ابو وليد البحيرى
2024-12-16, 05:46 AM
الوَكِيلُ - الكَفِيلُ جل جلاله
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ المَوْضُوع:
أوَّلًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الوَكِيلِ).
ثَانِيًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الكَفِيلِ).
ثَالِثًا: وُرُودُ الاسْمَيْنِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.
رَابِعًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَيْنِ.
سَادِسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ .
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ: قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ [1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ [2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة - عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ - لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ [3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ [4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ [5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ [6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ - بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ - إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك(4).
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المُسْلِمِينَ بِمَعَانِي اسْمَيِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى (الوَكِيلِ - وَالكَفِيلِ).
2- تَنْوِي غَرْسَ عَقِيدَةِ التَّوَكُّلِ فِي قُلُوبِ المُسْلِمِينَ.
3- تَنْوِي لَفْتَ نَظَرِ النَّاسِ إلَى أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ الله وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الكَفِيلُ بِعِبَادِهِ.
4- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى الأَخْذِ بِالأَسَبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ واعْتِمَادِ القَلْبِ عَلَى الوَكِيلِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ.
أوَّلًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (الوَكِيلِ):
الوَكِيلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ القَيِّمُ الكَفِيلُ الَّذِي تَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِ العِبَادِ.
وَحَقِيقَةُ الوَكِيلِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بَأَمْرِ المَوْكُولِ إِلَيْهِ، يُقَالُ: تَوكَّلَ بِالأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ القِيَامَ بِهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلاَنٍ أَيْ أَلجَأْتُهُ إِلَيْهِ واعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ.
وَوَكَّلَ فُلاَنٌ فُلانًا إِذَا اسْتَكْفَاهُ أَمْرَهُ، إِمَّا ثِقَةً بِكِفَايَتِهِ أَوْ عَجْزًا عَنِ القِيَامِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَوَكِيلُكَ فِي كَذَا إِذَا سَلَّمْتَهُ الأَمْرَ وَتَرَكْتَهُ لَهُ وَفَوَّضْتَهُ إِلَيهِ واكْتَفَيْتَ بِهِ [7].
فَالتَّوَكُّلُ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى تَوَلِّي الإِشْرَافِ عَلَى الشَّيْءِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَتَعَهُّدِهِ؛ وَمِنْهُ مَا وَرَدَ عِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحيَيْهِ، تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالجَنَّة» [8].
وَقَدْ يَأْتِي التَّوَكُّلُ بِمَعْنَى الاعْتِمَادِ عَلَى الغَيْرِ والرُّكُونِ إِلَيْهِ وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
وَرُبَّمَا يُفَسَّرُ الوَكِيلُ بِالكَفِيلِ، وَالوَكِيلُ أَعَمُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَفِيلٍ وَكِيلٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَكِيلٍ كَفِيلًا.
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» [9].
وَالوَكِيلُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَكَّلَ بِالعَالَمِينَ خَلْقًا وَتَدْبِيرًا، وَهِدَايَةً وَتَقْدِيرًا، فَهُوَ المُتَوَكِّلُ بِخَلْقِهِ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا كَمَا قَالَ -: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وَقَالَ هُودٌ: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، فَالوَكِيلُ الكَفِيلُ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ وَمَصَالحِهِمْ[10].
وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَكِيلُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا اعْتِقَادَهُمْ فِي حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَخَرَجُوا مِنْ حَوْلِهِمْ وَطَوْلِهِمْ وَآمَنُوا بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ لاَ حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، فَرَكَنُوا إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَجَعَلُوا اعْتِمَادَهُمْ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ حَيَاتِهِمْ، وَفَوَّضُوا إِلَيْهِ الأَمْرَ قَبْلَ سَعْيِهِمْ، وَاسْتَعَانُوا بِهِ حَالَ كَسْبِهِمْ، وَحَمَدُوهُ بِالشُّكْرِ بَعْدَ تَوْفِيقِهِمْ، وَالرِّضَا بِالمَقْسُومِ بَعْدَ ابْتِلَائِهِمْ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ المؤْمِنينَ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 48]، وقال: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9] [11].
وَيَذْكُرُ ابْنُ القَيِّمِ أَنَّ تَوكِيلَ العَبْدِ رَبَّهُ يَكُونُ بِتَفْوِيضِهِ نَفْسَهُ إِلَيْهِ وَعَزْلِهَا عَنِ التَّصَرُّفِ إِلاَّ بِإذْنِهِ يَتَوَلَّى شُؤُونَ أَهْلِهِ وَوَلِيِّةِ، وَهَذَا هُوَ عَزْلُ النَّفْسِ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقِيَامُهَا بِالعُبُوِدِيَّ ةِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنُ الرَّبِّ وَكِيلُ عَبْدِهِ أَيْ كَافِيهِ وَالقَائِمُ بِأُمُورِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ، فَوَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ وإِحْسَانٌ لَهُ وَخَلْعَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ لَا عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ، وَأَمَّا تَوْكِيلُ العَبْدِ رَبَّهُ فَتَسْلِيمٌ لِرُبُوبِيَّتِه ِ وَقِيَامٌ بِعُبُودِيَّتِه ِ [12].
ثَانِيًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الكَفِيلِ):[13]
وَأَمَّا الكَفِيلُ فَهُوَ مِنْ كَفَلَهُ يَكْفُلُهُ وَكَفَّلَهُ إِيَّاهُ، وَالكَافِلُ: العَائِلُ، وَفِي التَّنْزِيلِ العَزِيزِ ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37] [14].
وَفِي الحَدِيثِ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ، لَهُ وَلِغَيْرِهِ»، وَالكَافِلُ: القَائِمُ بِأَمْرِ اليَتِيمِ المُرَبِّي لَهُ، وَهُوَ مِنَ الكَفِيلِ الضَّمِينِ.
وَقَالَ ابِنُ الأَعْرَابِيِّ: «كَفِيلٌ وَكَافِلٌ، وَضَمِينٌ وَضَامِنٌ بِمَعْنَىً وَاحِدٍ».
وَفِي التَهْذِيبِ لِلأَزْهَرِيِّ: «وَأَمَّا الكَافِلُ فَهُوَ الَّذِي كَفَلَ إِنْسَانًا يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ» [15].
ثَالِثًا: وُرُودُ الاسْمَيْنِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ:
وَرَدَ (الوَكِيلُ) فِي القُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وَقَوْلُهُ: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [هود: 12].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9].
وَأَمَّا (الكَفِيلُ) فَقَدْ جَاءَ مَرَّةً وَاحِدَةً:
فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].
رَابِعًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾: «كَفِيلًا بِمَا وَعَدَكَ» [16].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾: يُقَالُ: «رَبًّا، وَيُقَالُ: كَافِيًا» [17].
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]: «كَفَانَا اللهُ، يَعْنِي: يَكْفِينَا اللهُ.
﴿ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ يَقُولُ: وَنِعْمَ المَوْلَى لِمَنْ وَلِيَهُ وَكَفَلَهُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ (الوَكِيلَ) فِي كَلَامِ العَرَبِ هُوَ: المُسْنَدُ إِلَيْهِ القِيَامُ بِأَمْرِ مَنْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ القِيَامَ بِأَمْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ القَومُ الذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الآيَاتِ قَدْ كَانُوا فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى الله، وَوَثَقُوا بِهِ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَصَفَ نَفْسَهُ بِقِيَامِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَفْوِيضِهِمْ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ بِالوَكَالَةِ، فَقَالَ: وَنِعْمَ الوَكِيلُ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ» [18].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]: «وَتَوَكَّلْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الله، يَقُولُ: وَفَوِّضْ أَنْتَ أَمْرَكَ إِلَى الله، وَثِقْ بِهِ فِي أُمُورِكَ، وَوَلِّهَا إِيَّاهُ.
﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ يَقُولُ: وَكَفَاكَ اللهُ، أَيْ: وَحَسْبُكَ بِالله وَكِيلًا، أَيْ: فِيمَا يَأْمُرُكَ، وَوَلِيًّا لَهَا وَدَافِعًا عَنْكَ وَنَاصِرًا» [19].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]: «وَاللهُ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْءٍ رَقِيبٌ وَحَفِيظٌ، يَقُومُ بِأَرْزَاقِ جَمِيعِهِ وَأَقْوَاتِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ بِقُدْرَتِهِ» [20].
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الفَرَّاءِ أَنَّهُ (الكَافِي): «وَيُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الكَفِيلُ بِأرْزَاقِ العِبَادِ، وَالقَائِمِ عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِهِمْ .
وَحَقِيقَتُهُ: أَنَّهُ الَّذِي يَسْتَقِلُّ بِالأَمْرِ المَوْكُولِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَولُ المُسْلِمِينَ ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾؛ أي: نِعْمَ الكَفِيلُ بِأُمُورِنَا القَائِمُ بِهَا» [21].
وَقَالَ أَبُوْ عَبْدِ الله الحُلَيْمِيُّ: «(الوَكِيلُ) وَهُوَ: المُوَكَّلُ وَالمُفَوَّضُ إِلَيْهِ عِلْمًا بِأَنَّ الخَلْقَ وَالأَمْرَ لَهَ، لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا» [22].
فَيَتَلَخَّصُ فِي (الوَكِيلِ) ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:
1- الكَفِيلُ.
2- الْكَافِي.
3- الحَفِيظُ.
وَأَمَّا (الكَفِيلُ):
فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91]: «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ بِالوَفَاءِ بِمَا تَعَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ رَاعِيًا، يَرْعَى المُوفِي مِنْكُمْ بِعَهْدِ الله الَّذِي عَاهَدَ عَلَى الوَفَاءِ بِهِ وَالنَّاقِضِ» [23].
وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى مُجَاهِدٍ فِي مَعْنَى (كَفِيلًا) قَالَ: «وَكِيلًا» [24].
وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(الكَفِيلُ) وَمَعْنَاهُ: المُتَقَبِّلُ لِلْكِفَايَاتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ وَكَفَالَةٍ [25] كَكَفَالَةِ الواحِدِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لمَّا خَلَقَ المُحْتَاجَ وَأْلْزَمَهُ الحَاجَةَ، وَقَدَّرَ لَهُ البَقَاءَ الَّذِي لاَ يَكُونُ إِلَّا مَعَ إِزَالَةِ العِلَّةِ، وَإِقَامَةِ الكِفَايَةِ، لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إِيصَالِ مَا عُلِّقَ بَقَاؤُهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَإِدْرَارِهِ فِي الأَوْقَاتِ والأَحْوَالِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَبُّنا جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ مُرْتَزِقٍ أَنْ يَرْزُقَ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَرْزُقُ الجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، وَالأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، وَالطِّيْرِ الَّتِي تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا، وَالهَوَامِّ وَالحَشَرَاتِ، وَالسِّبَاعِ فِي الفَلَوَاتِ» [26].
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: «(كَفِيلًا) يَعْنِى: «شَهِيدًا، وَيُقَالُ: حَافِظًا، وَيُقَالُ: ضَامِنًا» [27].
خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَيْنِ:
1- إنَّ اللهَ - هُوَ القَائِمُ بَأَمْرِ الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ وَالمُتَكَفِّلُ بِرِزْقِهِمْ وَإِيصَالِهِ لَهُمْ، وَالرَّعَايَةِ لِمَصَالِحِهِمْ ، وَمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهَذَا لاَبُدَّ يَتَضَمَّنُ أَوْصَافًا عَظِيمَةً مِنْ أَوْصَافِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَوَفَاءِ عَهْدِهِ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَوْصَافِ الجَلِيلَةِ، اللَّائِقَةِ بِكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الوَكِيلُ وَالكَفِيلُ المُتَوَكِّلُ بِإِيصَالِهِ إِلَى العَبْدِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ فَيَخْلُقُ لَهُ الشَّبَعَ وَالرِّيَّ، كَمَا يَخْلُقُ لَهُ الهِدَايَةَ فِي القُلُوبِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ سَبَبٍّ مَلَكٍ أَوْ غَيْرِهِ يُوَكَّلُ بِهِ» [28].
2- الفَرْقُ بَيْنَ وَكَالَةِ الخَالِقِ وَوَكَالَةِ المَخْلُوقِ:
بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الخَلْقَ قَدْ يُشْرَكُونَ مَعَ الخَالِقِ فِي بَعْضِ دَلَالَاتِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى كَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالحَيَاةِ.. وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ.
وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْنِي التَّشَابُهَ فِي الصِّفَاتِ لِمُجَرَّدِ الاشْتِرَاكِ فِي الأَسْمَاءِ فَأَيْنَ سَمْعُ الإِنْسَانِ مِنْ سَمْعِ الرَّحْمَنِ، وَأَيْنَ بَصَرُهُ مِنْ بَصَرِهِ، وَأَيْنَ عِلْمُهُ مِنْ عِلْمِهِ، وَأَيْنَ التُّرَابُ مِنْ رَبِّ الأَرْبَابِ.
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الخَلْقِ قَدْ يَتَوَكَّلُ بِغَيْرِهِ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَاليَتَامَى والمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ، فَلَا يَعْنِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ شَابَهَ اللهَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ، فإِنَّ هَذَا المُتَوَكِّلَ بِأَمْرِ غَيْرِهِ، هُوَ نَفْسُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى رِزْقِ الله وَمَعُونَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.
قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: «فَإِذَا عَلِمْتُمْ مَعْنَى (الوَكِيلِ) فَلِلَّهِ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَتُهُ العَلْيَاءُ، بِأَحْكَامٍ تَخْتَصُّ بِهِ أَرْبَعَة:
الأوَّل: انْفِرَادُهُ بِحِفْظِ الخَلْقِ.
الثَّانِي: انْفِرَادُهُ بِكِفَايَتِهِمْ .
الثَّالِث: قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ.
الرَّابِع: إِنَّ جَمِيعَ الأَمْرِ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، كُلُّ ذَلِكَ حَادِثٌ بِيَدِهِ».
ثُمَّ قَالَ: «المَنْزِلَةُ السُّفْلَى لِلْعَبْدِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ الأُمُورِ إِلَيْهِ لِتَحْصُلَ لَهُ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وَيَرْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ شَغَبَ مَشَقَّةِ الوُجُوبِ..
الثَّانِي: أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مَا يَسْألُ فَإِنَّ الوَكِيلَ غَنِيٌّ، وَلِهَذَا قِيلَ: مِنْ عَلَامَةِ التَّوْحِيدِ كَثْرَةُ العِيَالِ عَلَى بِسَاطِ التَّوَكُّلِ.
الثَّالِثُ: أَنَّكَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ وَكِيلَكَ غَنِيٌّ وَفِيٌّ قَادِرٌ مَلِيٌّ، فَأَعْرِضْ عَنْ دُنْيَاكَ وَأَقْبِلْ عَلَى عِبَادَةِ مَنْ يَتَوَلَّاكَ» [29].
وَنُضِيفُ بِأَنَّ الوَكِيلَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى القِيَامِ بِأَمْرِ مُوَكِّلِهِ فِي وَقْتٍ وَعَاجِزًا عَنْهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، غَنِيًّا فِي وَقْتٍ فَقِيرًا فِي آخَرَ، عَالِمًا بِشَيْءٍ جَاهِلًا بِغَيْرِهِ، حَيًّا فِي وَقْتٍ مَيِّتًا فِي غَيْرِهِ، وَاللهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81].
وَقَالَ: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123].
وَقَالَ: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58].
وَقَالَ الغَزَّالِيُّ مُبَيِّنًا بَعْضَ الفُرُوقِ أَيْضًا: «(الوَكِيلُ) هُوَ المَوْكُولُ إِلَيْهِ الأُمُورُ، وَلَكِنِ المَوْكُولُ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى:
(1) مَنْ وُكِلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأُمُورِ، وَذَلِكَ نَاقِصٌ.
(2) وَإِلَى مَنْ وُكِلَ إِلَيْهِ الكُلُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى:
وَالمَوْكُولُ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى:
(1) مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ لَا بِذَاتِهِ وَلَكِنْ بِالتَّوْكِيلِ وَالتَّفْوِيضِ، وَهَذَا نَاقِصٌ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ إِلَى التَّفْوِيضِ وَالتَّوْلِيَةِ .
(2) وَإِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ بِذَاتِهِ أَنْ تَكُونَ الأُمُورُ مَوكُولَةً إِلَيْهِ، وَالقُلُوبُ مُتَوَكِّلَةً عَلَيْهِ، لَا بِتَوْلِيَةٍ وَتَفْوِيضٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الوَكِيلُ المُطْلَقُ.
وَالوَكِيلُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى:
(1) مَنْ يَفِي بِمَا يُوكَلُ إِلَيْهِ وَفَاءً تَامًّا مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ.
(2) وَإِلَى مَنْ لَا يَفِي بِالجَمِيعِ.
وَالوَكِيلُ المُطْلَقُ هُوَ الَّذِي الأُمُورُ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَلِيٌّ بِالقِيَامِ بِهَا، وَفِيٌّ بِإتْمَامِهَا، وَذَلِكَ هُوَ اللهُ تَعَالَى فَقَطْ، وَقَدْ فَهِمْتَ مِنْ هَذَا مِقْدَارَ مَدْخَلِ العَبْدِ فِي هَذَا الاسْمِ [30].
3-وَلَيْسَ فِي إِجْرَاءِ هَذَا الاسْمِ عَلَى الله تَعَالَى نَقْصٌ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ البَعْضُ، مِنْ حَيْثُ مُبَاشَرَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأَمْرِ الخَلَائِقِ وَمَا يُصْلِحُ حَالَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: «وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الاسْمَ نَقْصٌ لَا يَجُوزُ وَصْفُ الخَالِقِ بِهِ! وَهَذَا جَهْلٌ وَرَدٌّ لِلنُّصُوصِ، وَلَو عَلِمَ أَنَّ اخْتِرَاعَ الأَفْعَالِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنَ الله وَحْدَهُ، وَأَنَّ مِنَ المُسْتَحِيلِ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الله سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، لَعَلِمَ وُجُوبَ اتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الاسْمِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ حُقَّ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيُفَوِّضَ إِلَيْهِ جَمِيعَ شُؤُونِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 11]» [31].
4- حَضَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضِ الأُمُورِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ بِهِ، فَقَالَ: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].
فَالتَوَكُّلُ إِذًا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الإِيمَانِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ.
وَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ المُؤْمِنُ عَلَى الله وَهُوَ ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62].
وَهُوَ الكَافِي لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إلَيْهِ ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171].
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الخَصْلَةِ فَقَالَ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ ﴾ [آل عمران: 159]، وَوَعَدَهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ وَالثَّوَابِ الجَزِيلِ، فَقَالَ: ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36].
وَحَرَّمَ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ التَّوَكُّلَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، فَقَالَ: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2].
وَقَالَ: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9].
وَقَالَ: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُو نَ ﴾ [الزمر: 38].
5- وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ الغَايَةَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى الله تَعَالَى وَالإنَابَةِ لَهُ، وَتَفْوِيضِ الأُمُورِ إِلَيْهِ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ يَقْصِدُونَهُمْ - وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ﴿ حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ ﴾، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ؛ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [32].
وَكَذَا مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ مِنْ إِظْهَارِ التَّوَكُّلِ عَلَى الله وَتَسْلِيمِ الأَمْرِ لَهُ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 22، 23].
6- ومِنْ عَجِيبِ مَا قَصَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائَيلَ فِي هَذَا البَابِ، مَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ: «ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرِائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائَتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِالله شَهِيدًا، قَالَ: فَائْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِالله كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ عَلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكِبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ كَفَى بِالله كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِالله شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكِبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَه َا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكِبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكِبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَالله مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكِبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكِبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكِبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا»[33].
سَادِسًا: المَعَانِي الإيمَانِيَّةُ[34]:
التَّوَكُّلُ: كِلَةُ الأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ العَامَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الخَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الحَقَّ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ الأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَيْأَسَ العَالَمَ مِنْ مِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: «كِلَةُ الأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ»؛ أيْ: تَسْلِيمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ.
«وَالتَعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ»؛ أَيْ: الاعْتِمَادُ عَلَى قِيَامِهِ بِالأَمْرِ، وَالاسْتِغْنَاء ُ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِكَ، وَبِإِرَادَتِهِ عَنْ إِرَادَتِكَ.
يتبع
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ المَوْضُوع:
أوَّلًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الوَكِيلِ).
ثَانِيًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الكَفِيلِ).
ثَالِثًا: وُرُودُ الاسْمَيْنِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.
رَابِعًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَيْنِ.
سَادِسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ .
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ: قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ [1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ [2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة - عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ - لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ [3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ [4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ [5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ [6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ - بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ - إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك(4).
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المُسْلِمِينَ بِمَعَانِي اسْمَيِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى (الوَكِيلِ - وَالكَفِيلِ).
2- تَنْوِي غَرْسَ عَقِيدَةِ التَّوَكُّلِ فِي قُلُوبِ المُسْلِمِينَ.
3- تَنْوِي لَفْتَ نَظَرِ النَّاسِ إلَى أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ الله وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الكَفِيلُ بِعِبَادِهِ.
4- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى الأَخْذِ بِالأَسَبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ واعْتِمَادِ القَلْبِ عَلَى الوَكِيلِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ.
أوَّلًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (الوَكِيلِ):
الوَكِيلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ القَيِّمُ الكَفِيلُ الَّذِي تَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِ العِبَادِ.
وَحَقِيقَةُ الوَكِيلِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بَأَمْرِ المَوْكُولِ إِلَيْهِ، يُقَالُ: تَوكَّلَ بِالأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ القِيَامَ بِهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلاَنٍ أَيْ أَلجَأْتُهُ إِلَيْهِ واعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ.
وَوَكَّلَ فُلاَنٌ فُلانًا إِذَا اسْتَكْفَاهُ أَمْرَهُ، إِمَّا ثِقَةً بِكِفَايَتِهِ أَوْ عَجْزًا عَنِ القِيَامِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَوَكِيلُكَ فِي كَذَا إِذَا سَلَّمْتَهُ الأَمْرَ وَتَرَكْتَهُ لَهُ وَفَوَّضْتَهُ إِلَيهِ واكْتَفَيْتَ بِهِ [7].
فَالتَّوَكُّلُ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى تَوَلِّي الإِشْرَافِ عَلَى الشَّيْءِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَتَعَهُّدِهِ؛ وَمِنْهُ مَا وَرَدَ عِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحيَيْهِ، تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالجَنَّة» [8].
وَقَدْ يَأْتِي التَّوَكُّلُ بِمَعْنَى الاعْتِمَادِ عَلَى الغَيْرِ والرُّكُونِ إِلَيْهِ وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
وَرُبَّمَا يُفَسَّرُ الوَكِيلُ بِالكَفِيلِ، وَالوَكِيلُ أَعَمُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَفِيلٍ وَكِيلٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَكِيلٍ كَفِيلًا.
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» [9].
وَالوَكِيلُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَكَّلَ بِالعَالَمِينَ خَلْقًا وَتَدْبِيرًا، وَهِدَايَةً وَتَقْدِيرًا، فَهُوَ المُتَوَكِّلُ بِخَلْقِهِ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا كَمَا قَالَ -: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وَقَالَ هُودٌ: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، فَالوَكِيلُ الكَفِيلُ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ وَمَصَالحِهِمْ[10].
وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَكِيلُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا اعْتِقَادَهُمْ فِي حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَخَرَجُوا مِنْ حَوْلِهِمْ وَطَوْلِهِمْ وَآمَنُوا بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ لاَ حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، فَرَكَنُوا إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَجَعَلُوا اعْتِمَادَهُمْ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ حَيَاتِهِمْ، وَفَوَّضُوا إِلَيْهِ الأَمْرَ قَبْلَ سَعْيِهِمْ، وَاسْتَعَانُوا بِهِ حَالَ كَسْبِهِمْ، وَحَمَدُوهُ بِالشُّكْرِ بَعْدَ تَوْفِيقِهِمْ، وَالرِّضَا بِالمَقْسُومِ بَعْدَ ابْتِلَائِهِمْ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ المؤْمِنينَ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 48]، وقال: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9] [11].
وَيَذْكُرُ ابْنُ القَيِّمِ أَنَّ تَوكِيلَ العَبْدِ رَبَّهُ يَكُونُ بِتَفْوِيضِهِ نَفْسَهُ إِلَيْهِ وَعَزْلِهَا عَنِ التَّصَرُّفِ إِلاَّ بِإذْنِهِ يَتَوَلَّى شُؤُونَ أَهْلِهِ وَوَلِيِّةِ، وَهَذَا هُوَ عَزْلُ النَّفْسِ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقِيَامُهَا بِالعُبُوِدِيَّ ةِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنُ الرَّبِّ وَكِيلُ عَبْدِهِ أَيْ كَافِيهِ وَالقَائِمُ بِأُمُورِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ، فَوَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ وإِحْسَانٌ لَهُ وَخَلْعَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ لَا عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ، وَأَمَّا تَوْكِيلُ العَبْدِ رَبَّهُ فَتَسْلِيمٌ لِرُبُوبِيَّتِه ِ وَقِيَامٌ بِعُبُودِيَّتِه ِ [12].
ثَانِيًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الكَفِيلِ):[13]
وَأَمَّا الكَفِيلُ فَهُوَ مِنْ كَفَلَهُ يَكْفُلُهُ وَكَفَّلَهُ إِيَّاهُ، وَالكَافِلُ: العَائِلُ، وَفِي التَّنْزِيلِ العَزِيزِ ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37] [14].
وَفِي الحَدِيثِ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ، لَهُ وَلِغَيْرِهِ»، وَالكَافِلُ: القَائِمُ بِأَمْرِ اليَتِيمِ المُرَبِّي لَهُ، وَهُوَ مِنَ الكَفِيلِ الضَّمِينِ.
وَقَالَ ابِنُ الأَعْرَابِيِّ: «كَفِيلٌ وَكَافِلٌ، وَضَمِينٌ وَضَامِنٌ بِمَعْنَىً وَاحِدٍ».
وَفِي التَهْذِيبِ لِلأَزْهَرِيِّ: «وَأَمَّا الكَافِلُ فَهُوَ الَّذِي كَفَلَ إِنْسَانًا يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ» [15].
ثَالِثًا: وُرُودُ الاسْمَيْنِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ:
وَرَدَ (الوَكِيلُ) فِي القُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وَقَوْلُهُ: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [هود: 12].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9].
وَأَمَّا (الكَفِيلُ) فَقَدْ جَاءَ مَرَّةً وَاحِدَةً:
فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].
رَابِعًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾: «كَفِيلًا بِمَا وَعَدَكَ» [16].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾: يُقَالُ: «رَبًّا، وَيُقَالُ: كَافِيًا» [17].
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]: «كَفَانَا اللهُ، يَعْنِي: يَكْفِينَا اللهُ.
﴿ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ يَقُولُ: وَنِعْمَ المَوْلَى لِمَنْ وَلِيَهُ وَكَفَلَهُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ (الوَكِيلَ) فِي كَلَامِ العَرَبِ هُوَ: المُسْنَدُ إِلَيْهِ القِيَامُ بِأَمْرِ مَنْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ القِيَامَ بِأَمْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ القَومُ الذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الآيَاتِ قَدْ كَانُوا فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى الله، وَوَثَقُوا بِهِ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَصَفَ نَفْسَهُ بِقِيَامِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَفْوِيضِهِمْ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ بِالوَكَالَةِ، فَقَالَ: وَنِعْمَ الوَكِيلُ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ» [18].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]: «وَتَوَكَّلْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الله، يَقُولُ: وَفَوِّضْ أَنْتَ أَمْرَكَ إِلَى الله، وَثِقْ بِهِ فِي أُمُورِكَ، وَوَلِّهَا إِيَّاهُ.
﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ يَقُولُ: وَكَفَاكَ اللهُ، أَيْ: وَحَسْبُكَ بِالله وَكِيلًا، أَيْ: فِيمَا يَأْمُرُكَ، وَوَلِيًّا لَهَا وَدَافِعًا عَنْكَ وَنَاصِرًا» [19].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]: «وَاللهُ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْءٍ رَقِيبٌ وَحَفِيظٌ، يَقُومُ بِأَرْزَاقِ جَمِيعِهِ وَأَقْوَاتِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ بِقُدْرَتِهِ» [20].
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الفَرَّاءِ أَنَّهُ (الكَافِي): «وَيُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الكَفِيلُ بِأرْزَاقِ العِبَادِ، وَالقَائِمِ عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِهِمْ .
وَحَقِيقَتُهُ: أَنَّهُ الَّذِي يَسْتَقِلُّ بِالأَمْرِ المَوْكُولِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَولُ المُسْلِمِينَ ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾؛ أي: نِعْمَ الكَفِيلُ بِأُمُورِنَا القَائِمُ بِهَا» [21].
وَقَالَ أَبُوْ عَبْدِ الله الحُلَيْمِيُّ: «(الوَكِيلُ) وَهُوَ: المُوَكَّلُ وَالمُفَوَّضُ إِلَيْهِ عِلْمًا بِأَنَّ الخَلْقَ وَالأَمْرَ لَهَ، لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا» [22].
فَيَتَلَخَّصُ فِي (الوَكِيلِ) ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:
1- الكَفِيلُ.
2- الْكَافِي.
3- الحَفِيظُ.
وَأَمَّا (الكَفِيلُ):
فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91]: «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ بِالوَفَاءِ بِمَا تَعَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ رَاعِيًا، يَرْعَى المُوفِي مِنْكُمْ بِعَهْدِ الله الَّذِي عَاهَدَ عَلَى الوَفَاءِ بِهِ وَالنَّاقِضِ» [23].
وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى مُجَاهِدٍ فِي مَعْنَى (كَفِيلًا) قَالَ: «وَكِيلًا» [24].
وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(الكَفِيلُ) وَمَعْنَاهُ: المُتَقَبِّلُ لِلْكِفَايَاتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ وَكَفَالَةٍ [25] كَكَفَالَةِ الواحِدِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لمَّا خَلَقَ المُحْتَاجَ وَأْلْزَمَهُ الحَاجَةَ، وَقَدَّرَ لَهُ البَقَاءَ الَّذِي لاَ يَكُونُ إِلَّا مَعَ إِزَالَةِ العِلَّةِ، وَإِقَامَةِ الكِفَايَةِ، لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إِيصَالِ مَا عُلِّقَ بَقَاؤُهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَإِدْرَارِهِ فِي الأَوْقَاتِ والأَحْوَالِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَبُّنا جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ مُرْتَزِقٍ أَنْ يَرْزُقَ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَرْزُقُ الجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، وَالأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، وَالطِّيْرِ الَّتِي تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا، وَالهَوَامِّ وَالحَشَرَاتِ، وَالسِّبَاعِ فِي الفَلَوَاتِ» [26].
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: «(كَفِيلًا) يَعْنِى: «شَهِيدًا، وَيُقَالُ: حَافِظًا، وَيُقَالُ: ضَامِنًا» [27].
خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَيْنِ:
1- إنَّ اللهَ - هُوَ القَائِمُ بَأَمْرِ الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ وَالمُتَكَفِّلُ بِرِزْقِهِمْ وَإِيصَالِهِ لَهُمْ، وَالرَّعَايَةِ لِمَصَالِحِهِمْ ، وَمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهَذَا لاَبُدَّ يَتَضَمَّنُ أَوْصَافًا عَظِيمَةً مِنْ أَوْصَافِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَوَفَاءِ عَهْدِهِ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَوْصَافِ الجَلِيلَةِ، اللَّائِقَةِ بِكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الوَكِيلُ وَالكَفِيلُ المُتَوَكِّلُ بِإِيصَالِهِ إِلَى العَبْدِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ فَيَخْلُقُ لَهُ الشَّبَعَ وَالرِّيَّ، كَمَا يَخْلُقُ لَهُ الهِدَايَةَ فِي القُلُوبِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ سَبَبٍّ مَلَكٍ أَوْ غَيْرِهِ يُوَكَّلُ بِهِ» [28].
2- الفَرْقُ بَيْنَ وَكَالَةِ الخَالِقِ وَوَكَالَةِ المَخْلُوقِ:
بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الخَلْقَ قَدْ يُشْرَكُونَ مَعَ الخَالِقِ فِي بَعْضِ دَلَالَاتِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى كَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالحَيَاةِ.. وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ.
وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْنِي التَّشَابُهَ فِي الصِّفَاتِ لِمُجَرَّدِ الاشْتِرَاكِ فِي الأَسْمَاءِ فَأَيْنَ سَمْعُ الإِنْسَانِ مِنْ سَمْعِ الرَّحْمَنِ، وَأَيْنَ بَصَرُهُ مِنْ بَصَرِهِ، وَأَيْنَ عِلْمُهُ مِنْ عِلْمِهِ، وَأَيْنَ التُّرَابُ مِنْ رَبِّ الأَرْبَابِ.
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الخَلْقِ قَدْ يَتَوَكَّلُ بِغَيْرِهِ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَاليَتَامَى والمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ، فَلَا يَعْنِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ شَابَهَ اللهَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ، فإِنَّ هَذَا المُتَوَكِّلَ بِأَمْرِ غَيْرِهِ، هُوَ نَفْسُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى رِزْقِ الله وَمَعُونَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.
قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: «فَإِذَا عَلِمْتُمْ مَعْنَى (الوَكِيلِ) فَلِلَّهِ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَتُهُ العَلْيَاءُ، بِأَحْكَامٍ تَخْتَصُّ بِهِ أَرْبَعَة:
الأوَّل: انْفِرَادُهُ بِحِفْظِ الخَلْقِ.
الثَّانِي: انْفِرَادُهُ بِكِفَايَتِهِمْ .
الثَّالِث: قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ.
الرَّابِع: إِنَّ جَمِيعَ الأَمْرِ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، كُلُّ ذَلِكَ حَادِثٌ بِيَدِهِ».
ثُمَّ قَالَ: «المَنْزِلَةُ السُّفْلَى لِلْعَبْدِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ الأُمُورِ إِلَيْهِ لِتَحْصُلَ لَهُ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وَيَرْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ شَغَبَ مَشَقَّةِ الوُجُوبِ..
الثَّانِي: أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مَا يَسْألُ فَإِنَّ الوَكِيلَ غَنِيٌّ، وَلِهَذَا قِيلَ: مِنْ عَلَامَةِ التَّوْحِيدِ كَثْرَةُ العِيَالِ عَلَى بِسَاطِ التَّوَكُّلِ.
الثَّالِثُ: أَنَّكَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ وَكِيلَكَ غَنِيٌّ وَفِيٌّ قَادِرٌ مَلِيٌّ، فَأَعْرِضْ عَنْ دُنْيَاكَ وَأَقْبِلْ عَلَى عِبَادَةِ مَنْ يَتَوَلَّاكَ» [29].
وَنُضِيفُ بِأَنَّ الوَكِيلَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى القِيَامِ بِأَمْرِ مُوَكِّلِهِ فِي وَقْتٍ وَعَاجِزًا عَنْهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، غَنِيًّا فِي وَقْتٍ فَقِيرًا فِي آخَرَ، عَالِمًا بِشَيْءٍ جَاهِلًا بِغَيْرِهِ، حَيًّا فِي وَقْتٍ مَيِّتًا فِي غَيْرِهِ، وَاللهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81].
وَقَالَ: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123].
وَقَالَ: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58].
وَقَالَ الغَزَّالِيُّ مُبَيِّنًا بَعْضَ الفُرُوقِ أَيْضًا: «(الوَكِيلُ) هُوَ المَوْكُولُ إِلَيْهِ الأُمُورُ، وَلَكِنِ المَوْكُولُ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى:
(1) مَنْ وُكِلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأُمُورِ، وَذَلِكَ نَاقِصٌ.
(2) وَإِلَى مَنْ وُكِلَ إِلَيْهِ الكُلُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى:
وَالمَوْكُولُ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى:
(1) مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ لَا بِذَاتِهِ وَلَكِنْ بِالتَّوْكِيلِ وَالتَّفْوِيضِ، وَهَذَا نَاقِصٌ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ إِلَى التَّفْوِيضِ وَالتَّوْلِيَةِ .
(2) وَإِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ بِذَاتِهِ أَنْ تَكُونَ الأُمُورُ مَوكُولَةً إِلَيْهِ، وَالقُلُوبُ مُتَوَكِّلَةً عَلَيْهِ، لَا بِتَوْلِيَةٍ وَتَفْوِيضٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الوَكِيلُ المُطْلَقُ.
وَالوَكِيلُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى:
(1) مَنْ يَفِي بِمَا يُوكَلُ إِلَيْهِ وَفَاءً تَامًّا مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ.
(2) وَإِلَى مَنْ لَا يَفِي بِالجَمِيعِ.
وَالوَكِيلُ المُطْلَقُ هُوَ الَّذِي الأُمُورُ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَلِيٌّ بِالقِيَامِ بِهَا، وَفِيٌّ بِإتْمَامِهَا، وَذَلِكَ هُوَ اللهُ تَعَالَى فَقَطْ، وَقَدْ فَهِمْتَ مِنْ هَذَا مِقْدَارَ مَدْخَلِ العَبْدِ فِي هَذَا الاسْمِ [30].
3-وَلَيْسَ فِي إِجْرَاءِ هَذَا الاسْمِ عَلَى الله تَعَالَى نَقْصٌ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ البَعْضُ، مِنْ حَيْثُ مُبَاشَرَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأَمْرِ الخَلَائِقِ وَمَا يُصْلِحُ حَالَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: «وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الاسْمَ نَقْصٌ لَا يَجُوزُ وَصْفُ الخَالِقِ بِهِ! وَهَذَا جَهْلٌ وَرَدٌّ لِلنُّصُوصِ، وَلَو عَلِمَ أَنَّ اخْتِرَاعَ الأَفْعَالِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنَ الله وَحْدَهُ، وَأَنَّ مِنَ المُسْتَحِيلِ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الله سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، لَعَلِمَ وُجُوبَ اتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الاسْمِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ حُقَّ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيُفَوِّضَ إِلَيْهِ جَمِيعَ شُؤُونِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 11]» [31].
4- حَضَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضِ الأُمُورِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ بِهِ، فَقَالَ: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].
فَالتَوَكُّلُ إِذًا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الإِيمَانِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ.
وَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ المُؤْمِنُ عَلَى الله وَهُوَ ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62].
وَهُوَ الكَافِي لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إلَيْهِ ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171].
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الخَصْلَةِ فَقَالَ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ ﴾ [آل عمران: 159]، وَوَعَدَهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ وَالثَّوَابِ الجَزِيلِ، فَقَالَ: ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36].
وَحَرَّمَ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ التَّوَكُّلَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، فَقَالَ: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2].
وَقَالَ: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9].
وَقَالَ: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُو نَ ﴾ [الزمر: 38].
5- وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ الغَايَةَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى الله تَعَالَى وَالإنَابَةِ لَهُ، وَتَفْوِيضِ الأُمُورِ إِلَيْهِ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ يَقْصِدُونَهُمْ - وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ﴿ حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ ﴾، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ؛ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [32].
وَكَذَا مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ مِنْ إِظْهَارِ التَّوَكُّلِ عَلَى الله وَتَسْلِيمِ الأَمْرِ لَهُ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 22، 23].
6- ومِنْ عَجِيبِ مَا قَصَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائَيلَ فِي هَذَا البَابِ، مَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ: «ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرِائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائَتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِالله شَهِيدًا، قَالَ: فَائْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِالله كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ عَلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكِبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ كَفَى بِالله كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِالله شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكِبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَه َا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكِبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكِبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَالله مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكِبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكِبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكِبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا»[33].
سَادِسًا: المَعَانِي الإيمَانِيَّةُ[34]:
التَّوَكُّلُ: كِلَةُ الأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ العَامَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الخَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الحَقَّ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ الأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَيْأَسَ العَالَمَ مِنْ مِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: «كِلَةُ الأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ»؛ أيْ: تَسْلِيمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ.
«وَالتَعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ»؛ أَيْ: الاعْتِمَادُ عَلَى قِيَامِهِ بِالأَمْرِ، وَالاسْتِغْنَاء ُ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِكَ، وَبِإِرَادَتِهِ عَنْ إِرَادَتِكَ.
يتبع