المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسألة شهود الرضاع والخلاف فى عورة المرأة



سعيد عبد الله
2025-08-18, 12:16 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127

[مسألة شهود الرضاع]
قال أبو بكر حدثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين قا: حدثنا ابن أبي مليكة قا: حدثنا عقبة بن الحارث قال: "تزوجت ابنة أبي إهاب التميمي فلما كانت صبيحة ملكها جاءت مولاة لأهل مكة فقالت: إني قد أرضعتكما فركب عقبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فذكر له ذلك" وقال: "سألت أهل الجارية فأنكروا" فقال: «وكيف وقد قيل» ففارَقَها ونكحت غيره
قال أبو بكر حدثنا معتمر عن محمد بن عثيم عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يجوز في الرضاعة من الشهود؟" قال: «رجل أو امرأة»
وهذا الحديث باطل لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فى إسناده محمد بن عثيم وهو متروك وابن البيلمانى وهو منكر الحديث. وأكثر أهل العلم على خلاف هذا الحديث وهم لا يجهلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة فبطل أن يكون هذا الحديث ثابتا.
قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة قال: لا يجوز إلا أكثر

أما الحديث الأول فهو ثابت ولكن ليس فيه حجة على أن الرضاع يثبت بشهادة امرأة واحدة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بينهما بقول تلك المرأة وإنما استحب له أن يفارقها اتقاء للشبهة ففارقها عقبة بن الحارث مختارا لذلك. وأما الحديث الثانى فإنه لا يثبت فليس إذا فى الشهادة على الرضاع حديث يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو ثبت لما خالفه أهل العلم.
وقد اختلف أهل العلم فى العدد من النساء الذى لا يجزئ أقل منه فى الشهادة على الرضاع واختلفوا هل تجزئ شهادة النساء منفردات فى الرضاع كالولادة أم أنه لا بد من الرجال معهن. وفى قول أكثر أهل العلم إنه لا تجوز شهادة النساء منفردات إلا فيما لا يحل للرجال أن يتعمدوا النظر إليه لغير ضرورة الشهادة ولأجل هذا قال عامة أهل العلم إن بدن المرأة كله عورة المرأة إلا الوجه والكفين وهذا قول مالك والشافعى وأبى حنيفة وقال الشافعى قولا معناه إنه لا يعلم فيه خلافا.
فقال الشافعى شهادة النساء منفردات فى الرضاع جائزة ولا تكون شهادة حتى يرى الشهود الصبى يرضع من ثدى المرأة فلما كان الثدى عورة لا يحل للرجال النظر إليها لغير ضرورة الشهادة جازت شهادة النساء منفردات فى الرضاع وشهادة الرجال فيه أيضا جائزة كما تجوز فى كل شىء عند الشافعى حتى فى الشهادة على عذرة المرأة. فيجوز عنده فى الرضاع رجلان ورجل وامرأتان وأربع نساء ولا تجوز شهادة النساء عنده على إقرار المرأة بالرضاع بحال ولا تجوز عنده شهادة النساء منفردات على إقرار أبدا لأن الشهادة على الإقرار عنده لا تصح إلا بالنظر إلى وجه المقر ونظر الرجال إلى وجه المرأة جائز عنده لغير ضرورة الشهادة فلم تجز شهادة النساء منفردات على الإقرار. ولا يجيز الشافعى شهادة الأعمى ولا الشهادة على الصوت ولا الشهادة على امرأة منتقبة أو من خلف ستار ولا تصح عنده الشهادة إلا بالرؤية.
وقال مالك لا يجوز من النساء فى الرضاع إلا اثنتان فصاعدا ولا بد من أن يكون ذلك فاشيا بين أهل الرضيع والمرضعة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تقبل النساء منفردات فى الرضاع ولا بد معهن من رجل فتجوز عندهم فى الرضاع شهادة رجل وامرأتان. واحتج لهم أبو جعفر بأن لذوى رحم المرأة من الرجال أن ينظروا إلى ثديها فلأجل هذا لم تجز النساء منفردات وهذا ضعيف. واحتج أبو حنيفة أيضا بأن الشهادة على الرضاع كالشهادة على الطلاق لأن الفرقة تقع بالرضاع فلم تثبت إلا بما تثبت به الشهادة على الطلاق وشهادة النساء عندهم جائزة على الطلاق والنكاح.
وقال الأوزاعى إذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع قبل النكاح فشهادتها جائزة وإذا كان بعد النكاح لم يجز. ويدخل عليه أن امرأة لو أرادت أن تمنع رجلا من نكاح ابنتها أو امرأة أخرى والمرأة وأبوها راضيان بالنكاح فإنها تدعى أنها أرضعته فلا يمكنه بذلك نكاحها وهذا خطأ بين والله أعلم.
وقال أحمد بن حنبل إن شهادة امرأة واحدة فى الرضاع جائزة وروى ذلك عن عبد الله بن عباس ومثله عن على بن أبى طالب رضى الله عنهم وهذا قول يدخل عليه أكثر مما يدخل على الأول.
روى عبد الرزاق عن الثوري عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب لم يأخذ بشهادة امرأة في رضاع. قال: وكان ابن أبي ليلى لا يأخذ بشهادة امرأة في الرضاع
وهذا عن عمر مرسل.
ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب بامرأة، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذه تزعم أنها أرضعتني وأرضعت امرأتي، فأما إرضاعها امرأتي فمعلوم، وأما إرضاعها إياي فلا يعرف ذلك، فقال عمر: كيف أرضعتيه؟ فقالت مررت وهو ملقى يبكي وأمه تعالج خبزا لها فأخذته إلي فأرضعته وسكته، فأمر بها عمر فضربت أسواطا وأمره أن يرجع إلى امرأته.
وهذا مرسل مثل سابقه
قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال: "لا تجوز شهادة النساء، إلا أن يكن أربعا" وهذا قول عطاء بن أبى رباح وهو قول الشافعى.
قال عبد الرزاق أخبرنا عبد الله عن شعبة عن أبي البختري قال: سمعت الشعبي يقول: "تجوز من شهادة النساء على ما لا يراه الرجال أربع" قال شعبة: وسألت عنه الحكم فقال: "اثنتان" وسألت حمادا، فقال: "واحدة"
عبد الرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي والحسن، قالا: "تجوز شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال" وهذا قول الأوزاعى وأحمد وأبى حنيفة فيما سوى الرضاع مما لا يطلع عليه الرجال.
قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن والزهري، قالا: "تجوز شهادة المرأة الواحدة في الرضاع"
قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج ومعمر عن الزهري قال: "فرق عثمان بين أهل أبيات بشهادة امرأة" والزهرى قبيح المرسل.
عبد الرزاق عن الثوري عن جابر عن الشعبي قال: "كانت القضاة يفرقون بشهادة امرأة في الرضاع" وجابر الجعفى متروك.
قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة، عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: «شهادة المرأة الواحدة جائزة في الرضاع إذا كانت مرضية، وتستحلف بشهادتها» وكان يصل بهذا الحديث فلا أدري أهو من حديث قتادة أم لا وجاء ابنَ عباس رجلٌ فقال: زعمت فلانة أنها أرضعتني وامرأتي، وهي كاذبة، فقال ابن عباس: «انظروا فإن كانت كاذبة فسيصيبها بلاء»، فلم يحل الحول حتى برصت ثدياها
وهذا صحيح إلى ابن عباس وهو قول أحمد.
قال عبد الرزاق أخبرنا أبو بكر بن أبي سبرة ويحيى بن سعيد قالا: "تجوز شهادة المرأة الواحدة المرضية في الاستهلال"
قال عبد الرزاق أخبرنا ابن التيمي عن يونس عن الحسن قال: "لا تجوز في الرضاع شهادة امرأة واحدة"
قال سحنون: " قلت: أرأيت امرأة شهدت أنها أرضعت رجلا وامرأته، أيفرق بينهما بقولها في قول مالك؟
قال: قال مالك: لا، قال مالك: ويقال للزوج تنزه عنها إن كنت تثق بناحيتها، ولا أرى أن يقيم عليها ولا يفرق القاضي بينهما بشهادتها وإن كانت عدلة
قلت: أرأيت لو أن امرأتين شهدتا على رضاع رجل وامرأته، أيفرق بينهما في قول مالك؟
قال: قال مالك: نعم يفرق بينهما إذا كان ذلك قد فشا وعرف من قولهما قبل هذا.
قلت: أرأيت إن كان لم يفش ذلك من قولهما؟
قال: قال مالك: لا أرى أن يقبل قولهما إذا لم يفش ذلك من قولهما قبل النكاح عند الأهلين والجيران.
قلت: أرأيت إن كانت المرأتان اللتان شهدتا على الرضاع أم الزوج وأم المرأة؟
قال: لا يقبل قولهما إلا أن يكون قد عرف ذلك في قولهما وفشا قبل النكاح.
قلت: فهؤلاء والأجنبيات سواء في قول مالك؟
قال: نعم، في رأيي
قلت: أرأيت إن شهدت امرأة واحدة أنها أرضعتهما جميعا الزوج والمرأة وقد عرف ذلك من قولها قبل نكاحهما؟
قال: لا يفرق القاضي بينهما بقولها في رأيي وإنما يفرق بالمرأتين؛ لأنهما حيث كانتا امرأتين تمت الشهادة، فأمر المرأة الواحدة فلا يفرق بشهادتها ولكن يقال للزوج تنزه عنها فيما بينك وبين خالقك.
قلت: أرأيت لو أن رجلا خطب امرأة، فقالت امرأة: قد أرضعتكما، أينهى عنها في قول مالك وإن تزوجها فرق بينهما؟
قال: قال مالك: ينهى عنها على وجه الاتقاء لا على وجه التحريم، فإن تزوجها لم يفرق القاضي بينهما" (المدونة - الشهادة على الرضاعة)
وفى أصل محمد بن الحسن: "وإذا تزوج الرجل المرأة فشهدت امرأة أنه أرضعتهما فإنها لا تصدق عليها. وكذلك لو شهدت امرأة أخرى. وكذلك إن كانت أم الزوج أو أم المرأة فإنها لا تصدق على الرضاع لتفسد النكاح. وكذلك لو شهدت امرأة أخرى كان ذلك باطلا لا يجوز حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان. فإذا شهد هؤلاء فليس يسعهما أن يقيما على النكاح، ولا يحل ذلك لهما. وإن رفعهما إلى السلطان فرق بينهما" (الأصل - مسألة من الرضاع)
قال إسحاق بن منصور: قلت: "شهادة المرأة في الرضاع والولادة؟
قال: إذا كانت مرضية، وتستحلف في الرضاع، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فإنها إن كانت كاذبة يبيض ثديها ولا تستحلف به في الولادة.
قال إسحاق: هو كما قال." (مسائل الكوسج 982)

سعيد عبد الله
2025-08-18, 12:17 AM
قال الشافعى: "إذا رأى الرجل فأثبت وهو بصير ثم شهد وهو أعمى قبلت شهادته؛ لأن الشهادة إنما وقعت وهو بصير إلا أنه بين وهو أعمى عن شيء وهو بصير ولا علة في رد شهادته فإذا شهد وهو أعمى على شيء قال أثبته كما أثبت كل شيء بالصوت، أو الحس فلا تجوز شهادته؛ لأن الصوت يشبه الصوت، والحس يشبه الحس" (الأم - باب شهادة الأعمى)
فهذا قوله – رحمه الله – أن لا تجوزُ شهادة بغير رؤية ولا تجوز الشهادة عنده على امرأة منتقبة.
قال الشافعى: "لا تجوز شهادة النساء إلا في موضعين في مال يجب للرجل على الرجل فلا يجوز من شهادتهن شيء وإن كثرن إلا ومعهن رجل شاهد ولا يجوز منهن أقل من اثنتين مع الرجل فصاعدا ولا نجيز اثنتين ويحلف معهما؛ لأن شرط الله عز وجل الذي أجازهما فيه مع شاهد يشهد بمثل شهادتهما لغيره قال الله عز وجل {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} فأما رجل يحلف لنفسه فيأخذ فلا يجوز وهذا مكتوب في كتاب اليمين مع الشاهد، والموضع الثاني حيث لا يرى الرجل من عورات النساء فإنهن يجزن فيه منفردات ولا يجوز منهن أقل من أربع إذا انفردن قياسا على حكم الله تبارك وتعالى فيهن؛ لأنه جعل اثنتين تقومان مع رجل مقام رجل وجعل الشهادة شاهدين، أو شاهدا وامرأتين فإن انفردن فمقام شاهدين أربع وهكذا كان عطاء يقول أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن عطاء" (الأم – شهادة النساء)
وهذا قوله أن لا تجوزُ شهادة النساء إلا فى العورة التى لا يحل للرجال أن ينطروا إليها لغير ضرورة الشهادة.
قال الشافعى: "فما تقول في رجل قال لامرأته ما ولدت هذا الولد مني وإنما استعرتيه ليلحق بي نسبه؟ قال إن جاءت بامرأة واحدة تشهد بأنها ولدته ألحقته به إلا أن يلاعنها قلت: وكذلك عيوب النساء، والولاد تجيز فيه شهادة امرأة واحدة؟ قال نعم قلت فعمن رويت هذا القول؟ قال عن علي - رضي الله تعالى عنه - بعضه؛ قلت أَفَيَدُلُّكَ هذا على أن ما زعمت من أن القرآن يدل على أن لا يقبل أقل من شاهد وامرأتين والسنةَ ليس كما ادعيت؟ قال نعم، وقد أعطيتك هذا قبل هذا في القسامة ولكن في هذا علة أخرى قلت وما هي؟ قال إن الله عز وجل إنما وضع حدوده على ما يحل فلو أن شاهدين عمدا أن ينظرا إلى فرج امرأة تلد ليشهدا لها بذلك كانا بذلك فاسقين لا تقبل شهادتهما.
قلت فهل في القرآن استثناء إلا ما لا يراه الرجال قال لا قلت فقد خالفت في أصل قولك القرآن، قلت أفرأيت شهود الزنا إذا كانوا يديمون النظر ويرصدون المرأة والرجل يزنيان حتى يثبتوا ذلك يدخل منه دخول المرود في المكحلة فيرون الفرج والدبر، والفخذين وغير ذلك من بدنهما إلى ما لا يحل لهم نظره أم إلى ما يحرم عليهم قال، بل إلى ما يحرم عليهم.
قلت فكيف أجزت شهادتهم؟ قال أجازها عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - قلت فإن كان عمر بن الخطاب يجيز شهادة من نظر إلى ما يحرم عليه؛ لأنه إنما نظر ليشهد لا ليفسق فكيف زعمت أنك ترد شهادة من نظر إلى ما يحرم عليه ليشهد وفسقته قال ما أردها.
قلت: قد زعمت ذلك أولا فانظر فإن كانت امرأة مسلمة صالحة عند فاسق فقالت هو ينكر ولدي فيقلدني وولدي عارا وأنت تزعم أن الكتاب والسنة لا يجيزان أقل من شاهد وامرأتين فأجلس شاهدين، أو شاهدا وامرأتين من خلف الباب والنساء معي فإذا خرج رأس ولدي كشفنني ليروا خروجه مني فيلحق بأبيه فهذا نظر لنثبت به شهادة لي وللمولود وهو من حقوق الناس وأنت تشدد في حقوق الناس وليس هذا بنظر يتلذذ به الشاهدان، بل هو نظر يقذرانه ونظر شهود الزنا يجمع أمرين أنه أطول من نظرهما إلى ولادتي وأعم لعامة البدن وأنه نظر لذة يحرك الشهوة ويدعو إليها، فأجز هؤلاء كما أجزت شهادة شهود الزنا واردد شهادة شهود الزنا فهم أولى أن يردوا إذا كان ذلك يجوز لقولك إن من نظر إلى ما يحرم عليه فهو بذلك فاسق ترد شهادته إذا كان حدا لله عز وجل وأنت تدرأ حد الله بالشبهات وتأمر بالستر على المسلمين، قال لا أرد هؤلاء لو شهدوا ولا أكلفك هذا." (الأم – 7/14)
وهذا قوله أن شهادة الرجال على عورات النساء جائزة فى الزنا والرضاع والولاد وتجوز شهادة الرجال فى كل شىء عند الشافعى ولا يفسق عنده من نظر لأجل الشهادة إلى شىء من العورات وأجمع أهل العلم على أن شهود الزنا لا يفسقون بنظرهم إذا كان ذلك لأجل الشهادة. فأما فى غير ضرورة فلا يحل النظر إلى عورات النساء ولا الرجال وهذا مما لا اختلاف فيه.
قال الشافعى: "لم أعلم أحدا ممن ينسبه العامة إلى العلم مخالفا في أن شهادة النساء تجوز فيما لا يحل للرجال غير ذوي المحارم أن يتعمدوا أن يروه لغير شهادة وقالوا ذلك في ولادة المرأة وعيبها الذي تحت ثيابها والرضاعة عندي مثله لا يحل لغير محرم أو زوج أن يعمد أن ينظر إلى ثديها ولا يمكنه أن يشهد على رضاعها بغير رؤية ثديها لأنه لو رأى صبيا يرضع وثديها مغطى أمكن أن يكون يرضع من وطب عمل كخلقة الثدي وله طرف كطرف الثدي ثم أدخل في كمها فتجوز شهادة النساء في الرضاع كما تجوز شهادتهن في الولادة، ولو رأى ذلك رجلان عدلان أو رجل وامرأتان جازت شهادتهم في ذلك ولا تجوز شهادة النساء في الموضع الذي ينفردن فيه إلا بأن يكن حرائر عدولا بوالغ ويكن أربعا لأن الله عز وجل إذا أجاز شهادتهن في الدَّيْنِ جعل امرأتين تقومان مقام رجل بعينه، وقول أكثر من لقيت من أهل الفتيا إن شهادة الرجلين تامة في كل شيء ما عدا الزنا فامرأتان أبدا تقومان مقام رجل إذا جازتا. (قال الشافعي) أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن عطاء قال لا يجوز من النساء أقل من أربع" (الأم - باب الشهادة والإقرار بالرضاع)
وهذا قوله إنه لا تجوز شهادة النساء منفردات إلا فى ما لا يحل للرجال أن يطلعوا عليه لغير ضرورة كالشهادة فإذا كانت الضرورة حل لهم النظر ولولا أن الثدى عورة لما أجاز شهادة النساء فيه لأنه حينئذ يحل للرجال أن يظروا إليه لغير ضرورة.
قال الشافعى فى الإقرار بالرضاع: "وهذا إذا لم يقم واحد منهما أربع نسوة ولا رجلين ولا رجلا وامرأتين على ما ادعى فإن أقاما على ذلك من تجوز شهادته فلا أيمان بينهما والنكاح مفسوخ إذا شهد النسوة على رضاع أو الرجال فإن شهد على إقرار الرجل أو المرأة بالرضاع أربع نسوة لم تجز شهادتين لأن هذا مما يشهد عليه الرجال وإنما تجوز شهادة النساء منفردات فيما لا ينبغي للرجال أن يعمدوا النظر إليه لغير الشهادة" (الأم 5/38)
فهذا قوله – رحمه الله – أنه لا تجوز شهادة النساء على الإقرار لأنه لا بد من النظر إلى وجه المقر مع سماع الإقرار حتى تصح الشهادة لأن الشافعى لا يجيز شهادة الأعمى ولا الشهادة على الصوت فلما لم يكن وجه المرأة عورة وكان جائزا للرجال أن ينظروا إلى وجهها لغير ضرورة الشهادة لم تجز شهادة النساء على الإقرار والله أعلم.
فخذ هذا مع ما مضى من قوله يتبين لك – إن شاء الله – أن قول الشافعى الذى لا اختلاف عنه فيه أن جائزا للمرأة أن تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب لأنه ليس بعورة والذى يستحبه الشافعى وأهل العلم أن تغطى وجهها استحبابا من غير أن يجب لأن الستر بكل حال أفضل.
وهذا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وقول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنهم وهو قول مالك وأبى حنيفة وقول أكثر أهل العلم وبه أقول.
وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه المرأة كلها عورة وجهها وكفاها وسائر بدنها وبهذا يقول أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
نقل ابن أبى زيد القيروانى من الواضحة: "وتصلي المرأة الحرة في الدرع الخصيف يستر ظهور قدميها في الركوع والسجود، وخمار يستر كتفيها وقصتها ودلاليها، ولا يظهر منها غير دور الوجه والكفين، وكل ما غطت به رأسها فهو خمار، ولو كان تحت القميص مئزر فهو أبلغ، وإلا فيجزئها، ولا يبدو منها لغير ذوي محرم غير ما يبدو في الصلاة" (النوادر والزيادات - في لباس المرأة الحرة والأمة في الصلاة)
قال أبو جعفر الطحاوى: "وإذا ثبت أن النظر إلى وجه المرأة ليخطبها حلال خرج بذلك حكمه من حكم العورة، ولأنا رأينا ما هو عورة لا يباح لمن أراد نكاحها النظر إليها. ألا ترى أن من أراد نكاح امرأة فحرام عليه النظر إلى شعرها وإلى صدرها وإلى ما هو أسفل من ذلك في بدنها كما يحرم ذلك منها على من لم يرد نكاحها. فلما ثبت أن النظر إلى وجهها حلال لمن أراد نكاحها ثبت أنه حلال أيضا لمن لم يرد نكاحها إذا كان لا يقصد بنظره ذلك لمعنى هو عليه حرام. وقد قيل في قول الله عز وجل: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} إن ذلك المستثنى هو الوجه والكفان فقد وافق ما ذكرنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا التأويل. وممن ذهب إلى هذا التأويل محمد بن الحسن رحمة الله عليه. كما حدثنا سليمان بن شعيب بذلك عن أبيه عن محمد. وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين" (شرح معانى الآثار 3/15)
قال ابن قدامة: "فأما نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب، فإنه محرم إلى جميعها، في ظاهر كلام أحمد. قال أحمد: لا يأكل مع مطلقته، هو أجنبي لا يحل له أن ينظر إليها، كيف يأكل معها ينظر إلى كفها؟ ، لا يحل له ذلك. وقال القاضي: يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه والكفين؛ لأنه عورة، ويباح له النظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة، ونظر لغير شهوة. وهذا مذهب الشافعي لقول الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال ابن عباس: الوجه والكفين وروت عائشة «أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» رواه أبو بكر، وغيره؛ ولأنه ليس بعورة، فلم يحرم النظر إليه بغير ريبة، كوجه الرجل" (المغنى 7/102)
فإن قال قائل فلم أطلت بنقل كلام الشافعى من أبواب مختلفة لتستدل به على قوله بجواز كشف المرأة وجهها وقوله فيها معروف فى غير موضع كما قال فى ثياب المصلى: "وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل بدنها ما عدا كفها ووجهها" (الأم 1/109) وقال: "وكل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها. وظهرُ قدميها عورةٌ" (الأم 1/109)
وقال فى وجوب كشف المحرمة وجهها: "ولا تغطي جبهتها ولا شيئا من وجهها إلا ما لا يستمسك الخمار إلا عليه مما يلي قصاص شعرها من وجهها مما يثبت الخمار ويستر الشعر لأن الخمار لو وضع على قصاص الشعر فقط انكشف الشعر" (الأم 2/162) وذلك أن الشعر عورة فلا بد أن يغطى ولو بتغطية بعض الجبهة وهى من الوجه وأما الوجه فليس بعورة.
وقال فى طوافها حين تدخل مكة: "والنساء فيما أحببت من التعجيل حين يقدمون ليلا سواء وكذلك هم إذا قدموا نهارا إلا امرأة لها شباب ومنظر فإني أحب لتلك تؤخر الطواف حتى الليل ليستر الليل منها" (الأم 2/185)
فإن قال فهذا كلامه صريحا أن الوجه ليس بعورة وأنه ستره مستحب غير واجب فلم أطلت فى الاستدلال على كلامه من أبواب الشهادة؟ قيل له – إن شاء الله – لأنه قال فى الشهادة: "لم أعلم أحدا ممن ينسبه العامة إلى العلم مخالفا في أن شهادة النساء تجوز فيما لا يحل للرجال غير ذوي المحارم أن يتعمدوا أن يروه لغير شهادة" فتبين بذلك أن قول عامة أهل العلم أن النقاب غير واجب والله أعلم.
فإن قال قائل فإنه لم تزل نساء المسلمين يغطين وجوههن إن خرجن من بيوتهن فهل فيه دلالة على أن ستر الوجه واجب؟ قيل له ليس فيه دلالة ألا ترى أن الرجال لم يزالوا يغطون ما فوق سرتهم وما تحت ركبتهم وعورة الرجل ما بين سرته وركبته عند عامة أهل العلم ألا ترى أن أطفال المسلمين لم يزل آباؤهم يسترونهم بالثياب وليس للطفل عورة ألا ترى أن عورة الأمة من سرتها إلى ركبتها كالرجل سواء ولم تزل الإماء يغطين أبدانهن سوى وجوههن وشعورهن فليس التغطية بحجة على أن المُغَطَّى عورة.
فإن قال: لم لا تغطى الأمة والذمية شعرهما وهو إن لم يكن عورة فإنه يجوز للمرء أن يغطى من بدنه ما ليس بعورة وجائز للرجل أن يغطى رأسه وليس بعورة؟
قيل له: لقول الله تبارك وتعالى: }ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين{ أى يعرفن أنه حرائر مسلمات. فلا بد أن يكون لباس المرأة الحرة المسلمة مخالفا للباس الأمة والمشركة ولما كان جائزا للحرة المسلمة أن تكشف وجهها لم يبق من فرق بينها وبين الأمة إلا تغطية الشعر ولأجل هذا منع المسلمون إماءهم ونساء أهل الذمة من تغطية رءوسهن لئلا يتشبهن بالحرائر المسلمات ولو كان فرضا على الحرة المسلمة أن تغطى وجهها لجاز للأمة والمشركة أن تغطى شعرها وهذا كله قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه.
فإن قال: فما هؤلاء القوم الذين يدعون الإجماع على وجوب لبس المرأة النقاب ويسمونه الحجاب؟ قيل له: إن هؤلاء هم النجدية الذين ينتحلون مذهب أحمد بن حنبل وهو منهم برىء ولو كان رحمه الله حيا فى زماننا لأفتى فيهم بحكم الله سبحانه فى المحاربين }أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض{ وقد كانوا قبل ذلك يزعمون أن قولهم هذه هو قول أحمد ويقرون بالخلاف ثم ادعوا أنه إجماع ومخالفه كافر فلما أتى بعض الناس بقول مالك وأبى حنيفة فى أن وجه المرأة ليس بعورة رجعوا وقالوا إنه قول أحمد والشافعى وليس هذا بقول الشافعى أصلا إنما هو قول أحمد.
فإن قال قرمطى نجدى: فأنت إذا تستحل السفور فإن هذا مما قد يجر إلى الزنا. قيل له: وأنت تستحل البغاء والزنا والدعارة وإعارة الفروج والاقتراض بالفروج ونكاح المُحَلِّلَة وتحرم النكاح وتنكر القرآن والسنة وإجماع المسلمين وبنى آدم معهم وتزعم أن الله ظالم وأن رسوله ظالم وأن المسلمين ظلمة وأن المرأة لم تزل مظلومة حتى أنصفها دعار نجد مطلع قرن الشيطان وتقول بقول المزدكية والقرامطة فوالله إنما مثلنا ومثلهم كقول القائل: رمتنى بدائها وانسلت. وقلت له: إنى وإن كنت أرى كشف المرأة وجهها جائزا فإنى أستحب لها أن تستره لأن الستر فضيلة بكل حال وأنت تزعم أن أنكحة المسلمين حرام وظلم لأنها عقود ملك لا تملك المرأة أن تفارق فيها أبدا.
النكاح أن يشترى الرجل بضع امرأة فلا تملك أن تفارقه ولو كان أبغض الناس إليها ويصح بألفاظ التمليك كالبيع والشراء والهبة والصدقة والملك عند أكثر أهل العلم وينعقد بالكلام بإجماعهم ولا يحتاج فيه إلا كتابة. والبغاء والدعارة أن يعطى الرجل امرأة مالا على أن يستمتع بها فإذا متعته بنفسها فارقته إن شاءت ولم يملك أن يمسكها ولأجل هذا شبه الصحابة نكاح المتعة بالبغاء.
والزنا أن يستمتع الرجل بامرأة برضاها وهى تملك أن تفارقه متى شاءت وليس بينه وبينها عقد.
وإعارة الفروج أن يستمتع الرجل بامرأة تملك هى أو يملك غيره أن يفرق بينهما وهذا مثل العارِيَّة يعطيها المرء غيره ينتفع بها ورقبتها مملوكة له فمتى شاء أخذها. ولأجل هذا قال أهل العلم إن المرأة إذا ملكت أن تفارق زوجها كالأمة تعتق والمرأة تجد بالرجل برصا أو جذاما فإنه لا يحل للرجل أن يستمتع بها ولا نفقة لها لأنه لا يملك إمساكها فإن مكنته من نفسها فقد بطل خيارها ولم تملك أن تفارقه بعد.

والاقتراض بالفروج عند قرامطة الوهابية أن تحتاج المرأة إلى مال فلا تجد من يقرضها فتنكح رجلا لأجل المهر وتنفقه فى حاجتها ثم إذا جمعت مثله من المال خلعت نفسها بزعم هؤلاء القرامطة. بل قال بعضهم كابن إبراهيم وابن باز إنها لا تحتاج إلى أن تدفع إليه المال ولكن تخلعه ويكون دينا عليها فإذا أرادت المرأة أن تقترض بفرجها نكحت وأنفقت المهر أو أخفته ثم خلعت نفسها عندهم وكان دينا عليها ثم تفعلها ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ونكاح المحللة أن تريد المطلقة ثلاثا أن ترجع إلى زوجها فتنكح رجلا تكرهه فتمكنه من نفسها ثم تخلع نفسها فترجع إلى زوجها الأول وكان من حجة هؤلاء القرامطة أن عامة أهل العلم يقولون إن نية المرأة غير معتبرة فى التحليل إلا نية الزوج الناكح وهذا قول الأئمة الأربعة. فقيل لهؤلاء القرامطة إن أهل العلم مجمعون أن الطلاق والخلع بيد الرجال ولهذا لم ينظروا لنية المرأة لأنه ليس بيدها ولا بيد القاضى طلاق ولا خلع وهذا قول شيخهم ابن تيمية الحرانى وكان يكفر من قال قولهم فما له يكون عندهم معصوما إذا خالف أئمة المسلمين فإذا وافقهم ذهبت عنه العصمة!
ثم يطعن هؤلاء القرامطة فى قول الشافعى إن من نكح امرأة وفى نيته أن يحلها لمطلقها ثلاثا من غير أن يكون شرطا فى العقد فنكاحه جائز وله أن يمسكها ولا تملك أن تفارقه وإن طلقها حلت للأول وهذا قول أبى ثور والليث بن سعد وقول لأبى حنيفة وقول يحيى بن سعيد وربيعة شيخى مالك وقول عطاء بن أبى رباح ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد. وهم يقولون إن المرأة تحلل نفسها وهذا كفر عند المسلمين واستهزاء بكتاب الله وسنة رسوله وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له» ولم يلعن المرأة ولو كان بيدها تحليل لكانت أول الملعونين لأن عليها لعنتين لعنة بنكاحها من يحلها ولعنة برجوعها إلى زوجها. وقرامطة الوهابية يستهزئون بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قد نسى أن يلعن المحللة.
ثم بعد كل هذا يكلمونك على النقاب. ونسأل الله العافية والسلامة.