المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تطور النثر العربي القديم في القرن الهجري الأول (الموادعة أنموذجا)



ابو وليد البحيرى
2024-12-25, 01:57 PM
تطور النثر العربي القديم في القرن الهجري الأول

(الموادعة أنموذجًا)

أ. محمد عمر طبازه

استمر النثر الجاهلي بموضوعاته التي انحصرت في الأمثال والخطب وبعض القصص إلى أن دخل الإسلام ونزل معه القرآن؛ إذ لم يكن للعرب كتاب موحَّد يجتمعون عليه ويسيرون وراءه، فتولد معه أساليب ومصطلحات جديدة لم يعهدها العرب.

ومع قيام الدولة الإسلامية واتِّساع رقعتها أدَّى ذلك إلى تفتيق موضوعات جديدة في النثر ساهمت في نقل النثر نقلة جديدة لم يعهدها العرب قديمًا، وبهذا الاتساع للدولة صارت العلاقات بين الدول والقبائل مختلفة عما كانت عليه في سابق عهدها؛ فرأى النبي محمد صلى الله عليه وسلَّم أن ينظم هذه العلاقات ويُسجِّل مكاتبات مثَّلت النثر العربي القديم.

ومن المكاتبات التي جرت في ذلك الوقت نصُّ الموادعة التي مثَّلت نقلة ونقطة تطوُّر في النثر؛ لكونها تمثل بدايات هذا النثر وتتضمن موضوعًا جديدًا؛ إذ تناولت العلاقات بين المسلمين من مختلف القبائل العربية واليهود، التي عقدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتنظيم العلاقات والحقوق والواجبات والتنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وقد مثَّلت الموادعة قيام الدولة وميلاد الأُمَّة بتنظيمها العلاقات داخل الدولة والاعتراف بزعامة النبي محمد صلى الله عليه وسلم للقبائل كافة وعدم تفضيل إحداها على الأخرى، إضافة إلى تنظيم الأمور السياسية في الدولة التي أظهرت المكانة الجديدة للمسلمين، حيث أصبحوا أُمَّةً قائدةً بقيادة النبي في العلاقات، وانحصرت التبعية للمسلمين على غيرهم.

ومن الناحية الفنية قد مثلت الموادعة النثر العربي في القرن الأول شكلًا من أشكال النثر بموضوعاتها الجديدة وأساليبها الفنية، فقد اختلفت عن النثر الجاهلي بأنها جاءت مفصلة مسهبة لا قصيرة أو تحتوي على أشعار كما كان في العصر الجاهلي، وقد برز ذلك في ذكر أسماء القبائل كافة وما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات، إضافة إلى تأثُّرها بالقرآن الكريم باستخدامها لأول مرة ألفاظًا جديدة مثل: لفظ "الأمة" الذي لم يكن معروفًا عند العرب "أنهم أمة واحدة من دون الناس"[1]، ومصطلحات إسلامية مثل: "وأنه لا يحل لمؤمن أقَرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا أو يؤويه"[2] فالإيمان بالله واليوم الآخر من أركان الإيمان وهما من الألفاظ الإسلامية، إضافة لاتساع دلالات الألفاظ؛ إذ إن الألفاظ تبين من استخدامها الاتساع في دلالتها، وإذا دققنا فيها؛ وجدنا أن بعضًا من الألفاظ المستخدمة أصبحت أصولًا من أصول الفقه ومن تعاليم الإسلام التي يعتدُّ بها، كما جاء فيها: "إن البر دون الإثم"[3]، وقد كررت الموادعة الكثير من الألفاظ والعبارات التي ظهرت جلية فيها كما جاء في تكرار لفظ ربعتهم ويتعاقلون[4] في تنظيم العلاقات بين القبائل.

وكون أن هذه الموادعة جاءت مسهبة لكل الأمور، فقد ظهر تقسيمها سهلًا بحسب الموضوعات، فكل موضوع تناولته توسعت في حيثياته وما يدور حوله كي يكون تامًّا لا لبس فيه، إضافة إلى استخدام أدوات التوكيد بكثرة للتأكيد على المتعاهدين مثل الحرف (إن) الذي ورد في الموادعة كثيرًا مثل: "وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه"[5]، "وأن ذمة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم"[6]، وكلها إضافات جديدة لم يعهدها النثر في سابق عهده.

وقد جاءت الموادعة بأساليب نبويَّة دخلت في النصوص كدخول الإسلام، كالحكمة في الدعوة؛ إذ أنزل النبي الأمور في منازلها، وأسلوب التربية والتعليم كما ظهر ذلك في التعامل مع الخلاف، حيث أرشد النبي إلى أن أي خلاف مرده إلى الله ورسوله بقوله: "وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يُخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"[7]، إضافة إلى الترغيب والترهيب بالأمان على المتعاهدين والترهيب بالغضب من الله والعقوبة لمن يخالف، ومثل هذه الموادعة ورسائل النبي مع الملوك التي جاءت بطابع رسمي للدعوة إلى الله تعالى ولتظهر صورة التعاملات الإسلامية بجزئياتها وموضوعاتها وأساليبها وتفاصيلها، شكلت صورة جديدة للنثر العربي القديم في ذلك الوقت.
============================
[1] حميدالله، محمد، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، ط5، بيروت، 1985، ص 59

[2] المصدر نفسه، ص61.

[3] المصدر نفسه، ص62.

[4] المصدر نفسه، ص59.

[5] المصدر نفسه، ص 60.

[6] المصدر نفسه، ص 60.

[7] المصدر نفسه، ص62.