المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التوكيد ودوره في إبانة دلالات الجانب العاطفي في القرآن الكريم



ابو وليد البحيرى
2024-11-04, 04:23 AM
التوكيد ودوره في إبانة دلالات الجانب العاطفي في القرآن الكريم

دراسة نحوية نصية (الجزء الأول)

د. محمد زبير عباسي

من بين الأساليب البلاغية والنحوية التي تتسم بها لغةُ القرآن الكريم أسلوبُ التوكيد، الذي يُعَدُّ من الأدوات الرفيعة في تعزيز المعاني، وتكثيف الأثر النفسيِّ على المتلقِّي، وعلى الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت التوكيد في القرآن، وبخاصة فيما يتعلق بتوكيد الجمل الاسمية والفعلية، ودلالاتهما وجمالياتهما، فإن الجانب العاطفيَّ المرتبط بالتوكيد لا يزال موضوعًا يستحق البحث والدراسة؛ لِما له من أهمية بالغة في فهم الأثر النفسي والتربوي للنص القرآني.

القرآن الكريم ليس مجرد نص لغوي يحتوي على معانٍ صريحة أو مفهومة بسهولة من الألفاظ والمباني، بل هو نص ذو طبقات متعددة من المعاني والإشارات، ومن تلك الطبقات "البناء العاطفي" الذي يتجلى في استخدام التوكيد لتعزيز الأثر العاطفي والنفسي، مما يُضيف إلى المعنى المجرد أبعادًا جديدة تجعل النص يؤثِّر بعمق في قارئه أو مستمعه.

البناء العاطفي في القرآن الكريم يتصل بالجانب الشعوري الذي يهدف إلى ترسيخ المعاني في وجدان المتلقي، والتوكيد في هذا السياق ليس مجرد وسيلة لتثبيت معنًى، أو إثبات فكرة، بل هو أداة نفسية قوية تُسهم في تعزيز الأثر الوجداني للنص، وعند دراسة التوكيد في القرآن الكريم من هذا المنظور، نجد أن التوكيد يتجاوز دوره النحويَّ التقليديَّ إلى دور أعمقَ؛ يتمثل في إبراز معاني الرحمة، والخوف، واليقين، وغيرها من المشاعر التي تغذِّي الوجدان، وتوجِّه السلوك.

التوكيد في آيات الرحمة:
في آيات الرحمة، يظهر التوكيد كأداة بلاغية تدفع المتلقي نحو الشعور بالطمأنينة والسَّكِينة؛ فعندما يقرأ المسلم مثلًا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [هود: 41]، لا يقتصر التوكيد هنا على إثبات صفة الرحمة، بل يتعدى ذلك ليغرس في وجدان المؤمن شعورًا عميقًا بالثقة برحمة الله، مما يزيد من قوة إحساسه بها، ويعزز رجاءه فيها؛ فالتوكيد هنا يعمِّق الإحساس العاطفيَّ، ويزيد من الأثر النفسي الإيجابي.

التوكيد في آيات العذاب:
أما في آيات العذاب، فيأتي التوكيد ليعزز الخوف والترهيب من العقاب؛ فعلى سبيل المثال، في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الطور: 7]، يبرز التوكيد هنا أداةً تزيد من وقع التحذير، وتُعمِّق الشعور بالخوف من العذاب، فالتركيز على حتمِيَّة وقوع العذاب باستخدام التوكيد يجعل القارئ أو المستمعَ يشعر بجلال الموقف، ويزيد من الرَّهبة التي تصاحب ذِكْرَ العقاب الإلهي.

التوكيد في آيات الهداية:
وفيما يخص آيات الهداية، يقوم التوكيد بدور مهمٍّ في تعزيز الثقة واليقين بطريق الله؛ على سبيل المثال، في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾ [آل عمران: 62]، يعزز التوكيد هنا الإحساس باليقين بأن ما جاء في القرآن هو الحقيقة المطلقة، مما يدفع المؤمن إلى التمسك بتعاليمه بكل عزيمة وإصرار؛ فالتوكيد هنا لا يقتصر على تأكيد المعنى، بل يعزز الشعور الداخليَّ بالثقة بما يوجهه النص القرآني.

إن تناول التوكيد في القرآن من منظور عاطفي لا يعني الاقتصار على التحليل النحوي البحت، بل يستدعي النظر في الأبعاد البلاغية والنفسية التي يُسهم التوكيد في إبرازها، فالتوكيد لا يثبت المعنى فقط، بل يضفي على النص طابعًا وجدانيًّا قويًّا يزيد من تأثيره على القلوب والنفوس، كما أن للتوكيد دورًا في التربية والإرشاد؛ حيث إنه يعزِّز من علاقة المؤمن بالله، ويقوِّي ثقته بتعاليمه.

يأتي هذا البحث ليُلقِيَ الضوء على دور التوكيد في القرآن الكريم من منظور جديد، يرتبط بالجانب العاطفي والنفسي، وذلك من خلال تحليل النصوص التي تعبر عن الرحمة، والعذاب، والهداية، ويهدف إلى تقديم فهم أعمقَ للتوكيد بوصفه أداةً بلاغية ونفسية، وليس مجرد وسيلة نحوية لتأكيد المعنى، إن هذا الموضوع يتسم بالجِدَّةِ والأصالة، ويقدم للباحثين والقُرَّاء فرصًا لمعرفة جوانب جديدة من جماليات القرآن الكريم، ودلالاته المتعددة.