المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكم تمثيل الأنبياء في الأعمال الفنية



ابو وليد البحيرى
2024-12-18, 06:24 PM
حكم تمثيل الأنبياء في الأعمال الفنية

محمد أنور محمد مرسال

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
ما حكم تمثيل الأنبياء في الأعمال الفنية؟
اعلم أخي المسلم -رحمنا الله وإياك- أن العلماء اتفقوا على تحريم تمثيل الأنبياء والرسل، وبهذا التحريم أفتت عدة هيئات شرعية منها:
• بتحريم ذلك صدرت فتوى دار الإفتاء المصرية [1].
• واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية [2].
• ومجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي [3].
• ومجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة [4].
• والمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
وغيرهم.

واستدل العلماء على تحريم تمثيل الأنبياء والمرسلين في الأعمال الفنية بأدلة منها:
الدليل الأول:
أن هذا فيه أذية لأنبياء الله تعالى، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [الأحزاب: 57].

وجه الاستدلال: بين الله عقوبة من يؤذي رسوله، ولا يقال إن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل قوله تعالى: ﴿ وَرَسُولَهُ ﴾ مفرد مضاف؛ فيعمّ كل رسول.

والتمثيل أذية لهم صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، ووالله إن مجرد الإتيان بممثل ليمثل دور نبي من أنبياء الله تعالى، لهذا من الأذية لأنبياء الله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، فكيف وهم يأتون بممثل قد تلطخ بالفساد؟! وربما فعل الكبائر والمنكرات! وقد يكون في الأغلب لا يحافظ على الصلوات!

فوالله، لهذا من أعظم الأذية لهم، وقد توعَّد الله عز وجل من يؤذي آحاد المؤمنين فقال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، فكيف بمن يؤذي الأنبياء والمرسلين؟!

فضلًا عن أنه ينافي تعظيمهم وتوقيرهم وإجلالهم، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 8، 9].


الدليل الثاني:
أن تمثيل الأنبياء والرسل سيؤدي إلى الكذب عليهم؛ وذلك لأن التمثيل ليس إلا ترجمة للأحوال والأقوال والحركات والسكنات، ولا مناص -مفر- من الزيادة أو النقصان، وهذا سيجر إلى الكذب على الأنبياء والمرسلين، والكذب عليهم ليس كالكذب على غيرهم بلا شك.

عَن الْمُغِيرَة رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[5].

وهذا الحديث يوضح أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على الناس؛ بل هو أشد، ويقاس عليه سائر الأنبياء؛ لأنهم إخوة لعلَّات، فالكذب عليهم ليس كالكذب على سائر الناس، والله أعلم.

الدليل الثالث:
تمثيل الأنبياء والرسل قد يؤدي مع طول الوقت إلى الغلو فيهم وعبادتهم، وقد حصل هذا مع قوم نوح بعد أن صوروا صالحيهم في هيئة تماثيل ثم عبدوهم من دون الله -كما ورد في الصحيح [6]- فكيف بتصويرهم وتمثيلهم؟!

فهذا بلا شك أكثر تأثيرًا في النفس وأشد خطرًا.

الدليل الرابع:
إن هذا فيه مخالفة لحكمة الله سبحانه وتعالى في منع الشيطان من التمثل بالرسل، كما ورد في الحديث: عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي))[7].

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ».

سؤال: وهل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم يتعدى غيره من الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليه؟

الجواب:
اختلف العلماء في ذلك على قولين، والصحيح -في نظري- أن هذا يتعدى؛ فهو للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء، أنه لا يتمثل بهم الشيطان صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.

والحكمة: صيانة شخصية الرسل من أن تكون محل عبث، أو أن يكذب عليها الشيطان ونحو ذلك.

قال الشيخ جاد الحق رحمه الله:
الأنبياء والرسل أعز وأكرم من أن يمثلهم إنسان أو يتمثل بهم شيطان [8].

الدليل الخامس:
إن هذا يفتح بابًا للطعن في الأنبياء عند بعض المشاهدين والسخرية منهم، وبعضهم يتندرهم على جهة الجد أو المزاح، واللعب، وكل هذا منذر خطر عظيم، قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66].


بل وسيؤدي تمثيل الأنبياء إلى إثارة الجدل والمناقشة والنقد والتعليق...إلخ.

وهذه الشخصيات الكريمة وهم أنبياء الله تعالى فوق النقد والتعليق، فقد عصمهم الله واصطفاهم صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.

الدليل السادس:
إن هذا فيه ازدراء وتنقُّص للأنبياء وغض من قدرهم، وذلك لما استقر في نفوس البشر من إجلالهم، فإذا مُثلوا في حال أو هيئة تزري بمقامهم، أو لو كان الممثل غير متقن، فهذا ذريعة إلى الانتقاص من قدرهم، والإخلال بتعظيمهم صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.

الدليل السابع:
إن في تمثيل الأنبياء مفاسد كثيرة مما بيَّناه، ومن ادَّعى وجود مصلحة في ذلك! فالمفسدة أعظم بكثير، وفي القاعدة الشرعية: (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع -بالإجماع- إذا غلبت المفسدة على المصلحة)[9].

الدليل الثامن:
إن هذا قد يؤدي إلى الإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي فيها قصص الأنبياء، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].


ووالله، لن تحدث العبرة والعظة والفائدة بمثل القرآن والسنة.

الدليل التاسع:
إن أرباب -أصحاب- هذه الأعمال من المنتجين وغيرهم لا يهمهم سوى الدرهم والدينار، والجنيه والدولار، فيخترعون أحداثًا وحبكات درامية -كذبًا وزورًا- على أنبياء الله تعالى لأجل حفنة من المال!

ثم إنهم يأخذون القصص من كتب محرفة؛ كالتوراة والإنجيل، ويعتمدون على الإسرائيليات، وَوَضَحَ ذلك جليًّا في مسلسلهم (يوسف الصِّدِّيق).

خلاصة الكلام:
الحق أنه لا يجوز تمثيل المسلم باتفاق العلماء.
وهناك قول آخر يقول بالجواز! وهذا قول شاذ.

((تحذير من قول فاسد شاذ))
ادَّعى البعض أنه يجوز تمثيل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في الأعمال الفنية ما دامت لا تنتقص من قدر الأنبياء [10]!

واستدل على ذلك: أنه لا يخرج عن كونه درسًا وعظيًّا على طريقة التأثير النافع الذي ينشده الدعاة والوعَّاظ [11]!

قلتُ: وهذا قول شاذ باطل منكر، لا سنام له ولا خطام، وفساده يغني عن إفساده، وبطلانه يغني عن إبطاله.

والرد والجواب على هذا القول الشاذ من وجوه:
الوجه الأول:
ما سبق ذكره من الأدلة على التحريم التي سبق ذكرها.

الوجه الثاني:
لو سلمنا بوجود مصلحة في تمثيل الأنبياء -افتراضًا وتنزلًا- فهي مصلحة مظنونة متوهمة، وتمثيل الأنبياء فيه مفسدة متحققة -كما ذكرنا في أدلة التحريم- والمتحقق المتيقن مقدم على المظنون، وفي القاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع).

الوجه الثالث:
جواز تمثيل الأنبياء مبيح، وقول عامة العلماء حاظر، والحاظر مقدَّم على المبيح.

وبالله التوفيق.
============================== =====
[1] فتاوى دار الإفتاء المصرية (7/209)، تاريخ الفتوى: (شوال/ 1400 هـ) الموافق: (17/ أغسطس/1980 م)، الشيخ/ "جاد الحق علي جاد الحق" رحمه الله.

[2] فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية (3/ 268)، الفتوى رقم: (4728)، المجموعة الأولى.

[3] وذلك في دورته الثامنة المنعقدة عام (1405 هــ)، ثم أكد على ذلك في دورته العشرين المنعقدة في مكة في الفترة من (19: 23 المحرم/ 1432 هـ) في بيان أصدره المجمع.

[4] مجمع البحوث الإسلامية، رقم: (100)، بتاريخ (16/ ربيع الأول/ 1420 هـ)، الموافق (30/ يونيو/ 1999 م)، وقد ناقش مجمع البحوث الإسلامية هذه المسألة في (مارس/ 1972) وقرر تحريم ذلك.

[5] رواه البخاري (1291)، ومسلم (4).

[6] قال الله تعالى عن قوم نوح: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23].
قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عن الأسماءِ المذكورة في الآية الكريمة: ((.... أسماءُ رِجالٍ صالحين من قومِ نوحٍ، فلمَّا هلكوا أوحى الشَّيطانُ إلى قومِهم أن انْصِبوا إلى مجالِسِهم التي كانوا يجلِسون أنصابًا، وسَمُّوها بأسمائِهم، ففَعَلوا، فلم تُعبَدْ، حتى إذا هَلَك أولئك وتَنَسَّخ العِلمُ عُبِدَت))؛ رواه البخاري (4920).

[7] رواه البخاري (6993)، ومسلم (2266)

[8] فتاوى دار الإفتاء المصرية (7/209) تاريخ الفتوى: (شوال/ 1400 هـ) الموافق: (17/ أغسطس/1980 م) الشيخ/ "جاد الحق علي جاد الحق" رحمه الله.

[9] الإبهاج على شرح المنهاج، تاج الدين ابن السبكي (6/354) طـ (دبي)، شرح الكوكب المنير، ابن النجار الفتوحي، (4/4447)، التحبير شرح التحرير، المرداوي (8/851).

[10] فتاوى محمد رشيد رضا (4/1418) طـ (دار الكتاب الجديد)، ت: صلاح الدين المنجد.

[11] المصدر السابق.