المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تكامل المقدمة والخاتمة في سورة الشرح



ابو وليد البحيرى
2024-12-04, 08:06 PM
تكامل المقدَّمة والخاتمة في سورة الشرح

قراءة في النسيج القرآنيِّ الْمُعْجِز

د. مصطفى يعقوب

تتجلَّى روعةُ النَّظْمِ القرآنيِّ في سورة "الشرح" بشكل استثنائي في نسيج مُعجِز؛ فهي تبدأ بتقرير نِعَمٍ إلهية لنبيِّه الكريم عليه الصلاة والسلام، وفي الوقت نفسه تَضَعُ للمؤمنين طريقَ السَّكِينة والنجاح والرِّفعة، وتُختَم بوصفة عملِيَّة لاستدامتها، ويتناغم مطلعُها مع خاتمتها في تناسُقٍ مُعجِزٍ يكشف عن منهج ربانيٍّ متكامل في صناعة النجاح والسعادة.


يفتتح الله تعالى السورة باستفهام تقريري: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]؛ ليُؤسِّس منظومةً لثلاث نعمٍ متتالية:
• شرح الصدر: القاعدة النفسية للنجاح.
• وضع الوِزْرِ: إزالة العوائق والعقبات.
• رفع الذِّكْر: التمكين والرِّفعة.


أما الخاتمة: فتُختم السورة بوصفة عملية ذات شِقَّين؛ هي ما يُسمَّى بـمفاتيح الاستدامة:
• النَّصَب في العمل، وخدمة الخَلْقِ ودعوتهم في أوقات فراغك من أعمالك الضرورية: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7].


• التوجُّه إلى الله وحده، والرغبة إليه بمحابِّه من الذِّكْرِ والشكر والدعاء، والتزوُّدِ من العلم، وتدبُّر القرآن: ﴿ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 8].


نقاط الالتقاء بين المقدمة والخاتمة:
يتجلَّى الإعجاز في التناسُقِ الدقيق بين طَرَفَيِ السورة؛ فكلُّ نعمة في المقدمة لها ما يقابلها في الخاتمة، فشَرْحُ الصدر يُستدام بالنَّصَبِ في خدمة الخَلْقِ، ورَفْعُ الذِّكر يتحقق بصدق الرغبة إلى الله، وبينهما تُزال العَقَبَاتُ، وتُحَلُّ المشكلات، مهما كانت ثقيلة وكبيرة، وكأننا أمام معادلة إلهية طرفها الأول النِّعم، وطرفها الثاني أسباب استدامتها.


وبهذا التكامل بين الافتتاح والختام تؤسِّس السورةُ لدائرةِ نموٍّ مستدامةٍ، تتكون من أربع مراحل متتالية:
• النعمة الإلهية: تبدأ بشرح الصدر.


• العمل والجُهد: يتمثَّل في النَّصَبِ المتواصل حتى في وقت الفراغ.


• الرغبة إلى الله: تعني صدقَ التوجُّهِ، وكثرة الذكر والعبادة والدعاء، ومعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.


• زيادة النعمة: تتجلَّى في مزيد من الشرح والرِّفعة.


الارتباط الوثيق بين العمل والإيمان:
ويظهر التكامل جَلِيًّا في الربط بين العمل والإيمان؛ فالنصب (العمل) يقترن بالرغبة إلى الله (الإيمان)، وكمال العبودية في الجمع بين النَّصَبِ في الخدمة، والرغبة إلى المعبود؛ ولذلك يقرِنُ الله تعالى في كتابه الكريم بين الإيمان والعطاء في عشرات الآيات وبعشرات الأساليب؛ مراتٍ بالجمع بين الإيمان والعمل الصالح، ومراتٍ بالجمع بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أو الجمع بين الصلاة والنَّحر: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2]، وفي النَّحْرِ إطعامٌ للطعام، ومواساة للمساكين.


فيكشف التناغُمُ بين المقدمة والخاتمة عن قانون إلهيٍّ في استدامة النعم؛ فكلُّ نعمة في المقدمة لها سبيلان لاستدامتها في الخاتمة:
شرح الصدر: يُستدام بـ:
• النَّصَب؛ وهو هنا السعي في خدمة الخَلْقِ.


• الرغبة الصادقة إلى الله بالذكر والتقرب إليه: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].


ووَضْعُ الوِزْرِ: يُستدام بـ:
• العمل المتواصل الذي يمنع تراكمَ الأعباء، وهو ما يُفهَم من خلال اختيار كلمة ﴿ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7] بشكل دائمٍ، فلا وقتَ للفراغ، مضى عهدُ النَّوم، وحان وقت الجِدِّ والزرع.


• التوكُّل على الله، والثقة به يُخفِّف الأثقال، ويُيَسِّرُ العسير، ويكفي العبدَ شرورَ الخَلْقِ.


ورَفْعُ الذكر: يُستدام بـ:
• خدمة الناس التي تنشر الذِّكر الحسن؛ فالناس عبيدُ الإحسان، وما من شيء يرفع ذكر الإنسان مثلُ السخاء والبذل، والعطاء والسعي في خدمة الخَلْقِ؛ لذلك قَطَعَ عبدُالله بن عباس تفرُّغَه للعبادة في رمضان؛ لخدمة من التجأ إليه، وقال لمن عاتبه في ذلك: "لأن أمشِيَ في خدمة أخي أحبُّ إليَّ من اعتكاف...".


• صدق التوجُّه إلى الله الذي يجلِب الثناء، وهذا الصدق يتمثَّل في التعلُّم المستمر، وتلاوة القرآن الكريم وتدبُّره، ومعرفة أسماء الله وصفاته، وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله تعالى.


ومهما كان تطبيق هذه الأمور صعبًا، فإن الله تعالى ذكَّرنا في وسط السورة أنه هو الذي يُيَسِّر، وهو الذي يشرح الصدر وحده، وهو الذي يخفِض ويرفع، ويتجلى هذا في تكرار "العسر" مُعرَّفًا، واليُسر منكَّرًا؛ في قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]، فالعسر واحد، واليُسرُ متعدد، مما يؤكِّد أن ثمار النَّصَب والرغبة إلى الله متجدِّدة ومتكاثرة.


التكامل الْمُعْجِز:
يرسُم التكامل بين المقدمة والخاتمة منهجًا نفسيًّا فريدًا في بناء الشخصية الناجحة؛ فالمقدمة تؤسِّس للثقة بالله من خلال تقرير النِّعم بصيغة الماضي: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾ [الشرح: 1]، والخاتمة تدفع للعمل بصيغة الأمر: ﴿ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7]، وكأن السورة تقول: اعمل وأنت موقن بالنجاح، فقد سَبَقَتْ به البشرى.


وهذا التكامل بين طَرَفَيِ السورة يقدم درسًا عميقًا في صناعة المستقبل:
• المقدمة: تؤكِّد أن النجاح ممكن بدليل تحققه في الماضي.
• الوسط: يؤكد أن اليُسرَ قادم لا محالةَ.
• الخاتمة: ترسم طريق استدامة النجاح وتجدُّده.


ويكشف التكامل عن بناء تصاعدي للنجاح:
• قاعدة البناء: شرح الصدر (التهيئة النفسية).
• وسط البناء: وضع الوِزْرِ (إزالة العوائق).
• قمة البناء: رفع الذكر (التمكين والرِّفعة).
• استدامة البناء: النَّصب والرغبة (العمل والإيمان).


قوانين النجاح والسعادة:
يُتوَّج التكامل الْمُعْجِز بين مقدمة سورة الشرح وخاتمتها بنتائجَ عمليةٍ عميقة، ويَضَعُ منهجًا للنجاح والسعادة والطمأنينة في كل زمان ومكان:
• قانون الانطلاق: الخير كله من الله، فابدأ بيقين التوكل والثقة، والاستعانة بمصدر النجاح لتتفوق، فالسورة تبدأ بتقرير النِّعَمِ قبل بيان الأسباب.


• قانون التوازن: اجمَعْ بين خدمة الخَلْقِ والتوجُّه للخالق؛ فهما جَنَاحَا السعادة، وما يُسمَّى بالنجاح المستدام.


• قانون التجدُّد: لا تتوقف عند نجاح، بل اجعل من نهاية كل عمل بدايةً لعمل جديد، ولا وقت للفراغ الكامل في مرحلة الامتحان، بل التفرُّغ للملذَّات في الجِنان الخالدة.


الأبعاد التربوية للتكامل: وتكشف السورة عن منهج تربوي متكامل:
• البعد النفسي: بناء الثقة من خلال تقرير النعم السابقة.
• البعد العملي: التأكيد على استمرارية العمل والجهد.
• البعد الروحي: ربط النجاح بصدق التوجه إلى الله.
• البعد الاجتماعي: تأكيد أهمية خدمة الخلق في معادلة النجاح.

وهكذا تقدم سورة الشرح، من خلال تكاملها المعجز، رسالةً خالدة؛ مفادها: إن النجاح المستدام ليس حدثًا عابرًا، بل منظومة متكاملة تبدأ بشرح الله تعالى للصدر، وتنتهي برفع الذكر ومفتاح ذلك الجمع بين النَّصَبِ في خدمة الخَلْقِ، والرغبة الصادقة إلى الخالق، عندها يُزيل الباري عنك الهمومَ والمشكلات، ويحقق لك النجاح والسعادة، ويرفع ذِكْرك في الدنيا والآخرة، فتكون أهلًا لجنة الفردوس في الخالدين.