تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مسألة ملاعنة الحامل



سعيد عبد الله
2025-08-15, 08:58 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127

[مسألة ملاعنة الحامل]
قال أبو بكر حدثنا عبدة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته وقال: «عسى أن تجيء به أسود جعدا» فجاءت به أسود جعدا
قال أبو بكر حدثنا وكيع عن عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم «لاعن بالحمل»
قال أبو بكر حدثنا وكيع عن ابن أبي خالد عن الشعبي في رجل تبرأ مما في بطن امرأته قال: «يلاعنها» وهذا قول الشعبى وليس بحجة.
قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة كان لا يرى الملاعنة بالحمل

اختلف أهل العلم فى من تبرأ من حمل امرأته أيكون ذلك قذفا ويحد أو يلاعن وينتفى من الحمل فيبرأ منه أم لا يكون ذلك قذفا وينتظر بها حتى تضع ثم يلاعن ولو لاعنها قبل أن تضع لم ينف عنه الولد إلا بلعان جديد.
فممن قال يلاعن بالحمل مالك والشافعى والليث بن سعد وأصحابهم وقالوا إذا علم بحملها فلم ينتف منه وهو يقدر ثم وضعته فأراد أن ينتفى منه بعد أن وضعته فقد لزمه ولم يكن ذلك له بعد وفى قول أهل العلم جميعا إنه لو أقر به بعد أن وضعته ثم أراد أن ينفيه لم يكن له ذلك أبدا.
وهذا كله إذا أمكن أن يكون الحمل منه فأما من ولدت دون ستة أشهر بعد عقد النكاح أو جاءت بولد بعد أكثر مما تلد له النساء بعد أن طلقت أو كان زوجها صبيا لا يولد لمثله أو خصيا لا يولد لمثله فإن الولد منفى عن الزوج بكل حال وبغير لعان ولو ادعاه الزوج لم يكن ولده أبدا وهذا فى قول أهل العلم جميعا وإنما اختلفوا فى المدة التى هى أكثر ما تلد له النساء واختلفوا فى المرأة يغيب عنها زوجها فتجىء بولد لأكثر مما تلد له النساء وفى مسائل سوى ذلك ليس هذا موضع بسطها.
قال مالك: "إذا فارق الرجل امرأته فراقا باتا، ليس له عليها فيه رجعة، ثم أنكر حملها لاعنها إذا كانت حاملا وكان حملها يشبه أن يكون منه إذا ادعته، ما لم يأت دون ذلك من الزمان الذي يشك فيه، فلا يعرف أنه منه، قال: فهذا الأمر عندنا والذي سمعت من أهل العلم" (الموطأ - باب ما جاء في اللعان)
قال سحنون: " قلت: فإن تبرأ من الحمل كيف يلتعن؟
قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا وأرى أن يقول: أشهد بالله لرأيت ولم أسمعه من مالك وتقول المرأة: أشهد بالله ما زنيت" (المدونة 2/253)
قال الشافعى: " فإن لاعنها بإنكار ولد أو حبل قال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وإن ولدها هذا أو حبلها هذا إن كان حبلا لمن زنا ما هو مني ثم يقولها في كل شهادة وفي قوله وعلي لعنة الله حتى تدخل مع حلفه على صدقه على الزنا لأنه قد رماها بشيئين بزنا وحمل أو ولد ينفيه فلما ذكر الله عز وجل الشهادات أربعا ثم فصل بينهن باللعنة في الرجل والغضب في المرأة دل ذلك على حال افتراق الشهادات في اللعنة والغضب واللعنة والغضب بعد الشهادة موجبتان على من أوجب عليه لأنه متجرئ على النفي وعلى الشهادة بالله تعالى باطلا ثم يزيد فيجترئ على أن يلتعن وعلى أن يدعو بلعنة الله فينبغي للوالي إذا عرف من ذلك ما جهلا أن يفقههما نظرا لهما استدلالا بالكتاب والسنة" (الأم 5/134)
قال الشافعى: " قد ذهب بعض من نظر في العلم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلاعن بالحمل وإنما لاعن بالقذف ونفى الولد إذا كان من الحمل الذي به القذف ولما نفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الولد عن العجلاني بعدما وضعته أمه وبعد تفريقه بين المتلاعنين استدللنا بهذا الحكم وحكم أن الولد للفراش على أن الولد لا ينفى إلا بلعان وعلى أنه كان للزوج نفيه وامرأته عنده وإذا لاعنها كان له نفي ولدها إن جاءت به بعد ما يطلقها ثلاثا لأنه بسبب النكاح المتقدم وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفاه يوم نفاه وليست له بزوجة ولكنه من زوجة كانت وبإنكار متقدم له" (الأم 5/140)
قال الشافعى: "وبهذا كله نقول وهو معنى الكتاب والسنة إلا أن يقر بحملها فلا يكون له نفيه بعد الإقرار به أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أنه قال لعطاء الرجل يقذف امرأته قبل أن تهدى إليه قال يلاعنها والولد لها" (الأم 5/140)
قال الطحاوى: "وقال الليث فى من أقر بحمل امرأته ثم قال بعد ذلك رأيتها تزني لاعن في الرؤية ولزمه الحمل" (مختصر اختلاف العلماء 2/486)
وقال أحمد وإسحاق وسفيان الثورى وأبو حنيفة: لا يلاعن بالحمل لعله لا يكون ببطنها ولد وينتظر به حتى تضعه فإن وضعته قيل له إن أردت أن تنتفى منه فعليك اللعان الآن بنفى الولد ولا ينفيه عنك لعان إن كنت جئت به قبل أن تضعه.
وغَلَّطَ أحمدُ أبا بكر بن أبى شيبة فى روايته للعان رسول الله بالحمل.
قال أحمد: "وبلغني أن ابن أبي شيبة أخرجه في كتابه أنه عليه السلام لاعن بالحمل، وهذا خطأ بين. وجعل يتعجب من إخراجه ومن خطئه في هذا" (الجامع لعلوم الإمام أحمد فى الفقه – اللعان لنفى الولد)
قال إسحاق بن منصور: "قلت: سئل سفيان عن رجل قال لامرأته: ما في بطنك ليس مني. قال: تتربص حتى تضع.
قال أحمد: نعم، إذا وضعت إن نفاه لاعنها، وإن ادعاه فالولدُ ولده ولا يُضرب إلَّا أن يقول: زنيتِ. فإن قال: زنيتِ. ضرب الحد.
قال إسحاق: كما قال." (مسائل الكوسج 1257)
قال إسحاق بن منصور: "قال أحمد: إذا قال لها: يا فاعلة. لاعن بينهما، وإذا قال: هذا الحبلُ ليس مني. ينتظر بها حتى تضع، لعله يدعيه.
قال إسحاق: كما قال." (مسائل الكوسج 2439)
قال أبو جعفر: "قال أبو حنيفة إذا قال هذا الحمل ليس مني لم يكن قاذفا لها فإن ولدت بعد يوم لم يلاعن حتى ينفيه بعد الولادة وهو قول زفر
وقال أبو يوسف ومحمد إن جاءت به بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر لاعن
وقد روي عن أبي يوسف أنه يلاعنها قبل الولادة
وقال مالك والشافعي يلاعن بالحمل
وذكر عنه الربيع أنه يلاعن حين تلد
قال أبو جعفر روى عبدة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بالحمل
قال أبو جعفر هذا حديث اختصره عبدة أخطأ في اختصاره وأصله عن عيسى بن يونس وجرير جميعا عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال أرأيتم إن وجد رجل مع امرأته رجلا فإن هو قتله قتلتموه وإن هو تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ فأنزلت آية اللعان فابتلى به فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاعن عن امرأته
فلم يذكر فيه الحمل ولا أنه لاعن بالحمل وهذا عندنا لأنه قذفها فلاعن بالقذف.
روى ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما لي عهد بأهلي منذ عقرنا النخل فوجدت مع امرأتي رجلا مصفرا حمشا سبط الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم بين ثم لاعن بينهما فجاءت به يشبه الذي رميت به.
وقد غلط ابن جريج في إسناد هذا الحديث ومتنه أما إسناده فقد رواه سليمان بن بلال والليث وإسماعيل بن جعفر عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فأدخلو بين يحيى وبين القاسم عبد الرحمن عن أبيه
وأما المتن فإنهم رووا أنها وضعت ولدا يشبه الذي رميت به فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما
فأخبروا أن اللعان كان بعد الوضع" (مختصر اختلاف العلماء – فى نفى الحمل)

وإذا لاعن الرجل امرأته فانتفى من ولدها ثم ادعت المرأة أنه منه واستعملت ما يسمونه تحليل الحمض النووى لإثبات نسب ابنها من أبيه لم يثبت نسبه بذلك وإذا نفاه باللعان لم يثبت نسبه حتى يقر به.
فإن قال قائل: فأنت تجعل للرجل أن ينفى ولده عن نفسه ويفضح امرأته فيكون قد ظلم نفسه وولده وامرأته فأى ظلم أعظم من هذا؟ قيل له – إن شاء الله – إنى لست أنا قلت ذلك بل قاله أهل العلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نفى الولد عن الزوج وألحقه بأمه قال إن جاءت به يشبه زوجها فقد كذب عليها ولم يقل فهو ابنه ولا جعل ذلك مثبتا لنسبه وهذا من القيافة التى قال أهل العلم إنها قد تستعمل لإثبات النسب. وقيل له: إن الذى زعمت قسته عليه من القيافة ليس كما زعمت وليس تستعمل القافة فى مثل هذا الموضع و لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يقول فيه بإثبات النسب بالقيافة بل هو قول بعض أهل العلم كالشافعى وأحمد وهو قول مالك فى أولاد الإماء وقال أبو حنيفة: ليست القيافة بشىء وقاله مالك فى أولاد الحرائر.
فإن قيل: فعلى قول الشافعى إذا ترد القافةُ اللعانَ؟ قيل له – إن شاء الله – لقد جهلت الموضع الذى فيه جاءت القيافة فاستعملتها فى غير الموضع الذى استعملها فيه أهل العلم. وإنما تستعمل القيافة عند من قال بها إذا ادعى أكثر من واحد ولد امرأة كلهم قد وطئها بملك صحيح أو شبهة من ملك تدرأ الحد وتثبت النسب وأمكن أن يكون الولد من كل واحد منهم وادعاه منهم أكثر من واحد فهذا هو الموضع الذى اختلف أهل العلم فيه
وذلك مثل أن تكون أمة بين اثنين أو أكثر فيطؤها كلهم ولكل واحد منهم فيها شرك ثم تأتى بولد فيدعيه كلهم أو بعضهم.
ومثل المرأة يطلقها زوجها فينكحها رجل فى عدتها ويطؤها جاهلا فتأتى بولد لأكثر من ستة أشهر من يوم نكحها الثانى نكاحا باطلا ولأكثر ما تلد له النساء من يوم طلقها الأول فيدعيه كل واحد منهما.
ومثل المرأة لها وليان فينكحها كل واحد منهما بغير علم صاحبه ويدخل بها الناكحان فتأتى بولد فيدعيه كل واحد منهما.
فإذا ادعى الولد واحد من الواطئين وأنكره البقية فالولد له بغير قرعة ولا قافة ولا قول للمرأة فى ذلك.
وإن ادعاه بعضهم وأنكر بعضهم فإن كان المدعون أكثر من واحد لم يلحق بأحد من المنكرين ودعى له القافة ليلحقوه بواحد ممن ادعاه ولو كان المدعى واحدا فهو ابنه بغير قافة وإن لم يدعه أحد فكما لو ادعاه كلهم وتدعى له القافة لتلحقه بأحدهم.
ومن أهل العلم من أنكر القافة ومنهم من قال بالقرعة ومنهم من قال هو ابنهم جميعا والله أعلم بالصواب.
فأما الوطء الذى ليس فيه شبهة كالرجل يزنى بالمرأة ذات الزوج أو يستكرهها على نفسها أو ينكحها نكاحا باطلا أجمع المسلمون أنه باطل وهو يعلم أنه باطل وإنما أنظر فى ذلك إلى ظن الرجل الواطئ لا المرأة لأن الولد إذا نسب فإليه ينسب وإن نفى فعنه ينفى أما المرأة فهو ابنها أبدا بولادتها له فلا يُنفى عنها أبدا فإذا كان من ذلك الوطء الحرام البين الذى لا شبهة فيه لم يلحق بالزانى نسب المولود أبدا فإن أقر به زوج المرأة إن كان لها زوج فهو ابنه وإن نفاه عن نفسه باللعان فالولد لأمه ولا ينسب للزانى بها وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» والله أعلم.
وإذا جاءت المرأة بولد فقال لها الزوج لم تلديه فالقول قوله مع يمينه وعلى المرأة البينة لقد ولدته وإلا لم تُرِد امرأة أن تلتقط لقيطا وتنسبه إلى زوجها إلا فعلت وهذا قول الشافعى وأحمد وسفيان وأبى حنيفة وأكثر أهل العلم. وقال مالك عليه رحمة الله لا ينفيه إلا بلعان. ويُقبل فى الشهادة على الولاد النساء منفردات.
فإن قال قائل: فكيف تجعل القول قوله فى ولادتها ولا تقبل قولها على نفسها؟ قيل له: أرأيت لو أن رجلا ضرب امرأته ضربا غير مبرح فرافعته إلى السلطان فقال الزوج كانت ناشزا فضربتها وقالت لم أكن ناشزا أوليس نجعل القول قوله مع يمينه وعلى المرأة البينة لقد ضربها ظالما؟ فكذلك جعلنا فى الولاد القول قوله. ولله تبارك وتعالى أحكام بين الزوجين ليست كالأحكام التى بين الأجانب.
وإذا رمى الرجل امرأته بالزنا وهى فى ملكه ولا شهود له فقامت عليه تطلب حدها قيل له إن التعنت درأت عن نفسك الحد وفرقنا بينك وبينها وإلا ضُرِبت الحد وهى امرأتك لا تملك أن تفارقك. وإذا قال أهل العلم فى موضع: هى امرأته. معنى ذلك عندهم أنها لا تملك أن تفارق زوجها وجملة ذلك أن المرأة المنكوحة هى المملوكة التى لا تملك أن تفارق زوجها.
والنكاح عقد ملك ومعناه أن يملك الرجل على المرأة أمرها فلا تملك أن تفارقه. وليس فى النكاح حب ولا كره وليس فى العقود أحب وأكره. وهذا فرق ما بين النكاح والبغاء الذى هو الدعارة النكاح أن يشترى الرجل المرأة بماله فلا تملك أن تفارقه والبغاء أن يعطى الرجل المرأة المال على أن يستمتع بها فإذا متعته بنفسها كانت بالخيار فى نفسها إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت.
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنّ َ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲۚ} وقال سبحانه: {فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنّ َ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲ} وقال عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}
ومعنى الإمساك بمعروف أنه لو أدى إليها حقها من المهر والنفقة وكرهت المرأة زوجها فأرادت فراقه ولم يرد هو أن يطلقها لم تملك هى ولا السلطان والقاضى أن ينتزعها منه كما تقول أمسكتُ اللصَّ تعنى أنه لو أراد أن يذهب لم يملك ذلك إلا أن تخلى أنت سبيله.
وقال الله تبارك وتعالى: {فَأَمْسِكُوهُن فى البُيُوتِ} يعنى احبسوهن فإذا أردن أن يخرجن لم يملكن ذلك إلا أن تخرجوهن أنتم.
وقال سبحانه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} والهبة أن تملكه نفسها ثم لا تملك أن ترجع فيها على ما أحبت وكرهت فإن كانت تملك أن تعود فى نفسها فتلك العاريَّة وإعارة الفروج زنا وحرام لا يحل ولا نعلم أحد ممن مضى ينسب إلى الإسلام أحل إعارة فروج الحرائر إلا فرقة يقال لها الوهابية قد شابهوا القرامطة والمزدكية والدروز ويحرمون النكاح ويستحلون الدعارة ويزعمون أن إمامهم محمد بن عبد الوهاب كان مجددا سنيا ولم يكن كذلك ولا كرامة فإنه أخذ عداوة الفقهاء والسلف عن ابن تيمية الحرانى ثم أخذ التكفير بالظن عن الأشاعرة ثم خرج على الناس بالسيف فكل من خالفه كفره واستحل دمه وماله ونساءه كما فعل الأشعرية بأهل المغرب والله المستعان. والقول بأن للمرأة أن تفارق زوجها بأمر قاض إذا كرهته قول الدروز وأول من بلغنا أنه أظهر القول به الكافر الملحد حمزة بن على عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال الشافعى: "فمن ذلك من ملك زوجة سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليه أن يخيرها في المقام معه أو فراقها له وله حبسها إذا أدى إليها ما يجب عليه لها وإن كرهته وأمر الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخير نساءه فقال {قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} إلى قوله {أجرا عظيما} فخيرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنه فلم يكن الخيار إذا اخترنه طلاقا ولم يجب عليه أن يحدث لهن طلاقا إذا اخترنه" (الأم 5/150)
وإنما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة ثم لم يملكن الفراق بعد.
قال الخلال: "أخبرني الحسن بن الهيثم أن محمد بن موسى بن مشيش حدثهم قال: سُئل أبو عبد اللَّه عن رجل يهودي وتحته يهودية أسلم الزوج؟
قال: هذا تكون امرأته.
قيل له: فإن أبت؟
قال: يضرب رأسها." (أحكام أهل الملل 258)
فإن قيل: فما الذى يسمونه فى زماننا الخلع يقولون إن المرأة إذا كرهت زوجها ردت إليه ماله وخلعها من القاضى؟ قيل: هذا ليس خلعا بل دعارة على أن المرأة بالخيار وهو قول النجدية. وفى قول أهل العلم جميعا إن الطلاق والخلع بيد الرجال وللرجل أن يخلع امرأته بغير علمها وبغير رضاها كما له أن يطلقها بغير علمها وبغير رضاها. كذلك قال الله تبارك وتعالى فى كتابه وقال رسوله فى سنته وبه قال أهل العلم جميعا لا اختلاف بينهم أن الخلع بيد الرجال وكذلك أقول.
قال الله تبارك وتعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
والخطاب للرجال ومعناه: يا أيها الرجال إذا أردتم طلاق نسائكم وأخذ أموالهن فإنه {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} ثم استثنى فقال: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} يعنى فإذا كان ذلك الشرط وأراد الرجل فراق امرأته وأخذ مالها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} يعنى فجائز حلال له أن يأخذ المال الذى افتدت به وحلال لها أن تدفعه له لا أن ذلك واجب على الرجل إذا لم يرد فراق امرأته ولا أخذ مالها.
قال الشافعى: "وإن خلع أبو الصبي أو المعتوه أو وليه عنه امرأته أو أبا امرأته فالخلع باطل والنكاح ثابت، وما أخذا من المرأة أو وليها على الخلع فهو مردود كله وهي امرأته بحالها وكذلك إن كان مغلوبا على عقله أو غير بالغ فخالع عن نفسه فهي امرأته بحالها، وكذلك سيد العبد إن خالع عن عبده بغير إذنه لأن الخلع طلاق فلا يكون لأحد أن يطلق عن أحد أب ولا سيد ولا ولي ولا سلطان إنما يطلق المرء عن نفسه أو يطلق عليه السلطان بما لزمه من نفسه إذا امتنع هو أن يطلق وكان ممن له طلاق وليس الخلع من هذا المعنى بسبيل" (الأم 5/214)
وهذا فى الصبى والمجنون يخلع عنه السلطان امرأته على وجه النظر له وإن لم ترض المرأة وإنما ذكر الشافعى هذه المسألة لأنها قول مالك فأما العاقل البالغ فلا نعلم أحدا من أهل العلم قال إن للسلطان أن يخلع عليه ولهذا لم يذكره الشافعى.
وقوله: "أو يطلق عليه السلطان بما لزمه من نفسه إذا امتنع هو أن يطلق وكان ممن له طلاق" فهو يعنى المولى والذى يذهب إليه الشافعى أن السلطان لا يطلق على أحد أبدا إلا المولى وكل فرقة سوى ذلك أجبر عليها الزوج فهى فسخ لا طلاق ولا يفسخ عنده النكاح إلا فى الأمة تعتق تحت العبد العنة والعيوب الأربعة والكفاءة والغرور بالحرية والنسب واختلاف الدينين والرضاع والجمع بين المرأة وأمها وبناتها والله أعلم.
قال سحنون: " قلت: أرأيت طلاق المكره ومخالعته قال: مالك: لا يجوز طلاق المكره فمخالعته مثل ذلك عندي
قلت: وكذلك نكاح المكره وعتق المكره لا يجوز في قول مالك قال: نعم، كذلك قال مالك" (المدونة 2/113)
والمكره هو الذى يضرب ويُتَوعد بالقتل ويمس بالعذاب حتى ينطق بالطلاق أو الخلع أو النكاح وإنما ذكر سحنون هذه المسألة لأنها قول أهل الكوفة وذلك أن السلطان كان إذا خبب امرأة على زوجها وأراد نكاحها كان لا يستطيع أن يقول خلعتها منه والمرأة راضية لأن هذا باطل عند جميع المسلمين فكان يأخذ بقول أهل الكوفة إن طلاق المكره وعتقه ونكاحه لازم له فيعذبه حتى يكون الرجل هو الذى يطلق أو يخلع. ومن قول أهل الكوفة إن رجلا لو أكره امرأة على نكاحه فرضيت مخافة القتل فالنكاح لها لازم ولا تملك أن تفارقه وقد أثم حين أكرهها على النكاح.
قال سحنون: " قلت: أرأيت المستكره أيجوز عتقه في قول مالك؟
قال: لا، قلت: ولا يجوز على المستكره شيء من الأشياء في قول مالك لا عتق ولا
بيع ولا شراء ولا نكاح ولا وصية ولا غير ذلك؟
قال: قال مالك: لا يجوز على المستكره شيء من الأشياء لا عتق ولا طلاق ولا نكاح ولا بيع ولا شراء، وأما الوصية فلم أسمعها من مالك وهي: لا تجوز وصية المستكره
قلت: أرأيت من استكره على الصلح، أكرهه عليه غير سلطان أيجوز عليه أم لا؟
قال: لا يجوز عليه عند مالك، وإكراه السلطان عند مالك وغير السلطان سواء إذا كان مكرها.
قلت: وكيف الإكراه عند مالك؟ قال: الضرب والتهديد بالقتل والتهديد بالضرب والتخويف الذي لا شك فيه.
قلت: فالسجن إكراه عند مالك؟ قال: لم أسمعه من مالك وهو عندي إكراه.
قلت: وإكراه الزوج امرأته إكراه عند مالك؟
قال: قال مالك: إذا ضربها أو أضر بها فاختلعت منه أنه يرد إليها ما أخذ منها فذلك يدلك على أن إكراهه إكراه." (المدونة 2/436)
والصلح الذى ذكر سحنون هو الخلع ومالك وأهل المدينة يسمونه صلحا لا اختلاف بينهم فى ذلك.
قال الطحاوى: " فأدخل في ذلك عز وجل الزوجات مع الأزواج، فجعل الفدية منهن، والقبول لها من الأزواج، فلم يكن للسلطان في هذا معنى لا يتم إلا به، وكان ذلك افتداء على مال يأخذه الزوج من المرأة وكان السلطان لا يجيزهما على ذلك لو ارتفعا إليه، وإنما يردهما فيه إلى ما تطيب به أنفسهما من مقدار الفدية، ومن إجابة الزوج إلى الفراق" (أحكام القرآن للطحاوى 2/451)
وقوله: "لا يجيزهما" يعنى لا يجبرهما ولا يلزمهما وجاز عليه الشىىء إذا لزمه ولم يكن له دفعه.
وهذا من أبى جعفر رد من على من قال بقول الحسن وزياد بن أبيه إن الرجل إذا أراد أن يخلع امرأته ويأخذ مالها فلا يحل له أن يأخذ منها المال حتى يرفعها إلى السلطان فتقر المرأة أنه لم يُكْرِهْهَا على الخلع لأن الرجال كانوا يُكْرِهون نساءهم على الخلع ليطلقوا ويأخذوا المال فاحتج عليه أبو جعفر بالذى اجتمعوا عليه من أن السلطان لا يملك إجبار الرجل على أن يطلق ولا إجبار المرأة على أن تعطى لزوجها من مالها ليطلقها.
قال أبو جعفر حدثنا محمد بن خزيمة قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: حدثنا قتادة، ويونس وحميد عن الحسن أن زيادا قال: من خلع امرأته دون السلطان فقد ذهب ماله وذهبت امرأته. (أحكام القرآن الكريم 2/449)
ولو جمعنا آثار السلف فى هذه المسألة لاستغرقت كتابا وليس هذا مكان بسطها.
وإذا التعن الرجل فجمع السلطان الناس له ولامرأته فشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين فيما رماه بها من الزنا ثم نكل عن الخامسة جلد الحد وهى امرأته لا تملك أن تفارقه ولا خلاف فى ذلك بين أهل العلم.
فإن قال قائل: فقد جعلت له أن يفضحها ويرميها بالزنا أمام الناس ولم تجعل لها أن تفارقه فأين ما يسميه الناس فى زماننا طلاق الضرر وهل هو قول مالك؟
قيل له – إن شاء الله تعالى – إن الطلاق الذى ظهر فى زماننا ويقال له طلاق الضرر لهو طلاق باطل لا نعلم خلافا بين السلف فى بطلانه ولا نعلم بينهم خلافا أن من سب امرأته أو ضربها ظالما لم تملك امرأته فراقه إلا أن يُمَثِّل بها عامدا فلها عند مالك أن تفارقه وقال سائرأهل العلم ليس لها ذلك أيضا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم» يعنى لا تظلموا النساء لأنهن لا يملكن فراقكم.
والمثلة أن يقطع يدها أو رجلها أو يفقأ عينها أو يكسر عظامها كسرا لا ينجبر أو يشوه وجهها بجروح لا تبرأ وكان مالك يجعل لها الفراق إذا مثل بها قياسا عنده على قوله فى وقول المدنيين فى العبد إذا مثل به سيده أعتقه عليه السلطان فقاس مالك المرأة بالعبد والفقهاء كثيرا ما يقيسون المرأة بالعبد والعبد بالمرأة والطلاق بالعتاق والعتاق بالطلاق ولا تشبه المرأة عندهم العبد إلا فى وجه واحد: فى أنها لا تملك فراق زوجها إذا كرهته كما لا يملك العبد إخراج نفسه من ملك سيده.
قال سحنون: "قلت: أرأيت الرجل يجامع أمته فيفضيها، أتعتق عليه؟ قال: سألت مالكا عن الرجل يضرب عبده على وجه الأدب فيفقأ عينه أيعتق عليه؟ قال: قال مالك: لا يعتق عليه. فمسألتك مثل هذا وإنما يعتق على سيده ما كان على وجه العمد.
قلت: أليس قول مالك فيمن أفضى زوجته أنه إن شاء طلق وإن شاء أمسك؟
قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا وما كنا نشك أنها زوجة من الأزواج إن شاء طلق وإن شاء أمسك وهو رأيي." (المدونة 4/517)
ولم يجعل لها الفراق فى هذا الموضع لأنه ليس على وجه العمد والله أعلم.
ولمالك قول شاذ فى إيجاب النفقة للمرأة الناشزة الكارهة لزوجها المانعة إياه حقه المريدة فراقه وجعلها قياسا على العبد الآبق لأنه لا يملك فراق سيده وبهذا يقول صاحبه عبد الرحمن بن القاسم وهذا خلاف المشهور عن مالك والذى عليه عامة أهل العلم والله أعلم.
قال ابن القاسم: " في المرأة الناشز تقول: لا أصلي ولا أصوم ولا أتطهر من جنابة فلا يجبر الزوج على فراقها" (النوادر والزيادات 5/256)
أول من أظهر القول بما يسميه المالكية طلاق الضرر رجل من الأندلس يقال له ابن الهندى وكان كاتب شروط ولم يكن فقيها وقد أنكر عليه فقهاء زمانه وقال فيه عياض: "ولم يكن بالمرضي في دينه، ولا بالمقبول قوله؛ عديم المرؤة، وذكر فيه أشياء منكرة؛ قال: وهو أحد من لاعن زوجته بالأندلس بعهد القاضي ابن السليم" (ترتيب المدارك وتقريب المسالك - أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني)
ولم يزل الأمر عندهم على ترك قول ابن الهندى والأخذ بقول مالك وسائر أهل العلم حتى صنف خليل مختصره وأخذ فيه بقول ابن الهندى فكل من جاء بعده يأخذ بقوله ومنهم من يظن أنه قول مالك وهذا خطأ بل هو قول ابن الهندى.
قال خليل: "ابن الهندي في وثائقه الكبرى: ولها تطليق نفسها وإن لم تشهد البينة بتكرر الضرر، وقيل: ليس لها ذلك حتى تشهد بتكرره" (التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب 4/267)
فإن قيل فهل من ضرر غير ذلك إذا نال الرجل به امرأته استحقت أن تفارقه فى قول بعض أهل العلم؟ قيل له - إن شاء الله - نعم على خلاف بينهم فى ذلك فأما الذى اجتمعوا عليه فالأمة تعتق تحت عبد فإنها تختار الفراق بغير سلطان للإجماع واختلفوا فى من عتقت تحت حر واختلفوا فى الإيلاء كيف يكون الطلاق فيه أيكون انقضاء الأربعة الأشهر تطليقة بائنة أم رجعية أم لا يقع عليه الطلاق حتى يوقف فيفىء أو يطلق واختلفوا فى العيوب الثلاثة البرص والجنون والجذام وقال عامتهم لها فراق المجبوب والعنين وهو الذى لم يطأ أبدا فى عقد النكاح فإن وطئها مرة واحدة ثم عجز عن وطئها أبدا لمرض أو سجن أو كبر سن لم تملك أن تفارقه أبدا وهى امرأة ابتليت فلتصبر وهذا قولهم جميعا واختلفوا فى من ترك وطء امرأته مضارا لها من غير يمين فقال أكثرهم لا تملك فراقه ويعزر الرجل ليعود إلى وطئها وقال مالك لها فراقه كالإيلاء سواء واختلفوا فى الرجل يعجز عن نفقة امرأته فقال أكثرهم لها فراقه وقال العراقيون ليس لها ذلك ولا خلاف بينهم أن ليس عليه نفقة علاجها واختلفوا فى الرجل يعجز عن المهر الحال قبل الدخول فقال مالك لها فراقه ومال إليه الشافعى واختلفوا فى المفقود فقال الشافعى وأبو حنيفة بقول على رضى الله عنه ليس لها فراقه أبدا وقال مالك وأحمد نحوا من قول عمر رضى الله عنه فيه وقالوا جميعا فى الأسير الذى لا يعلم أحى هو أم ميت إن امرأته لا تنكح غيره أبدا وقالوا جميعا إن العبد لو نكحها على أنه حر فبان عبدا فلها فراقه واختلفوا فيما لو غرها بنسب فبان بنسب دونه واختلفوا لو نكح حرة على أمة أو أمة على حرة فإن مالكا كان يصحح هذين النكاحين ويجعل للحرة الخيار.
قال سحنون: " قلت: لم جعل مالك الخيار للحرة في هذه المسائل؟
قال: قال مالك: إنما جعلنا لها الخيار لما قالت العلماء قبلي، يريد سعيد بن المسيب وغيره ولولا ما قالوا رأيته حلالا؛ لأنه حلال في كتاب الله تعالى" (المدونة 2/137)
قال مالك: " قال مالك: ولولا ما جاء فيه من الأحاديث لرأيته حلالا" (المدونة 2/138)
أين هذا من قول دجاجلة نجد إن من نكح امرأة على امرأته فللأولى فراقه وقالوا إن لم ينكح عليها فلها أيضا فراقه. وإنما سميتهم دجاجلة لأن شيخهم ابن تيمية كان يسمى الصحابة والسلف والفقهاء دجاجلة.
قال ابن تيمية: "والقول الذي يقوله هذا المعترض وأمثاله من أن هذا قول مبتدع، قد قابلهم عليه من هو أعلم منهم بشرع الله ـ تعالى ـ في هذه المسألة ممن كان يفتي فيها بالكفارة قبل أن يتكلم فيها المجيب، بل وقبل أن يخلق، فكان يقول لمن ينازعه فيها: يا دجاجلة لم تدخلون في الإسلام ما ليس منه؟ أين في دين المسلمين يمين منعقدة لا كفارة فيها؟" (الرد على السبكى فى مسألة تعليق الطلاق)
والقول بأن يمين الطلاق لا كفارة فيها قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله رضى الله عنهم ولا نعلم لهم فى الصحابة مخالفا وهو قول التابعين إلا طاوسا وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى حنيفة وأبى ثور وابن المنذر وعده بعضهم إجماعا وقول طاوس هذا لا نعلم أحدا أخذ به.
وإذا رمت المرأة زوجها بالزنا ولا شهود لها وقام الرجل يطلب حده ضربت ثمانين جلدة ولم تلتعن وإنما اللعان فضل فضل الله به الرجال على النساء كما فضلهم بالإمساك والطلاق والخلع والجماع والحمد لله. ألا ترى أن الرجل قد تزنى امرأته وليس له منها ولد ينفيه فيلاعنها ليفضحها فإن هى أقرت رجمت وإن هى أنكرت باءت بغضب الله وما أصابها من الفضيحة. ولا تملك المرأة أن تفضح زوجها ولا أن تلاعنه.
وإذا زنت المرأة قبل النكاح أو بعده أو قبل الدخول أو بعده فكل ذلك سواء وليس للرجل أن يأخذ منها مهره إلا أن يطلق قبل الدخول فيرجع بنصف المهر وسواء اشترط الزوج ذلك أو لم يشترط وذلك أن النكاح بيع فائت لا يملك الرجل أن يرجع بماله ولا تملك المرأة أن ترجع بنفسها.
قال الشافعى: "ولو تزوج الرجل امرأة على أنها جميلة شابة موسرة تامة بكر فوجدها عجوزا قبيحة معدمة قطعاء ثيبا أو عمياء أو بها ضر ما كان الضر غير الأربع التي سمينا فيها الخيار فلا خيار له. وقد ظلم من شرط هذا نفسه. وسواء في ذلك الحرة والأمة إذا كانتا متزوجتين، وليس النكاح كالبيع فلا خيار في النكاح من عيب يخص المرأة في بدنها ولا خيار في النكاح عندنا إلا من أربع" (الأم 5/90)
قال سحنون: "قلت: أرأيت إن تزوج رجل امرأة فأصابها معيبة من أي العيوب يردها في قول مالك؟
قال: قال مالك: يردها من الجنون، والجذام والبرص والعيب الذي في الفرج.
قلت: أرأيت إن تزوجها وهو لا يعرفها، فإذا هي عمياء أو عوراء أو قطعاء أو شلاء أو مقعدة أو ولدت من الزنا؟ قال: قال مالك: لا ترد، ولا ترد من عيوب النساء في النكاح إلا من الذي أخبرتك به" (المدونة 2/142)
وفى قول أهل العراق: الحرة غل فى عنق صاحبها والأمة ترد بالعيب.
وإنما ترد الأمة بالعيب عندهم ما لم يطأها المشترى فإذا وطئها وإن كانت ثيبا فقد لزمته ولم يمكنه ردها بالعيب ولكن يرجع بفرق ما بين قيمتها صحيحة وقيمتها معيبة.
وإذا اشترط الزوج أنها عذراء فبانت بخلاف ذلك وإن كانت بكرا والبكر غير العذراء وسواء ذهبت عذرتها بزنا أو نكاح أو غير ذلك ففى قول مالك إن له أن يردها ويأخذ ماله وبهذا يقول ابن تيمية وقال الشافعى وأحمد وأبو حنيفة وسائر أهل العلم ليس له أن يرجع فى ماله.
وفى قول مالك إنه لو اشترطها جميلة فبانت قبيحة أو بيضاء فبانت سوداء أو ذات نسب فبانت بنت زنا أو لقيطة فإن له أن يردها فى كل ذلك ويأخذ ماله وقال غيره ليس له أن يأخذ ماله. والله الموفق للصواب.
وقد غلط ابن تيمية فنسب إلى الشافعى أنه يقول إذا اشترط فيها أنها جميلة موسرة بكر فبانت بخلاف ذلك فله الرجوع بالمهر وهذا خطأ لا شك فيه ولا اختلاف عن الشافعى أن شروطه باطلة ولا يملك أن يرجع بمهره وهذا قول جميع أصحابه وأتباع مذهبه وهو قوله فى كتابه المصرى ونسبه إليه ابن المنذر وابن قدامة.
ثم زعم ابن تيمية أن ذلك يجىء على أصول أحمد وهذا خلاف الرواية المنصوصة عنه وما عليه أصحابه وأتباع مذهبه وما نقله عنه ابن المنذر وابن قدامة.
قال ابن هانئ: "سألت أبا عبد الله عن الرجل يتزوج بالمرأة، فيدخل بها، ويقول: لم أجدها بكرا؟
قال: قد تذهب العذرة في البسورة، وكثرة الحيض، والتعنيس، لها المهر كاملا، إذا هو كرهها" (مسائل ابن هانئ 1048)
وإذا زنى الرجل قبل النكاح أو بعده أو قبل الدخول أو بعده فسواء وهو آثم فيما بينه وبين الله تعالى ولا تملك امرأته أن تفارقه فى قول عامة أهل العلم وهم مجمعون أن الزنا لو كان من واحد منهما بعد النكاح أو قبل النكاح وقد تاب الزانى منهما فإن النكاح لا ينفسخ أبدا ولا تملك المرأة أن تفارق ولا يملك الرجل أن يأخذ المهر.
قال الشافعى: "فالاختيار للرجل أن لا ينكح زانية وللمرأة أن لا تنكح زانيا فإن فعلا فليس ذلك بحرام على واحد منهما ليست معصية واحد منهما في نفسه تحرم عليه الحلال إذا أتاه قال وكذلك لو نكح امرأة لم يعلم أنها زنت فعلم قبل دخولها عليه أنها زنت قبل نكاحه أو بعده لم تحرم عليه ولم يكن له أخذ صداقه منها ولا فسخ نكاحها وكان له إن شاء أن يمسك وإن شاء أن يطلق وكذلك إن كان هو الذي وجدته قد زنى قبل أن ينكحها أو بعدما نكحها قبل الدخول أو بعده فلا خيار لها في فراقه وهي زوجته بحالها ولا تحرم عليه وسواء حد الزاني منهما أو لم يحد أو قامت عليه بينة أو اعترف لا يحرم زنا واحد منهما ولا زناهما ولا معصية من المعاصي الحلال إلا أن يختلف ديناهما بشرك وإيمان" (الأم 5/16)
وفيها قول آخر إن أحد الزوجين إذا زنا قبل النكاح ولم يتب أو زنا قبل الدخول فالنكاح مفسوخ وللرجل أن يأخذ مهره من المرأة وللمرأة أن تفارقه وهذا قول على بن أبى طالب وإبراهيم النخعى وعطاء بن أبى رباح وقتادة وعبد الملك بن مروان. وسائر أهل العلم يقولون بخلافه لا يملك الرجل أن يرجع فى المهر ولا تملك المرأة أن تفارق وهذا قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس والشعبى وابن شهاب الزهرى وقول مالك والشافعى وأحمد وأبى حنيفة وبه أقول.
روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: كانت قد زنت أو سرقت ولم يعلم حتى نكحها ثم أخبر قبل أن يجامعها قال: "ليس لها شيء"
عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان الشيباني عن الشعبي في التي بغت قبل أن يدخل بها زوجها قال: "النكاح كما هو"، وقال إبراهيم: "يرد الصداق، ويفرق بينهما"
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: "هي امرأته على كل حال لا يفارقها، ولا تفارقه"
عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "إذا أحدثت قبل أن يدخل بها فارقها، ولا شيء لها"
عبد الرزاق عن إسرائيل بن يونس عن سماك بن حرب عن حنش قال: أتي علي برجل قد زنى بامرأة، وقد تزوج امرأة، ولم يدخل بها قال: «أزنيت؟» قال: نعم، ولم أحصن قال: فأمر به فجلد مائة، وفرق بينه وبين امرأته، وأعطاها نصف الصداق.
عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في رجل جلد حد الزنا فتزوج امرأة ولم يعلمها ذلك قال: "إن كان قد دخل بها فلها صداقها، وتفارقه إن شاءت، وإن كان لم يدخل بها فلها نصف الصداق، وتفارقه إن شاءت" قال: "وإن كانت هي المحدودة فدخل بها، ولم يعلم فلها صداقها، ويغرم الذي دلسها له، وإن كان الولي لم يعلم بها فلا شيء عليه، وإن كان لم يدخل بها خير، ولا صداق لها"
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: "النكاح ثابت كما هو"
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب، وعن ابن طاوس عن أبيه قالا: "إذا جلد الرجل حدا في الزنا، ثم تزوج فإن كان قد أونس منه توبة، فهما على نكاحهما"، قال معمر: "وسمعت من يقول يرد من النكاح ما يرد من الرقاب"
وقوله: "يرد من النكاح ما يرد من الرقاب" يعنى أنه لو وجد بها عيبا ردها كما لو اشترى أمة ثم وجد بها عيبا ردها بالعيب وهذا قول شاذ مخالف لما عليه الحجة التى لا يجوز عليها الخطأ من أهل العلم.
عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يحدث أن امرأة في إمارة ابن علقمة تزوجها رجل حتى إذا مضت له أُخْبِرَ أنها قد كانت زنت قبل أن ينكحها فكتب إلى عبد الملك فيها: "ماذا ترى لها؟" فكتب: "عليها لعنة الله خذ له ماله، وأقم عليها حدود الله"