ابو وليد البحيرى
2024-11-02, 11:07 AM
الْمُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ جل جلاله، وتقدست أسماؤه
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (المُقَدِّمِ).
ثانيًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (المُؤَخِّرِ).
ثالثًا: وُرُودُهُما فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
رابعًا: مَعْنَى الاسْمَينِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
خامسًا: ثَمَرَاتُ الإيِمَانِ بِهَذَينِ الاسْمَيْنِ.
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة ـ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ ـ لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً لله في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك(4).
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المُسْلِمِينَ بِاسْمَي (المُقَدِّمِ وَالمُؤَخِّرِ).
2- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى الدُّعَاءِ بِهَذِينِ الاسْمَينِ الكَرِيمَينِ.
3-تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى المُسَارَعَةِ فِي الطَّاعَاتِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ التَّقْدِيمَ إِلَى الجَنَّاتِ.
4- تَنْوِي تَحْذِيرَ المُسْلِمِ مِنَ التَّكَاسُلِ أَوِ التَّأْخُّرِ عَنِ الطَّاعَاتِ حَتَّى لَا يُؤَخِّرُهُ اللهُ.
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسمِ (المُقَدِّمِ):
المُقَدِّمُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ، فِعْلُهُ قَدَّمَ يُقَدِّمُ تَقْدِيمًا.
وَعِنْدَ البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ ت مَرْفُوعًا: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْت»[7].
وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيَمَانًا وَاحْتِسَابًا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[8].
وَالقَدَمُ: كُلُّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَتَقَدَّمَتْ لِفُلَان فيهِ قَدَمٌ، أَيْ تَقَدُّمٌ فيِ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالقَدَمُ والمُقَدِّمَةُ السَّابِقَةُ فِي الأَمْرِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2]، وَمَعْنَى قَدَمِ صِدْقٍ يَعْنِي عَمَلًا صَالِحًا قَدَّمُوهُ يُقَالُ: لِفُلَانٍ قَدَمُ صِدْقٍ أَيْ أَثَرَةٌ حَسَنةٌ، وَيَقُولُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ ﴾ [الحجر: 24]، قِيلَ مَعْنَاهُ لَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِي نَ مِنْكُمْ فِي طَاعَةٍ أَوْ مَنْ يَأْتِي مِنْكُمْ أَوَّلًا إِلَى المَسْجِدِ وَمَنْ يَأْتِي مُتَأَخِّرًا، أَوْ مَنْ يَتَقَدَّمُ مِنَ النَّاسِ عَلَى صَاحِبِهِ فِي المَوْتِ[9].
وَالُمقَدِّمُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ وِفْقَ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَالتَّقْدِيمُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الله فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ، كَوْنِي وَشَرْعِي، فَالتَّقْدِيمُ الكَوْنِي تَقْدِيرُ الله فِي خِلْقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَفِعْلِهِ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [سبأ: 30].
وَأَيْضًا مِنَ التِّقْدِيمِ المُتَعَلِّقِ بِالتَّدْبِيرِ الكَوْنِي، اصْطِفَاءُ الحَقِّ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَتَقْدِيمُ بَعْضِ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضِهِ، بِنَاءً عَلَى حِكْمَتِهِ فِي ابْتِلَاءِ المَخْلُوقَاتِ واصْطِفَاءِ مَنْ شَاءَ للِرِّسَالَاتِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، وَقَوْلِهِ عَنْ مَرْيَمَ: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42]، وَقَوْلِهِ عَنْ طَالُوتَ: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].
فَهَذَا اصْطِفَاءٌ وَتِقْدِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِالتَّدْبِيرِ الكَوْنِي، أَمَّا التَّقْدِيمُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَبَّةِ الله لِفِعْلٍ دُونَ فِعْلٍ، وَتَقْدِيمِ بَعْضِ الأَحْكَامِ عَلَى بَعْضِ لِمَا تَقْتَضِيهِ المَصْلَحَةُ الَّتِي تَعُودُ عَلَى العِبَادِ، كَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِي وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ ت أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلاَئكِتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ المُقَدَّمِ، وَالمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ»[10].
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ المُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةٌ»[11].
وَعِنْدَ أَبِي دَاودَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتِّمُّوا الصَّفَّ المُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فِي الصَّفِّ المُؤَخَّرِ»[12]، وَلَا عِبْرَةَ بِمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِي التَّقَدُّمِ إِلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ بِحُجَّةِ أَنَّ النَّاسَ يَطْلُبُونَ فِيهِ الأَجْرَ وَأَنَّ العِبَادَةَ الحَقِّ هِيَ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ مُقَابِلٍ[13].
وَعِنْدَ البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَسْرِعُوَا بِالجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخِيْرٌ تَقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عِنْ رِقَابِكُمْ»[14].
فَالمُقَدِّمُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ الأَشْيَاءَ يَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا عَلَى مُقْتَضَى الحِكْمَةِ والاسْتِحْقَاقِ ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ قَدَّمَهُ وَمَنِ اسْتَحَقَّ التَّأْخِيرَ أَخَّرَهُ، وَاللهُ تَعَالَى أَيْضًا هُوَ المُقَدِّمُ الَّذِي قَدَّمَ الأَحِبَّاءَ وَعَصَمَهُمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَقَدَّمَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَنْبِيَاءِ تَشْرِيفًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدَّمَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَاصْطَفَاهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَطَهَّرَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ[15].
ثانيًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المُؤَخِّرِ)
المُؤَخِّرُ فِي اللُّغَةِ عَكْسُ المُقَدِّمِ، فِعْلُهُ أَخَّرَ يُؤَخِّرُ تَأْخِيرًا، وَالتَّأْخِيرُ ضِدُّ التَّقَدُّمِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ عِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ت أَنَّهُ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ»[16].
وَعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «مَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ»[17].
وَعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ العَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ»[18].
وَالمُؤَخِّرُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُؤَخِّرُ الأَشْيَاءَ فَيَضَعُها فِي مَوَاضِعِهَا، وَإِمَّا تَأْخِيرًا كَوْنِيًّا كَمَا وَرَدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: اللهُمَّ أَمْتعْني بِزَوْجِي رَسُولِ الله وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَة وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ الله أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي القَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ»[19].
وَإِمَّا تَأْخِيرًا شَرْعِيًّا كَمَا وَرَدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَطِيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالآَخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، قَالَتْ أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: قُلْنَا عَبْدُ الله يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم»[20].
وَالمُؤَخِّرُ أَيْضًا هُوَ الَّذِي يُؤَخِّرُ العَذَابَ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ إِلَيْهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61]، وَقَالَ تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
فَالمُؤَخِّرُ هُوَ المُنَزِّلُ لِلأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ[21]، وَالفَرْقُ بَيْنَ الآَخِرِ وَالمُؤَخِّرِ أَنَّ الآَخِرَ دَلَّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالمُؤَخِّرَ دَلَّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ.
وَلَيْسَا فِي القُرْآَنِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَلَا وَرَدَ فِي القُرْآَنِ فِعْلٌ يُشْتَقُّ مِنْهُ مُقَدَّمٌ.
وَوَرَدَ فِعْلُ المُؤَخِّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ...؛ الحَدِيثُ.
وَفِيهِ: «أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ»[22]، خَرَّجَهُ الأَئِمَّةُ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الأُمَّةُ.
وَلَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآَخَرِ، قَالَهُ الحُلَيْمِي، وَكِلَاهُمَا ظَاهِرُ المَعْنَى، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الأَفْعَالِ، يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْفِضُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَرِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُبْعِدُ مَنْ يَشَاءُ، فَمَنْ قُدِّمَ فَقَدْ نَالَ المَرَاتِبَ العُلَى، وَمَنْ أُخِّرَ فَقَدْ رُدَّ إِلَى السُّفْلَى.
قَالَ الحُلَيْمِي: «المُقَدِّمُ هُوَ المُعْطِي لِعَوَالِي المَرَاتِبِ، والمُؤَخِّرُ هُوَ الدَّافِعُ عَنْ عَوَالِي الرُّتَبِ, فَقَرَّبَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ بِتَقْرِيبِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَأَخَّرَ أَعْدَاءَهُ بِإِبْعَادِهِ، وَضَرَبَ الحِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، قَدَّرَ المَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ، وَقَدَّمَ مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، وَرَفَعَ الخَلْقَ بَعضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ لِكُلِّ اعْتِبَارٍ، قَدَّمَ مَنْ شَاءَ وَأَخَّرَ مَنْ شَاءَ، فِي الخَلْقِ وَالرُّتْبَةِ، أَوِ الرُّتْبَةِ دُونَ الخَلْقِ، بِإِرَادَةٍ خَصَّصَهَا بِذَلِكَ وَهُوَ اللهُ تَعَالَى.
فَإِرَادَتُهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، ثُمَّ صَدَرَتِ المَوْجُودَاتُ مِنَ القُدْرَةِ عَلَى وِفْقِ الإِرَادَةِ مُتَدَرِّجَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَمُتَقَدِّمَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا صَرَّحَ القُرْآَنُ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةٌ فِي سِتَّةِ أَيْامٍ ـ فَالسَّمَوَاتُ مِنْهَا فِي يَوْمَينِ، وَالأَرْضُ بِمَا فِيهَا فِي أَرْبَعِةِ أَيَّامٍ ـ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِهِ (الخَالِقِ).
وَإِذَا كَانَ هَذَا فَحَقُّ الإِنْسَانِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ اللهُ، وَيُؤَخِّرَ مَا أَخَّرَهُ اللهُ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِهِ الخَافِضِ الرَّافِعِ، فَيُعِزُّ مَنْ أَعَزَّهُ اللهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ المُؤْمِنِينَ، وَيَهْجُرُ مَنْ أذَلَّهُ اللهُ بِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ إِذَا تَابَ، عَطَفَ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَهُ بِحَسَبِ دَرَجَتِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ ل: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ»[23]،(2).
ثالثًا: وُرُودَهُمَا فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ[24]:
1- وَرَدَا فِي حَديثِ أَبِي بُردَةَ بِنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[25].
2- وَوَرَدَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي وَصْفِهِ لِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُولُ:... ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِّ وَالتَّسْلِيمِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»[26].
3- وَوَرَدَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لك مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، ولِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حق، والنبيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَدٌ حَقٌّ، والسَّاعَةُ حَقْ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آَمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ»[27].
رابعًا: مَعْنَى الاسْمَينِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الخَطَّابِيُّ: «(المُقَدِّمُ) هُوَ المُنَزِّلُ لِلأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا، يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُؤَخِّرُ مَا شَاءَ، قَدَّمَ المَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ، وَقَدَّمَ مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ عَبِيدِهِ، وَرَفَعَ الخَلْقَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَقَدَّمَ مَنْ شَاءَ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى مَقَامَاتِ السَّابِقِينَ، وَأَخَّرَ مَنْ شَاءَ عَنْ مَرَاتِبِهِمَ وَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا، وَأَخَّرَ الشَّيْءَ عَنْ حِينِ تَوَقُّعِهِ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِي عَوَاقِبِهِ مِنَ الحِكْمَةِ، لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ»؛ قَالَ: «وَالجَمْعُ بَيْنَ هَذِينِ الاسْمَينِ أَحْسَنُ مِنَ التَّفْرِقَةِ»[28]، وقال الحليمي: «(المُقَدِّمُ): وَهُوَ المُعْطِي لِعَوَالِي الرُّتَبِ، وَمِنْهَا (المُؤَخِّرُ): وَهُوَ الدَّافِعُ عَنْ عَوَالِي الرُّتَبِ»[29]، وَقَالَ البَيْهَقِي: «(المُقَدِّمُ وَالمُؤَخِّرُ): هُوَ المُنَزِّلُ لِلْأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا، يَقُدِّمُ مَا يَشَاءُ وَمَنْ شَاءَ، وَيُؤَخِّرُ مَا شَاءَ وَمْنَ شَاءَ»[30]، وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: «فِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى (المُقَدِّمُ): هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ الأَشْيَاءَ وَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا، فَمَنِ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ قَدَّمَهُ[31].
وَقَالَ فِي (المُؤَخِّرِ): «هُوَ الَّذِي يُؤَخِّرُ الأَشْيَاءَ فَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَهُوَ ضِدُّ المُقَدِّمِ»[32]، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: «يُقَدّمُ مَن يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى رَحْمَتِهِ بِتَوْفِيقِهِ وَيُؤَخِّرُ مَنْ يَشَاءُ عَنْ ذَلِكَ لِخُذْلَانِهِ»[33].
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ:
وَهُوَ المُقَدِّمُ وَالمُؤَخِّرُ ذَانِكَ ال http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
صِّفَتَانِ للأَفْعَالِ تَابِعَتَانِ http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
وَهُمَا صِفَاتُ الذَّاتِ أَيْضًا إِذْ هُمَا http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
بِالذَّاتِ لَا بِالغَيْرِ قَائِمَتَانِ http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ/[34].
خامسًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَينِ:
1- مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ (المُقَدِّمُ) وَ(المُؤَخِّرُ)، وَهُمَا مِنَ الأَسْمَاءِ المُتقَابِلَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِفْرَادُ أَحَدِهِا عَنْ مُقَابَلِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي المُعِزِّ وَالمُذِلِّ، والخَافِضِ والرَّافِعِ، وَالقَابِضِ والبَاسِطِ، وَالمَانِعِ والمُعْطِي، وَنَحْوِهَا.
فَهُوَ سُبْحَانَهُ المُقَدِّمُ لِبَعْضِ الأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، إِمَّا تَقْدِيمًا كَوْنِيًّا، كَتَقْدِيمِ بَعْضِ المَخْلُوقَاتِ فِي الوَجُودِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَتَقْدِيمِ الأَسْبَابِ عَلَى مُسَبِّبَاتِهَا ، والشُّرُوطِ عَلَى مَشْرُوطَاتِهَا .
وَإِمَّا تَقْدِيمًا شَرْعِيًّا مَعْنَوِيًّا، كَتَفْضِيلِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى سَائِرِ البَشَرِ، وَتَفْضِيلِ بَعْضِ النَّبِييِّنَ عَلَى بَعْضٍ، وَتَفْضِيلِ العِبَادِ كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ المُؤَخِّرُ لِبَعْضِ الأَشْيَاءِ عَنْ بَعْضِ، إِمَّا بِالزَّمَانِ أَوْ بِالشَّرْعِ كَذَلِكَ.
وَالتَّقْدِيمُ والتَأْخِيرُ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الأَفْعَالِ التَّابِعَةِ لِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَهُمَا أَيْضًا صِفَتَانِ لِلذَّاتِ، إِذْ قِيَامُهَا بِالذَّاتِ لَا بِغَيْرِهَا.
وَهَكَذَا كُلُّ صِفَاتِ الأَفْعَالِ هِيَ مِنْ هَذَا الوَجْهِ صِفَاتٌ ذَاتٍ؛ حَيْثُ إنَّ الذَّاتَ مُتَّصِفَةٌ بِهَا، وَمِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِهَا بِمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الأَقْوَالِ والأَفْعَالِ تُسَمَّى صِفَاتِ أَفْعَالٍ.
وِلِهَذَا غَلَطَ عُلَمَاءُ الكَلَامِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ حِينَ ظَنُّوا أَنَّ هُنَاكَ نَوْعِينِ مُخْتَلِفَينِ مِنَ الصِّفَاتِ: أَحَدُهُمَا: قَائِمٌ بِالذَّاتِ لَازِمٌ لَهَا. كَصِفَاتِ المَعَانِي السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ:
1- العِلْمُ.
2- وَالقُدْرَةُ.
3- وَالإِرَادَةُ.
4- وَالحَيَاةُ.
5- والسَّمْعُ.
6- وَالبَصَرُ.
7- وَالكَلَامُ.
يتبع
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (المُقَدِّمِ).
ثانيًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (المُؤَخِّرِ).
ثالثًا: وُرُودُهُما فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
رابعًا: مَعْنَى الاسْمَينِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
خامسًا: ثَمَرَاتُ الإيِمَانِ بِهَذَينِ الاسْمَيْنِ.
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة ـ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ ـ لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً لله في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك(4).
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المُسْلِمِينَ بِاسْمَي (المُقَدِّمِ وَالمُؤَخِّرِ).
2- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى الدُّعَاءِ بِهَذِينِ الاسْمَينِ الكَرِيمَينِ.
3-تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى المُسَارَعَةِ فِي الطَّاعَاتِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ التَّقْدِيمَ إِلَى الجَنَّاتِ.
4- تَنْوِي تَحْذِيرَ المُسْلِمِ مِنَ التَّكَاسُلِ أَوِ التَّأْخُّرِ عَنِ الطَّاعَاتِ حَتَّى لَا يُؤَخِّرُهُ اللهُ.
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسمِ (المُقَدِّمِ):
المُقَدِّمُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ، فِعْلُهُ قَدَّمَ يُقَدِّمُ تَقْدِيمًا.
وَعِنْدَ البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ ت مَرْفُوعًا: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْت»[7].
وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيَمَانًا وَاحْتِسَابًا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[8].
وَالقَدَمُ: كُلُّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَتَقَدَّمَتْ لِفُلَان فيهِ قَدَمٌ، أَيْ تَقَدُّمٌ فيِ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالقَدَمُ والمُقَدِّمَةُ السَّابِقَةُ فِي الأَمْرِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2]، وَمَعْنَى قَدَمِ صِدْقٍ يَعْنِي عَمَلًا صَالِحًا قَدَّمُوهُ يُقَالُ: لِفُلَانٍ قَدَمُ صِدْقٍ أَيْ أَثَرَةٌ حَسَنةٌ، وَيَقُولُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ ﴾ [الحجر: 24]، قِيلَ مَعْنَاهُ لَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِي نَ مِنْكُمْ فِي طَاعَةٍ أَوْ مَنْ يَأْتِي مِنْكُمْ أَوَّلًا إِلَى المَسْجِدِ وَمَنْ يَأْتِي مُتَأَخِّرًا، أَوْ مَنْ يَتَقَدَّمُ مِنَ النَّاسِ عَلَى صَاحِبِهِ فِي المَوْتِ[9].
وَالُمقَدِّمُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ وِفْقَ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَالتَّقْدِيمُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الله فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ، كَوْنِي وَشَرْعِي، فَالتَّقْدِيمُ الكَوْنِي تَقْدِيرُ الله فِي خِلْقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَفِعْلِهِ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [سبأ: 30].
وَأَيْضًا مِنَ التِّقْدِيمِ المُتَعَلِّقِ بِالتَّدْبِيرِ الكَوْنِي، اصْطِفَاءُ الحَقِّ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَتَقْدِيمُ بَعْضِ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضِهِ، بِنَاءً عَلَى حِكْمَتِهِ فِي ابْتِلَاءِ المَخْلُوقَاتِ واصْطِفَاءِ مَنْ شَاءَ للِرِّسَالَاتِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، وَقَوْلِهِ عَنْ مَرْيَمَ: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42]، وَقَوْلِهِ عَنْ طَالُوتَ: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].
فَهَذَا اصْطِفَاءٌ وَتِقْدِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِالتَّدْبِيرِ الكَوْنِي، أَمَّا التَّقْدِيمُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَبَّةِ الله لِفِعْلٍ دُونَ فِعْلٍ، وَتَقْدِيمِ بَعْضِ الأَحْكَامِ عَلَى بَعْضِ لِمَا تَقْتَضِيهِ المَصْلَحَةُ الَّتِي تَعُودُ عَلَى العِبَادِ، كَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِي وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ ت أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلاَئكِتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ المُقَدَّمِ، وَالمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ»[10].
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ المُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةٌ»[11].
وَعِنْدَ أَبِي دَاودَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتِّمُّوا الصَّفَّ المُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فِي الصَّفِّ المُؤَخَّرِ»[12]، وَلَا عِبْرَةَ بِمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِي التَّقَدُّمِ إِلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ بِحُجَّةِ أَنَّ النَّاسَ يَطْلُبُونَ فِيهِ الأَجْرَ وَأَنَّ العِبَادَةَ الحَقِّ هِيَ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ مُقَابِلٍ[13].
وَعِنْدَ البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَسْرِعُوَا بِالجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخِيْرٌ تَقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عِنْ رِقَابِكُمْ»[14].
فَالمُقَدِّمُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ الأَشْيَاءَ يَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا عَلَى مُقْتَضَى الحِكْمَةِ والاسْتِحْقَاقِ ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ قَدَّمَهُ وَمَنِ اسْتَحَقَّ التَّأْخِيرَ أَخَّرَهُ، وَاللهُ تَعَالَى أَيْضًا هُوَ المُقَدِّمُ الَّذِي قَدَّمَ الأَحِبَّاءَ وَعَصَمَهُمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَقَدَّمَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَنْبِيَاءِ تَشْرِيفًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدَّمَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَاصْطَفَاهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَطَهَّرَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ[15].
ثانيًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المُؤَخِّرِ)
المُؤَخِّرُ فِي اللُّغَةِ عَكْسُ المُقَدِّمِ، فِعْلُهُ أَخَّرَ يُؤَخِّرُ تَأْخِيرًا، وَالتَّأْخِيرُ ضِدُّ التَّقَدُّمِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ عِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ت أَنَّهُ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ»[16].
وَعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «مَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ»[17].
وَعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ العَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ»[18].
وَالمُؤَخِّرُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُؤَخِّرُ الأَشْيَاءَ فَيَضَعُها فِي مَوَاضِعِهَا، وَإِمَّا تَأْخِيرًا كَوْنِيًّا كَمَا وَرَدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: اللهُمَّ أَمْتعْني بِزَوْجِي رَسُولِ الله وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَة وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ الله أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي القَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ»[19].
وَإِمَّا تَأْخِيرًا شَرْعِيًّا كَمَا وَرَدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَطِيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالآَخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، قَالَتْ أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: قُلْنَا عَبْدُ الله يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم»[20].
وَالمُؤَخِّرُ أَيْضًا هُوَ الَّذِي يُؤَخِّرُ العَذَابَ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ إِلَيْهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61]، وَقَالَ تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
فَالمُؤَخِّرُ هُوَ المُنَزِّلُ لِلأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ[21]، وَالفَرْقُ بَيْنَ الآَخِرِ وَالمُؤَخِّرِ أَنَّ الآَخِرَ دَلَّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالمُؤَخِّرَ دَلَّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ.
وَلَيْسَا فِي القُرْآَنِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَلَا وَرَدَ فِي القُرْآَنِ فِعْلٌ يُشْتَقُّ مِنْهُ مُقَدَّمٌ.
وَوَرَدَ فِعْلُ المُؤَخِّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ...؛ الحَدِيثُ.
وَفِيهِ: «أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ»[22]، خَرَّجَهُ الأَئِمَّةُ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الأُمَّةُ.
وَلَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآَخَرِ، قَالَهُ الحُلَيْمِي، وَكِلَاهُمَا ظَاهِرُ المَعْنَى، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الأَفْعَالِ، يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْفِضُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَرِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُبْعِدُ مَنْ يَشَاءُ، فَمَنْ قُدِّمَ فَقَدْ نَالَ المَرَاتِبَ العُلَى، وَمَنْ أُخِّرَ فَقَدْ رُدَّ إِلَى السُّفْلَى.
قَالَ الحُلَيْمِي: «المُقَدِّمُ هُوَ المُعْطِي لِعَوَالِي المَرَاتِبِ، والمُؤَخِّرُ هُوَ الدَّافِعُ عَنْ عَوَالِي الرُّتَبِ, فَقَرَّبَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ بِتَقْرِيبِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَأَخَّرَ أَعْدَاءَهُ بِإِبْعَادِهِ، وَضَرَبَ الحِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، قَدَّرَ المَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ، وَقَدَّمَ مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، وَرَفَعَ الخَلْقَ بَعضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ لِكُلِّ اعْتِبَارٍ، قَدَّمَ مَنْ شَاءَ وَأَخَّرَ مَنْ شَاءَ، فِي الخَلْقِ وَالرُّتْبَةِ، أَوِ الرُّتْبَةِ دُونَ الخَلْقِ، بِإِرَادَةٍ خَصَّصَهَا بِذَلِكَ وَهُوَ اللهُ تَعَالَى.
فَإِرَادَتُهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، ثُمَّ صَدَرَتِ المَوْجُودَاتُ مِنَ القُدْرَةِ عَلَى وِفْقِ الإِرَادَةِ مُتَدَرِّجَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَمُتَقَدِّمَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا صَرَّحَ القُرْآَنُ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةٌ فِي سِتَّةِ أَيْامٍ ـ فَالسَّمَوَاتُ مِنْهَا فِي يَوْمَينِ، وَالأَرْضُ بِمَا فِيهَا فِي أَرْبَعِةِ أَيَّامٍ ـ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِهِ (الخَالِقِ).
وَإِذَا كَانَ هَذَا فَحَقُّ الإِنْسَانِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ اللهُ، وَيُؤَخِّرَ مَا أَخَّرَهُ اللهُ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِهِ الخَافِضِ الرَّافِعِ، فَيُعِزُّ مَنْ أَعَزَّهُ اللهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ المُؤْمِنِينَ، وَيَهْجُرُ مَنْ أذَلَّهُ اللهُ بِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ إِذَا تَابَ، عَطَفَ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَهُ بِحَسَبِ دَرَجَتِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ ل: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ»[23]،(2).
ثالثًا: وُرُودَهُمَا فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ[24]:
1- وَرَدَا فِي حَديثِ أَبِي بُردَةَ بِنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[25].
2- وَوَرَدَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي وَصْفِهِ لِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُولُ:... ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِّ وَالتَّسْلِيمِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»[26].
3- وَوَرَدَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لك مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، ولِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حق، والنبيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَدٌ حَقٌّ، والسَّاعَةُ حَقْ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آَمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ»[27].
رابعًا: مَعْنَى الاسْمَينِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الخَطَّابِيُّ: «(المُقَدِّمُ) هُوَ المُنَزِّلُ لِلأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا، يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُؤَخِّرُ مَا شَاءَ، قَدَّمَ المَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ، وَقَدَّمَ مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ عَبِيدِهِ، وَرَفَعَ الخَلْقَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَقَدَّمَ مَنْ شَاءَ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى مَقَامَاتِ السَّابِقِينَ، وَأَخَّرَ مَنْ شَاءَ عَنْ مَرَاتِبِهِمَ وَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا، وَأَخَّرَ الشَّيْءَ عَنْ حِينِ تَوَقُّعِهِ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِي عَوَاقِبِهِ مِنَ الحِكْمَةِ، لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ»؛ قَالَ: «وَالجَمْعُ بَيْنَ هَذِينِ الاسْمَينِ أَحْسَنُ مِنَ التَّفْرِقَةِ»[28]، وقال الحليمي: «(المُقَدِّمُ): وَهُوَ المُعْطِي لِعَوَالِي الرُّتَبِ، وَمِنْهَا (المُؤَخِّرُ): وَهُوَ الدَّافِعُ عَنْ عَوَالِي الرُّتَبِ»[29]، وَقَالَ البَيْهَقِي: «(المُقَدِّمُ وَالمُؤَخِّرُ): هُوَ المُنَزِّلُ لِلْأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا، يَقُدِّمُ مَا يَشَاءُ وَمَنْ شَاءَ، وَيُؤَخِّرُ مَا شَاءَ وَمْنَ شَاءَ»[30]، وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: «فِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى (المُقَدِّمُ): هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ الأَشْيَاءَ وَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا، فَمَنِ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ قَدَّمَهُ[31].
وَقَالَ فِي (المُؤَخِّرِ): «هُوَ الَّذِي يُؤَخِّرُ الأَشْيَاءَ فَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَهُوَ ضِدُّ المُقَدِّمِ»[32]، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: «يُقَدّمُ مَن يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى رَحْمَتِهِ بِتَوْفِيقِهِ وَيُؤَخِّرُ مَنْ يَشَاءُ عَنْ ذَلِكَ لِخُذْلَانِهِ»[33].
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ:
وَهُوَ المُقَدِّمُ وَالمُؤَخِّرُ ذَانِكَ ال http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
صِّفَتَانِ للأَفْعَالِ تَابِعَتَانِ http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
وَهُمَا صِفَاتُ الذَّاتِ أَيْضًا إِذْ هُمَا http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
بِالذَّاتِ لَا بِالغَيْرِ قَائِمَتَانِ http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ/[34].
خامسًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَينِ:
1- مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ (المُقَدِّمُ) وَ(المُؤَخِّرُ)، وَهُمَا مِنَ الأَسْمَاءِ المُتقَابِلَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِفْرَادُ أَحَدِهِا عَنْ مُقَابَلِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي المُعِزِّ وَالمُذِلِّ، والخَافِضِ والرَّافِعِ، وَالقَابِضِ والبَاسِطِ، وَالمَانِعِ والمُعْطِي، وَنَحْوِهَا.
فَهُوَ سُبْحَانَهُ المُقَدِّمُ لِبَعْضِ الأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، إِمَّا تَقْدِيمًا كَوْنِيًّا، كَتَقْدِيمِ بَعْضِ المَخْلُوقَاتِ فِي الوَجُودِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَتَقْدِيمِ الأَسْبَابِ عَلَى مُسَبِّبَاتِهَا ، والشُّرُوطِ عَلَى مَشْرُوطَاتِهَا .
وَإِمَّا تَقْدِيمًا شَرْعِيًّا مَعْنَوِيًّا، كَتَفْضِيلِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى سَائِرِ البَشَرِ، وَتَفْضِيلِ بَعْضِ النَّبِييِّنَ عَلَى بَعْضٍ، وَتَفْضِيلِ العِبَادِ كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ المُؤَخِّرُ لِبَعْضِ الأَشْيَاءِ عَنْ بَعْضِ، إِمَّا بِالزَّمَانِ أَوْ بِالشَّرْعِ كَذَلِكَ.
وَالتَّقْدِيمُ والتَأْخِيرُ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الأَفْعَالِ التَّابِعَةِ لِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَهُمَا أَيْضًا صِفَتَانِ لِلذَّاتِ، إِذْ قِيَامُهَا بِالذَّاتِ لَا بِغَيْرِهَا.
وَهَكَذَا كُلُّ صِفَاتِ الأَفْعَالِ هِيَ مِنْ هَذَا الوَجْهِ صِفَاتٌ ذَاتٍ؛ حَيْثُ إنَّ الذَّاتَ مُتَّصِفَةٌ بِهَا، وَمِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِهَا بِمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الأَقْوَالِ والأَفْعَالِ تُسَمَّى صِفَاتِ أَفْعَالٍ.
وِلِهَذَا غَلَطَ عُلَمَاءُ الكَلَامِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ حِينَ ظَنُّوا أَنَّ هُنَاكَ نَوْعِينِ مُخْتَلِفَينِ مِنَ الصِّفَاتِ: أَحَدُهُمَا: قَائِمٌ بِالذَّاتِ لَازِمٌ لَهَا. كَصِفَاتِ المَعَانِي السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ:
1- العِلْمُ.
2- وَالقُدْرَةُ.
3- وَالإِرَادَةُ.
4- وَالحَيَاةُ.
5- والسَّمْعُ.
6- وَالبَصَرُ.
7- وَالكَلَامُ.
يتبع