَّة منازعة في مشروعية ذلك، أو أن الشيخ السقَّاف لا يقول به، وهو ما حاول الشيخ أن يُلِّمح إليه في مقاله، وهو ظلمٌ يُنسب للشيخ السقَّاف، وخطأٌ يُحمل عليه، كما سيأتي.
4- من الغريب محاولة الشيخ عبدالعزيز إظهار الشيخ السقَّاف في مظهر المنكر للتبرُّك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، ومن المعلوم لكل من قرأ مقال الشيخ السقَّاف: أنه قائلٌ بمشروعية التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المنفصلة منه؛ كشَعْره، ورِيقِه، وعَرَقه... وغيرها، أو ما لامسه؛ كقصعته، وثيابه... وغير ذلك، لكنه يقول باندراس هذا التبرُّك المشروع؛ لاندراس هذه الآثار، وفرقٌ كبيرٌ بين مَنْ ينكر أصل مشروعية هذا اللون من التبرُّك، وبين مَنْ يقول: هو مشروعٌ، لكنه لا يمكن في هذه الأعصار؛ لانعدام ما يُتبرَّك به.
ثم إن كلام الشيخ عبدالعزيز في تصوير موقف الشيخ من هذه القضية لا يخلو من إيهام - أرجو أن لا يكون مقصوداً - قال الشيخ عبدالعزيز: "فإن الأخ الفاضل (علوي بن عبدالقادر السقَّاف) لا يعترف بمشروعية التبرُّك مطلقًا؛ لا بالآثار التي هي جزءٌ من جسده الشريف؛ كشعره، أو لامست جسده الشريف - صلى الله عليه وسلم - كثيابه وقصعته؛ لأنها اندرست، فاندرس معها التبرُّك بها، ولا بالآثار النبوية المكانية؛ لأن التبرك بها مرفوضٌ عنده؛ مع وجودها وتوافرها؛ إذن فلا تبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بأيِّ حال؛ فهو منفيٌّ عنده جملةً وتفصيلاً"!!
وإني لأتساءل: هل يقول الشيخ القاري بمشروعية التبرُّك بهذه الأمور جميعاً ليُنكر على الشيخ السقَّاف هذا الإنكار، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!
وأمَّا ما أثاره الشيخ في نهاية المقال، بقوله: "وإنني أتعجب من هذه العقدة في نفوس البعض من إثبات البركة النبوية، والتلهُّف إلى نفيها بالكليَّة؛ لأنها أصبحت مرتبطة في أذهانهم بالشرك والبدعة"، فليس من العدل ولا الإنصاف في محاكمة الخصوم، وإنها لتهمةٌ كبيرةٌ عريضةٌ، أُعظِم أن تخرج من مثل الشيخ، أو تصدر عنه، وإني لأحرج على الشيخ أن يقولها أو ينطق بها غاية التحريج، ووالله لو كان في الأدلة الشرعية ما يصحِّح دعوى الشيخ؛ لأخذنا به، ونشرناه، وأذعناه، ولوضعناه فوق رؤوسنا؛ لكننا نظرنا في خطابات الشارع وأحوال الصحابة، فلم نر فيها ما يدل - أدنى دلالة - على ما يريده الشيخ؛ فليست المسألة مسألة عقدة في إثبات البركة النبوية – وحاشا - فهي والله لثابتة له - صلى الله عليه وسلم - لكنه الدوران مع الأدلة الشرعية حيث دارت، فما أثبتته الشريعة من ألوان التبرُّك أثبتناه، وما لم تثبته تركناه.
5- من الغريب كذلك محاولة الشيخ - غفر الله له - أن ينسب للشيخ السقَّاف قولاً غريباً، وهو أن آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بركةٌ مؤقتةٌ، ووقتاً لا تصلح بعده للتبرك!!
يقول الشيخ عبدالعزيز: "فالبركة النبوية إذن – عند أخي السقَّاف - لها وقت معين، تنتهي صلاحيتها بانتهائه، من غير أن يحدد وقت هذه الصلاحية؛ بل يطلق كلامًا مبهمًا: "سنوات معدودات"... ولا شك أن مئتي سنة فأكثر تعتبر خارجة على هذا التوقيت؛ حيث كان الإمام أحمد (المتوفَّى سنة 241 هـ) يتبرك بتلك الشعرة النبوية – وفي رواية أنها ثلاث شعرات، (انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/337) - وكذلك لمَّا تبرّك بقصعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن مئتي سنة ليست مدة قليلة، ولا "سنوات معدودة". والتحديد الزمني يحكَّم بلا دليل، والصواب أنه لا توقيت للتبرُّك بأشياء النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بأجزاء جسده الشريف – كشعره - مادامت باقية، وغلب على الظن نسبتها إليه - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو ما يُفهم من صنيع الإمام أحمد - رحمه الله".
وهذا الكلام فيه ما فيه من التعدي والتجاوز في نسبة قول لا يقول به الشيخ قطعاً؛ بل الشيخ يقول بمشروعية التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المتقدِّم، ما دامت الآثار موجودة، أمَّا إذا عُدِمَت؛ فكيف يمكن أن يقع التبرُّك؟
أما ما يحاول الشيخ – غفر الله له - نسبته للشيخ السقَّاف؛ من أن لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - مدةً مخصوصةً يُتبرَّك بها، وأنه متى ما انتهى ذلكم الوقت؛ انتهت صلاحية الأثر للتبرُّك، مع بقاء عينها، فنسبةٌ باطلة، وإلزامٌ للشيخ بما لا يلزمه، وقد نقل الشيخ كلام الشيخ السقَّاف في هذه المسألة، وليس فيه ما يدلُّ على هذا الكلام.
يقول الشيخ السقَّاف: "أما آثاره، سواءٌ كانت جزءًا منه ثم انفصلت عنه، أو خارجةً عنه لكنها لامست جسده الطاهر؛ فهذه هي التي كان الصحابة يتبرَّكون بها دون توسع، وربما استمر الأمر على ذلك سنوات معدودات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت الآثار، وانقرض تبعًا لذلك هذا التبرُّك". وهو صريحٌ في أن سبب انقراض هذا التبرك هو انقراض الأثر، لا انتهاء مدة صلاحية الأثر للتبرُّك، وهو ما أوهمه الشيخ عبدالعزيز - غفر الله له – نعم؛ لو عبَّر الشيخ السقَّاف بغير قوله "سنوات معدودات" لكان أحسن؛ دفعاً للإيهام، أما الكلام بمجموعه؛ فبيِّنٌ صريحٌ، لا إشكال فيه.
6- من العجيب كذلك إصرار الشيخ - غفر الله له - على نسبة القول بجواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- وذلك في قوله ردّاً على الشيخ السقَّاف: "وسكتّ عن إقرار الشيخ (عبدالعزيز بن باز) لدلالة حديث عتبان على التبرُّك بالآثار المكانية، وذلك يوحي بأنني حمَّلتُ كلام الشيخ ابن باز - رحمه الله - ما لا يحتمل، حين نقلتُ عبارته الواضحة من (هامش فتح الباري)".
وقال: "وحتى الشيخ ابن باز؛ أيَّد ولم ينكر دلالة حديث عتبان على مشروعية التبرُّك بالأماكن النبوية". ونسبة هذا القول للشيخ ابن باز باطلة بيقين، وقد نقل الشيخ السقَّاف كلاماً صريحاً للشيخ عبدالعزيز بن باز في إنكار مشروعية ما ينادي به الشيخ القاري، فأعرض الشيخ - غفر الله له - عن نقله، مع وضوحه وصراحته، واطِّلاعه عليه، يقول الشيخ ابن باز - رحمه الله -: "والحق أن عمر - رضي الله عنه - أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء، سدّ الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه - رضي الله عنهما - وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر، وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك؛ لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسَّى به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها؛ فإن التأسِّي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع، كما دل عليه فعل عمر، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلوِّ والشرك؛ كما فعل أهل الكتاب،، والله أعلم". (هامش فتح الباري: 1/569).
فلو قُدر أن الشيخ ذهل عن هذا الكلام مع وجوده في إحدى صفحات "الفتح"، التي نقل منها الشيخ كلاماً للحافظ ابن حجر، وكان تعليق الشيخ ابن باز استدراكاً على نفس كلام الحافظ المنقول؛ أقولُ: لو قُدِّر ذلك، فما بال الشيخ - غفر الله له - يعرض عنه بعد اطِّلاعه عليه في كلام الشيخ السقَّاف!!
بل للشيخ ابن باز جملة من الفتاوى الدالة على عدم مشروعية تتبع الآثار النبوية، فضلاً عن التبرُّك بها؛ فمن ذلك قوله - مثلاً - في حكم قصد المساجد السبعة بالمدينة ومسجد القبلتين: "أما المساجد السبعة، ومسجد القبلتين، وغيرها من المواضع التي يذكر بعض المؤلفين في المناسك زيارتها؛ فلا أصل لذلك، ولا دليل عليه، والمشروع للمؤمن - دائماً - هو الاتباع دون الابتداع" (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: 6/321).
ويقول كذلك في فتوى أخرى: "وأما ما نُقل عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - واستلامه المنبر؛ فهذا اجتهادٌ منه - رضي الله عنه - لم يوافقه عليه أبوه، ولا غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعلمهم موافقٌ لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر - رضي الله عنه - الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها، ويصلُّون عندها؛ خوفاً من الفتنة بها، وسدّاً للذريعة" (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: 9/109).
ويقول كذلك: "لا يجوز للمسلم تتبع آثار الأنبياء؛ ليصلي فيها، أو ليبني عليها مساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - ينهى الناس عن ذلك، ويقول: "إنما هلك من كان قبلكم، بتتبعهم آثار أنبيائهم"، وقطع - رضي الله عنه - الشجرة التي في الحديبية، التي بويع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتها؛ لما رأى بعض الناس يذهبون إليها ويصلون تحتها؛ حسماً لوسائل الشرك، وتحذيراً للأمة من البدع، وكان - رضي الله عنه - حكيماً في أعماله وسيرته، حريصاً على سدِّ ذرائع الشرك، وحسم أسبابه؛ فجزاه الله عن أمة محمد خيراً. ولهذا لم يبن الصحابة - رضي الله عنهم - على آثاره - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة وتبوك وغيرهما مساجد؛ لعلمهم بأن ذلك يخالف شريعته، ويسبب الوقوع في الشرك الأكبر، ولأنه من البدع التي حذر الرسول منها - عليه الصلاة والسلام - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ))؛ متفقٌ عليه من حديث عائشة - رضي الله عنها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ)؛ رواه مسلم في "صحيحه". وكان - عليه الصلاة والسلام - يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعدُ، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))؛ خرجه مسلم في "صحيحه"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله". (مجموع فتاوى ومقالات: 17/421).
فهذا كلام الشيخ ابن باز، فهل يصحُّ بعد ذلك أن يُنسب القول بجواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية إليه؟!
7- نقل الشيخ كلاماً لإسحاق بن راهويه في معرِض كلامه عن عدم الفرق بين التبرُّك بالمكان، وبين التبرُّك بما اتصل من المكان بجسد النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتراب ونحوه، وذلك في معرِض ردِّه على الشيخ السقَّاف، في بيان الفرق، وأنه بتقدير جواز التبرُّك في الثاني، لوجود عَيْن لامست جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يجوز التبرُّك بالمكان بعد انعدام تلك العَيْن، فأتى الشيخ بكلام إسحاق؛ لبيان عدم تفريق السلف بين المسألتين؛ فقال: "وعبارة إسحاق بن راهويه - شيخ الإمام أحمد - تدل على أن السلف لا يفرقون بين هذين القسمين. يقول: "ومما لم يزل من شأن من حج؛ المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتبرُّك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه".
فيقال أولاً: ليس إسحاق بن راهويه بشيخ للإمام أحمد، وإنما هو من أقرانه، وأحمد أسنُّ منه، ولا ضير أن روى أحمد عن إسحاق؛ فإن روايته عنه لا تصيره تلميذاً له؛ بل هي من قبيل رواية الأقران، ولعل الشيخ أراد أن يُضفي على كلام إسحاق نوع جلالة بذكر هذه المشيخة، ويستميل قلوب القراء بهذا الأسلوب.
ويقال ثانيا: ليس في كلام إسحاق ما يُتعلَّق به في شأن مسألتنا؛ إذ غاية ما في كلام إسحاق أن الحجاج بعد فراغهم من حجهم، يقصدون المدينة للصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتكتحل عيونهم بمرأى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتبركوا (برؤية) روضته، (ورؤية) منبره، (ورؤية) قبره، (ورؤية) مجلسه، (ورؤية) ملامس يديه، (ورؤية) مواطئ قدميه. وإني لأعتذر للقارئ عن تكرار كلمة (رؤية)؛ لأنها مقصودةٌ في العطف في كلام إسحاق، كما هو بين واضحٌ، وإلا فهل يُتصوَّر في إسحاق أن يبيح التبرُّك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم!!
ولقد كنتُ في غنى عن هذا التعليق؛ لولا أن الشيخ عبدالعزيز - غفر الله له - قد علَّق على كلمة إسحاق فقال: "فالروضة الشريفة يُتبرَّك برؤيتها، والمكث بها، والصلاة فيها من باب أوْلى، ومنبره - صلى الله عليه وسلم - يُتبرَّك بالتمسُّح به - كما كان يفعل الصحابة - ومنبره اندرس، ولم يبق منه شيءٌ، لكن بقيت البقعة؛ فيُتبرَّك بالمكث بها - إن أمكن. وأما قبره، وجدار الحجرة النبوية التي بها قبره وقبرا صاحبيه؛ فلا يوصل إلى شيء من ذلك ليتبرَّك به؛ لأنه أُحيط بالجدران الثلاثة. وأما مجلسه – أي: الأماكن التي كان يجلس بها؛ كأسطوانة الوفود، وأسطوانة السرير - فيُتبرَّك بالجلوس فيها والدعاء والصلاة".
وليت شعري؛ لو أمكن للشيخ أن يصل لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفيجيز التبرُّك ساعتئذٍ؟! ظاهر عبارته: نعم، وهو باطلٌ بيقين، وقد كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يوصَل إليه زمن الصحابة؛ فهل عُرف عن واحد منهم التبرُّك به، بأي لون من ألوان التبرُّك؟! وحاشا إسحاق - رحمه الله - أن يقول بجواز التبرُّك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبارته كما تقدَّم لا تدلُّ عليه.
8- من الغريب جدّاً ظن الشيخ أن مخالفيه في هذه المسألة يَعتقدون أن هذا اللون من التبرُّك - الذي يعتقده الشيخ - لونٌ من ألوان الشرك؛ فيقول: "هنا قاعدة مهمة: عدم المخالفة يدل على الموافقة في هذه المسائل؛ لأن مسألة التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية لو كانت مرتبطة بالشرك؛ لما سكت الصحابة، وكذلك التابعون؛ فإنهم لا يسكتون على منكر؛ فكيف يسكتون على شرك؟!".
وكنتُ أربأ بالشيخ أن يتهم مخالفيه بمثل هذه التهمة، دونما مستند أو دليل، ثم يبني عليها مثل هذا الكلام؛ ليجعله دليلاً على المطلوب، والمخالفة في هذه المسألة لا تصل بصاحبها حدَّ الشرك - كما لا يخفى- فما بناه الشيخ على وصف الشرك - والحالة هذه - غير وارد. ثم نقول: ليس في أفعال الصحابة والتابعين تبرُّك بالبقعة - كما تقدَّم - بل غاية ما ثبت موافقة بعضهم لقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبقعة معينة، وما وقع من بعضهم من قصد ما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم – اتفاقاً، فليس من قبيل التبرُّك كما يظنه الشيخ، وهذا ما سيتضح في نهاية المقال - إن شاء الله - ثم إنكار ما يريده الشيخ موجودٌ من فعل عمر؛ فلما الإعراض عنه، والتكلُّف في تأويله؟!
9- أعاد الشيخ في ردِّه هذا الكلام على أثر عمر، والمروي عن المعرور بن سُوَيْد، في محاولة لتضعيف دلالة الحديث على عدم مشروعية تَقَصُّد ما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنازل اتفاقاً. يقول المعرور بن سُوَيْد: "وافيتُ الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما انصرف إلى المدينة وانصرفت معه، صلى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل} [الفيل: 1] و: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]، ثم رأى أناساً يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما أُهلك من كان قبلكم بأشباه هذه، يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً، ومَنْ أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله؛ فليصلِّ فيها، ولا يتعمدنَّها".
ولا شك أن هذا الأثر في غاية القوة في الدلالة على عدم مشروعية تتبُّع المواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً، وتَقَصُّد الصلاة فيها، ومع ذلك فالشيخ مُصِرٌّ أنه لا دلالة لهذا الأثر؛ فيقول: "وأما حديث عمر الذي رواه المعرور بن سُوَيْد؛ فأجاب عنه الحافظ ابن حجر، وملخص الأجوبة: أنها واقعة عَيْن، ولها أسبابٌ كانت حاضرة في تلك الواقعة، وإلا فكيف تفسر سكوت الفاروق عن ابنه طوال الوقت؟ أيحابي عمر ابنه عبد الله؟!".
والشيخ يشير إلى ما ذكره في كتابه من أجوبة الحافظ ابن حجر على أَثَر عمر هذا، وأن إنكار عمر إنما كان لأحد أمرين:
أ- إمَّا أنه أنكر على قوم يزورون هذه الأماكن ولا يصلون.
ب- أو خشية أن يُعتقد وجوب ذلك.
وكلا الوجهين لا يخلو من تكلُّف بيِّن؛ فالأول: على خلاف نص الحديث؛ بل وعلى خلاف ما يراه الشيخ، فهو لا يرى غضاضة من تَقَصُّد هذه الأماكن للزيارة والمكث المجرَّد.
أما الثاني: فكسابقه، على خلاف ظاهر الأثر، ولقد كان يكفي عمر أن يبيِّن ذلك بكلامٍ عربيٍّ مبين، دون الحاجة لأن ينكر عليهم إنكاره هذا، ويقول لهم ما قال.
يؤكد هذا ما أورده الشيخ من أثر عمر - رضي الله عنه - في قطع شجرة الرضوان، وذلك في سياق نقله من كلام الحافظ ابن حجر، وفيه: "ثم وجدتُ عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع: أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة، فيصلون عندها؛ فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقُطعتْ".
قال الشيخ معلِّقاً: "لقد ذكر أخي الفاضل خبر قطع الفاروق عمر - رضي الله عنه - الشجرة، وهو مرسلٌ؛ لأن نافعاً لم يلقَ عمر؛ قال الإمام أحمد: "نافع عن عمر منقطعٌ" (انظر: "التهذيب" لابن حجر: 10/414). لكن هذا الخبر مشهور، وإن كان مرسلاً فهو مقبول".
أليس هذا الفعل من عمر كفعله السابق في حديث المعرور، في إنكار قصد هذه المواقع للصلاة، سواءً بسواء، وهو ما لا يراه الشيخ - غفر الله له؟!
أما قوله فيمن كان يصلي عندها: إنهم إمَّا صحابة وإمَّا تابعون، وأن طارق بن عبدالرحمن مر بمَن كان يصلي عندها، ولا ينكر عليهم. فلا أدري ما وجهه، وما الحُجَّة فيه، وكيف يُترك إنكار عمر الصريح لفعل مجاهيل لا تُعرف أعيانهم، وهل من الإنصاف الإعراض عن الأمر المحكم المعلوم إلى أمر مجهول، وليس ينفع الشيخ قيام الاحتمال بكون بعض أولئك من الصحابة؛ إذ الاحتمال قائم بكونهم ليسوا منهم، ولو قدر أن بعضهم من الصحابة؛ فمن علم - وهو عمر - حُجَّةً على مَنْ لم يعلم، وليس فعلهم هذا بأبلغ مما كان يفعله ابن عمر، ولم يوافقه عليه جماهير الصحابة، كما سيتضح - إن شاء الله.
10- أما ما ذكره الشيخ - غفر الله له - من أن عدم مخالفة الصحابة لابن عمر - على حدِّ زعمه - دالٌّ على الموافقة، وقوله: "فعدم نقل المخالفة أو الإنكار يدلُّ على الموافقة؛ بخلاف العكس، وهو ما حاولتَ الاستدلال به، فجزمتَ بأن أبا بكر وعمر وبقية الصحابة كانوا يخالفون ابن عمر، ولا يرون التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية، ودون أن تثبتَ ذلك خرط القتاد؛ لكنك تستدل بأنه لم يُنقل عنهم، وعدم النقل هنا ليس دليلاً".
فالشيخ يعتقد أن عدم النقل هنا لا يفيد نقل العدم، وأنه من الممكن المحتمل أن أبا بكر وعمر وبقية الصحابة كانوا يصنعون صنيع ابن عمر، وهذا في الحقيقة أمر عجيب! ولو فتح هذا الباب لانفتحت علينا أبواب البدع؛ فكلما قلنا هذا لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمكن أن يُدعى ما ادَّعاه الشيخ هنا، من أن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، ومعلومٌ أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ بل هي فيما أمكن أن لا ينقل لقلته وندرته، وعدم توافر الهمم على نقله، أما مسألتنا هذه؛ فلو كان من ذلك شيئ لنُقل، ولا أعلم أحداً من أهل العلم ادَّعى أن هذا ليس خاصّاً بابن عمر، وأن الصحابة كانوا مثله في شدَّة تحري أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما نُقل عنه، ولم يُنقل عنهم، مع اشتراك الكل في هذا التحرِّي، كيف وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تقول: "ما كان أحدٌ يتَّبع آثار - صلى الله عليه وسلم - في منازله كما كان يتبعه ابن عمر"؟ فما كان أحد يصنع كصنيعه، ولا يتحرى تحريه، بل أنكر عمر - وإن أبى الشيخ – على مَنْ صنع صنيع ابنه، وليت شعري؛ أيهما أقرب للمعقول والإمكان: عدم نقل إنكار عمر على ابنه لو وقع، أو عدم نقل موافقة عمر وغيره لابنه؟!!
وهذا كله لو سُلِّم أن ما جرى من ابن عمر كان على وجه التبرُّك، والصواب أن ذلك لم يكن منه - رضي الله عنه - ولا من غيره على وجه التبرُّك بالبقعة على النحو الذي يريده الشيخ – غفر الله له- وهذا يتضح بالنقطة التالية.
11- أختم مقالتي هذه بهذه النقطة - بعدما تقدم - للتأكيد على مسألة غاية في الأهمية؛ وهي أن ثمة فرقاً حقيقياً بين مَنْ يستدل الشيخ بأفعالهم من السلف، وما يذهب إليه - حفظه الله - في هذه المسألة، فالشيخ يرى أن الاعتبار في التبرُّك بالآثار النبوية المكانية هو سريان البركة فيها، ولذا فهو يرى مشروعية الصلاة والدعاء والمكث بها لبركة المكان، ولا فرق لديه بين أن يكون المكان مما أَحْدَثَ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة أو لم يُحْدِث، وبين أن يكون قاصداً للمكان لإحداث العبادة أو غير قاصد، فكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة؛ فيُشرع أن يُتبرَّك به -أي بالصلاة والدعاء والمكث.
ولا يختلف الحكم بين مكان صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو دعا أو جلس، فمجرد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المكان هذه الخصوصية؛ ولذا يقول الشيخ مبيناً حقيقة الأماكن النبوية: "أي: الأماكن التي وطئتها قدماه الشريفتان، صلى فيها، أو مكث بها ولو لمدة قصيرة"، ويقول مبيناً سريان بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل ما مسَّه - صلى الله عليه وسلم - ووطئته قدماه: "فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جسده الشريف كله بركة، وما انفصل من جسده فهو مباركٌ؛ كشَعْره، وعَرَقه، ودمه، وما باشر جسده الشريف تسري إليه البركة؛ كجبَّته، وقصعته، والتراب الذي وطئه، وما لامسته يداه؛ كرمَّانة المنبر. وتسري بركته - صلى الله عليه وسلم - إلى المكان أيضاً؛ مثل مصلاه، وبيته، وحجرته، والمواضع التي صلى فيها، أو التي مكث بها؛ قال ابن حجر: "ولو لمدة قصيرة". وقد بينّا ذلك. وأوضح مثال لهذا المدينة النبوية كلها، بوركت بوجوده فيها - صلى الله عليه وسلم – بذاته، وبجسده الشريف؛ فالتراب والجدار الذي باشره يُتبرَّك به - إذا وجد - ويُتبرَّك بقصد المكان للمكث فيه أو الصلاة فيه.. كما نقلنا عن السلف؛ فلا معنى لنفي البركة عن المكان".
فهذا هو المعنى الذي لأجله يرى الشيخ جواز التبرك بالآثار النبوية المكانية، ولست أدري لما اقتصر الشيخ على ثلاثة أنواع من التبرُّك دون غيرها، إن كان الأمر كما ذكر، ولما لا يبيح التمسُّح بالمكان الذي لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسَّه، ما دام مباركاً، وما الفرق حقيقةً - إن كان الأمر كما يدعي- بين رمَّانة منبره والأرض التي جلس عليها، ما دامت البركة سارية فيها؟! ثم ما الدليل على دعوى الشيخ هذه: أن بركته تسري لكل مكان لبث فيه؟!
أما إذا تأملنا في أحوال من يستدل الشيخ بأفعالهم من سلفنا الصالح – كابن عمر وغيره - فسنلحظ أنهم كانوا يفعلون ما يفعلون، لا طلباً لبركة المحل والمكان؛ وإنما تحرِّياً لأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يأتوا بها على وجه الموافقة التامة، في هيئتها وصفتها، ومكانها وزمانها، إن قدروا عليه.
فتأمل صنيع سلمة، وتحرِّيه الصلاة حيث كان يتحرَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلِّي، وكذا جابر؛ كان يدعو في المكان الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، فلا سلمة بالذي اقتصر على الدعاء أو مجرد المكث في ذلك المكان، ولا جابر بالذي حرص على الصلاة أو مجرد المكث في المكان الآخر!
وهذا المعنى أوضح ما يكون في سيرة ابن عمر، الذي كان لشدة تحرِّيه يَتَقَصَّد أن يصلي حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتقدَّم في المواقف بعرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وقف فيها، ويقول برأس راحلته بمكة، يثنيها ويقول: "لعل خُفّاً يقع على خُفٍّ"! بل ويبول في المكان الذي بال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قيل فيه - رضي الله عنه - وعن شدة تتبعه لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو رأيت ابن عمر يتَّبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت مجنون"! فهل كان هذا الاتباع منه تبرُّكاً بالبقعة، أم هي المتابعة والموافقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله بالمكان الذي فعل؟
فلم يكن ابن عمر ولا غيره يفعل هذه الثلاث (الصلاة والدعاء والمكث) في كل مكان نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان لا يفعل فيها إلا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وفرقٌ عظيمٌ بين ما يقول به الشيخ، وما وقع من بعض الصحابة، من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا بيٍّنٌ بحمد الله، وإلا فهل كان ابن عمر يفعل واحداً من هذه الثلاث في المكان الذي نزله النبي - صلى الله عليه وسلم – ليبول؟! وهل بوله حيث بال النبي - صلى الله عليه وسلم - دالٌّ على تبرُّكه بهذه البقعة؟! بل هذا الصنيع منه مخالفٌ لمطلوب الشيخ؛ إذ حظّ المكان المبارك أن يُحترم ويُكرم، ويُجنَّب مثل هذا الصنيع.
وعليه: فلو أن الشيخ قد قال بجواز موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله، بأدائها حيث فعل - ولو اتفاقاً - من غير تحرٍّ للمكان؛ لكان له سلفٌ من السلف الصالح، كابن عمر وغيره، مع قولنا بأن هذا الاجتهاد منه - رضي الله عنه - اجتهادٌ مرجوحٌ، وهو على خلاف رأي أبيه - رضي الله عنه - ورأي جماهير الصحابة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه رحمة الله -: "وكذلك ابن عمر؛ كان يتحرَّى أن يسير مواضع سير النبي - صلى الله عليه وسلم -وينزل مواضع منزله، ويتوضَّأ في السَّفر حيث رآه يتوضَّأ، ويصبَّ فضلَ مائه على شجرةٍ صبَّ عليها، ونحو ذلك مما استحبَّه طائفةٌ من العلماء، ورأوه مستحبّاً، ولم يستحبّ ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبّه ولم يفعله أكابر الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل... وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر، ولو رأوه مستحبّاً لفعلوه، كما كانوا يتحرُّون متابعته والاقتداء به.
وذلك لأن المتابعة: أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة؛ شُرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة؛ خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يلتمس الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرَّى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
وأما ما فعله بحكم الاتفاق - ولم يقصده - مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه؛ لكونه نزله، لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه. فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول؛ لم نكن متَّبعين؛ بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب.
كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة، عن سليمان التَّيمي، عن المعرور بن سُوَيْد، قال: "كان عمر بن الخطاب في سفرٍ، فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلَّى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتَّبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً؛ فمن عرضت له الصلاة فليصلِّ، وإلا فليمضِ".
فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه؛ بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعةً؛ بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبُّه بهم في ذلك. ففاعل ذلك متشبِّهٌ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصورة، ومتشبِّهٌ باليهود والنصارى في القَصْد، الذي هو عمل القلب. هذا هو الأصل؛ فإن المتابعة في النية أبلغ من المتابعة في صورة العمل" (قاعدة جليلة، في التوسل والوسيلة: 201).
وهذا كلام متين، من إمام محقِّق؛ فاستمسك به.
أما قول الشيخ بجواز التبرك بكل ما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمكنة فقولٌ غريب، لا دليل عليه، وليس بثابت في أفعال الصحابة كما قد تبيَّن، وعليه؛ فإن قول الشيخ - حفظه الله - في صنيع ابن عمر: "وذكرتُ الحديثَ الصحيح في البخاري، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - وعن سالم ابنه، ونافع مولاه، تتبُّعهم للأماكن النبوية؛ ولا شك أن تتبُّعهم للتبرُّك، وإلا لم يكن له كبير معنى" غير صحيح كما قد تبيَّن.
والتبرُّك عند الشيخ بهذه الأماكن على ثلاثة أنواع كما سبق: الصلاة، والدعاء، والمكث.
وإني لأتساءل ما فائدة المكث المجرَّد فيما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن لصلاة وغيرها؟! وأي خير يستفيده الإنسان من مثل هذا؟! هل يرجو الأجر بمجرد هذا الجلوس، أو الشفاء، أو الخير، أو ماذا؟! وهل جرى مثل هذا من أحد من الصحابة؛ فتَقَصَّد أن يجلس في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مصلاه، أو غير ذلك من منازله، جلوساً مجرَّداً؛ رجاء بركة البقعة؟!
هذا ما لا أعلم ثبوته عن واحد منهم - رضي الله عنهم - وبهذا يتبين بطلان ما قاله الشيخ – حفظه الله - في تقرير هذه المسألة: "بل أقولُ أكثر من ذلك: إن التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية لا خلاف فيه طوال القرون الثلاثة المفضَّلة، وطوال القرون بعد ذلك، ولا أعلم أحدًا خالف في ذلك؛ إلا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله".
والخلاصة :
أن ما كان يجري من ابن عمر وأمثاله إنما هو المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الهيئة الظاهرة، فيفعل مثل ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي فعل، وهذا على خلاف رأي الشيخ الذي يعلِّل ذلك بالتبرُّك - كما سبق - وعلى كلٍّ؛ فجماهير الصحابة وساداتهم على خلاف صنيع ابن عمر؛ بل إن عمر - رضي الله عنه - قد أنكر على من فعل مثل صنيع ابنه كما تقدم مراراً.
هذا ما تيسر ذكره من ملاحظات عن تعقيب الشيخ عبدالعزيز القاري - غفر الله له - على أخيه الشيخ علوي السقَّاف، وإني لأدعو الشيخ أن يتأمل في المسألة، ويراجعها، وينظر؛ لعل شيئاً فاته، ولعل فيما ذَكر ما يستحق أن يستدرك.
أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يهدينا، ويغفر لنا، ويرحمنا، اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
مصدر التّعقيـب :
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=596