تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مسألة إمامة من صلى جالسا وتأويل الحديث ليوافق قول أكثر أهل العلم



سعيد عبد الله
2025-08-17, 11:31 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127

[مسألة إمامة من صلى جالسا]
قال أبو بكر حدثنا ابن عيينة عن الزهري قال سمعت أنس بن مالك يقول: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا وصلينا وراءه قياما فلما قضى الصلاة قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون»
قال أبو بكر حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه فصلى النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فصلوا بصلاته قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا»
قال أبو بكر حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال صرع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس له فوقع على جذع فانفكت قدمه قال: فدخلنا عليه نعوده وهو يصلي في مشربة لعائشة جالسا فصلينا بصلاته ونحن قيام فأومأ إلينا أن اجلسوا فلما صلى قال: «إنما جعل الإمام ليؤم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا ولا تقوموا وهو جالس كما تفعل أهل فارس بعظمائها»
قال أبو بكر حدثنا أبو خالد عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذ قرأ فأنصتوا وإذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا»
قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة قال: لا يؤم الإمام وهو جالس.
أكثر أهل العلم يقولون إن الإمام إذا صلى جالسا من عذر وصلى خلفه من يمكنه القيام جالسا فصلاة المأموم غير مجزئة لأن القيام فى الصلاة فرض على من أطاقه لا يسقطه عنه عجز الإمام عن القيام واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فى مرض موته جالسا وصلى أصحابه خلفه قياما فقالوا قد نسخ هذا أمره إياهم بالجلوس إذا صلى الإمام جالسا وهذا قول مالك والأوزاعى وسفيان الثورى والشافعى وأبى حنيفة وهو قول عامة أهل العلم وبه أقول.
ثم اختلفوا فى من صلى قائما خلف إمامه جالسا فقال قوم صلاته مجزئة لأن كلا قد أتى بفرضه الذى عليه وهذا قول الأوزاعى والشافعى وأبى حنيفة وأبى يوسف.
وقال مالك وسفيان الثورى ومحمد بن الحسن لا يصلى من أطاق القيام خلف من عجز عن القيام فإن صلى إمام جالسا لعذر وصلى خلفه قوم جلوسا لعذر وقوم جلوسا لغير عذر وقوم قياما فصلاة الإمام ومن خلفه ممن به عذر مجزئة وصلاة القائم والجالس بلا عذر غير مجزئة.
وخالفهم غيرهم فقال ليست صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس جالسا وهم قيام فى مرض موته بناسخ لأمره بالجلوس إذا صلى الإمام جالسا وإنما أنظر إلى مبتدأ صلاة الإمام فإن بدأ قاعدا صلوا خلفه قعودا كما جاء فى الخبر الأول وإن بدأ قائما ثم أكمل الصلاة بهم إمام غيره جالسا بنوا على القيام الأول وهذا قول أحمد بن حنبل وأبى بكر بن المنذر.
وقد روى عن قوم من الصحابة أنهم صلوا جلوسا وأمروا من ائتم بهم أن يصلى جالسا.
قال الشافعى: "إذا لم يقدر الإمام على القيام فصلى بالناس جالسا، صلى الناس وراءه إذا قدروا على القيام قياما، كما يصلي هو قائما، ويصلي من خلفه إذا لم يقدروا على القيام جلوسا، فيصلي كل فرضه، وقد روي عن النبي عليه السلام فيما قلت شيء منسوخ وناسخ.
أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، أن رسول الله ركب فرسا، فصرع، فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون» . قال الشافعي: وهذا ثابت عن رسول الله منسوخ بسنته، وذلك أن أنسا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا من سقطة من فرس في مرضه، وعائشة تروي ذلك، وأبو هريرة يوافق روايتهما، وأمر من خلفه في هذه العلة بالجلوس إذا صلى جالسا، ثم تروي عائشة أن النبي صلى في فرضه الذي مات فيه جالسا، والناس خلفه قياما. قال: وهي آخر صلاة صلاها بالناس حتى لقي الله تعالى، وهذا لا يكون إلا ناسخا.
أخبرنا الثقة يحيى بن حسان، أخبرنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله كان وجعا، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فوجد النبي خفة، فجاء فقعد إلى جنب أبي بكر، فأم رسول الله أبا بكر وهو قاعد، وأم أبو بكر الناس وهو قائم. وذكر إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل معناه. أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد بن عمير، عن النبي مثل معناه لا يخالفه. قال الشافعي: وفي حديث أصحابنا مثل ما في هذا، وإن ذلك في مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه، فنحن لم نخالف الأحاديث الأولى إلا بما يجب علينا من أن نصير إلى الناسخ. الأُولى كانت حقا في وقتها ثم نسخه، فكان الحق فيما نسخها، وهكذا كل منسوخ يكون الحقَّ ما لم يُنسخ، فإذا نُسخ كان الحقُّ في ناسخه. وقد روي في هذا الصنف شيء يغلط فيه بعض من يذهب إلى الحديث وذلك أن عبد الوهاب أخبرنا، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر، أنهم خرجوا يشيعونه وهو مريض فصلى جالسا، وصلوا خلفه جلوسا أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، أن أسيد بن حضير فعل ذلك. قال الشافعي: وفي هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول الله، لا يعلم خلافه عن رسول الله، فيقول بما علم، ثم لا يكون في قوله بما علم وروى حجةٌ على أحد علم أن رسول الله قال قولا أو عمل عملا ينسخ العمل الذي قال به غيره وعَلِمَه، كما لم يكن في رواية من روى أن النبي صلى جالسا وأمر بالجلوس، وصلى جابر بن عبد الله وأسيد بن الحضير وأمرهما بالجلوس وجلوس من خلفهما حجة على من علم عن رسول الله شيئا ينسخه، وفي هذا دليل على أن علم الخاصة يوجد عند بعض، ويعزب عن بعض، وأنه ليس كعلم العامة الذي لا يسع جهله، ولهذا أشباه كثيرة، وهذا دليل على ما في معناه منها" (اختلاف الحديث - باب صلاة الإمام جالسا ومن خلفه قياما)
قال ابن القاسم صاحب مالك: "وقال مالك: لا ينبغي لأحد أن يؤم في النافلة قاعدا. قال: ومن نزل به شيء وهو إمام قوم حتى صار لا يستطيع أن يصلي بهم إلا قاعدا، فليستخلف غيره يصلي بالقوم، ويرجع هو إلى الصف فيصلي بصلاة الإمام مع القوم. قال: وسألنا مالكا عن المريض الذي لا يستطيع القيام يصلي جالسا ويصلي بصلاته ناس؟ قال: لا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك، وحدثني عن علي عن سفيان عن جابر بن يزيد عن الشعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤم الرجل القوم جالسا»" (المدونة - الإمام يصلي بالناس قاعدا)
والحديث الذى احتج به باطل لا يصح فإن الشعبى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقطع وجابر بن يزيد الجعفى الذى يروى هذا عن الشعبى شيعى كذاب.
قال أبو جعفر الطحاوى: "وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر والأوزاعي والشافعي يقتدي القائم بالقاعد
وقال مالك والحسن بن حي والثوري لا يجزئهم ويجزئه" (مختصر اختلاف العلماء - في اختلاف حال الإمام والمأموم في العذر)
قال حرب: "قيل لأحمد: الإمام يصلي جالسا، كيف يصلي من خلفه؟ قال: قد جاء إنهم يصلون بصلاته.
قيل: فحديث زائدة! حديث عبيد الله بن عبد الله -يعني: ابن عتبة- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى جالسا وأبو بكر قائم والناس قيام خلف أبي بكر!
قال: هذا ابتداء صلاة أبو بكر، ثم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فجلس، ولو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ الصلاة. أي: كأنه يذهب إلى أنه يصلي خلفه على ما ابتدأ" (مسائل حرب مخطوط 3006)
واحتج ابن المنذر بأن الخبر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه قاعدا وصلاة الناس خلفه قياما خبر متناقض فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتم بأبى بكر فى تلك الصلاة فصلى قاعدا لمرضه وكان أبو بكر الإمام فصلى قائما وصلى الناس خلفه قياما.
قال ابن المنذر: "وقد خالف شعبة أبا معاوية في هذا الحديث.
حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: نا مسلم بن إبراهيم، قال: نا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر.
وحدثنا محمد بن إسماعيل، قال: نا أبو سلمة، قال: نا أبو داود، عن شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان أبو بكر المقدم.
حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: نا بدل بن المحبر، قال: نا شعبة، قال: أخبرني نعيم بن أبي هند قال: سمعنا أبا وائل يحدث، عن مسروق، عن عائشة، أن أبا بكر صلى بالناس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف.
حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: نا شبابة، قال: نا شعبة، قال: أخبرني نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر جالسا في مرضه الذي مات فيه.
حدثنا محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا أنس بن عياض، قال: حدثني حميد، عن أنس، قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشحا به خلف أبي بكر.
قال أبو بكر: اختلفت الأخبار في صلاة رسول الله في مرضه حين خرج إلى المسجد، وتعارضت، و لم يجز نسخ ما هو يقين وما قد ثبتت الأخبار به - ولم يختلف من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صلوا خلفه قياما بالقعود - لأخبار مختلف فيها، لأن الاختلاف شك والإجماع يقين، وغير جائز الانتقال من اليقين إلى الشك. وكذلك غير جائز نسخ ما قد ثبت ولم تختلف الأخبار فيه، بما قد اختلفت الأخبار فيه" (الأوسط 4/229)
فكان من الحجة عليه أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهر بالقراءة فى تلك الصلاة ولا يجهر بالقراءة إلا الإمام وقعد عن يسار أبى بكر وهذا مكان الإمام لا المأموم ولو كان رسول الله صلى الله عليه مأموما لكان مكانه عن يمين أبى بكر فدل ذلك على صحة الرواية بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان إماما لا مأموما والله أعلم.
قال الطحاوى: "ولكن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته تلك تدل على أنه كان إماما وذلك أن عائشة قالت في حديث الأسود عنها «فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يسار أبي بكر» وذلك قعود الإمام لأنه لو كان أبو بكر إماما له لكان النبي صلى الله عليه وسلم يقعد عن يمينه. فلما قعد عن يساره وكان أبو بكر عن يمينه دل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام وأن أبا بكر هو المأموم. وحجة أخرى أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال في حديثه: «فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة من حيث انتهى أبو بكر» ففي ذلك ما يدل أن أبا بكر قطع القراءة وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم. فذلك دليل أنه كان الإمام ولولا ذلك لم يقرأ لأن تلك الصلاة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة ولولا ذلك لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموضع الذي انتهى إليه أبو بكر من القراءة ولا علمه من خلف أبي بكر. فلما ثبت بما وصفنا أن تلك الصلاة كانت مما يجهر فيها بالقراءة وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وكان الناس جميعا لا يختلفون أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام كما يقرأ الإمام. ثبت بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة إماما. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار" (شرح معانى الآثار 1/407)
ثم إن ابن المنذر عاب على الشافعى ترك الجمع بين الأخبار فى هذا الباب كما صنع أحمد بن حنبل وزعم أن هذا لازم مذهبه.
قال ابن المنذر: "فيكون كل سنة من هاتين السنتين مستقلة في موضعها، ولا يبطل كل واحدة للأخرى، فإن معنى كل سنة منهما غير معنى الأخرى، وقد تأول هذا المعنى بعينه أحمد بن حنبل، وكان أولى الناس بأن يقول هذا القول من مذهبه استعمال الأخبار كلها إذا وجد إلى استعمالها سبيلا، كاختلاف صفة صلاة الخوف على اختلاف الأحوال فيها، هذا لو كانت الأحوال لا تختلف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه" (الأوسط 4/236)
وليس يلزم الشافعى ما ألزمه به ابن المنذر فإن الشافعى كان يكثر من الأخذ بقول أكثر أهل العلم ويتأول لذلك الحديث كحديث غسل الجمعة والإذن للنساء فى الخروج للمسجد وإذا كنا تأولنا آيات الفرائض اتباعا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومن وافقه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفهم ابن عباس – رضى الله عنهم أجمعين – فلم ينكر ابن المنذر على الشافعى أن أخذ بقول أكثر أهل العلم وعامتهم لا يجهلون لله تبارك وتعالى حجة.
قال الشافعى: "ولا نفرق بين نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بدلالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمر لم يختلف فيه المسلمون فنعلم أن المسلمين كلهم لا يجهلون سنة وقد يمكن أن يجهلها بعضهم. ومما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان على التحريم لم يختلف أكثر العامة فيه أنه نهى عن الذهب بالورق إلا هاء وهاء وعن الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد ونهى عن بيعتين في بيعة فقلنا والعامة معنا إذا تبايع المتبايعان ذهبا بورق أو ذهبا بذهب فلم يتقابضا قبل أن يتفرقا فالبيع مفسوخ وكانت حجتنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عنه صار محرما وإذا تبايع الرجلان بيعتين في بيعة فالبيعتان جميعا مفسوختان بما انعقدت."
وقوله: "لم يختلف فيه المسلمون" يعنى أكثرهم وعامتهم لا كلهم لأن هذا لا يدرك وكان الشافعى ينكر على من ادعى الإجماع ويقول إنما هو قول أكثر أهل العلم وصنف فى ذلك كتابا اسمه (جماع العلم) والإجماع عنده الذى يكفر من خالفه بعد أن لا يكون جاهلا إنما يكون فى ما أجمع عليه العامة والخاصة وجاء به القرآن والسنة كالصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج ومنه أيضا أن المرأة لا تملك أن تفارق زوجها إذا كرهته وهذا أكثر الأحكام التى بين الناس ذكرا فى كتاب الله وأجمع عليه المؤمنون خاصتهم وعامتهم ولم نعلم أحدا خالفهم فيه ممن ينتسب إلى الإسلام إلا النجدية الوهابية.
قال الشافعى: "والحديث على ظاهره، ولو احتمل ما وصفت ووصفت كان أولى المعنيين أن يؤخذ به ما لا يختلف فيه أكثر أهل العلم من أن المكاتب لا يباع حتى يعجز، ولم ينسب إلى العامة أن يجهل معنى حديث ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" (الأم 4/132)
والقول ببيع المكاتب قول أحمد بن حنبل لظاهر الحديث والشافعى يعيب على من ذهب إلى هذا القول لخلافه قول أكثر أهل العلم.
قال الشافعى: "فيما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية: إن قوله - صلى الله عليه وسلم - «ما حق امرئ له مال يحتمل ما لامرئ أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من وجه الفرض" (الأم – كتاب الوصايا)
وقد تأوله الشافعى ليوافق قول أكثر أهل العلم.
قال الشافعى: "وقد روي في غسل يوم الجمعة شيء، فذهب ذاهب إلى غير ما قلنا، ولسان العرب واسع.
حدثنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله قال: «من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل»
أخبرنا مالك، وسفيان، عن صفوان بن مسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم».
قال الشافعي: فاحتمل: واجب لا يجزئ غيره، وواجب في الأخلاق، وواجب في الاختيار وفي النظافة، ونفي تغير الريح عند اجتماع الناس، كما يقول الرجل للرجل: وجب حقك علي إذ رأيتني موضعا لحاجتك، وما أشبه هذا، فكان هذا أولى معنييه لموافقة ظاهر القرآن في عموم الوضوء من الأحداث، وخصوص الغسل من الجنابة، والدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسل يوم الجمعة أيضا" (اختلاف الحديث – باب غسل الجمعة)
قال الشافعى: "وقول أكثر من لقيت من المفتين اختيار الغسل يوم الجمعة، وهم يرون أن الوضوء يجزئ منه" (اختلاف الحديث – باب غسل الجمعة)
قال الشافعى: "أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله قال: «إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد، فلا يمنعها» . قال الشافعي: وهذا حديث كلمنا فيه جماعة من الناس بكلام قد جهدت على تقصي ما كلموني فيه، فكان مما قالوا أو بعضهم: ظاهر قول رسول الله النهي عن منع إماء الله مساجد الله، والنهي عندك عن النبي تحريم، إلا بدلالة عن رسول الله أنه أراد به غير التحريم، وهو عام على مساجد الله، والعام عندك على عمومه إلا بدلالة عن النبي، أو عن جماعة لا يمكن فيهم جهل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خاص، فما تقول في هذا الحديث: أهو عام، فيكون تحريم أن يمنع أحد إماء الله مساجد الله بحال، أو خاص فيكون لهم منعهن بعض المساجد دون بعض، فإنه لا يحتمل إلا واحدا من معنيين؟ قلت: بل خاص عندي والله أعلم، قال: ما دل على أنه خاص عندك؟ قلت: الأخبار الثابتة عن النبي بما لا أعلم فيه مخالفا" (اختلاف الحديث – باب خروج النساء إلى المساجد)
قال الشافعى: "وهل علمت مخالفا في أن للرجل أن يمنع امرأته مسجد عشيرتها، وإن كان على بابها، والجمعة التي لا أوجب منها في المصر؟ قال: وما علمته، قلت: فلو لم يكن فيما تساءلت عنه حجة إلا ما وصفت استدللت بأن أكثر أهل العلم يقولون: إذا كان لزوج المرأة وقيمها منعها من الجمعة ومسجد عشيرتها، كان معنى: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» خاصا على ما قلت لك؛ لأن أكثرهم لا يجهل معنى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: فقال عامة من حضر هذا كما قلت فيما أدخلت على من ذهب إلى أن ليس لأحد أن يمنع امرأته شيئا من مساجد الله، وقد بقي عليك أن تسأل: ما معنى: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ؟ فقد علمنا أنه خاص، فأي المساجد لا يجوز له أن يمنعه إماء الله؟ قلت: لا يجوز له أن يمنعها مسجد الله الحرام لفريضة الحج، وله أن يمنعها منه تطوعا، ومن المساجد غيره، قال: فما دل على ما قلت؟ قلت: قال الله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، وروي عن النبي أنه قال: «السبيل الزاد والمركب» ، فإذا كانت المرأة ممن يجد مركبا وزادا، وتطيق السفر للحج، فهي ممن عليه فرض الحج، ولا يحل أن تمنع فريضة الحج، كما لا تمنع فريضة الصلاة والصيام وغيرهما من الفرائض" (اختلاف الحديث – باب خروج النساء إلى المساجد)
وقد رجع الشافعى بعد وقال لزوجها أن يمنعها من حج الفريضة أيضا بحقه عليها وهذا آخر قوله فى كتاب الحج لأنه قال إن الحج واجب على من استطاع إليه سبيلا ولا يأثم بتأخيره وليس كالصلاة فإذا مات فقد لزمه الحج ويحج عنه غيره كما يؤدى عنه دينه والله أعلم.
قال الشافعى: "فحيثما أُحْصِرَ الرجلُ، قريبا كان أو بعيدا، بعدو حائل، مسلم أو كافر، وقد أحرم، ذبح شاة وحل، ولا قضاء عليه، إلا أن يكون حجه حجة الإسلام فيحجها، وهكذا السلطان إن حبسه في سجن أو غيره، وهكذا العبد يحرم بغير إذن سيده، وكذلك المرأة تحرم بغير إذن زوجها، لأن لهما أن يحبساهما وليس هذا للوالد على الولد، ولا للولي على المُوَلَّى عليه" (الأم – الإحصار من كتاب الحج المتوسط)
وكان الشافعى قبل ذلك يقول إن الوالد إذا منع ولده إن هو أحرم بغير إذنه فهو محصر قياسا على خروجه للجهاد بغير إذنه ثم رجع بعد وثبت على أن المرأة مع زوجها كالعبد ووالله إنها لكذلك على ما أحبت وكرهت ووجه قياس المرأة بالعبد عند أهل العلم أنها لا تملك أن تفارق زوجها كما لا يملك العبد أن يفارق سيده وأكثر أهل العلم قياسا المرأة بالعبد هو مالك عليه رحمة الله تعالى.