ابو وليد البحيرى
2024-12-15, 12:49 PM
من درر العلامة ابن القيم عن التوبة
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالتوبة من المواضيع التي تكلَّم عنها العلامة ابن القيم رحمه الله في عدد من كتبه، وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
[كتاب: مفتاح دار السعادة]
آثار التوبة على التائب:
التوبة توجبُ للتائب آثارًا عجيبةً...منها: أنَّ الله سبحانه يحبُّه ويفرحُ بتوبته أعظم فرح، وقد تقرر أن الجزاء من جنس العمل، فلا ينسى الفرحة التي يظفرُ بها عند التوبة النصوح.
وتأمل كيف تجدُ القلب يرقص فرحًا وأنت لا تدري سبب ذلك الفرح ما هو، وهذا أمر لا يحسُّ به إلا حيُّ القلب، وأما ميتُ القلب فإنما الفرح عند ظفره بالذَّنب، ولا يعرف فرحًا غيره.
فوازن إذن بين هذين الفرحين، وانظر ما يُعقبه فرحُ الظفر بالذنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب، فمن يشتري فرحة ساعة بغمِّ الأبد؟ وانظر ما يُعقبُه فرحُ الظفر بالطاعة والتوبة النصوح من الانشراح الدائم والنعيم وطِيب العيش، ووازن بين هذا وهذا، ثم اختر ما يليق بك ويناسبك. وكلٌّ يعملُ على شاكلته.
كمال الآدمي بالتوبة النصوح:
كمال الآدمي في هذه الدار بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة، وهذا الكمال مرتب على كماله الأول.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
علامات التوبة المقبولة الصحيحة:
التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات:
منها: أن يكون بعد التوبة خيرًا مما كان قبل الخطيئة.
ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾[فصلت: 30]، فهناك يزول الخوف.
ومنها انخلاع قلبه وتقطُّعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عِظَمِ الجناية وصغرها، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يُوجب انصداع القلب وانخلاعه..وهذا حقيقة التوبة؛ لأنه يتقطع قلبه حسرةً على ما فرط منه وخوفًا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطَّع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرةً وخوفًا، تقطَّع في الآخرة إذا حقَّت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بدَّ من تقطُّع القلب إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة.
ومنها: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء..تكسر القلب...كسرةً تامةً قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربِّه طريحًا ذليلًا خاشعًا...فلله ما أحلى قوله في هذا الحال: أسألك بعزِّك وذُلِّي لك إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيِّدٌ سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه.
فهذا من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك...فليتَّهِم توبته، وليرجع إلى تصحيحها.
[كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد]
أفضل أيام العبد يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته:
خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله، وقبول الله توبته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: ((أبْشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أُمُّك))، فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيرًا من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمل ليوم إسلامه، ومن تمامه، فيومُ إسلامه بداية سعادته، ويوم توبته كمالها وتمامها.
[كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
التوبة والندم من الذنب:
بُلي الحبيب بالذنب، فاعترف وتاب وندم، وتضرَّع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة، وهو التوحيد والاستغفار، فأُزيل عنه العيب، وغُفر له الذنب، فقُبل منه المتاب، وفُتح له من الرحمة والهداية كل باب، ونحن الأبناء، ومن أشبه أباه فما ظلم.
من كانت شيمتُهُ التوبة والاستغفار فقد هُدي إلى أحسن الشيم.
يا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة، وزالت المسرة وبقيت الحسرة.
[كتاب: مفتاح دار السعادة]
من يخاف عليه أن يحال بينه وبين التوبة:
من بنى أمره على ألَّا يعفو عن ذنب، ولا يقدم خوفًا، ولا يدع لله شهوةً وهو فرح مسرور يضحك ظهرًا لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يُخافُ عليه أن يحال بينه وبين التوبة، ولا يوفق لها.
[كتاب: الروح]
فرح التائب بتوبته فرحة عجيبة، لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة:
الفرحة التي تحصل...بالتوبة...ف رحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة، فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.
وها هنا فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل إليه الملائكة فبشَّروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان وربٍّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضية عنك: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]، ولكن ها هنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحاتٍ ومضض ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء، فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح، منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، ومنها: فتح أبواب السماء له، ومنها: صلاة ملائكة السماء عليها، وتشييع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح لها، ويصلي عليها أهلها، ويشيِّعُها مقرِّبوها هكذا إلى السماء السابعة، فكيف يقدر فرحها وقد استؤذن لها على ربِّها ووليِّها وحبيبها، فوقفت بين يديه، وأذن لها بالسجود فسجدت، ثم سمعته سبحانه وتعالى يقول: اكتبوا كتابه في علِّيين، ثم يُذهب به، فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعدَّه الله له، ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله، فيجدهم على أحسن حال.
هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشُرْبه من الحوض، وأخذه كتابه بيمينه، وثقل ميزانه، وبياض وجهه، وإعطائه النور التام، والناس في الظلمة، وقطعه جسر جهنم بلا تعويق، وانتهائه إلى باب الجنة، وقد أُزلِفت له في الموقف، وتلقى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يُقدَّر ولا يُعبَّر عنه، تتلاشى هذه الأفراح كلُّها عنده، وإنما يكون لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم، ومحاضرته لهم.
التوبة عند النوم:
يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعةً، يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألَّا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل، مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته.
وليس للعبد أنفعُ من هذه التوبة ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرًا وفَّقَه لذلك، ولا قوة إلا بالله.
[كتاب: الفوائد]
التوبة كشرب الدواء للعليل:
التوبة من الذنب كشُرْبِ الدواء للعليل.
[كتاب: بدائع الفوائد]
التوبة من الذنوب التي جعلت الأعداء يؤذونه:
تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه...فما سلّط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره...فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي، وتسلَّط عليه خصومه شيء أنفعُ له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فِكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها...والله يتولى نُصرتهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعده من عبدٍ! وما أبركها من نازلة نزلت به! وما أحسن أثرها عليه! ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، فما كلُّ أحد يُوفقُ لهذا.
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالتوبة من المواضيع التي تكلَّم عنها العلامة ابن القيم رحمه الله في عدد من كتبه، وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
[كتاب: مفتاح دار السعادة]
آثار التوبة على التائب:
التوبة توجبُ للتائب آثارًا عجيبةً...منها: أنَّ الله سبحانه يحبُّه ويفرحُ بتوبته أعظم فرح، وقد تقرر أن الجزاء من جنس العمل، فلا ينسى الفرحة التي يظفرُ بها عند التوبة النصوح.
وتأمل كيف تجدُ القلب يرقص فرحًا وأنت لا تدري سبب ذلك الفرح ما هو، وهذا أمر لا يحسُّ به إلا حيُّ القلب، وأما ميتُ القلب فإنما الفرح عند ظفره بالذَّنب، ولا يعرف فرحًا غيره.
فوازن إذن بين هذين الفرحين، وانظر ما يُعقبه فرحُ الظفر بالذنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب، فمن يشتري فرحة ساعة بغمِّ الأبد؟ وانظر ما يُعقبُه فرحُ الظفر بالطاعة والتوبة النصوح من الانشراح الدائم والنعيم وطِيب العيش، ووازن بين هذا وهذا، ثم اختر ما يليق بك ويناسبك. وكلٌّ يعملُ على شاكلته.
كمال الآدمي بالتوبة النصوح:
كمال الآدمي في هذه الدار بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة، وهذا الكمال مرتب على كماله الأول.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
علامات التوبة المقبولة الصحيحة:
التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات:
منها: أن يكون بعد التوبة خيرًا مما كان قبل الخطيئة.
ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾[فصلت: 30]، فهناك يزول الخوف.
ومنها انخلاع قلبه وتقطُّعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عِظَمِ الجناية وصغرها، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يُوجب انصداع القلب وانخلاعه..وهذا حقيقة التوبة؛ لأنه يتقطع قلبه حسرةً على ما فرط منه وخوفًا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطَّع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرةً وخوفًا، تقطَّع في الآخرة إذا حقَّت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بدَّ من تقطُّع القلب إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة.
ومنها: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء..تكسر القلب...كسرةً تامةً قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربِّه طريحًا ذليلًا خاشعًا...فلله ما أحلى قوله في هذا الحال: أسألك بعزِّك وذُلِّي لك إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيِّدٌ سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه.
فهذا من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك...فليتَّهِم توبته، وليرجع إلى تصحيحها.
[كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد]
أفضل أيام العبد يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته:
خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله، وقبول الله توبته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: ((أبْشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أُمُّك))، فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيرًا من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمل ليوم إسلامه، ومن تمامه، فيومُ إسلامه بداية سعادته، ويوم توبته كمالها وتمامها.
[كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
التوبة والندم من الذنب:
بُلي الحبيب بالذنب، فاعترف وتاب وندم، وتضرَّع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة، وهو التوحيد والاستغفار، فأُزيل عنه العيب، وغُفر له الذنب، فقُبل منه المتاب، وفُتح له من الرحمة والهداية كل باب، ونحن الأبناء، ومن أشبه أباه فما ظلم.
من كانت شيمتُهُ التوبة والاستغفار فقد هُدي إلى أحسن الشيم.
يا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة، وزالت المسرة وبقيت الحسرة.
[كتاب: مفتاح دار السعادة]
من يخاف عليه أن يحال بينه وبين التوبة:
من بنى أمره على ألَّا يعفو عن ذنب، ولا يقدم خوفًا، ولا يدع لله شهوةً وهو فرح مسرور يضحك ظهرًا لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يُخافُ عليه أن يحال بينه وبين التوبة، ولا يوفق لها.
[كتاب: الروح]
فرح التائب بتوبته فرحة عجيبة، لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة:
الفرحة التي تحصل...بالتوبة...ف رحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة، فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.
وها هنا فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل إليه الملائكة فبشَّروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان وربٍّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضية عنك: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]، ولكن ها هنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحاتٍ ومضض ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء، فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح، منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، ومنها: فتح أبواب السماء له، ومنها: صلاة ملائكة السماء عليها، وتشييع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح لها، ويصلي عليها أهلها، ويشيِّعُها مقرِّبوها هكذا إلى السماء السابعة، فكيف يقدر فرحها وقد استؤذن لها على ربِّها ووليِّها وحبيبها، فوقفت بين يديه، وأذن لها بالسجود فسجدت، ثم سمعته سبحانه وتعالى يقول: اكتبوا كتابه في علِّيين، ثم يُذهب به، فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعدَّه الله له، ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله، فيجدهم على أحسن حال.
هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشُرْبه من الحوض، وأخذه كتابه بيمينه، وثقل ميزانه، وبياض وجهه، وإعطائه النور التام، والناس في الظلمة، وقطعه جسر جهنم بلا تعويق، وانتهائه إلى باب الجنة، وقد أُزلِفت له في الموقف، وتلقى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يُقدَّر ولا يُعبَّر عنه، تتلاشى هذه الأفراح كلُّها عنده، وإنما يكون لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم، ومحاضرته لهم.
التوبة عند النوم:
يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعةً، يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألَّا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل، مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته.
وليس للعبد أنفعُ من هذه التوبة ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرًا وفَّقَه لذلك، ولا قوة إلا بالله.
[كتاب: الفوائد]
التوبة كشرب الدواء للعليل:
التوبة من الذنب كشُرْبِ الدواء للعليل.
[كتاب: بدائع الفوائد]
التوبة من الذنوب التي جعلت الأعداء يؤذونه:
تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه...فما سلّط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره...فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي، وتسلَّط عليه خصومه شيء أنفعُ له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فِكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها...والله يتولى نُصرتهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعده من عبدٍ! وما أبركها من نازلة نزلت به! وما أحسن أثرها عليه! ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، فما كلُّ أحد يُوفقُ لهذا.