المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سورة الحجرات١-٥ تفسير الشيخ الشعراوي



امانى يسرى محمد
2024-12-30, 09:15 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2024/12/163.jpg

(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )١-الحجراتتستطيع هنا أن تلاحظ المناسبة بين هذه الآية في مفتتح سورة الحجرات وبين نهاية سورة الفتح، الحق سبحانه في أواخر آيات الفتح حدثنا عما دار في الحديبية، وكيف انتهى الموقف هناك بالصلح، وكيف أن هذا الصلح أحدث خلافاً بين الرسول وبين المؤمنين به.
"ووقف رسول الله وحده وقَبِلَ الصلح وقَبِلَ كل شروطهم، وتنازل لهم عن أشياء دلَّتْ على حنكته السياسية وعلى بُعْد نظره، في حين عارضه المؤمنون كما رأينا.
حتى أن عمر يقول له: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ يقول: بلى، يقول: أليسو على الباطل. يقول: بلى، يقول: فلم نُعطِ الدنية في ديننا؟ " .
وقلنا: أنهم قبل أنْ يعودوا إلى المدينة أخبرهم الحق سبحانه بالحكمة من العودة دون أداء العمرة هذا العام. إذن: كان للمؤمنين رأي، وكان لرسول الله رأي آخر، لأن المسلمين تعصبوا لأنفسهم أما رسول الله فقد تعصَّب للإسلام.
ولما حدثتْ المعارضة لرسول الله جاءتْ سورة الحجرات لتعالج هذه المسألة في أول آية منها: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ .. } [الحجرات: 1] والنداء هنا خاص بالذين آمنوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً.

{ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ .. } [الحجرات: 1] يعني: إياكم أنْ تُقدِّموا رأياً أو تقطعوا أمراً قبل أنْ يأذن الله لكم به ويأذن رسوله ويقضي فيه، لأن رسول الله لا يصدر إلا عن وحي من الله.
وأنتم حينما تقفون في وجه أمر الرسول فأنتم في حقيقة الأمر تعارضون أمر الله الذي ارتضيتم به رباً وإلهاً وآمنتم بصفاته، ومقتضى هذا الإيمان ألاَّ تُقدِّموا رأيكم على رأيه، ولا حكمكم على حكمه، فإذا قال الله أو قال رسول الله فلا تقدموا رأياً من عندكم.

وكلمة { بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ .. } [الحجرات: 1] بين يديك يعني: أمامك، يعني لا تسبقوه بأنْ تقطعوا أمراً دونه، وتذكّر أنك أمام الله وفي مواجهته، فهو لا يُكلِّفك حركة فتلتفت يميناً أو شمالاً.

وقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ .. } [الحجرات: 1] يعني: إنْ أردتم ألاَّ تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله فاتقوا الله في ذلك. يعني: لا تكونوا كذابين فيه، ولا تعودوا مرة أخرى إلى المخالفة فهذا لا يصح.

{ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات: 1] يعني: اتقوا مَنْ هذه صفاته فهو سميع يسمع كلَّ ما يقال، وعليم بكل ما يختلج في نفوسكم، ولا يخفى عليه شيء من أموركم. وما دُمتم قد آمنتم به فقد وجبتْ عليكم طاعته وطاعة رسوله.


ثم يقول الحق سبحانه:
(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ )٢
النداء هنا أيضاً للذين آمنوا، ألاَّ يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي في حضرته، وكذلك لا يرفعوا رأيهم فوق رأيه، ومن أدب الحديث عموماً ألاَّ ترفع صوتك، لأن رفع الصوت فيه استعلاء، أو على الأقل فيه مساواة، فما بالك إنْ كان مُحدِّثك رسول الله؟.

إذن: وجب عليك ألاَّ يعلو صوتك على صوته، بل يكون صوتك أقلَّ وأخفت، وتكلّمه بأدب وخشوع، فكما آمنتَ به نبياً ورسولاً مبلِّغاً وقدمتَ رأيه على رأيك.
فكذلك حين تُحدِّثه لا ترفع صوتك فوق صوته، فصوته صلى الله عليه وسلم ينبغي أنْ يكون الأعلى، لأنه الأوْلَى بالاستماع وبالاهتمام، ونحن في حقبة من تاريخنا شاعتْ بيننا مقولة (لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة) لأن المعركة في هذا الوقت كانت هي الحل. والمعنى: لا يعلو صوتٌ على صوته.

{ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ .. } [الحجرات: 2] لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً، فلا نقول: تعالى يا أحمد تعال يا محمد. بل نقول: يأيها النبي يأيها الرسول، يا رسول الله، لأن ربك الذي خلقك وخلقه وأرسله لك رسولاً خاطبه هكذا.
في حين أنه تعالى خاطب كل الرسل بأسمائهم: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى إلا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يخاطبه باسمه إنما بوصفه (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول) فإذا كان خالقه لم يدعه باسمه.
إذن: وجب عليك أنْ تدعوه بهذه الوصف، إلا إذا كنتَ أنت أعلى مقاماً من الذي خلقك والعياذ بالله.

وقوله تعالى: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ .. } [الحجرات: 2] أي: خشية أنْ تحبط أعمالكم. يعني: تبطل وتفسد، لماذا؟ لأن الجهر لرسول الله بهذه الصورة أو رفْع الصوت عنده يُعد مخالفة للمنهج الذي جاء به.
فرسول الله لم يأت بمنهج من عنده، إنما هو مبلِّغ عن الله، فمَنْ خالف في ذلك فقد خالف منهج الله واستحقَّ أنْ يحبط عمله، ثم في إهانة الرسول إهانة لمن أرسله.

وقوله: { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [الحجرات: 2] أي: يحبط عملك ويبطل وأنت لا تدري، فهذه المسألة من الأشياء الدقيقة التي ينبغي التنبه لها، فمع كونه صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ لكن لا تغرّنك هذه الصفات وتجعلك تساويه بغيره في النداء، بل احتفظ له صلى الله عليه وسلم بمنزلته ومهابته وكرامته، ولا تجعله مثلك في الخطاب
وقد ورد عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم، فما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟" .


ثم يقول الحق سبحانه:
(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )٣-الحجرات
معنى { يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ .. } الحجرات: 3] يخفضونها ويُخافتون بها في حضرته صلى الله عليه وسلم، احتراماً له وتكريماً.
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ .. } [الحجرات: 3] أي: صفّاها وأخلصها لتكون محلاً للتقوى وللطاعة، ولحمل منهج رسول الله إلى الناس كافة، فهم مُؤهَّلون لحمل هذه الرسالة بعد أنْ نقَّى الله قلوبهم وطهرها وصفَّاها من الخبث، ونفى عنها أمراض الرياء والنفاق وضعف الإيمان.

لقد صهرتهم الأحداث في بوتقة الشدائد، بحيث لم يَبْقَ في صفوف الإيمان إلا أقوياء العقيدة القادرون على حمل أمانة هذه الدعوة.
لذلك قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .. } [البقرة: 143] فالرسول يشهد أنه بلّغنا، ونحن نشهد أننا بلغنا الناس


(إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ )٤
(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )٥-الحجراتزلت هذه الآية في جماعة كان لهم أسرى، فجاءوا يراجعون رسول الله في أمرهم ليطلق سراحهم، لكنهم أخطأوا من عدة وجوه:
أولاً: جاءوا بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الوراء ولم يأتوا من الأبواب.
ذلك لأنهم لا يعرفون في أيِّ حجرة يقيم رسول الله، أهو عند عائشة؟ أمن عند حفصة؟ أمن عند أم سلمة؟ وهم يعلمون أن لرسول الله مهمات شتى، له مهمة مع الناس، ومهمة مع أهله، ومهمة قبل ذلك مع ربه.
فكان عليهم إذا لم يظهر لهم رسول الله في المسجد أنْ ينتظروا خروجه وألاَّ يُزعجوه، فهو ولابدَّ في مهمة من هذه المهمات وربما كان مشغولاً في خلوة مع ربه عز وجل أو مع أهله.
ثانياً: نادوا رسول الله كما ينادي بعضهم بعضاً، ولم يراعوا حرمة رسول الله ومنزلته، لذلك وُصف أكثرهم بأنهم لا يعقلون، فالتعقل يقتضي خلاف هذا التصرف.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ .. } [الحجرات: 5] نعم خيراً لهم لأنه صلى الله عليه وسلم بعد أنْ نادوه واضطروه للخروج أطلق نصف الأسرى، وقال: والله لو صبروا حتى أخرج عليهم لأطلقتُ الأسرى كلهم.
إنما جعل ذلك تأديباً لهم لخروجهم عن اللياقة والأدب في التعامل معه صلى الله عليه وسلم.
{ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات: 5] لم يأخذهم بالعذاب ورسول الله عاقبهم على قدر أعمالهم حتى لا يكون غضبه لنفسه
التفاسير العظيمة

https://majles.alukah.net/imgcache/2024/12/164.jpg