المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلم الشرعي منارة للطريق ونور للقلوب



ابو وليد البحيرى
2024-12-28, 05:43 PM
العلم الشرعي منارة للطريق ونور للقلوب

سالم محمد أحمد

العلم الشرعي هو النور الذي ينتشل السائرين من ظلمات الجهل، وهو المنارة التي تهدي الحائرين إلى سواء السبيل، وهو الميراث العظيم الذي خلَّفه النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ))[1].

لقد جعل الله العلمَ أساسَ رِفعة الإنسان وميزانه بين الخَلْقِ؛ فقال سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، فبالإيمان يرقى العبد عند ربه، وبالعلم المقترِن بالعمل تتفاوت منازلُ المؤمنين في الدنيا والآخرة، وما كان لأُمَّةٍ أن تنهض أو لأفراد أن يقيموا أمر دينهم ودنياهم إلا بالعلم، فكيف إذا كان هذا العلم هو العلم الشرعي الذي يهدي إلى الله، ويُعرِّف الإنسان بحقائق الحياة، ويكشف له غايات الوجود، ويهديه الله به سواءَ السبيل؟

العلم الشرعي والغاية الكبرى:
المسلم الحق يدرك أن حياته ليست لهوًا ولا عبثًا، وإنما هي عبادة لله وسعيٌ إلى مرضاته: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والعلم الشرعي هو الوسيلة التي تكشف له كيف يسير على هذا الطريق، فبغير العلم النافع يتخبَّط الإنسان في ظلمات الجهل، وربما يقع في البدع المنكرة أو الاعتقاد الفاسد؛ فـ((من عمِل عملًا ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يُرِدِ الله به خيرًا يفقهه في الدين))، فجعل التفقُّهَ في الدين علامةَ الخير وسبيله.

العلم الشرعي يفتح أبواب اليقين في قلب المسلم، فيجعله مطمئنًّا بإيمانه، راسخًا في عقيدته، يعلم أن الله ربُّه، والإسلام دينُه، ومحمدًا صلى الله عليه وسلم نبيُّه، فلا تهُزُّه شُبْهَةٌ، ولا تُضلِّله فتنة.

العلم الشرعي والعبادة:
إن أعظم غاية خُلِقَ من أجلها الإنسان هي عبادة الله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ولكن كيف يعبد اللهَ من لا يعلم ما يحبه الله وما لا يحبه؟ كيف يصلي ويصوم ويحُجُّ ويزكِّي من لم يتعلم أحكام دينه؟ لذا فعن طريق العلم يعرف المسلم كيف يؤدي عباداته على الوجه الذي يُرضي الله، وكيف يصونها من البدع والانحرافات التي قد تدخل فيها بسبب الجهل؛ فـ"العلم قبل القول والعمل"، كما بوَّب الإمام البخاري؛ لأنه بمثابة المصباح الذي يُنير الطريق، فلا يتقدم الإنسان خطوة في دينه إلا على بصيرة، وإلا كان كمسافرٍ يحمل جرابَ رملٍ يُثقله ولا ينفعه.

العلم الشرعي حصانة من الفتن بنوعيها:
في زماننا هذا؛ حيث تكاثرت الشُّبُهات، وتزاحمت الفتن والشهوات، صار العلم الشرعي ضرورة مُلِحَّةً لكل مسلم، فإن العلم هو الذي يكشف زيف الباطل، ويُبيِّن الحق، ويدفع عن القلب الشُّكوكَ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55]، وكذلك العلم المقرون بالعمل يُنقِذ المسلم من الغرق في بحر الشُّبُهات، أو الانجراف في رياحها العاتية.

العلم الشرعي حياة للقلوب:
كما أن البدن يحتاج إلى الطعام والشراب ليحيا، فإن القلب لا حياة له إلا بالعلم الشرعي، وهو نور يُنير للعبد طريقه في الدنيا والآخرة، العلم النافع يزرع في القلب خشية الله: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، ومع خشية الله تتولَّد التقوى، ومع التقوى يعلو الإنسان فوق شهواته وأهوائه، ويسير على صراط مستقيم، موقنًا بوعد الله، صابرًا على قضائه، متطلعًا إلى ما عنده، ويصل إلى جنات عرضها السماوات والأرض خالدًا مخلَّدًا بإذن ربه.

العلم الشرعي سبيل الدعوة إلى الله:
الدعوة إلى الله من أعظم الأعمال التي يُحبُّها الله، ولكن كيف يدعو الجاهل إلى ما يجهله؟ وكيف يأمر بالمعروف من لا يعرفه؟ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، فالدعوة تحتاج إلى علمٍ وبصيرة، حتى تكون دعوةً على الحق، لا على جهل وهوًى، والداعية الذي يُسلِّح نفسه بالعلم يكون كالسراج الذي يُنير دروب الناس، يهديهم إلى الخير، ويُجنِّبهم موارد الهلاك.

العمل بالعلم ثمرة الطلب:
العلم الشرعي ليس مجرد معلومات تُحفَظ، ولا أقوال تُردَّد، وإنما هو عمل يُترجَم إلى واقع، فالعلم بلا عملٍ كشجرة بلا ثمرٍ، لا يُرجى منها نفع؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع... وعن علمه: ماذا عمِل به؟))، فالعلم مسؤولية، ومن تعلَّمه، فعليه أن يعمل به ويبلغه.

إن طلب العلم الشرعي ليس خيارًا، بل إن ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))[2]، على قدر استطاعته؛ فهو السبيل إلى معرفة الله وعبادته حق العبادة، وهو النور الذي يضيء لك حياتك، وهو السلاح الذي يحميك من الفتن، وهو الميراث الذي يخلفك في الأمة نافعًا ومؤثرًا.

فليكن العلم الشرعي غايتَك الكبرى، وسعادتك العظمى، ووسيلتك للاقتراب من الله، اجعل من وقتك نصيبًا لطلب العلم، ولا تَمَلَّ ولا تَكِلَّ؛ فإن ما تُنفقه في العلم هو ما يعود عليك بأعظم الأجر في الدنيا والآخرة: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، فالعلم الشرعي من أجَلِّ العبادات، وطريقٌ للوصول إلى الجنات.

يا طالب العلم، إنك في زمان قد تيسَّرت فيه سُبُلُ المعرفة، وقرُبت فيه المسافات بينك وبين كنوز العلم، فلا خيلَ تركبها، ولا بحار تخوضها، بل صفحات بين يديك، وأصوات تصل إلى مسامعك، وشبكات وموسوعات تجمع لك علوم الأولين والآخرين، هذا الزمان الذي أصبحت فيه المعارف مطوِيَّةٌ في أزرار تُضغط، وسهلة المنال لكل من صدقت نيَّتُه، وعَلَت همَّتُه.

فأين نحن اليوم من تلك القوافل التي كانت تسير أيامًا وشهورًا لتستقي حديثًا واحدًا؟ أين نحن من الذين تحملوا وَعْثاء السفر، ومرارةَ الجوع؛ ليُحصِّلوا مسألة في الفقه أو تفسيرًا لآية؟ قد كانوا يعانون شَظَفَ العيش، وكانوا يخطُّون العلم بالدموع وربما بالدماء على صفحات العمر، لكنهم بلغوا القِمَمَ؛ لأنهم صدقوا الله في طلبه.

أما أنت، فإن أُغلِقت في وجهك الأبواب، فدونك التقنيات، وإن حال بينك وبين العلماء بُعْدُ المكان، وصلتهم إليك وسائل العصر، فالحقَّ أقول: ما كانت هذه الوسائل نعمة إلا على من أقبل بعزم وهمَّةٍ، وما كانت نقمة إلا على من غفل واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

يا طالب العلم، اجعل قلبك كالأرض الطيبة التي تتقبل الغيث فتنبت الزرع، ولا تجعلها صخرًا قاسيًا لا ينفذ إليه الماء؛ فإن العلم الشرعيَّ هو غيث القلوب، ينزل رحمة من الله ليحييَ بها ما مات من القلوب، ويرويَ بها ظمأ الأرواح، وإذا وجدت في نفسك فتورًا، فاذكر فضل العلم وثوابه، وقُلْ لنفسك: كيف أخسر نورًا يهديني في الدنيا ويدُلُّني على طريق الجنة؟

إنك في زمن قد نادى عليك العلم، وقال: "هأنذا، قريب منك، أقْبِلْ ولا تتوانَ"، فلا حُجَّةَ لك إن ضيعتَ، ولا عذر إن قصرتَ، فانهض، واسعَ، وكُنْ من أهل العلم الذين بهم تُضاء مصابيح الأمة، وترتفع رايات الدين، فمن سار على الدرب وصل، ومن أخلص لله أُعطِيَ فوق ما يرجو من الكريم سبحانه.

وختامًا، اجعل قول الله نُصبَ عينيك: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، فهو الدعاء الذي رُفِعَ به الأنبياء درجاتهم، ودعوة من أدركوا أن أعظم زاد في طريق الآخرة هو علم يورث عملًا، فاستمسك بهذا النور، ولا تَدَعْ ظلام الجهل يسرق منك طريق السعادة.
============================
[1] أخرجه أبو داود (3641).

[2] البيهقي (شعب الإيمان) (1667).