تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شرح القواعد الفقهية للسعدي



ابو وليد البحيرى
2024-10-22, 10:38 AM
شرح القواعد الفقهية للسعدي – 1 –

رسالة في القواعد الفقهية


تأليف

العلاّمة الشيخ

عبدالرحمن بن ناصر السعدي

ـ رحمه الله ـ

شرح وتعليق فضيلة الشيخ

أبي عبدالله محمد بن حمد الحمود النجدي
( 1 ) الحمد للـــه العـــلي الأرفـــق وجـامــــع الأشيـــــاء والمفــــرّق
بهذا البيت بدأ الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى منظومته في القواعد الفقهية ، والقواعد جمع قاعدة والقاعدة هي أساس البناء ، وفي الاصطلاح حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته ، وبعبارة أخرى هي أصول فقهية كلية في نصوص موجزة مختصرة تتضمن أحكاماً تشريعية عامة ، وتمتاز كما قلنا بقصر العبارة ، والقواعد الفقهية أغلبية غير مطردة ، أغلبية يعني في الغالب أنها تنطبق على جميع الجزئيات لكن كما يقال : لكل قاعدة شواذ (1) 0
شرح القواعد الفقهية


تأليف

العلاّمة الشيخ

عبدالرحمن بن ناصر السعدي

ـ رحمه الله ـ

شرح وتعليق فضيلة الشيخ

أبي عبدالله محمد بن حمد الحمود النجدي
( 1 ) الحمد للـــه العـــلي الأرفـــق وجـامــــع الأشيـــــاء والمفــــرّق
بهذا البيت بدأ الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى منظومته في القواعد الفقهية ، والقواعد جمع قاعدة والقاعدة هي أساس البناء ، وفي الاصطلاح حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته ، وبعبارة أخرى هي أصول فقهية كلية في نصوص موجزة مختصرة تتضمن أحكاماً تشريعية عامة ، وتمتاز كما قلنا بقصر العبارة ، والقواعد الفقهية أغلبية غير مطردة ، أغلبية يعني في الغالب أنها تنطبق على جميع الجزئيات لكن كما يقال : لكل قاعدة شواذ (1) 0
قال : الحمد لله العلي الأرفق : الحمدُ : أن تحمد الله سبحانه وتعالى بصفات كماله وبأسمائه الحسنى كسعة علمه وكثرة رزقه وسعة قدرته وحكمته والله تعالى كامل الأسماء والصفات والأفعال ، ليس في أسمائه اسم مذموم وليس في صفاته صفة مذمومة بل أسمائه كلها حسنى وأفعاله كلها عُلى ، ليس في صفاته ولا في أفعاله صفة نقص وعيب ، وهو محمود على هذه الأسماء والصفات والأفعال 0
الله : هو مأخوذ من المألوه يعني المعبود ، وهو على الصحيح(2) الاسم الأعظم لله عزوجل لأن هذا الاسم لا يطلق على غير الله ، وكل الأسماء الحسنى تضاف إليه { هو الله الذي لا إله إلا هوعالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم . هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن }(3) ثم إن هذا الاسم من خصائصه أن الألف واللام لا تسقطان عنه أبداً عندما تنادي يا رحمن ويا رحيم تسقط الألف واللام ، لكن إذا ناديت الله تقول : يا الله ولا تسقط الألف واللام 0
العلي : الذي له العلو المطلق التام ، وعلو الله عزوجل له ثلاثة معاني :
(1) علو الذات (2) علو القدر والصفات (3) علو القهر على العباد
وكل هذه الوجوه ثابتة له سبحانه وتعالى 0
الأرفق : يعني الرفيق ، الأرفق صيغة مبالغة ، فالله تعالى رفيق في أفعاله ، أفعاله كلها رفق وفي غاية المصلحة والحكمة للخلق ، وقد أظهر الله تعالى لعباده من مظاهر رفقه آثاراً يستدلون بها على رفقه بعباده وخلقه ، فمن ذلك ما ذكره الشارح وهو المصنف نفسه أن الله تعالى قد خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة وذلك ليعلم الخلق أن الأمور العظيمة لا يستعجل فيها ، وكذلك خلق الإنسان والحيوانات والنباتات كلها شيئاً بعد شيء ، هذا التدرّج في الخلق له حكمة عظيمة ، يعني كون الإنسان يتدرّج في الأمور العظيمة له حكمة حتى يبدأ من القلة إلى الكثرة ، من الضعف إلى القوة ، ويبدأ بالنقص وينتهي بالكمال ، ومن رفقه سبحانه وتعالى بعباده أن هيّأ لهم كل ما يحتاجونه من مصالح في الدنيا ، فما في السماوات وما في الأرض مسخرة للإنسان { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض }(4) هذا من رفق الله ، فسخر لنا الشمس والقمر وسخر لنا الليل والنهار وسخر لنا الأنهار والبحار والأمطار والنباتات والحيوانات كلها مسخرة للإنسان ، كما أن من رفقه أنه يهدي الضالين إلا من سبق في علم الله تعالى أنه لا يستحق الهداية لخبثه وقبح معدنه 0
وقوله : وجامع الأشياء والمفرق : الله تعالى يجمع الأشياء ويفرّق ، يجمع بين أشياء من خلقه لتحصل بها منافع ويفرّق وله في ذلك سبحانه وتعالى حكمة ومصلحة ورحمة ، فمثلاً الناس يجتمعون في كونهم يولدون من أب وأم ، ولكنهم يفترقون في الأشكال وفي الصفات وفي الأخلاق وفي السواد والبياض والطول والقصر والقوة والضعف وغير ذلك من الصفات كالحسن والقبح ، وهذا كله صادر عن حكمة عظيمة كما قلنا ويدل على قدرة الله تعالى التي لا يعجزها شيء 0
( 2 ) ذي النعــم الواسعــة الغزيـــرة والحِـــــكَــم ِ البــــاهـرة الـكثـيـــرة
هذا البيت أيضاً لبيان سعة نعمة الله تعالى على عباده ، وأن عطاياه كثيرة شاملة لجميع خلقه ، يعني تسع جميع الخلق ، فمن في السماوات ومن في الأرض كلهم يتقلب في رحمة الله تعالى ونعمته في الدنيا ، أما في الآخرة فإن الرحمة مقصورة على المؤمنين ، فلا يمكن أن يخلو المخلوق من رحمة الله عزوجل طرفة عين لا سيما الإنسان فإن الله كما قال { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً }(5) هذا الآدمي ما يخلو من نعمة الله ولو طرفة عين ومع ذلك كما قال الله عزوجل { وقليل من عبادي الشكور }(6) وقال سبحانه وتعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم }(7) ، الحكمة في الإتيان بالغفور والرحيم في هذه الآية يعني أن الله يعفو عنكم تقصيركم في شكر النعمة لأنك لو سجدت لله عزوجل من يوم أن تخلق إلى أن تموت لا توفّي نعمة الله عليك ، ولهذا يقع تقصير في شكر النعمة فجاء بالغفور الرحيم ، أي أن الله عزوجل يرضى من عبده قليل الشكر ، وهو الاعتراف بهذه النعمة والتحدّث بها وصرفها في طاعة الله ، وأن لا تستعين بشيء من نعمة الله على معصية الله 0
قوله : والحكم الباهرة الكثيرة : يعني أن حكمة الله تعالى تبهر العقول ، أي تندهش العقول من حكمة الله سبحانه وتعالى وتتعجب منها أشد العجب ، بل إن من حكم الله عزوجل ما لا تحيط العقول به ، من الحكم ما لا يدركه الإنسان بعقله لأن الحكمة أعظم من عقلك ، قال سبحانه { فلله الحجة البالغة }(8) فالله تعالى له حجج وحكم عظيمة باهرة ، ومن نظر في الكون وفي عجائب الكون تجلّت له هذه الحكم الكثيرة ، بل كما قال الله عزوجل لو نظر الإنسان إلى نفسه لانبهر من إحكام الخلق وعجائب الخلق فيه { وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون }(9) 0
( 3 ) ثم الصــــلاة مع ســــلام دائـــــم على الــرسول القرشيَّ الخـاتـــم
الصلاة من الله تعالى الصحيح فيها أنها ثناء الله تعالى على عبده في الملأ الأعلى كما قال أبوالعالية(10) ، وصلاتنا على نبينا عليه الصلاة والسلام هو طلبنا أن يفعل الله عزوجل به ذلك ، والسلام عليه دعاء لدفع الشرور عنه والآفات ، وهو من حقه عليه الصلاة والسلام علينا فإنه سبب سعادتنا في الدنيا والآخرة ، فأقل القليل أن نؤدي حقه علينا بالصلاة والسلام عليه ، ولهذا صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (( البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ))(11) لأنه بخل برد الجميل والقيام بالحق والواجب 0
قوله : على الرسول القرشيَّ الخاتم : رسولنا عليه الصلاة والسلام قرشيّ من قريش ، عربيّ ، هذه من صفاته ، ومن صفاته أنه خاتم يعني ختمت به الرسل والأنبياء فلا نبي بعده 0
( 4 ) وآلــــه وصـــحبــه الأبـــرار الـــحــائـــــ ز بمراتب فــخـــــــار
آل النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه إلى يوم القيامة كما قال الشارح ، فكل من تبع النبي صلى الله عليه وسلم فهو من آله ، وأولى الناس بذلك أصحابه وأهل بيته هم أولى الناس بذلك 0
وقوله : وصحبه الأبرار : من باب عطف الخاص على العام تنبيهاً على الشرف ، يعني الأصحاب يدخلون في الآل لكن ذكرهم وخصّهم بالذكر تشريفاً لهم 0
وقوله : الحائزي مراتب الفخار : فإن الصحابة رضي الله عنهم حازوا مراتب الفخار وأعلى درجات الإيمان والإحسان كما قال عليه الصلاة والسلام (( لا تَسبُّوا أصحابي فلو أَنفقَ أحدُكم مثلَ أحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه ))(12) فهم قد بلغوا أعلى المراتب في العمل الصالح وتحصيل العلم النافع والتسابق إلى الخيرات والتنافس فيها فلا يدركهم أحد في هذه المنزلة 0
( 5 ) اعـلــم هـديت أن أفضـــل المـنـــن عـــلـم يـزيــل الشــك عنـك والــدرن ( 6 ) ويكشـــــف الحـق لـذي القـلــــوب ويـوصــل الـعـبــــد إلـى المــطـلـــوب
يعني في هذين البيتين أن منن الله سبحانه وتعالى ونعمه على العبد كثيرة جداً ، لكن أفضل المنن : العلم الذي يزيل الشك عنك والدرن ، والعلم الذي يزيل الشك ويزيل عنك الدرن والوسخ ( أي عن القلب ) هو العلم النافع : علم القرآن والسنة ، فالشك والدرن الذي هو قذر القلب الحاصل بالشهوات المحرمة من أمراض القلوب ، الشهوات والشبهات ، فالعلم النافع هو الذي يزيل عنك الشبهات لأن حجج المشركين والزنادقة والملحدين والفاسقين هي في الحقيقة شبهات وليست حججاً ، فالعلم النافع يزيل عنك شبهات شياطين الإنس والجن ، لأنهم يستفيدون من بعضهم البعض بل إن الناظر في حجج المشركين والملاحدة والزنادقة من الملل يجد أن حججهم واحدة على مر العصور واختلاف الدهور ، كما قال الله عزوجل { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم }(13) ، وقال سبحانه وتعالى { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحرٌ أو مجنون * أتواصوا به }(14) يعني : هل كان يوصي بعضهم بعضاً بهذه الشبهات { بل هم قوم طاغون } ، فكأنّ الكفار يلقّن بعضهم بعضاً ، ونحن اليوم نجد أن الشبهات حول الدعاة والدعوة والشريعة الإسلامية واحدة على اختلاف الأيام ، فما كتبه الزنادقة بالأمس ردده المستشرقون وأخذه عنهم أذنابهم من العرب ، وإلى اليوم أذناب المستشرقين والملاحدة والفسقة يرددون ما قاله أسيادهم منذ زمن طويل 0
فالشبهات تورث الشك ، والشهوات تورث درن القلب وقسوته وقذارته ، وهو ما يثبط الإنسان عن الطاعات ، فعلامة العلم النافع أنه يزيل عنك الشبهات ويقضي عليها ، وأيضاً يدفع عنك المرض الحاصل بالشهوات المحرمة ، ويقول الشيخ في شرحه : إن العلم النافع يجلب للعبد في مقابل الشهوات والشبهات أمرين عظيمين نافعين :
الأول اليقين : يدفع الشك ويأتي باليقين ، والثاني : أنه يدفع الشهوات ويأتي بالإيمان التام والإذعان لأوامر الله سبحانه وتعالى ، فالإيمان التام يثمر الطاعات ويثمر الانقياد لله والرسول الذي هو ضد الشهوات ، لأن الشهوات المحرمة تضاد ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا تتم سعادة العبد إلا باجتماع هذين : اليقين مع الإيمان الذي فيه كمال الانقياد للشرع ، وبهما تنال الإمامة في الدين ، كما قال سبحانه وتعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا }(15) أي على الطاعة وعن المعصية { وكانوا بآياتنا يوقنون } أي صار عندهم يقين بما حصلّوه من العلم النافع ، فهذا يدلنا على أن أفضل المنن التي يمن الله سبحانه وتعالى بها على عباده هي : العلم النافع الذي يكشف الحق لذي القلوب ويوصل العبد إلى المطلوب ، وقال العلماء إن درجات اليقين ثلاثة : كل واحدة أعلى من الثانية : علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين ، أما علم اليقين فعلم المؤمنين بالجنة والنار وبعث الرسل وما أشبه ذلك ، وعين اليقين إذا رأى الناس الجنة والنار يوم القيامة بأعينهم ، وحق اليقين إذا دخل المؤمن إلى الجنة بنفسه وأكل من طعامها وشرب من شرابها 0
( 7 ) فـاحرص عــلى فهمك للقـــواعـــد جـــامــعــة الــمــــسائـــ ل الشــــوارد
نحن شرحنا معنى القاعدة ، أن القاعدة الفقهية أصول كلية مختصرة تضبط مسائل كثيرة ، وأصول الفقه هي مجموعة القواعد المستخدمة في استنباط الأحكام العملية الشرعية من أدلتها التفصيلية مثل : الأمر يفيد الوجوب والنهي يفيد التحريم(16) ، أما القواعد الفقهية فهي أمر كلي جامع يدخل تحته كثير من الجزئيات ، وهو أمر أغلبي لأن لكل قاعدة شواذ ، فلذلك قال : فاحرص على فهمك للقواعد جامعة المسائل الشوارد ، لأن القاعدة تشمل لك مسائل كثيرة شوارد ، مسألة في كتاب الإقرار ، ومسألة في البيوع ، ومسألة في الصلاة ، تجد قاعدة واحدة تشمل هذه المسائل كلها مثل : أن اليقين لا يزول بالشك ، كم يدخل تحتها هذه من أبواب ؟ كثير جداً ، ومثل : الضرورات تبيح المحظورات ، فيدخل تحت هذه القاعدة مسائل كثير جداً ، فلذلك قال :
( 8 ) فترتقي في العلم خـــيــر مرتقـى وتـقـتـــفي سبــل الـذي قـد وفــقـــا
العلم بالقواعد أهم من العلم بالمسائل ، بعض الناس يحرص على حفظ المسائل : من فعل كذا فعليه أن يفعل كذا ، من وقع في كذا فالحل أنه يقول كذا وكذا ، هذا طيب لكن القاعدة أهم ، لأن القاعدة تدخل تحتها ما شاء الله من المسائل ، وأنت إذا فهمت القواعد بعد ذلك أي مسألة ترد عليك تستطيع أن تعرف الجواب عنها ، لكن لو حفظت عشرة آلاف مسألة وجاءتك مسألة جديدة وأنت لا تعرف القواعد لم تعرف الجواب عنها ، لأنك ما حفظت هذه المسألة ، لذلك بيّن العلامة السعدي رحمه الله أن الحرص على فهم القواعد يرتقي بالعبد للفهم ، ثم قال :
( 9 ) هـــذه القـواعــد نظمتـهــــا من كـتب أهـل العــلـم قـد حَصَّلْتـهـــا
(10 ) جزاهُم المولى عظيمَ الأجــر والعــفـــــو مـع غـفرانــه والــبــــر
هذه القواعد التي نظمها هنا الشيخ أخبر أنه حصلها من كتب أهل العلم ، فهو قد جمعها من كتبهم ودعا الله عزوجل أن يجزيهم عظيم الأجر وأن يعفو عنهم ويغفر لهم ، وقد ألف العلماء كتباً في القواعد منها : القواعد لابن رجب وهو كتاب من أنفس ما كتب في القواعد ، ومنها أيضاً كتاب القواعد النورانية من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ومنها أيضاً مما كتبه المعاصرون القواعد الفقهية لمصطفي الزرقا ، وهناك أيضاً القواعد الفقهية للهندي ، فهذه بعض الكتب المؤلفة في القواعد(17) ، وتجد الكلام عليها أيضاً مبثوثاً في ثنايا الكتب الفقهية ، وهي كما قلنا من أقوى الأسباب لتسهيل العلم وفهمه وحفظه ،لأنها تجمع المسائل المتفرقة بكلام جامع 0
—————————— —————————— ——————–
(1) أنظر في تعريف القاعدة : القواعد الفقهية الكبرى للدكتور السدلان ـ (12 ـ 11) ، المنثور في القواعد للزركشي ـ مقدمة التحقيق (9 ـ 17) ، والقواعد الفقهية للندوي ـ (39) وما بعدها 0
(2) أنظر : النهج الأسمى (1/63ـ69) 0
(3) سورة الحشر (22ـ23) 0
(4) سورة الجاثية (13) 0
(5) سورة الإسراء (70) 0
(6) سورة سبأ (13) 0
(7) سورة النحل 0
(8) الأنعام (149) 0
(9) الذاريات (20-21) 0
(10) رواه البخاري (8/392 ـ فتح ) 0
(11) رواه الترمذي وأحمد من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ( إراواء الغليل ـ 1/35) 0
(12) رواه البخاري من حديث أبي سعيد (7/25 ـ فتح ) ، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة (16/93 ـ نووي ) ، 0
(13) سورة البقرة (118) 0
(14) سورة الذاريات (52-53) 0
(15) سورة السجدة (24) 0
(16) أنظر الفرق بين القاعدة الفقهية وأصول الفقه : القواعد الفقهية الكبرى للدكتور السدلان (20 ـ 22) ، المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي الشافعي ـ مقدمة التحقيق (40 ـ 42) 0
(17) لمعرفة الكتب المؤلفة في القواعد ـ أنظر : المجموع المذهب في قواعد المذهب ( مقدمة التحقيق / 50 ـ79)

ابو وليد البحيرى
2024-10-24, 07:20 AM
شرح القواعد الفقهية للسعدي – 2 –

رسالة في القواعد الفقهية




تأليف
العلاّمة الشيخ
عبدالرحمن بن ناصر السعدي
ـ رحمه الله ـ
شرح وتعليق فضيلة الشيخ
أبي عبدالله محمد بن حمد الحمود النجدي

(11) النـيـة شــرط لسـائـر العمــل
بهــاالصـــلاح والفساد للعمل
أول هذه القواعد التي ابتدأ بها المصنف رحمه الله تعالى قوله : النية شرط لسائر العمل ….. ، هذه القاعدة قاعدة عظيمة متعلقة بنية العبد ، ونية الإنسان عليها مدار الصلاح بالقول والعمل ، وصلاح الأعمال سواء كانت أعمالا بدنية كالصلاة ، أو مالية كالزكاة ، أو مركبة منهما كالحج والجهاد ، صلاح هذه الأعمال كلها بالنية وفساد هذه الأعمال بالنية أيضاً ، فإذا صلحت النية صلحت الأقوال والأعمال وإذا فسدت النية فسدت الأقوال والأعمال ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ))(1) 0
يعبر أصحاب كتب القواعد عن هذه القاعدة بقولهم : ( الأمور بمقاصدها ) هذه قاعدة فقهية عظيمة ، وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس التي يرجع إليها اكثر القواعد ، وقد بين العلماء أن للنية مرتبتان كما بين الشارح(2) هنا أيضاً : أحدهما : تمييز العادة عن العبادة فالنية تميز العادة عن العبادة ، إنسان يقوم ويغتسل يقصد التبرد لا يصلح أن يكون غسله هذا نائباً عن غسل الجنابة أو عن غسل الجمعة ، لأنه لم يقصد غسل الجنابة أو الجمعة إنما قصد التبرد عادة ، إنسان ترك الطعام من الفجر إلي مغيب الشمس ولم ينو الصيام ولم يقصد الصيام ، فهذا لم تحصل له العبادة ، لأن النية لم توجد نية التقرب إلي الله عز وجل بهذا العمل لم توجد ، فإذاً النية تميز بين العادة والعبادة 0
المرتبة الثانية : أن النية تميز بين العبادات نفسها بين الفرض والسنة المؤكدة ، وبين السنن والنوافل ، وبين الفرض والكفارة ، وهكذا فالنية تميز العبادات بعضها عن بعض ، فالإنسان إذا دخل المسجد ونوى أن يصلى سنة الظهر القبلية لو شغل بعد ذلك وهو قد صلى أربع ركعات هل يصح أن يقول هذه عن صلاة الظهر ؟ لا يصح لأنه قصد السنة القبلية ، إذاً فالنية تميز العبادات بعضها عن بعض وتميز العبادات عن العادات 0
وأيضاً النية لها أمر ثالث يقصده علماء السلوك والوعظ ، ألا وهو : الإخلاص وهو أن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تعالى لا يريد جزاء من الناس ولا شكورا ، فإذا نوى بصلاته ثناء الناس فليس له عند الله أجر ، إذا قصد بصدقته ثناء الناس بأنه محسن وجواد لم يحصل له به أجر ، إذا نوى بجهاده نصرة قومه فقط حمية وعصبية دون أن يكون له قصد في نشر الإسلام ، أو في رفع كلمة الله ، أو في الدفاع عن حرمة المسلمين ، فإن هذا لا أجر له في جهاده فلابد أن ينوى بأعماله وجه الله تعالى ، وقد قال العلماء : إن من نوى بعمله الجنة أو قصد الدخول إلي الجنة ورؤية وجه الله سبحانه وتعالى أو قصد بعمله النجاة من النار ، كل هذا لا يخالف الإخلاص . ويمكن للإنسان بنيته الصالحة أن يؤجر على طعامه وشرابه ونكاحه بأن ينوى التقوى على طاعة الله أن ينوى بالطعام والشراب أن يتقوى به على طاعة الله ، وينوى أيضاً بجماعه العفاف عن الحرام ، وينوى بنومه أن يتقوى على العبادة فتنقلب المباحات في حقه إلى مستحبات ، وطرق لكسب الحسنات والدرجات ، ويقصد كذلك مثلاً بنكاحه تكثير الأمة ، وإيجاد الشباب المسلم من نسله الذي يحمل القرآن ويدافع عن الإسلام 0
أما ما يقصد العبد تركه مثل ترك النجاسة والتنزه عنها أو غسلها فإن هذا لا يحتاج إلى نية ، لو أن إنساناً غسل ثوبه من النجاسة وتطهر منه ، فهذا لا يحتاج إلى نية ، سواء نوى أو لم ينو ، فالنية إنما تكون في المأمور ، فالمأمور به لابد له من نية ، وأما ما يقصد تركه فهذا لا يحتاج فيه إلى نية ، وأيضاً مثلوا لذلك أداء الديون ، من أدى دينه فقد سقط من ذمته وبرئت ذمته ولو لم ينو براءة الذمة 0
بالنية السيئة أيضاً قد تنقلب بعض المباحات إلى محرمات ، مثل إنسان يأكل ليتقوى بالطعام على جريمة ما ، على سرقة أو أن يعتدي على إنسان ، فطعامه في هذه الحالة يكون حراماً عليه ، ومثل إنسان يتزوج ثانية من أجل أن يضر الأولى ويقصد بزواجه بالثانية مضارة الأولى ، فهذا زواجه يكون حراماً ، لأنه نوى به شيئاً محرماً ألا وهو المضارة والاعتداء . وللنية مباحث طويلة وقد قال أئمة الإسلام أن حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه لا يكاد باب من أبواب الفقه إلا وتجد للنية فيه مدخلاً ولهذا عبر الفقهاء عنها بقولهم ( الأمور بمقاصدها)0
(12) الـدين مبنــي عـلى المصالح
في جـلـبهــا والــدرء للقبـائــح
هذا أصل عظيم وقاعدة عظيمة من قواعد الدين العامة ، فالدين كله مبني على تحصيل المصالح في الدنيا والآخرة ، ودرء المفاسد في الدنيا والآخرة ، إذ ما أمر الله سبحانه وتعالى بأمر إلا وفيه مصلحة ، حتى قال بن القيم رحمه الله تعالى : (( إذا رأيت الأمر يخلو عن المصلحة وعن الحكمة والعدل والرحمة فاعلم أنه ليس من دين الله ))(3) يعني إذا رأيت أمراً ليس فيه مصلحة ولا عدل ولا رحمة ولا حكمة فاعلم أن هذا الأمر ليس من دين الله ، وهو قول أهل السنة والجماعة بخلاف المعتزلة الذين قالوا : إن الله عزوجل قد يأمر أمراً لا يكون تحته فائدة ولا مصلحة ! وهذا باطل ، واحتجوا بقول الله عزوجل { لايسئل عما يفعل وهم يسألون }(4) وهذه الآية لا حجة فيها لما ذهبوا إليه بل الصواب أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل شيئاً عبثا { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعلى الله الملك الحق }(5) يعني يتعالى الله عز وجل عن فعل مالا حكمة تحته ولا مصلحة تحته ولا رحمة تحته ، فأفعال الله عزوجل كلها حكمة كما قال تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }(6) فقد تخفى علينا الحكمة ، ماالحكمة من جعل صلاة الظهر أربعاً والعصر أربعاً والمغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً ؟ قد تخفى علينا الحكمة في أعداد الركعات ، لكن هل نقول إن هذه ليست لحكمه ؟ بل هي لحكمة وحكمة عظيمة بالغة ، فكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به من الأوامر يحصل المصالح للعبد في الدين والدنيا ، وكل ما نهى الله عنه لم ينه عنه إلا لمضرته ، وقد يخفى على الإنسان وجه المضرة في هذا الباب ، لكنه إن تركه امتثالاً لأمر الله ، واعتقاداً أن الله سبحانه وتعالى لم يبخل على الإنسان فحرّم عليه المحرمات بخلاً ، إنما حرمها عليه رفقاً به ورحمة ومصلحة ، هذا يجب أن يعتقده الإنسان المسلم وإن كان لا يحيط به ، فليس كل العلوم يقدر على الإحاطة بها ، ولا كل شئ يمكن أن يعلمه ويصل إلى غايته ومصلحته 0
ومن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وبما يجب له من الأسماء الحسنى والصفات العلى قال الشارح(7) رحمه الله : ( فالتوحيد مشتمل على صلاح القلوب وسعتها ونورها وانشراحها وزوال أدرانها أدران الشرك والشك والشبهات ، وأعظم ما نهى الله الشرك في العبادة والشرك في الأسماء والصفات ، الذي هو فساد وحسرة في القلوب والأبدان والدنيا والآخرة ، فكل خير في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات التوحيد ، وكل شر في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات الشرك 0
ومما أمر الله به : الصلاة والزكاة والصيام والحج الذي من فوائد هذا انشراح الصدر ونوره وزوال همومه وغمومه ونشاط البدن وخفته ونور الوجه وسعة الرزق والمحبة في قلوب المؤمنين وفي الزكاة والصدفة ووجوه الإحسان زكاة النفس وتطهيرها وزوال الوسخ والدرن عنها ودفع حاجة أخيه المسلم وزيادة بركة ماله ونماؤه وما في هذه الأعمال من عظيم ثواب الله الذي لا يمكن وصفه ومن حصول رضاه الذي هو أكبر من كل شيءٍ وزوال سخطه 0
وكذلك شرع لعباده الاجتماع للعبادة في مواضع ، كالصلوات الخمس ، والجمعة ، والأعياد ، ومشاعر الحج ، والاجتماع لذكر الله ، والعلم النافع ، لما في الاجتماع من الاختلاط الذي يوجب التوادد والتواصل ، وزوال التقاطع والأحقاد بينهم ، ومراغمة الشيطان الذي يكره اجتماعهم على الخير ) ا.هـ 0
لاحظ ماذا في اجتماع المؤمنين والأخوّة في الله ماذا يكون في اجتماعهم من خير وتواصل وتوادد ، وزوال التقاطع ، ومراغمة الشيطان الذي يكره الاجتماع ويحب التفرق ، فلا يسعى في الفرقة إلا من جهل هذه المصالح ، فمن المسلمين من يفارق إخوانه على أتفه الأسباب وينسى هذه المصالح العظيمة التي ذكرناها !ثم قال رحمه الله : ( وحصول التنافس في الخيرات ، وإقتداء بعضهم ببعض ، وتعليم بعضهم بعضاً ، وتعلم بعضهم من بعض ، وكذلك حصول الأجر الكثير الذي لا يحصل بالانفراد ، إلى غير ذلك من الحكم ) ا.هـ 0
صلاة الفذ ليست مثل صلاة الجماعة ، المسجد الذي يكثر عدد رواده أعظم أجراً في الصلاة من المسجد القريب ، لذلك كره السلف كثرة المساجد التي تفرق المؤمنين ، كما أشار الله عز وجل إلى مسجد الضرار { وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين }(8) 0
ثم قال رحمه الله : ( وأباح سبحانه البيع والعقود المباحة ، لما فيها من العدل ، ولحاجة الناس إليها …..إلى آخر ما قال رحمه الله ) ا.هـ 0
ولنعلم يا أخوة أن المصلحة المعتبرة هي ما جاءت بها الشريعة ، أما ما جاءت الشريعة بإلغائه وباعتبار فساده ، فهذا لا يسمى مصلحة وإن عده الكفار مصلحة ، فقد يرى بعض الناس أن الربا مصلحة لكن الربا في الإسلام فساد وضرر ، فإذاً المصالح ما جاءت الشريعة باعتبارها ، والمفاسد ما جاءت الشريعة بنفيها وتقليلها وإبعادها ، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى ما قاله بن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة وغيره 0
(13) فإن تَزَاحَم عَــدَد المصالح
يقدّم الأعلى مـن المصالـــح
يعني إذا تزاحمت المصالح بحيث أنه لا يمكن الجمع بين المصلحتين ففي هذه الحالة يفعل أعلى المصلحتين ويفوّت الأدنى منهما ، لكن إذا كان يمكن الجمع بين المصلحتين قام بالمصلحتين جميعاً ، أما كلامنا هنا فعن التزاحم ، عن تزاحم المصالح يعني لا يمكن للإنسان أن يأتي بالمصلحتين معاً ، يستحيل عليه ذلك ، ففي هذه الحالة يراعى الأكبر من المصلحتين .
الأمثلة على ذلك : إذا كان إحدى المصلحتين واجباً والآخر سنة يقدم الواجب على السنة مثل إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا صلاة غيرها ، لا يجوز للإنسان أن يشتغل بالسنة عن المكتوبة ، وكذلك إذا ضاق الوقت بحيث أنه لم يعد يسع إلا المكتوبة ، مثل : إنسان استيقظ قبل طلوع الشمس بمقدار لا يسمح له إلا بصلاة الفجر ، فهل يصلى الراتبة حتى تطلع الشمس أم يبدأ بالمكتوبة ثم يصلي الراتبة ؟ يبدأ بالمكتوبة لئلا يضيع عليه الفرض 0
كذلك قالوا إذا لم يبق بين المسلم وبين رمضان إلا عدد الأيام التي أفطرها فلا يجوز له أن يشتغل بتنفل ، لأنه لم يبق إلا أيام تسمح له بقضاء الواجب من رمضان السابق ، فإذاً إذا تعارض الفرض والنافلة أو السنة يقدم الفرض 0
وإذا كانت المصلحتان واجبتين يقدم الأوجب ، مثل : أن يتعارض صيام القضاء من رمضان مع صيام النذر ، يقدم الأوجب وهو صيام القضاء ، لأن ما أوجبه الله أعظم مما أوجبه هو على نفسه بالنذر ، إذا تعارضت أو ضاقت النفقات مثلاً : كان ينفق على بيته وأولاده وينفق على أقاربه ، ثم ضاقت النفقة ، فإنه يبدأ بالزوجة والأولاد ثم الأقارب ، أما أن يعطي الأقارب ويترك الزوجة والأولاد يكون قد خالف الأولوية في الصرف ، كذلك لو كان عنده مماليك وعنده بهائم وضاقت نفقته يبدأ بالمماليك على البهائم 0
إذا كانت المصلحتان جميعاً من السنة يقدم الأفضل فتقدم الراتبة على السنة المطلقة أو النفل ، لأن الراتبة كان النبي عليه الصلاة والسلام يحافظ عليها في اليوم والليلة بخلاف النافلة ، ويقدم أيضاً ما فيه نفع متعد على النفع القاصر ، مثل : أن يتعارض تعليمه للناس مع صيام النفل ، يقدم التعليم للناس على الصيام الذي هو تطوع قاصر على نفسه ، تقدم عيادة المريض على صلاة نافلة لأن عيادة المريض فيها نفع متعد ، كذلك تقدم الصدقة على القريب على الصدقة على أجنبي ، لأن البر للقريب فيه أجران أجر الصدقة وأجر الصلة صلة الرحم 0
لكن أحياناً يعرض للعمل المفضول ما يجعله أفضل من الفاضل بسبب اقتران ما يوجب التفضيل من وقت ونحوه ، مثاله : أن يقرأ القرآن ثم يؤذن المؤذن فأيهما أفضل أن يجيب المؤذن أو أن يتم قراءته للقرآن ؟ الجواب : أن يجيب المؤذن لأن هذا أفضل في وقته ، ولأن وقته ينقضي ، بخلاف القرآن فالإنسان يستطيع أن يقرأه في كل وقت ، وإن كان القرآن أفضل من كلمات الأذان لكن هنا لأنه وُجد ما يوجب التفضيل ألا وهو الوقت الذي ورد في السنة الترغيب في إجابة المؤذن ، أيضاً أحياناً يكون الذكر في موضعه أفضل من غيره فأذكار الركوع والسجود أفضل بل هي أوجب من قراءة القرآن ، وأحياناً يعرض للعمل المفضول شيءٌ آخر وهو : أن يكون مشتملاً على مصلحة للإنسان ، فبعض الناس مثلاّ يصلح قلبه على هذا العمل أكثر من غيره فيقدم هذا العمل على غيره ، مثل : رجل فتح الله له باباً في العلم وآخر فتح الله له باباً في الصيام ، فهذا صلاح قلبه في العلم ، وهذا يرى صلاح قلبه في الصيام ، فهذا لا ينكر على هذا وهذا لا ينكر على هذا ، قيل إن الإمام مالك رحمه الله جاءه رجل فقال له : ما أراك تصوم التطوع أو ما أراك كذا ؟ فقال : إن الله سبحانه وتعالى قد فتح لكل عبد باباً وإنه قد فتح لي باب في العلم فلا ينبغي أن ينكر علىّ أحد ، فإذا كان العمل المفضول أزيد مصلحة للقلب من الفاضل فينظر إلى ما هو أصلح للقلب فيفعله ، والأمام أحمد رحمه الله سئل عن بعض الأعمال : قال انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله ، فلهذه الأسباب وغيرها تصير الأعمال المفضولة أفضل من الفاضل بسبب ما يوجب التفضيل 0
(14) وضده تـزاحـم المفـاسـد
يُرتكب الأدنـى مـن المفاســد
المفاسد إما محرمات وإما مكروهات ، كما إن المصالح إما واجبات وإما مستحبات ، فإذا تزاحمت المفاسد بمعنى أنه لا يقدر على ترك الجميع وإلا فالأصل أن يترك الجميع لكن إذا لم يقدر على ترك الجميع فماذا يفعل ؟ إذا اضطر إلى أن يفعل إحداها فعليه أن لا يرتكب الكبرى بل يرتكب المفسدة الصغرى ، بمعنى يرتكب أهون الشرين دفعاً لأعلاهما ، فإذا كانت إحدى المفسدتين حراماً والأخرى مكروهة يرتكب المكروه لأن الحرام أعلى من المكروه ، مثل : إذا عرض له طعام الأول مشتبه فيه ، والثاني حرامٌ قطعاً يأكل من المشتبه فيه ، هذا إذا لم يجد الحلال الخالص واضطر إلى هذا الأمر ، فإنه يأكل من المشتبه فيه لأنه أخف تحريماً ، وإذا كانت المفسدتان جميعاً حراماً فإنه يقدم الأخف ، لأن الحرام أيضاً ليس على درجة واحدة ، بل بعضه أشد حرمة من بعض ، فالله سبحانه وتعالى مثلاً قال { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا }(9) ولما ذكر الزواج بامرأة الأب ماذا قال ؟ قال { ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا }(10) فإذاً الزواج بامرأة الأب أخبث من مجرد الزنى العادي ، ولذا فالزنى بالمحارم والعياذ بالله أعظم عند الله من الزنى بالأجنبيات ، بل هذا فيه القتل(11) وذاك فيه الحد أو القتل رجماً إذا كان محصناً ، فالمحرمات مراتب في الصغر والكبر فإذا اضطر بأن تزاحمت المفاسد عنده فإنه يرتكب الأدنى من المفاسد وهذا من القواعد العظيمة التي جاءت بها الشريعة 0
(15) ومن قواعـد الشريعــة التيسيــر
في كـل أمـرٍ نـابـه تعسيـــر
ومن قواعد الشريعة العظيمة التيسير لأن الشرع مبنيٌ على التيسير ورفع الحرج كما قال الله عز وجل { ما جعل الله عليكم في الدين من حرج }(12) وقال سبحانه وتعالى { يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر }(13) فالله سبحانه وتعالى قد بنى دينه على الرأفة والرحمة والتسهيل على الناس ، و لذلك فإن الله عز وجل من فضله وإحسانه وكرمه أنه لم يكلف العباد إلا ما يطيقون كما قال عز وجل { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }(14) ولم يأمرهم بالإنفاق إلا من سعتهم وما يستطيعون ، فلم يكلفهم من الأعمال إلا ما يطيقون ولم يأمرهم بالإنفاق إلا مما يستطيعون ويقدرون ، فشرع الله عز وجل مبنىٌ على التيسير ورفع الحرج والمشقة ، وإذا أمر الله سبحانه وتعالى بأمرٍ أو نهى عن شيءٍ ، علمنا أن هذا الأمر الذي أمر به يطيقه غالب العباد ، وإذا نهاهم عن شيء علمنا أن غالب العباد يطيقون تركه ويستغنون عنه ، وقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى لا يأمر إلا بما فيه مصلحة لنا ، ولا ينهانا إلا عما فيه مفسدة وشر لنا وضرر علينا ، ومع هذا فإذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بأمرٍ وحصل ظرف يجعل هذا الأمر عسيراً شديداً ، يأتي الشرع بتخفيفه وتيسيره ، فمثلاً أمرنا الله سبحانه وتعالى بالصيام لكن إذا سافر الإنسان في الغالب أنه يشق عليه الصيام ، لذا جاء التيسير بالنسبة للمسافر في أن له الحق في الفطر ، فخفف الله عز وجل عنه ، وكذلك الإنسان الصحيح السليم في الغالب يستطيع الصيام ، لكن إذا مرض شق عليه الصيام ، فأباح الله تعالى له الفطر وخفف عنه الصيام ، وتخفيف الله عز وجل إما أن يكون بإسقاط الفرض بالكلية ، أو بتأجيله ، أو بأدائه مع التخفيف والتيسير ، فالتخفيف على أوجه : فمن ذلك مثلاً في العبادات : التيمم عند فقد الماء ، أو التيمم عند عدم القدرة على استعمال الماء ، إما لبرد شديد ، وإما لمرض أو جراحة في البدن تمنع من استعمال الماء على ما ذكر تفصيله في كتب الفقه ، كذلك القيام في الصلاة فرض ومع ذلك فإنه يخفف عن المريض بجواز أن يصلي قاعداً ومضطجعاً ، وكذلك قصر الصلاة للمسافر أيضاً من قواعد الشريعة في التيسير ، وكذا الجمع بين الصلاتين في السفر من التيسير ، وفي المطر من التيسير ، وفي الخوف والمرض كله من التيسير على الناس والرخصة لهم ، ومن التخفيفات أيضاً : تعجيل الزكاة إن نزلت بالمسلمين حاجة ، كأن حصلت مجاعة أو حصل ضرر على بعض الناس ، واحتاج الناس حاجة عظيمة ، جاز للإنسان أن يعجل زكاته لنفع الفقير ، وهكذا لا تجد باباً من أبواب الفقه والدين في المعاملات والبيوع والمناكحات إلا وتجد فيه التيسير من عند الله عز وجل ، فهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشرع يعبر عنها الفقهاء بلفظ ( المشقة تجلب التيسير ) ، في كل أمرٍ تجد فيه تعسيراً لا بد أن تجد فيه باباً للتيسير 0
لكن هنا مسألة ينبه عليها ألا وهي : أن التيسير لا بد أن يكون شرعياً ، بمعنى لا يجوز لنا بدعوى التيسير أن نتفلت من أحكام الدين ، أو أن نرتكب الحرام الصريح ، مثل أن يقول قائل : ما دام أن اليوم يغلب على حياة كثير من المسلمين التعامل بالربا ، ووجود البنوك الربوية ، فنظراً لهذه الكثرة وحاجة المسلمين يجوز للإنسان أن يأكل الربا ! أو أن يبني بيته بالربا لحاجته إلى سكنى البيت ! أو أن يشترى سيارة بالربا ! ونحو ذلك فهذا ليس تيسيراً في محله بل هو في الحقيقة حرج لأن الله تعالى جعل اليسر في طاعته وليس في معصيته ، كما قال سبحانه وتعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }(15) وقال { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا }(16) فاليسر لا تجده في معصية الله . وجاء أيضاً في الحديث (( إن روح القدس نفث في رُوعي ( يعني في صدري وفي نفسي ) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله واجملوا في الطلب وأعلموا أنما عند الله لا ينال بمعصيته ))(17) فقد يستعجل الإنسان الرزق ويقول تأخر علىّ الرزق ويستبطىء الرزق فماذا يفعل ؟ يريد أن يأكل الحرام ويظن أنه بذلك يصل إلى الرزق لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أعلم أيها المسلم أنما عند الله لا ينال بمعصيته ، متى سلكت طريق الحرام فقد ضيقت الأمر ، وشددت على نفسك ، لكن أتق الله وأجمل في الطلب ، يعني لا تتهالك على طلب الرزق والدنيا ، وإنما ليكن سؤالك للدنيا بالوجه الجميل الذي يدل على تقديرك لهذه الدنيا الفانية ، وأنها دنيا لا بقاء لها ، شدائدها لا بقاء لها ورخائها لا بقاء له .
(16) وليس واجب بلا اقتــدار
ولا محـرم مـع اضـطــرار
(17) وكل محظور مع الضـرورة
بقـدر ماتحتاجـه الضــرورة
في هذا البيت قاعدتان عظيمتان وهما : أنه لا تكليف إلا بما يستطاع ، ولا يوجب الله سبحانه وتعالى على عباده إلا ما يقدرون عليه ، وأنه لا محرم مع الضرورة ، فالله سبحانه وتعالى قد فرض عليهم فرائض ، وحرم عليهم محرمات ، فإذا عجز الإنسان عن الإتيان بالمأمور به ، وضعفت قدرته عنه ، ولم يستطع الإتيان به ، فإنه إما أن يأتي منه ما يقدر عليه كما قال عليه الصلاة والسلام (( فإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ))(18) وقال عزوجل { فاتقوا الله ما استطعتم }(19) فإذا أُمر الإنسان بأمر ولم يقدر على الإتيان بهذا الأمر تاماً كاملاً كما هو ، فإنه يأتي منه ما يقدر عليه ، فما لا يدرك كله لا يترك كله ، وربما سقط عنه بالكلية إذا لم يقدر عليه ، أو كان الأمر مما لا يتجزىء ، فبعض الواجبات لا تتجزىء ، فربما سقط عنه بالكلية ، فالواجب إذاً كما ذكرنا في التيسير ، أن الشريعة قد جاءت بالتيسير في كل أمر نابه تعسير ، وأن الله سبحانه وتعالى أجاز للمريض التيمم بدلاً عن الوضوء ، وأجاز له الفطر عند المرض وعند السفر ، وأجاز له أن يصلي قاعداً إذا لم يقدر على الصلاة قائماً ، وما أشبه ذلك من التيسير الذي جاء في الشريعة ، فإذاً لا واجب بلا قدرة ، فإذا كان الأمر واجباً على إنسان لكنه لا يقدر على الإتيان به فإنه يأتي منه ما استطاع 0
ومثاله أيضاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ))(20) فإذاً الإنسان إذا كان قادراً على تغيير المنكر بيده قدرة بدنية وقدرة شرعية ، وبعض الناس يظن أن المطلوب فقط هو القدرة البدنية ، هناك أيضاً قدرة شرعية أو سلطة لك على تغيير هذا المنكر ، فإن كان المنكر في بيتك فأنت مأمور بإزالته بيدك ، لأن المنكر قد وقع في سلطانك وأنت الآمر الناهي في بيتك ، ولذلك لا تعذر بترك المنكر في بيتك إلا أن تزيله بيدك ، إنسان سمع في بيته صوت معازف وغناء لزمه أن يزيل ذلك بيده ، إنسان مر بالسوق فسمع في دكانٍ صوت غناء ومعازف ، أو رأى دكاناً يبيع آلات الطرب واللهو أو يبيع الصور المحرمة ، فإنه في هذه الحالة لا يملك التغيير باليد ، لأن الأمر ليس في سلطانه ، كما لو رأى منكراً في بيت جاره ، ففي هذه الحالة ينتقل إلى الأمر والنهي بلسانه ، لأنه لا يقدر عليه بيده ، لأن منكرات الأسواق يزيلها أهل الحسبة الذين لهم أن يزيلوا المنكر بالقوة وباليد ، فإذا استعصى عليهم الأمر استعانوا بالشرط لأنهم قادرون على ذلك ومسلطون من قبل الإمام ، بخلاف الواحد منا فإنهم لا يملك إلا تغيير المنكر باللسان 0
قد يضعف الإنسان عن ذلك أيضاً ، مثل أن يكون في مكان لايقدر فيه على إنكار المنكر ، ولو تكلم لقتل أو أصابه ضرر كسجن وضرب ، ففي هذا الحالة ينتقل إلى إنكار المنكر بالقلب ، وهي درجة لا ينبغي أن تفارق قلب مؤمن ، لأنها إذا فارقت قلب المؤمن دل على أن هذا القلب لا يوجد فيه إيمان بأمر بمعروف ونهي عن منكر ، كما جاء في حديث مسلم (( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ))(21) فالإنكار بالقلب ينبغي أن يظل ، ولا شك أن القلوب إذا اعتادت رأيت المنكر تأثر إنكارها إلى الضعف والقلة ، الإنسان إذا رأى منكراً لأول مرة أنكره قلبه بشدة لكن إذا رآه للثانية والثالثة والرابعة ، وصار في كل يوم يراه فإن هذا الإنكار يقل في القلب ، فينبغي له أن يذكر نفسه بين فترة وأخرى بأن هذا الأمر من المنكر الذي حرمه الله عزوجل 0
والقاعدة الثانية : أنه لا محرم مع اضطرار ، بمعنى أن الإنسان إذا اضطر إلى فعل المحرم الذي ذكرنا في أول المنظومة أن الله عزوجل ما حرمه علينا إلا لمصلحتنا ، وحماية وصيانة لنا عن الشر ، وعن ما يؤذينا في بدننا وفي ديننا ، لكن إذا اضطر الإنسان إلى المحرم جاز له فعله ، لأن ((الضرورات تبيح المحظورات )) كما يعبر الفقهاء ، كأكل الميتة أو شرب الماء النجس عند الضرورة وما أشبه ذلك ، أيضاً في العبادات كفعل المحظورات في الحج ، ويستدل على ذلك بقول الله عزوجل { إلا ما اضطررتم إليه }(22) وقال عزوجل { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم }(23) والمخمصة هي المجاعة ، فالمضطر في المخمصة والمجاعة لأكل الميتة فهذا لا إثم عليه ، كما قال الله عزوجل ، بل يقول شيخ الإسلام في هذا المجال كلاماً عجيباً نفيساً يقول : إن الإنسان إذا اضطر إلى أكل الحرام فإن الضرر الواقع قَدَراً يزال . يعني إذا اضطر الإنسان إلى أكل شيء محرم فإن هذه الضرورة التي أباحت له أن يأكل من الحرام ترفع عنه الضرر الواقع قدراً ، رحمةً من الله سبحانه وتعالى ، ولكن ينبغي أن نعلم أنه لا يؤخذ من المحظور إلا بقدر الضرورة ، يعني لا يتوسع الإنسان في الأكل من الميتة فوق الحاجة ، لقوله سبحانه وتعالى { فمن اضطر غير باغ و لا عاد }(24) قالوا ( و لا عاد ) يعني متعدي في أخذه من الضرورة ، بل كما قال الفقهاء الضرورة تقدر بقدرها ولعل هذه القاعدة مستقاة من قول الله عزوجل { فمن اضطر غير باغ و لا عاد } يعني لا يتجاوز الضرورة بل يقف عند ضرورته وحاجته 0
(18) وترجـع الأحكــام لليقيــن
فـلا يزيـل الشـك لليقيــن
تتعلق هذه القاعدة بقاعدة عظيمة من قواعد الشريعة بل هي أحد القواعد الخمس وهي أن (( اليقين لا يزول بالشك )) وهذه القاعدة وهي أن اليقين لا يعارض بالشك أو أن اليقين لا يزول بالشك قاعدة عظيمة جداً ، ومعنى هذا أن الإنسان إذا تحقق شيئاً ثم شك هل زال ذلك الشيء المتحقق أو لم يزل ، فالأصل بقاء المتحقق فيبقى الأمر على ما كان عليه ، ودليل هذه القاعدة أن البخاري رحمه الله بوّب في صحيحه باب ( لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن ثم ذكر حديث عباد بن تميم عن عمه أن رجلاً سأل للنبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم (( لاينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ))(25) ومثله الحديث الآخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام (( إذا سمع أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ))(26) 0
فهذا الحديث أصل في هذه القاعدة وهو أن الإنسان إذا توضأ فوضوءه قد حصل بيقين ، واليقين مأخوذ من يقن الماء يعني استقر ، فاليقين قوي قطعي ثابت جازم فلا ينهدم بالشك ، والشك كما تعلمون هو التردد بين الشيئين ، التردد المطلق بين شيئين ، أما ماهو أقل من اليقين فالظن الغالب ، وهو ماترجح لك أحد الطرفين رجوحاً غالباً بحيث يطرح الثاني ، والظن هو مايترجح لك أحد الطرفين بإمارة فقط أو إشارة ، ولايكون هذا قاطعاً ، أما الظن الغالب فمعمول به في الشريعة كما قال عليه الصلاة والسلام (( إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع ))(27) فالقاضي قد يأتيه خصمان ، أحدهما معه شاهدين زور فيترجح عند القاضي صدق هذا الرجل فيحكم له بالقضية ، وهو حكم له بالظن الغالب ، وقد يكون في نفسه كاذباً ، لكن ما دام أن معه شاهدين والآخر ليس معه شهود ولا بينة يحكم بالظن الغالب ، وقد يكون في نفس الأمر هذا الرجل ظالم 0 فالظن الغالب معمول به في الشريعة 0
وأيضاً العقل يقضي برجحان اليقين على الشك ، لأننا كما قلنا إن اليقين ثابت جازم قطعي ، وأما الشك فهو مجرد التردد ، فلو نظرنا إليه من جهة العقل لعرفنا أن اليقين يقدم على الشك ، وهذا باب قاطع للوسواس الذي يقع فيه كثير من الناس ، لأن الإنسان إذا اتبع الوسواس ضاقت عليه الأرض بما رحبت ويزيد معه كلما استرسل ، حتى ربما يصير داءاً مستعصياً ، وهذا دليل على نقصان دين هذا الرجل أو نقصان عقله ، لذلك قال بن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان (( ليس في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موسوس ))(28) لأن إيمانهم كان قوياً قاطعاً ، وعملهم بالشريعة أيضاً كان ظاهراً ، فالذي يعمل بالشرع ويطيع الرحمن ويعصي الشيطان لا يقع في الوسواس ، لكن نسأل الله العافية أن الإنسان إذا حصل منه معصية بأن زاد على الوضوء والرسول عليه الصلاة والسلام توضأ ثلاثاً وقال (( فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم ))(29) ، فالزيادة على الغسل ثلاث مرات فيها مخالفة للرسول عليه الصلاة والسلام ، وفيها طاعة لعدو الله تعالى الشيطان 0
وإذا شك الإنسان هل أحدث بعد تيقنه الطهارة أو لم يحدث ؟ فالأصل اليقين فلايزول هذا اليقين بالشك ، وكذا العكس : لو كان الإنسان متيقناً أنه لم يتوضأ ، وأراد الصلاة وشك هل هو توضأ أو لم يتوضأ ؟ فالأصل أنه لم يتوضأ ، فيعمل باليقين ، وهذا الأمر ليس خاصاً بالعبادات ، بل حتى في المعاملات وفي العقوبات وغيرها ، إذا شك الإنسان هل طلق امرأته أم لم يطلقها ؟ فالأصل أنها امرأته لم يطلقها ، كذلك لو شك هل تزوجها أو لم يتزوجها ؟ فالأصل أنه لم يتزوجها 0
ومن هذه القاعدة تفرعت قواعد منها الأصل بقاء ماكان على ماكان وهذه القاعدة فيها : استصحاب الأصل عند عدم الدليل الشرعي ، فهذه من أدلة الاستصحاب ، وقد قال الله عزوجل { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }(30) فله ما سلف يعني : ماكان قد كسبه بالربا قبل أن يأتي التحريم فله ، لأنه استصحب البراءة ، فالأصل بقاء ماكان على ماكان ، الأصل براءة الذمة من التكليف ومن الحقوق ، يعني أن الأصل أن الإنسان بريء من التكليف الشرعي ، ومن الحقوق التي تجب عليه للناس 0
وأيضاً مما يتفرع عن هذه القاعدة الأصل في الصفات العارضة العدم يعني أن يشتري الإنسان عبداً الأصل فيه أنه جاهل لا يقرأ ولا يكتب ، الأصل في الصفات المكتسبة العارضة أنها عدم غير موجودة ، إلا إذا قال : هذا العبد يقرأ ويكتب ويقرأ القرآن مثلاً ، فهذه صفات عارضة الأصل فيها العدم 0
أيضاً من هذه القاعدة أخذ العلماء قواعد في الاستدلال أيضاً فقالوا الأصل في الألفاظ الحقيقة أي يراد بها الحقيقة ، فلا يقال أن هذا اللفظ غير مراد حقيقة ، لأن الأصل هو بقاء هذا اللفظ على حقيقته ، وهو اليقين ، والانتقال عن اللفظ إلى غير الحقيقة هذا طارئ ، فالأصل أن الألفاظ على الحقيقة ولهذا أهل السنة قالوا : الأصل أن آيات الصفات وأحاديثها باقية على حقيقتها ، الأصل أن الأوامر للوجوب والنواهي للتحريم ، والأصل أيضاً : بقاء النص على عمومه حتى يأتي مخصص ، الأصل أن الآية غير منسوخة وأن الدليل غير منسوخ حتى نتيقن الناسخ ، الأصل براءة المتهم ، يقولون : المتهم بريء حتى تثبت إدانته ، هذا ليس بقانون أوروبي بل هذا شريعة الرحمن ، المسلمون سبقوا بذلك وشريعتهم سبقت كل القوانين الوضعية ، فالأصل أن الإنسان ذمته بريئة من الحقوق ومن التكاليف حتى يثبت أنه قد كلف ، والإنسان بريء من الجرم حتى يثبت عليه هذا الجرم ، فهكذا نجد أن هذه القاعدة لها فروع كثيرة في الفقه من العبادات إلى المعاملات إلى العقوبات
(19) والأصل في مياهنا الطهــارة
والأرض والثيـــاب والحجــــارة
وهذه قاعدة أيضاً فقهية عظيمة ، وهي أن الأصل في الأشياء الطهارة وذلك كالمياه ، ذكر الناظم أمثلة مثل : المياه والأرض وما عليها من شجر ومدر وحجر وتراب والثياب أيضاً وما أشبه ذلك ، وجميع أصناف الأشجار كل ذلك الأصل فيه الطهارة حتى نتيقن زوال أصلها بطروء النجاسة عليها ، إذا عرفنا أن هذا الأصل قد زال بأن طرأت عليها النجاسة فعند ذلك نجتـــنبها ، ولهذا فالإنسان إذا أراد أن يصلي في مكان الأصل فيه أنه طاهر ، ولا ينبغي أن يوسوس إذا أراد أن يصلي يقول لأهل البيت : هل هذا المكان طاهر ؟ هذه وسوسة تخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة ، وكذلك لو أراد أن يتوضأ من ماءٍ في البرّية ، الأصل فيه أنه طاهر ، ولو أراد أن يستعمل حجراً في الطهارة والاستنجاء الأصل فيه أنه طاهر ، لو أراد أن يستخدم خشباً لصنع شيء يجلس عليه مثلاً أو يستخدمه أو يركب عليه ، الأصل فيه أنه طاهر ، وهكذا المعادن وجميع ما خلق الله سبحانه وتعالى الأصل فيها كلها أنها طاهرة حتى نتيقن أنه قد طرأت عليها النجاسة وغيّرت هذا الأصل ونقلته إلى النجاسة 0
الهوامش:
(1) رواه البخاري (1/163 ـ فتح ) ورواه مسلم (13/53 ـ نووي ) عن عمر رضي الله عنه 0
(2) (13 ـ 14) 0
(3) إعلام الموقعين (3/11) 0
(4) سورة الأنبياء (23) 0
(5) سورة المؤمنون (115) 0
(6) سورة البقرة (216) 0
(7) (16ـ20) 0
(8) سورة التوبة (107) 0
(9) سورة الإسراء (32) 0
(10) سورة النساء (22) 0
(11) الفتاوى الكبرى (2/191) 0
(12) سورة الحج (78) 0
(13) سورة البقرة (185) 0
(14) سورة البقرة (286) 0
(15) سورة الطلاق (2) 0
(16) سورة الطلاق (4) 0
(17) رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وصححه العلامة الألباني ( صحيح الجامع ـ 1/420) 0
(18) رواه البخاري ( 13/264 ـ فتح )ورواه مسلم (9/101 ـ نووي) عن أبي هريرة رضي الله عنه 0
(19) سورة التغابن (16) 0
(20) رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه (2/21 نووي) 0
(21) رواه مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه (2/27 نووي) 0
(22) سورة الأنعام (119) 0
(23) سورة المائدة (3) 0
(24) سورة الأنعام (145) 0
(25) رواه البخاري (1/285 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (4/49 ـ نووي ) ، 0

(26) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (4/51 ـ نووي ) 0
(27) رواه البخاري (12/355 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (4/12ـ نووي ) ، عن أم سلمة رضي الله عنها 0
(28) مختصر إغاثة اللهفان للشيخ علي حسن (217) 0
(29) رواه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه الألباني (صحيح سنن النسائي ـ1/31) 0
(30) سورة البقرة (275)

ابو وليد البحيرى
2024-10-28, 12:32 PM
شرح القواعد الفقهية للسعدي -3 –


شرح وتعليق فضيلة الشيخ
أبي عبدالله محمد بن حمد الحمود النجدي

شرح القواعد الفقهية

للسعدي

(20) والأصل في الإبضاع واللحوم
والنفس والأمـوال للمعصـوم
(21) تحريمها حتى يجيء الحــل
فافهم هداك الله مـا يمــلُّ
الإبضاع والمباضعة هو الجماع ، فالأصل في الإبضاع وهو وطءُ النساء التحريم ، يعني الأصل في المرأة أنها محرمة عليك ، الأصل في النساء أنهن محرمات عليك إلا ما أبيحت لك بالعقد الشرعي الصحيح ، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع (( فاتقوا الله في النساء فأنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ))(1) يعني هو استحل فرجها بالعقد بكلمة الله سبحانه وتعالى لأنه عقد العقد واستحل ذلك بما أحل الله له في كتابه ، بكلمات الله عز وجل التي في كتابه ، فقد ذكر له المحرمات من النساء كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهات النساء إلى أن قال { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين }(2) فإذاً الأصل في الإبضاع التحريم ويصح أن يقال : الأصل في الأبضاع ، والأبضاع يعني الفروج ، الأصل فيها التحريم أيضاً ، واللحوم كذلك الأصل فيها التحريم ، حتى نتيقن ذكاتها وأنها مما أحل الله سبحانه وتعالى لنا أكلها ، فالأصل فيها التحريم إلا إذا علمنا تحقق شروط الذكاة الشرعية ، من كونها ذبحت في اللبة وقطعت أوداجها وذكر اسم عليها ، ولم تكن مما أهل به لغير الله ، ولهذا إذا اجتمع في الذبيحة سببان : مبيح وحاظر ، قُدَّم الحاظر ، مثل لو أن رجلاً ذكى شاة ثم تبين له أن آلة الذبح مسمومة ، فلا يدري هل ماتت بالذكاة أو بالسم ،
ومثل ذلك أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد إذا رماه الإنسان ثم وقع في الماء فلا يدري أمات بالسهم أو قتله الماء(3) ، يعني مات خنقاً بالماء ، أو رمى صيداً ثم وطأه ما يقتل غالباً ، مثل لو ضرب حمامة ، ثم أثناء البحث عليها داسها بقدمه لكونها تحت الورق أو تحت الشجر ولم يرها ، فهو لا يدري هل ماتت بالرمية أو ماتت بالوطء فلا يحل ، وكذلك الأصل في النفوس أنها معصومة يعني محرمة الدم والمال والعرض ، فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كما جاء في الحديث (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة ))(4) فلا تباح إذاً النفوس إلا بحق ، فتباح بردة المسلم ، تباح بزنى المحصن المتزوج ، وتباح أيضاً بقتله لنفس معصومة ، وكذلك المعاهد الأصل فيه أنه محفوظ الدم والمال والعرض ، فلا يباح دمه إلا إذا نقض العهد ، بأن سب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً ، أو سب دين الإسلام ، أو سب المسلمين ، أو زنى بمسلمةٍ وما أشبه ذلك من الجرائم التي تبيح قتله 0
كذلك إذا جنى الإنسان جناية توجب قطع عضو منه كسرقة مثلاً ، فإنه يقطع منه بقدر ما يقابل تلك الجناية والجريمة ، لأن الأصل في الباقي العصمة ، يعني إذا سرق إنسان لا نقتله ، لأنه جنى جناية توجب قطع يده فقط ، ولا تقطع يده الثانية ، لأن الثانية الأصل فيها أنها معصومة ، تقطع الكف اليمنى ، وأما اليسرى فالأصل أنها معصومة ، لأن العقوبة بقدر الجناية ، وكذلك إذا استدان وعنده القدرة على السداد ولم يسدد ، يؤخذ من ماله بقدر سداد دينه ، إنسان استدان خمسمائة دينار وهو غني قادر على أن يسدد ، يعني مماطل وهذا ظلم ، وهذا الظلم يحل عقوبته كما قال عليه الصلاة والسلام (( ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ))(5) يعني يجوز أن يأتي الدائن ويقول إن فلاناً قد استدان مني ولم يرجع المال إلىّ ، هنا تكلم في عرضه في غيبته ، لكن هل يجوز أن يقول فلان تأخر عن الصلاة لا ، لا يجوز ، إنما يحل لك من عرضه بقدر ما أخطأ في حقك ، ثم إذا جيء به إلى القاضي يؤخذ من ماله بقدر دينه ، لأنه حلّ من ماله وعرضه بقدر جنايته وجريمته ، وكذلك لو كان الديَّن لله سبحانه وتعالى فإنه يؤخذ منه بقدر هذا الدين ، وكذا لو كانت عليه نفقة للأقارب وماطل بنفقة أقاربه الذين تجب عليه النفقة لهم فيؤخذ منه نفقتهم ، وكذا لو كان عنده بهائم امتنع عن الإنفاق عليها فأنه يؤخذ من ماله بقدر ما يكفي البهائم ، ولو نزل به ضيف حلّ له أن يأخذ من ماله بقدر ضيافته ، يعني لو نزل ضيف برجل لئيم بخيل فلم يقم بحق ضيافته ، فإنه يحق للضيف أن يأخذ من ماله بقدر ضيافته ، مثل أن يدخل إلى بستانه ويأكل ويتغدى ويشبع بقدر ضيافته ، لأن هذا حق للضيف واجب في مال هذا المضيف فإذا امتنع يؤخذ من ماله بقدر ما يجب عليه من الحق ، فإذاً الأصل في الإبضاع التحريم ، والأصل في اللحوم أنها محرمة ، والأصل في الأنفس والأموال أنها معصومة حتى يجيء الحل ، فافهم هداك الله ما يُمل عليك ، يعني ما يُملى عليك من العلم 0
(22) والأصل في عاداتنـا الإباحَهْ
حتى يجيء صارف الإباحَــهْ
(23) وليس مشروعاً من الأمـور
غير الذي في شرعنـا مذكــورْ
وهذان أصلان ذكر الناظم رحمه الله تعالى أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد ذكرهما في كتبه ، وأن هذا من الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد مذهبه ، ألا وهو أن الأصل في العادات الإباحة فلا يحرم منها إلا ما ورد الشرع بتحريمه ، بخلاف العبادات فهي بالعكس ، الأصل فيها التحريم حتى يجيء الشرع بها ، فكل عبادة يحرم التعبد فيها لله عز وجل سوى ما جاء في شرعنا مذكوراً ، فلا يحل للعبد أن يتعبد الله عز وجل بعبادة لم يشرعها الله عز وجل ، والركنان اللذان ذكرهما الله تعالى في كتابه وشرط قبول الأعمال بهما ، الأول :إخلاص العبادة ، الثاني : المتابعة ، فلا بد من توفر هذين الشرطين في كل عبادة لتقبل { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }(6) 0
فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا شهد له الشرع بذلك ، فالعمل الصالح ما وردت مشروعيته في الكتاب والسنة وما ليس كذلك فليس من الأعمال الصالحة ، ولا يجوز أن نتعبد الله تعالى به ، ولهذا قال العلماء : من عبد الله بما شرع فهو عابد لمولاه ، ومن عبد الله بما لم يشرع فهو عابد لهواه 0
إذاً لا يكفي حسن النية والإخلاص وحب الله تعالى ورسوله والاندفاع والحماس فإن هذا لا يكفي لقبول العمل ، كم من مريد للخير لم يبلغه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، كم من إنسان يريد الخير لكنّه لا يسلك الطريق الشرعي فلا يؤجر على فعله بل يقع في الإثم ، لأنه يقع في مخالفة الشرع بالابتداع ، والمبتدع مأزور غير مأجور ، فلا يجوز للعبد إذن أن يعبد الله عز وجل إلا بما شرع ، لا يجوز له أن يخترع عبادة ، أو سبيلاً من سبل القربة إلى الله عز وجل ، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر بها في كتابه ، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم 0
والعادات هي كل ما اعتاده الناس في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وكلامهم وبيوتهم وتصرفاتهم ، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله ، إما أن ينص عليها أو أن يدخل في عموم نص أو قياس صحيح ، إذا كانت العادة مخالفة للكتاب أو للسنة فإننا نقضي بتحريمها ، أما إذا لم تخالف الكتاب والسنة فإن الأصل فيها الإباحة ، والدليل الذي استدل به الإمام أحمد وغيره على ذلك هو قول الله عز وجل { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً }(7) فالأصل أن هذه المخلوقات من المطعومات والمشروبات والنباتات والحيوانات والملابس التي تتخذ من الوبر والشعر والقطن والكتّان والصوف والحرير ، كل ذلك الأصل فيه الإباحة حتى يجيء دليل التحريم ، فخلق الله لنا ما في الأرض جميعه لننتفع به على أي وجه من وجوه الانتفاع ، وقال الله تعالى { والأرض وضعها للأنام }(8) أي لانتفاع الناس ، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته ))(9) فهذا دليل على أن الأصل الذي عليه أهل الإسلام من العادات والمعاملات الأصل فيها الحل حتى يجيء دليل التحريم فيبقى لهم ما أبقاه النص ، والله تعالى قد خص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث لما فيها من الضرر عليهم في معاشهم وفي معادهم ، وتضرهم في دينهم ودنياهم ، فيبقى ما عدا ذلك مباحاً بموجب الآية ، لأن الله تعالى يخبر أن النبي عليه الصلاة والسلام من رسالته أن يحرم عليهم الخبائث ويحل لهم الطيبات ، وأما العبادات فكما ذكرنا من تعبد الله بما لم يشرع فهو مبتدع عمله مردود عليه كما قال عليه الصلاة والسلام (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(10) وقال الله قبل ذلك { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }(11) 0
(24) وسائـل الأمــور كـالــمقاصـد
واحكـم بهــذا الحكـم للــزوائـــد
وسائل الأمور كالمقاصد يعني أن الوسائل تعطى أحكام المقاصد ، فإذا كان المقصد واجباً كانت الوسيلة إليه واجبة ، المأمور به إذا كان لا يتم إلا بشيء آخر فهو مأمور به أيضاً ، الأمر الواجب إذا كان لا يتم إلا بأمر آخر يعطى هذا الأمر حكم الوجوب ، وإذا كان هذا المأمور به مستحباً فإن الوسيلة إليه تكون مستحبة ، فالوسائل تعطى أحكام المقاصد ، وإذا كان هذا الأمر منهياً عنه كانت الوسيلة الموصلة إليه منهياً عنها أيضاً ، يعني إذا كان حراماً فالوسيلة الموصلة إليه حرام ، إذا كان مكروهاً فالوسيلة الموصلة إلى هذا المكروه مكروهة أيضاً ، فالوسيلة إلى الواجب واجبة ، والوسيلة إلى المستحب مستحبة ، والوسيلة إلى المحرم محرمة ، والوسيلة إلى المكروه مكروهة ، فالوسيلة إلى الواجب مثالها : صلاة الجماعة لا تتم إلا بالسعي إلي المساجد فصار السعي إلي المسجد والمشي إليه واجباً ، لأنها لا تتم الجماعة إلا به ، صلاة الجماعة لا تتم إلا ببناء مسجد فيكون بناء المسجد واجباً ، الحج لا يتم إلا بالسفر إليه إذا كان الإنسان خارج المسجد الحرام ، فيكون السفر إلى الحج الواجب واجباً ، الجهاد الواجب لا يتم إلا بالسفر مثلاً فيكون السفر إليه واجباً ، هذه حقوق الله 0
وكذلك الحقوق الواجبة على الإنسان للعباد مثل : الإنفاق على الزوجة والولد حكمه الوجوب فيكون السعي لتحصيل النفقة الواجبة واجباً ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول (( كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت ))(12) فكذلك الأمر في حقوق العباد ، فما لا تتم هذه الأمور إلا به فهو واجب ، وأما الأمور المستحبة المسنونة من الصلوات والصدقات وما أشبه ذلك فأيضاً السعي في تحصيلها مسنون مستحب ، والمتعلقة أيضاً بحقوق الخلق المستحبة مثل عيادة المريض ، واتبّاع الجنائز ، وصلة الأرحام ، والذهاب إلى مجالس العلم وما أشبه ذلك ، مما هو مستحب في حق العبد يكون السعي إليه مستحباً 0
أما المحرّم فإن الوسيلة إليه محرمة ، وأعظم المحرمات الشرك بالله العظيم ، فوسائل الشرك والذرائع الموصلة إلى الشرك محرمة ، منها : الحلف بغير الله هذه من الذرائع الموصلة إلى تعظيم غير الله عز وجل والشرك به ، تعظيم القبور ، دعاء الله سبحانه وتعالى عند القبور ليس دعاء القبور وأصحاب القبور وإنما الدعاء عند القبور ، إنسان يعتقد أن بقعة هذا الرجل المدفون في هذا المكان بقعة صالحة مباركة فيأتي ويدعو الله عندها ، هذه وسيلة إلى الشرك ،لأن الناس يظنون بعد ذلك أن هذا الرجل هو سبب الإجابة ، فيكون وسيلة إلى الشرك ، الطواف بالقبور وسيلة إلى الشرك ، التبرك بها وسيلة إلى الشرك وذريعة إلى عبادتها ، فكل قول وفعل يفضي إلى الشرك يكون محرماً لأنه وسيلة إلى المحرّم ، والوسائل إلى المعاصي كالزنا وشرب الخمر والسرقة أيضاً محرمة ، النظر إلى المرأة الأجنبية وسيلة إلى الزنا ، الخلوة بها وسيلة إلى الزنا ، خروج المرأة متعطرة وسيلة إلى الزنا ، كل هذا محرّم لأنه من الذرائع التي توصل إلى ما حرم الله تعالى ، فالوسيلة إلى المحرّم محرمة ، والوسيلة إلى المكروه مكروهة 0
وهذه القاعدة من أنفع القواعد للناس ، الإنسان إذا احكم هذه القاعدة أمكن أن يعرف أحكام الحلال والحرام في ما يجري في حياته ، لأنه يزن الأمور ويراها بهذا الميزان ، فإن كانت توصل إلى الواجب فهي واجبة ، وإن كانت توصل إلى المستحب فهي مستحبة ، إن كانت توصل إلى المحرّم فهي محرمة ، وبحسب علم الإنسان واتساع فهمه يمكن له أن يطبق هذه القاعدة ولذلك فهي من أنفع القواعد وأكثرها فوائد ، ولهذا قال الشيخ السعدي رحمه الله : ولعلها يدخل فيها ربع الدين 0
واحكم بهذا الحكم للزوائد : الأشياء ثلاثة : مقاصد ووسائل وزوائد ، أما المقاصد فكالصلاة والحج والجهاد والصدقة ، الوسائل : الموصلة إليها ، الزوائد : مثل الرجوع من الصلاة الواجبة إلي البيت ، الرجوع والقفول من الحج والجهاد هذه متممات للعبادة التي قام بها تعطى أحكام الوسائل ، فالمتممات للأعمال تعطى أحكامها كالرجوع من الصلاة والحج والجهاد وما أشبه ذلك ، والرجوع من إتباع الجنازة ، أو الرجوع من عيادة المريض ، فإنه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع هو في عبادة ، وهذا من كمال جود الله سبحانه وتعالى وكرمه ، والدليل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم(13) للرجل الذي قيل له إلا تشتري حماراً تركبه في الرمضاء وفي الظلماء وكان من أبعد الناس بيتاً عن المسجد قال : والله ما أحب أن يكون بيتي قرب المسجد وإن احتسب خطاي هذه ، فلما ذكروا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام قال (( إن الله سبحانه وتعالى قد أعطاه ذلك كله )) وقرأ قول الله عز وجل { إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين }(14) آثارهم يعني في الأرض ، فهذا الأثر الذي أنت سلكته في الأرض إن كان في طاعة كُتب لك ، وإن كان في أمر مكروه كُتب عليك ، وإن كان في أمر محرّم كُتب عليك ، والأمر المكروه ينقص الأجر أحياناً ، وقد يكون وسيلة للوقوع في المحرم ، وليس هو بإثم على كل حال كما هو معلوم من تعريف المكروه ، والمعنى في المتممات أنه يؤجر كما يؤجر للعبادة ولا يعطى حكمها مثلاً في الوجوب مثل الرجوع من الصلاة 0
(25) والخـطأ والإكـراه والنسيـــان
أسقطــه معبودنــا الرحمــان
(26) لكن مع الإتلاف يثبـت البــدلْ
وينتفي التأثيــم عنـه والزلــل
من رحمة الله سبحانه وتعالى وجوده وكرمه وتخفيفه على عباده ، أنه لا يؤاخذهم بالخطأ ولا بالإكراه ولا بالنسيان ، كما قال سبحانه وتعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }(15) قال : نعم ، كما في رواية مسلم (16) ، أن الله سبحانه وتعالى استجاب للمؤمنين هذه الدعوة فقال : نعم ، وكذا في قوله عزوجل { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم }(17) فالخطأ ليس علينا فيه جناح ، والجناح هو الإثم ، وأما الذي يؤاخذ به الإنسان فهو العمد ، وأيضاً في قوله عزوجل { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم }(18) فبين عزوجل أن الذي يؤاخذ هو الذي يفعل الكفر اختياراً ، ويشرح صدره بأعمال الكفر ، وأما من وقع في الكفر بالإكراه ، فهذا مرفوع عنه الإثم { إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فهذا مستثنى من غضب الله عزوجل ومن عذابه وعقابه ، فالخطأ والإكراه والنسيان أسقطه معبودنا الرحمان ، والله عزوجل كلف عباده كما تعلمون بأوامر ونواهٍ ، فإذا صدر منهم خلل بفعل المأمور أو بفعل المحظور ، فإن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم وسامحهم فيه ، وجاء في الحديث (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ))(19) وفي رواية (( عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) واللفظ الأول أقوى من جهة السند(20) ، وهنا مسألة وهي أن الذي لا يؤاخذ به الإنسان لا يعني أنه لا يطالب به على كل حال ، فكون الأمر إذا تركه الإنسان نسياناً أو خطأً مرفوعاً عنه الإثم ، لا يعني أنه لا يطالب به ، بل قسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك إلى قسمين : أوامر ونواهي ، مأمور ومحظور ، فالمأمور لا يسقط إذا تركه الإنسان نسياناً أو خطأً ، وأما المحظور فإنه يسقط إذا تركه نسياناً أو خطأً ، فمثلاً : إنسان نسي فصلى بغير وضوء ، فهذا إذا تذكَّر وجب عليه أن يصلي ، لأنه ترك مأموراً ، يرفع عنه أثم الصلاة بغير وضوء ، لكنه مطالب بأن يصلي الصلاة مرة أخرى ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : (( لا تقبل صلاة بغير طهور ))(21) ، أما من صلى وعلى ثوبه نجاسة فهذا يكون قد صلى وقد ارتكب محظوراً منهياً عنه { وثيابك فطهر }(22) ففعل محظوراً أثناء الصلاة لكن جهلاً أو نسياناً ، فهذا صلاته صحيحة يدل عليه فعل النبي عليه الصلاة والسلام (( لمّا خلع نعليه في الصلاة وأخبر الصحابة أن جبريل أخبره أن في نعليه قذراً ))(23) ولو كانت الصلاة باطلة لأستأنفها النبي عليه الصلاة والسلام ، يعني لأستقبل صلاته من جديد 0
فإذاً الناسي والمخطئ قد رفع الإثم عنهما لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات ، والناسي والمخطئ لا قصد لهما ولا نية ، أما رفع الأحكام كما قلنا فليس مراداً في هذه النصوص ، هذه النصوص تنفي الإثم ، لكن لا ترفع الأحكام ، ولهذا يحتاج الإنسان في إثباتها ونفيها إلى دليل آخر 0
أما المكره فهو نوعان : نوع لا اختيار له ولا قدرة على الامتناع ، مثل : إنسان حُمِلَ ثم أُلقي على رجل آخر فمات ، فهذا لا فعل له ولا اختيار ، فلو مات ذاك الرجل لا يؤمر بدية ولا بكفارة قتل الخطأ ، لأنه ليس له اختيار ، أو امرأة اغتصبت على الزنا ، شُدّتْ واغتصبت ، هذه لا اختيار لها ، أما النوع الثاني من الإكراه : فهو الذي يكون له اختيار ، لكنه يجبر على هذا الفعل مثل : إنسان يجبر على الزنا بامرأة ، أو رجل يجبر على أن يقتل رجلاً ، فقد قال العلماء : إنه لا يصح له إذا أكره على قتل معصوم أن يقتله ، لأنه لا يجوز له أن يحفظ نفسه بقتل غيره ، لأنه افتدى نفسه بغيره ، وهذا ذكر ابن رجب في قواعده أن عليه إجماع أهل العلم المعتد بأقوالهم ، أما الإكراه على الأقوال فهو معفو عنها ، كما في قصة عماّر أنه لما أكره على قول كلمة الكفر ، عفى الله عنه ، وعمن يقع في مثل حالته من المؤمنين إلي يوم الدين ، أما الإكراه على الأفعال ففيه التفصيل السابق 0
وأيضاً الإتلاف الذي يحصل بالخطأ والإكراه والنسيان يثبت به البدل ، لو أن إنساناً أتلف مال غيره خطأً أو نسياناً ، فهذا الإتلاف يرفع عنه الإثم فقط ، لكن لا يرفع عنه الضمان ، فإذا أتلف نفساً أو أتلف مالاً كزرع وغيره ، فإنه يضمن لأن الضمان مرتب على نفس الفعل سواء قصد أو لم يقصد ، بل لو أن من لا قصد له أتلف شيئاً وجب الضمان على وليه ، يعني لو أن طفلاً صغيراً أتلف سيارة ، أو أتلف زرعاً ، أو لو أن ماشية لأحد من الناس أتلفت زرعاً ، فعليه أن يضمن ما أتلفت ، وإن كانت هذه لا قصد لها ولا نية لها ، لأن الضمان مرتب على نفس الفعل سواء قصد أو لم يقصد ، وأما الإثم فهو الذي يرتب على المقاصد 0
ومن أراد الاستزادة فليقرأ في أعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله 0
الهوامش:
(1) رواه مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما (8/170 ـ نووي) 0
(2) سورة النساء (24) 0
(3) رواه البخاري (9/525 – فتح ) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه 0
(4) رواه البخاري ( 12/209 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (11/164 ـ نووي ) ، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه 0
(5) رواه البخاري تعليقاً (5/75 ـ فتح ) ، ورواه النسائي عن عمرو بن الشريد عن أبيه وحسنه العلامة الألباني (صحيح سنن النسائي ـ3/970) ، ( إرواء الغليل 5/259) 0
(6) سورة الكهف (110) 0
(7) سورة البقرة (29) 0
(8) سورة الرحمن (10) 0
(9) رواه البخاري (13/278 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (15/110 ـ نووي ) ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه 0
(10) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها (12/16 ـ نووي ) 0
(11) سورة الشورى (21) 0
(12) رواه أبو داوود عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه ( صحيح أبو داوود ـ 1/317) 0
(13) رواه أبو داوود عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه (صحيح أبو داوود – 1/111) 0
(14) سورة يس (12) 0
(15) سورة البقرة (286) 0
(16) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (2/144 ـ نووي ) 0
(17) سورة الأحزاب (5) 0
(18) سورة النحل (106) 0
(19) رواه بن ماجة عن أبي ذر رضي الله عنه ( صحيح بن ماجة ـ 1/347) 0

(20) إرواء الغليل (1/123) 0
(21) رواه مسلم عن بن عمر رضي الله عنهما (3/102 ـ نووي ) 0
(22) سورة المدثر (4) 0
(23) رواه أبو داوود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنها ( صحيح أبو داوود ـ1/128)

ابو وليد البحيرى
2024-10-30, 02:48 PM
شرح القواعد الفقهية للسعدي -4 –


شرح وتعليق فضيلة الشيخ
أبي عبدالله محمد بن حمد الحمود النجدي

شرح القواعد الفقهية

للسعدي

(27) ومن مسائل الأحكام فـي التبــع

يثبـت لا إذا استـقـل فـوقــــع
يشير رحمه الله تعالى إلى قاعدة فقهية معروفة عند الفقهاء وهي : يَثْبتُ تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ، فالأشياء أحكامها تختلف في الانفراد عن حال التبع لغيرها ، هناك أشياء تختلف أحكامها إذا انفردت عن إذا كانت تبعاً لغيرها ، فإذا انفردت كان لها حكم ، وإذا كانت تبعاً لغيرها كان لها حكم آخر يخالف الحكم الأول ، فمن ذلك ما مثّل له الفقهاء بأنه لا يجوز بيع الغرر ( بيع المجهول ) ولكن هذا في المستقل أما في التبع فيجوز ، مثاله : أن الإنسان إذا اشترى بيتاً فإنه يشتريه دون الكشف عن أساس البيت ، لا يحفر حتى يرى أساس البيت ، فيشتري البيت في الظاهر ويبقى جزء من المجهول لا يراه ، ومع ذلك فالبيع صحيح ، لكن

شرح القواعد الفقهية (4)
الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي
شرح الشيخ / محمد الحمود النجدي
(27) ومن مسائل الأحكام فـي التبــع
يثبـت لا إذا استـقـل فـوقــــع
يشير رحمه الله تعالى إلى قاعدة فقهية معروفة عند الفقهاء وهي : يَثْبتُ تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ، فالأشياء أحكامها تختلف في الانفراد عن حال التبع لغيرها ، هناك أشياء تختلف أحكامها إذا انفردت عن إذا كانت تبعاً لغيرها ، فإذا انفردت كان لها حكم ، وإذا كانت تبعاً لغيرها كان لها حكم آخر يخالف الحكم الأول ، فمن ذلك ما مثّل له الفقهاء بأنه لا يجوز بيع الغرر ( بيع المجهول ) ولكن هذا في المستقل أما في التبع فيجوز ، مثاله : أن الإنسان إذا اشترى بيتاً فإنه يشتريه دون الكشف عن أساس البيت ، لا يحفر حتى يرى أساس البيت ، فيشتري البيت في الظاهر ويبقى جزء من المجهول لا يراه ، ومع ذلك فالبيع صحيح ، لكن الغرر وحده محرّم ، لو كان غرراً وحده لكان محرماً ، ومن ذلك أيضاً قالوا : أكل الدود لا يجوز لأن هذه مستكرهة مستقذرة ، لكن لو أن إنساناً أكل تمراً فيه دود فهذا جائز ، لأنه كان تبعاً للتمر وليس استقلالاً ، لا يأكله الإنسان مباشرة ، بل يأكل بعض أنواع الأطعمة وفيها بعض الديدان القليلة التي تغتفر ، فهذا جائز ، ولو كانت وحدها لم تجز ، من ذلك أيضاً : بيع الثمر قبل بدو صلاحه حكمه في الشرع أنه لا يجوز ، إلا في حال القطع في الحال ، إذا كان يشتريه بشرط القطع في الحال فإنه يجوز ، وأيضاً في حالة أخرى وهي : لو أنه اشترى الشجر وما عليها من الثمر قبل بدوّ الصلاح فإنه يجوز ، لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ، لأن شراء الشجر هو الأصل ، فكان الثمر الذي على الشجر تبعاً وليس هو المقصود بالبيع ، فهذا هو معنى القاعدة هذه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً والتي قصدها الناظم هنا 0
(28) والعُرْف معمول بـه إذا وَرَدْ
حكــم من الشـرع الشريـف لـم يُحَدّ
هذا البيت عن العرف ، والذي يعبر عنه الفقهاء بقولهم العادة محكَّمة ، لكن الصحيح أن بينهما فرقاً ، وهو أن العادة أعم من العرف ، العرف يكون عاماً في البلد ، لكن العادة قد تكون للشخص ، وقد تكون لهذا البيت ، وقد تكون لهذه الصنعة أحياناً ، فالعادة أعم من جهة الأفراد ، فتكون خاصة عند بعض الأفراد ، والعرف يكون عاماً من جهة الشيوع والانتشار 0
العرف معمول به في الشريعة إذا لم يرد في الشرع تحديد لحكم ما ، أو تفسير لحكم ما ، بكلام الله تعالى ورسوله ، مما مثل له الفقهاء واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(24) : السفر ، السفر جاء في الشرع ولم يحد بمسافة مقطوعة ، ما قال صلى الله عليه وسلم : من قطع مسافة كذا وكذا قصر الصلاة ، ولا قال من سافر يوماً وليلة قصر الصلاة ، ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن السفر من الأشياء التي تحد بالعرف فما كان في عرف الناس سفراً فهو سفر ، وما كان في عرفهم ليس بسفر فهو ليس بسفر 0
ومن ذلك أيضاً : الحِرْز ، الحرز شرط من شروط القطع ، يعني لا تقطع اليد إلا إذا كان المسروق من حرز ، أما من ترك ماله للناس وأخذوه ، فليس فيه قطع ، وليس فيه حد السرقة ، لكن الحرز يكون حسب عرف الناس فما تعارف عليه الناس أنه حرز فهو حرز ، وما كان في عرفهم ليس حرزاً فهو ليس بحرز ، من ذلك أيضاً : قول الله تعالى { وعاشروهن بالمعروف }(25) المعروف الذي قيّدت به الآية لم يذكر تحديده في الآية ، ما قال الله عزوجل أنفقوا عليهن كذا وكذا دينار ، وألبسوهن كذا وكذا ثوب في كل سنة ، وأطعموهن كذا وكذا من الطعام ، وإنما المعاشرة بالمعروف تكون في كل بلد وفي كل زمن بحسبه ، فعندنا هنا مثلاً البيت الذي لا يوجد فيه مكيّف هذا بيت لا يمكن السكنى فيه ، وأن الزوج إذا لم يوفر لزوجته مكيّف في البيت ، يكون عاشرها بغير المعروف ، لكن في بلاد أخرى تعارفوا أن هذا الأمر ربما يكون من كماليات الكماليات ، فإذاً تختلف الأعراف والعادات بحسب البلدان وبحسب الأزمنة ، أيضاً ما تعارف عليه الناس ذوي الطبقة المتوسطة غير الذي يتعارف عليه الأغنياء ، فالأغنياء مثلاً عندهم أعراف بالنسبة للزواج بالنسبة للبيوت غير عرف من هو متوسط الحال ، من ذلك أيضاً برّ الوالدين وصلة الرحم لم يحد في الشرع { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى }(26) الإحسان هذا ما هو محدد في الشريعة ، فيرجع فيه إلى العرف ، فكل ما كان براً وكان إحساناً إلى الوالدين فهو مأمور به ، وكل ما كان بضد ذلك فهو منهيٌ عنه ، وكذلك صلة الرحم كثيراً ما نسأل كم اصل رحمي في الأسبوع ؟ في الشهر ؟ في السنة ؟ نقول المرجع في ذلك إلى العرف وإلى العادة ، ما اعتدت عليه واعتاد عليه أهل بلدك فاتبعه في هذا الباب ، لأنه لم يأت محدداً في الشرع ، فكل ما لم يحد بالشرع فإنه يرجع فيه إلى عرف الناس 0
أيضاً ذلك في المعاملات : لو أن إنساناً استأجر حمالاً يحمل له الأغراض من السوق إلى السيارة فإنه يعطيه الأجرة المتعارف عليها ، ولو طالب بالزيادة لم يكن له ذلك ، إلا أن يشرط قبل أن يحمل ، وإلا فإنه يعطى ما جرت به العادة ، أيضاً من ذلك : تصرف الإنسان في ملك غيره مثلوا له بطرق الباب واستعمال جرس الباب هذا من ملك الغير ، لكن جرت العادة بالسماح باستعماله وما أشبه ذلك من الأمور ، وهي كثيرة جداً ، فما جرى به العرف وعمل به الناس ما لم يخالف الشرع فهو محكّمٌ وهذا معنى قول الفقهاء العادة محكمة يعني معمول بها ، فإذا نص الشارع على حكم وعلق به شيئاً فإن نص على حده وتفسيره رجعنا إليه ، فهناك أمور محدودة كالزكاة مثلاً وأنصبتها هذا كله محدود في الشرع ، وأما الذي لم يحد في النص ، فإنه يرجع فيه إلى العرف الجاري 0
(29) معاجـل المحظــور قبــل آنــه
قـد باء بالخســران مـع حرمانـه
معاجل المحظور قبل آنه ، يعني : قبل أوانه ، من استعجل الأمر المحظور قبل أوانه فقد باء بالخسران ، لأنه وقع في الإثم والمعصية والذنب ، مع حرمانه من ذلك إما شرعاً وإما قدراً ، وهذا يعبر عنه الفقهاء بقولهم من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه وهذا عام في أحكام الدنيا والآخرة ، يعني يدخل في ذلك أحكام الدنيا الشرعية ، وكذلك أحكام الآخرة والعقوبات الأخروية ، فمن ذلك من الأحكام الدنيوية : أن الوارث لو قتل مُوَرَّثه منع من الميراث عقوبة له لاستعجاله الميراث قبل أوانه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا (( ليس لقاتل ميراث ))(27) يعني من ثبت أنه قتل مورّثه ولو عن طريق الخطأ فإنه يحرم من الميراث ، فإن قال قائل : إذا كان هذا واضحاً في العمد فكيف يجري في الخطأ ؟ فالجواب : لئلا يتخذ ذريعة إلي القتل ، فيدبّر الإنسان صورة القتل كأنها صورة خطأ ، وهي في الحقيقة عمد ، ولهذا جاءت الشريعة بسدّ هذا الباب سداً للذريعة ، لئلا يُتخذ القتل الخطأ ذريعة إلى الحرام ، فليس لقاتل ميراث مطلقاً ، من ثبت أنه قتل مورّثه ولو عن طريق الخطأ فإنه يحرم من أن يرث من ميراثه شيئاً 0
من الأحكام أيضاً في الشريعة : ما جاء أن المُدَبَّر إذا قتل سيده مُنِعَ العتق ، والتدبير هو أن يقول الرجل لعبده : إذا مت فأنت حرّ ، فمن أجل أن يستعجل الحرية يقتل العبدُ سيده ، فإذا ثبت أن العبد قتل سيده ولو عن طريق الخطأ فإنه يمنع من العتق ، من ذلك أيضاً ما أجراه الصحابة على المطلّق في مرض الموت ، من طلّق امرأته في مرض موته ليحرمها من الميراث وُرثّتْ وخولف في قصده ، إذا كان قصده أن يمنع امرأته من الميراث فيطلقها في مرض موته ، فراراً من الميراث ، فإنها ترث ولو خرجت من العدة ، أما في الأحكام الأخروية فمنها : قول النبي عليه الصلاة والسلام (( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ))(28) وفي الحديث الآخر (( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ))(29) وفي الحديث أيضاً (( من شرب الخمر حُرمها في الآخرة ))(30) فهذه كلها من الأحكام الأخروية أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ما لم يتب ، فهذا لكونه استعجل أشياء محرمة عاقبه الله تعالى بحرمانها إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وكما أن المتعجل للشيء قبل أوانه يعاقب بحرمانه ، فإنه يقابل من ترك شيئاً لله تعالى ، اتقاء الله تعالى ، فإن الله سبحانه تعالى يعوضه عنه خيراً .
وهذه القاعدة مأخوذة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي الدنيا في كتابه الورع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (( إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله عزوجل إلا آتاك الله خيراً منه ))(31) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فمن ترك شيئاً لله سبحانه وتعالى عوضه الله خيراً منها ، من ترك معصية تشتهيها نفسه وترغب فيها ، فإن الله تعالى يعوضه خيراً منها : إيماناً في قلبه ، أو عملاً صالحاً ، أو علماً نافعاً ، أو رزقا واسعاً ، أو قوة في البدن ، أو رفعة عند الخلق ، فإنك لن تترك شيئاً اتقاء الله تعالى إلا آتاك الله خيراً منه ، ومثال على ذلك نقول : تفكروا في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام كيف أنه ترك المعصية اتقاء الله تعالى ، لم يتق في ذلك أي مخلوق لأنها غلّقت الأبواب ولا أحد عنده ، لكن تركها اتقاء الله عزوجل ، وانظروا كيف عوضه الله عزوجل من ذلك ، الملك الواسع والسلطان والقوة ، والسعه في الرزق ، والرفعه على الخلق ، ولو أنه وحاشاه عصى الله عزوجل هل كان له ذلك ؟ أبداً ، فمن ترك شيئاً لله سبحانه وتعالى عوضه الله تعالى خيراً منه في الدنيا والآخرة ، والله سبحانه وتعالى المستعان على تحصيل هذه الخصلة 0
(30) وإن أتى التحريم في نفس العملْ
أو شرطـه ، فذو فسـاد وخلــــلْ
معنى هذا البيت أن التحريم إذا عاد إلى نفس العمل أو شرطه فإن العمل يحكم بفساده ، فالعمل لا بد أن يكون خالياً من الموانع ليقع صحيحاً ، ولا بد أن تكتمل شروطه أيضاً ، فإن وُجد مانع يمنع من صحة العمل فسدت العبادة ، وإذا نقص شرط من شروط صحة العبادة فسدت العبادة ، مثاله : الصلاة ، الصلاة لها موانع ولها شروط ، من موانع الصلاة الحيض ، فلو حاضت المرأة وصلّت فإن صلاتها فاسدة ، لأن هناك مانعاً منع من صحة الصلاة ، وللصلاة شروط منها : دخول الوقت ، فلو صلى الإنسان قبل دخول الوقت كانت صلاته باطلة ، ومن شروط الصلاة : التطهّر فلو صلى الإنسان بغير وضوء فإن صلاته باطلة ، ومن شروطها : الطهارة في البدن وفي الثوب وفي المكان ، فلو صلى الإنسان بنجاسة على بدنه أو ثوبه أو مكانه متعمداً بطلت صلاته ، لو صلى وهو مستدبر القبلة فإن صلاته باطلة ، لو صلى بغير نية صلاته باطلة ، فإذا أخلّ بركن من أركان الصلاة أو شرط من شروطها فإن هذه الصلاة باطلة ، لأن التحريم عاد إلى نفس العمل أو شرطه ، كذلك لو صام الإنسان في يوم العيد فإن صيام يوم العيد باطل وفاسد ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهي عن صيام العيدين(32) ، والنهي والتحريم عاد إلى نفس العبادة 0
أمّا إذا كان النهي والتحريم لا يعود إلى نفس العبادة ولا إلى شرطها ، مثل : أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس خاتم الذهب للرجال ، وكذا نهى عن لبس الحرير ، فلو صلّى رجل وهو يلبس خاتم الذهب فإن النهي والتحريم لا يعود إلى نفس العبادة ، وإنما إلى شيء خارج عنها ، ولذلك فإن صلاته صحيحة مع إثمه بلبس الذهب ، لو صلى وعليه عمامة من الحرير فإن صلاته صحيحة ، لأن التحريم عاد إلى شيء خارج العبادة ، والراجح من أقوال العلماء هو هذا ، وإن كان قد خالف في ذلك الظاهرية ، لأن الظاهرية يقولون ومنهم الإمام ابن حزم رحمه الله : أن الإنسان لو صلّى وهو يلبس الذهب فإن صلاته باطلة ، لأنه لا يجتمع في الرجل أن يعبد الله مع المعصية في حال الصلاة ، قال : ما دام أنه في حال الصلاة يعصي الله عزوجل فصلاته باطلة ، الإمام أحمد رحمه الله قال أيضاً شيئاً من ذلك ، قال : من صلى في أرض مغصوبة فصلاته باطلة ، لأنه في حال صلاته متلبّس بمعصية ، ولذلك فلا تصح صلاته(33) ، وكذا قال ابن حزم : من صلى وهو مسبل إزاره فإن صلاته باطلة(34) ، لكن الراجح هو ما ذكرناه : أن الصلاة صحيحة مع حرمة هذه الأفعال 0
(31) ومتلفُ مـؤذيـهِ ليـس يَضمـنُ
بعـد الدفاع بالتي هيَ أحســـنُ
( متلف مؤذيه ليس يضمن ) يعني إذا صال على الإنسان شيء مؤذي ، صال بمعنى هجم ، إذا هجم على الإنسان شيء يؤذيه كثورٍ هائج أو بقرة هائجة ، أو جمل في حال هيجان وما أشبه ذلك ، أو طير صال عليه وهجم عليه ، فإن عليه أن يدفع بالتي هي أحسن ، يعني يدفعه بالأقل ، يحاول أن يدفعه بيده ، فإذا كان مما لا يندفع باليد يدفعه بعصا ، فإذا كان مما لا يندفع بالعصا ، يَكسر رجله مثلاً لأجل أن يتعطّل ، فإذا كان لا يندفع إلا بقتله فإنه يقتل ولا ضمان عليه ، لأنه من باب دفع الصائل عن النفس ولا حرج على الإنسان أن يدفع عن نفسه إذا أراد أحدٌ أن يؤذيه ، لكن عليه أن يدفع بالأقل ، لو أن إنساناً دفع شيئاً مما يندفع بالضرب ، دفعه بالقتل ولا حاجة له إلى ذلك فإنه يضمن ، يعني يغرم ثمنه ، إذا كان الإنسان يستطيع أن يدفع صولته بأن يحبسه في القفص ، أو يحبسه في الحظيرة ، فلا حاجة له إلى أن يقتله ، ولا أن يفسده أو يتلفه ، لكن إذا كان هذا المؤذي لا يندفع إلا بالقتل فإنه يقتل وليس عليه ضمان 0
وكذا قالوا لو صال على الإنسان طير في الإحرام ، وهو في حال الإحرام ممنوع من قتل الصيد فلو صال عليه شيء فقتله فإنه لا ضمان عليه ، أما إذا اضطر إلى أكل الصيد وهو محرم فهذه مسألة أخرى ، ليست من باب دفع الصائل ، إنسان اضطر إلى أكل الصيد ، نفذ ما معه من زاد واحتاج إلى أن يأكل فصاد أرنباً أو غزالاً وذبحه وأكله للضرورة ، فإن هذا لا أثم عليه ، لأن الله تعالى قال { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه }(35) لكن هل عليه الضمان ؟ نعم عليه الضمان ، لكن لا أثم عليه ، والضمان يكون في مقابل جبر ما حصل من قتل أو اعتداء على الصيد في حال الإحرام 0
(32) وأل تفيــد الكـل فـي العمـــوم
فـي الجمــع والإفـــراد كالعليـــم
( أل ) التعريف إذا دخلت على لفظ مفرد أو لفظ جمع أفادت العموم والاستغراق لجميع المعنى ، فمثال ذلك قول الله تعالى { الحمد لله رب العالمين }(36) الألف واللام هنا تفيد الاستغراق والعموم ، جميع أنواع المحامد ثابتة له سبحانه وتعالى ، وهو عزوجل الذي له الحمد كله ، ولا يلحقه ذم ولا نقص ، فهو جل وعلا المستحق لجميع أنواع المحامد ، ومثله قول الله عزوجل { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا }(37) فالإنسان هنا مفرد ودخول (أل) عليه هنا تفيد العموم ، فكل أنواع الإنسان في خسر ، إلا طائفة واحدة ، وهي التي استثناها الله عزوجل بقوله { إلا الذين آمنوا } بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم { وتواصوا بالحق } تواصوا بالعلم النافع والعمل الصالح { وتواصوا بالصبر } على ذلك ، فكل الناس في خسر إلا هذه الطائفة الرابحة ومن فاته شيء من هذه الخصال ، فاته شيء من الربح ، وأصابه شيء من الخسار في هذه الأمور الأربعة ، وكذلك قول الله عزوجل { إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون }(38) فكل واحد من الناس هذه صفته ، مثل قول الله عزوجل { إن الإنسان لظلوم كفار }(39) { إن الإنسان لربه لكنود }(40) كل الناس هذه صفتهم إلا من أخرجته عن هذه الصفات المذمومة ، صفات الخير من الإيمان والعمل الصالح كالصلاة والزكاة وغيرهما 0
ومثال دخول (أل) على المفرد دخولها على أسماء الله الحسنى فإنها تفيد الاستغراق (كالعليم ـ الحكيم ـ الملك ـ القدوس ـ السلام ـ المؤمن ـ المهيمن وغيرها ) فهنا مثّل الناظم باسمه تعالى ( العليم ) فالعليم الذي له العلم الشامل التام بكل شيء ، ( الحكيم ) الذي له الحكمة التامة فهو يضع الأمور في مواضعها ، وأيضاً الذي احكم صنع كل شيء ، فالأحكام في الصنعة موجود في اعظم الأشياء وفي أدق الأشياء ، فالبعوضة محكمة ، كما أن خلق السماء محكم ، ( الرحمن الرحيم ) الذي له الرحمة العامة التي وسعت الخلائق ، ولذلك استوى على أوسع مخلوقاته بأوسع أسمائه فقال { الرحمن على العرش استوى }(41) ، ( الغني ) الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه وهكذا ، فأسماء الله تعالى إذا دخلت عليها ( أل ) فإنها تفيد التعظيم والشمول والاستغراق 0
وأما في الجمع فأيضاً ( أل ) دخولها يدل على العموم ، كقوله تعالى { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات …} إلى قوله { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } (42) وكذا قول الله تعالى { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله }(43) هنا الفقراء تشمل جميع الخلق ، فجميع الخلق من الفقراء ، ومثلها أيضاً قول الله تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم }(44) فالتقوى مطلوبة من الجميع ، مهما بلغ الإنسان في رتبة العلم النافع والعمل الصالح ، فإنه مطلوب منه أن يتقي الله ، ما يقول في يوم من الأيام : أنا قد سقطت عني هذه المطالبة بعلمي الواسع وعملي الصالح ، نقول : لا ، لأن الله تعالى قال { يا أيها الناس اتقوا ربكم } فعم ولم يخص ، وأيضاً من أمثلة ذلك : قول الرسول صلى الله عليه وسلم (( إنما الأعمال بالنيات )) يشمل كل عمل بدني ومالي ، فالأعمال العبادية البدنية كالصلاة ، والأعمال العبادية المالية كالزكاة ، والأعمال البدنية المالية العبادية كالحج والجهاد ، فهذا اللفظ (( إنما الأعمال بالنيات )) يشمل الجميع0
(33) والنكرات في سيـاق النفـي
تعطي العموم ، أو سيــاق النهـي
إذا جاءت النكرة بعد النفي ، أو جاءت بعد النهي فإنها تفيد العموم والشمول أيضاً ، هذه كلها من القواعد الأصولية التي تدخل في أصول الفقه ، فمثال النكرة في سياق النفي قولنا : ( لا إله إلا الله ) ، ( لا إله ) يفيد العموم لأنه نكرة في سياق النفي ( إله ) نكرة دخل عليها النفي فأفادت العموم ، فلا إله في الأرض ولا في السماء إلا الله سبحانه وتعالى ، فنفت الإلهية عن غير الله تبارك وتعالى ، وكذلك قولنا : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) نكرات في سياق النفي أفادت العموم ، في جميع الأحوال لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكذا قول الله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا }(45) ( بشيء ) نكرة في سياق النفي تفيد العموم ، ومثال النكرة في سياق النهي { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين }(46) ( إلها ) نكرة في سياق النهي تفيد العموم ، { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً }(47) ، { ولا تقولن لشيء } أي شيء صغير أو كبير لا تقولن له إني فاعله غداً { إلا أن يشاء الله } ، فإذاً النكرة إن كانت في سياق النفي أو في سياق النهي فإنها تفيد العموم 0
(34) كذاك (( مَنْ )) و (( مَا )) تفيدان مَعَا
كُلَّ العمـوم يا أُخَــيّ فاسْمَعَـــا
أي أن حرفي (من) و (ما) تفيدان العموم (48) ، بعد أن ذكر أن (أل) تفيد العموم ، وأن النكرة في سياق النفي والنهي كل منهما يفيد العموم ، قال هنا وأن (من وما) تفيدان العموم ، يعني أنهما يستغرقان كل ما يدخل فيهما ، كما قال سبحانه وتعالى { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة }(49) هذه تفيد العموم ، كل ذكر وأنثى إذا عمل صالحاً وهو مؤمن فإن الله وعده بالحياة الطيبة ، وقوله عزوجل { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه }(50) هذه أيضاً تفيد العموم وهي وعيد للمشركين ، وأيضاً كقوله سبحانه وتعالى { ومن أصدق من الله حديثاً }(51) { ومن أصدق من الله قيلاً }(52) يفيد العموم أن الله سبحانه وتعالى أصدق القائلين ولا أصدق من الله عزوجل ، وقال عزوجل { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن }(53) فهذا أيضاً يفيد العموم ، ومن الأحاديث شيءٌ كثير مما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ، من قال كذا فله كذا وكذا ، من صلى كذا فله كذا وكذا ، هذا يفيد العموم لأن حرف (من) من ألفاظ العموم 0
أما مثال (ما) فكقوله عزوجل { ولله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه }(54) هذا كله يفيد العموم ، وكقوله عزوجل { وما تحمل من أنثى و لا تضع إلا بعلمه }(55) يشمل جميع الإناث على العموم من الإنسان وغيره ، وقوله عزوجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }(56) يفيد عموم ما تكلّم به النبي عليه الصلاة والسلام من أمر أو نهي ، وقوله عزوجل { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون }(57) أي أن كل الأنبياء والمرسلين دعوا الناس إلى توحيد الله عزوجل ، ويبقى هذا العموم على عمومه حتى يأتي التخصيص ، والتخصيص لا بد له من دليل وقرينة 0
—————————— —————————— ——————–
(24) تيسير الفقه الجامع للإختيارات الفقهية (1/333) 0
(25) سورة النساء (19) 0
(26) سورة النساء (36) 0
(27) رواه بن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( صحيح بن ماجه ـ2/98) 0
(28) رواه البخاري (9/465 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (14/35 ـ نووي ) عن حذيفة رضي الله عنه 0
(29) رواه البخاري (10/296 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (14/35 ـ نووي ) عن حذيفة رضي الله عنه 0
(30) رواه البخاري (10/33 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (13/172 ـ نووي ) عن بن عمر رضي الله عنهما 0
(31) رواه أحمد وغيره انظر : كتاب الورع (41 – بتحقيقنا ) ، وصححه العلامة الألباني (السلسلة الضعيفة ـ1/61) 0
(32) رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه (8/15 ـ نووي ) 0
(33) حاشية الروض المربع لابن قاسم (1/503) 0
(34) المحلى (3/266) 0
(35) سورة البقرة (173) 0
(36) سورة الفاتحة (1) 0
(37) سورة العصر (1ـ3) 0
(38) سورة المعارج (19ـ23) 0
(39) سورة إبراهيم (34) 0
(40) سورة العاديات (6) 0
(41) سورة طه (5) 0
(42) سورة الأحزاب (35) 0
(43) سورة فاطر (15) 0
(44) سورة الحج (1) 0
(45) سورة البقرة (255) 0
(46) سورة الشعراء (213) 0
(47) سورة الكهف (23) 0
(48) وتشمل ( من ) و ( ما ) الاستفهامية والشرطية والموصولة وكذا سائر الأسماء الموصولة كالذي والتي وفروعهما 0
(49) سورة النحل (97) 0
(50) سورة المؤمنون (117) 0
(51) سورة النساء (87) 0
(52) سورة النساء (122) 0
(53) سورة النساء (125) 0
(54) سورة البقرة (284) 0

(55) سورة فصلت (47) 0
(56) سورة الحشر (7) 0
(57) سورة الأنبياء (25) 0

ابو وليد البحيرى
2024-11-04, 03:47 AM
شرح القواعد الفقهية للسعدي -5 –


شرح وتعليق فضيلة الشيخ
أبي عبدالله محمد بن حمد الحمود النجدي
35) ومثلـه المفـرد إذ يضـاف
فافهم هديـت الرشــد ما يضـاف
وهذا البيت الأخير في باب العام هنا ، المفرد المضاف يفيد العموم ويستغرق جميع المعنى ، والعام هو اللفظ الشامل المستغرق لجميع أفراده بلا حصر ، لأن العام أصلاً في اللغة معناه الشمول ، فالمفرد المضاف أيضاً يفيد العموم ، منه قوله عزوجل { وأما بنعمة ربك فحدث }(1) المفرد المضاف هو { نعمة ربك } يعني النعمة مضافة إلى الله سبحانه وتعالى ، { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }(2) فالمفرد المضاف هو { نعمة الله } ، منها أيضاً قوله عزوجل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم }(3) المفرد المضاف هو { عبادي } مضاف بياء الإضافة فيدخل فيه جميع العباد وهذا كثير في القرآن { قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة }(4) ، { سبحان الذي أسرى بعبده }(5) { تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده }(6) ويعطي معنى أن النبي عليه الصلاة والسلام قام بجميع وظائف العبودية ، لأن هذا مفرد مضاف ، وبهذا ينتهي الكلام على العموم والألفاظ الدالة عليه ، قلنا أن الألفاظ التي تدل على العموم هي : (أل) التعريف ، والنكرة في سياق النفي أو النهي ، و(من) و(ما) والمفرد المضاف ، هذه الأمور التي ذكرها هناً ، وهناك أشياء غير التي ذكرها المصنّف لكن هنا الكلام على جهة الاختصار ، وهناك ألفاظ أخرى تدل على العموم مثل : كل وجميع 0
(36) ولا يتم الحكم حتى تجتمع
كــل الشروط والموانــع ترتفـع
هذا البيت يدل على قاعدة عظيمة من قواعد الشرع ، ألا وهي أن الأمر لا يتم ولا يكتمل إلا بأن تتحقق فيه الشروط وتنتفي الموانع عنه(7) ، ونضرب على ذلك أمثلة : وأعظم تلك الأمثلة التوحيد : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، التوحيد لا يتم إلا بتحقق شروط وانتفاء موانع ، أما تحقق الشروط فأن يقرّ ويذعن بالإيمان ظاهراً وباطناً بالقلب واللسان والجوارح ، أما بالقلب فبالتصديق والإقرار والانقياد والمحبة والخوف والرجاء والتوكل ، وهذه كلها متممات لا يتم التوحيد إلا بها ، وأما باللسان فبالإقرار أيضاً وبقراءة القرآن وترديد الأذكار وما أشبه ذلك ، هذا كله من متممات التوحيد ، وأما بالجوارح فبالانقياد للتصديق الذي في القلب فإنه لا بد أن يظهر ذلك على الجوارح ، يعني من قال : إنه مصدق بوجود الشيء ، لا بد أن يظهر ذلك على لسانه وجوارحه ، وإلا لم يكن مصدقاً في الباطن ، يعني يستحيل أن يصدّق إنسان بقدوم جيش يجتاح الناس ، ويبقى في مكانه دون حراك ولا استعداد ولا هرب ، فهذا ليس بمصدق وإن قال أنا مصدق ، إذاً لا بد أن توجد فيه هذه الشروط ، أما موانع تحقق فضل التوحيد فهي أمور ثلاثة :
الأول : الشرك ، الثاني : البدعة ، الثالث : المعصية ، فإن الشرك يمنع تحقق كمال التوحيد { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين }(8) والشرك كما تعلمون شرك أكبر يناقض التوحيد من أصله ، يعني يمنع وجود الأمر وتمامه من أصله ، وأما الشرك الأصغر فإنه يخدش في التوحيد ولا يناقضه من أصله ، ولا يرفعه من أصله كالرياء والحلف بغير الله وقول العبد : ما شاء الله وشئت وما أشبه ذلك ، هذا كله من الشرك الأصغر الذي لا يناقض التوحيد من أصله ،
وأما البدعة فإنها أيضاً تضاد التوحيد وتضاد كمال الإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما المعصية فكذلك تنافي كمال التوحيد ، فإذاً لا يتم التوحيد إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع ، وعلى هذا يحمل كل وعد في الكتاب للمسلمين وللموحدين والمؤمنين ، أنه لا يحصل للعبد حتى تتم الشروط تتحقق وتنتفي الموانع ، وإلا كان الأمر إما منقوضاً من أصله أو ناقصاً غير تام 0
وعلى هذا أيضاً أموراً كثيرة ، من ذلك الصلاة : الصلاة لا بد لها من شروط ، لا بد لها من ستر العورة واستقبال القبلة والوضوء وما أشبه ذلك من الشروط ودخول الوقت ، ولا بد من انتفاء موانع : كنواقض الوضوء وكالحيض والنفاس وماأشبه ذلك ، فلا تتم الصلاة إلا إذا تحققت شروطها وانتفت موانعها ، ولا يقال فلان صلى إلا إذا صلى الصلاة التي تتم بها الشروط وتتحقق وتنتفي عنها الموانع ، ولذلك لا نحكم على الشيء بأنه موجود وتام إلا بهذين الأمرين ، والإسلام كله لا تتحقق أعماله إلا بالتوحيد والإتباع ، كما قال الفضيل بن عياض(9) { ليبلوكم أيكم أحسن عملا }(10) قال : أخلصه وأصوبه فإن العمل إن كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون صواباً خالصاً ، فإذاً لا بد من هذين ليتم العمل ، فهذا البيت في الحقيقة دالٌ على هذه القاعدة العظيمة ولها أمثلة كثيرة ، وقد ضرب الناظم رحمه الله تعالى أمثلة كثيرة في الشرح 0
(37) ومن أتـى بما عليــه مـن عمـل
قـد استحـــق مالـه عـلى العمــــل
هذا البيت في الأعمال التي يضمن فيها الإنسان ، والأعمال التي لا يضمن وتكون هدراً ، فما نشأ عن الأمر المأذون فيه فليس فيه ضمان ، وما نشأ عن العمل الذي لا إذْنَ فيه فإنه مضمون ، مثال ذلك ومعناه : أننا لوقطعنا يد سارق ، فسرى القطع حتى فسدت اليد ، ثم قطعت من المرفق بسبب الفساد الذي أصاب اليد ، فإننا لا نضمن ، لأن قطع يد السارق مأذونٌ فيه من الشارع ، لكن لو أن إنساناً جرح إنساناً في رجله أو في يده فسرى هذا الجرح حتى فسدت اليد وقطعت فهو في هذه الحالة يضمن ، ولهذا من تعدى على إنسان بجرح لا يُقاد له حتى يَبرأ ، حدث أن رجلاً جرح رجلاً في ركبته فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال له : اقدني من فلان ، قال : حتى تبرأ ، ثم جاءه الثانية وقال : اقدني من فلان ، قال : حتى تبرأ ، فلمّا أصرّ عليه أقاده ، يعني جرحه مثل ما جرحه ، ثم إن ذلك الرجل سرت الجراحة فيه فتعطّلت ركبته أو رجله فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فردّه وأبطل ما حدث من سراية في جرحه ، لأنه استعجل وأبى أن يسمع ما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم(11) 0
من ذلك أيضاً لو أن إنساناً حفر بئراً في مكان مأذون فيه ، فجاء إنسان وسقط فيه فلا ضمان عليه ، ولو أن إنساناً كانت له بهائم في حظيرة مغلقة ، فجاء إنسان ودخل على الحظيرة فجاء ثور ونطحه وكسره أو أصابه بجراحة ، فهذا لا يضمن ، لكن لو أنه أطلق دابة خطرة في الطريق ، فأصابت بعض المسلمين يكون ضامناً ، كذلك لو وضع حجراً في طريق المسلمين وتأذى به بعض المسلمين فإنه يكون ضامناً ، فالفعل المأذون فيه لا ضمان فيه ، أما الفعل الذي لا يكون مأذوناً فيه فإنه يضمن 0
من ذلك أيضاً قالوا : لو أن إنساناً أراد أن يجوز بين يدي إنسان يصلي فدفعه فسقط وانكسر ، قالوا : لا ضمان عليه لأنه متعدٍ وهذا الفعل مأذون فيه 0
أيضاً مما يشبه هذه القاعدة ما بيّنه الشارح أن الآثار الناشئة عن الطاعة من الأعمال المأذون فيها المستحبة ، يثاب عليها الإنسان ، كالتعب والنصب الذي يصيب الإنسان بفعل الطاعات ، فإن هذا يثاب عليه الإنسان ، ومن ذلك الرائحة الكريهة التي تحدث بفعل الصيام ، فإن هذه يثاب عليها الإنسان ، وأن الآثار الناشئة عن المعصية من العقوبات أو الأمراض أو البلاء والتعب فهذا تبعٌ للمعصية 0
(38) وكل حكـم دائـــر مع علتـه
وهــي التــي قد أوجبت لشرعيته
هذه قاعدة عظيمة وهي أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فإذا وجدت العلة وجد الحكم ، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم ، لأن العلة هي التي من أجلها شُرِع الحكم ، فمثلاً : الإسكار هي علة تحريم الخمر ، فإذا وجدت هذه العلة في أي شراب ، أعطيناه حكم الخمر وهو التحريم ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم (( كل مسكر خمر ))(12) إذا انتفت هذه العلة بأن تحوّل الخمر إلى خل ، انتفى الحكم ، وهو التحريم ، وصار يجوز للإنسان أن ينتفع بالخل ، لأن الخل حلال لا إسكار فيه ،
ومن ذلك الحيض : فهو علة منع المرأة من الصلاة والطواف ، فإذا وجدت هذه العلة وجد الحكم ، وإذا ارتفع هذا الحيض ارتفعت أحكامه . المشقة قالوا هي علة لكثير من التخفيفات كالفطر في السفر ، وكصلاة المريض قاعداً أو على جنبه ، أو بعض التخفيفات كالتيمم ونحو ذلك ، فإذا وجدت المشقة حصلت التخفيفات ، وإذا لم توجد عدمت هذه الأحكام ، من ذلك التكليف ، وهو مكوّن من العقل والبلوغ هذه علة التكليف ، يعني التكليف لا يكون إلا بالعقل والبلوغ فإذا وجد التكليف لزمت الفرائض والتكاليف الشرعية ، وإذا لم يوجد التكليف بأن كان الإنسان عاقلاً غير بالغ ، فإنه لا تلزمه التكاليف الشرعية ، أو أن يكون بالغاً غير عاقل ، فإنه لا تلزمه التكاليف الشرعية ، لأن العلة منتفية لم توجد ، كذلك الإسلام إذا لم يكن الإنسان مسلماً فإن الأعمال الصالحة لا تقبل منه ، إذا انتفت هذه العلة ، انتفت صحة الأعمال ، فشروط الأحكام داخلة في هذا الباب ، فجميع العبادات لا تصح إلا بالتمييز والعقل والإسلام 0
(39) وكـل شـرط لازم للعاقـــد
فــي البيــع والنكــاح والمقاصــد
(40) إلا شــروطاً حللت محرّمـــاً
أو عكســـه فبــاطلات فاعــلمــا
هذان البيتان في بيان أصل كبير ، وقاعدة كبيرة في الشروط الصحيحة والشروط الباطلة ، فإن الشروط نوعان : شروط صحيحة وشروط باطلة في جميع العقود ، سواء عقود البيع أو الإجارة أو الرهن أو النكاح أو غير ذلك ، فالشروط على نوعين : صحيح وباطل ، أما الصحيح : فهو كل شرط فيه مصلحة لأحد الطرفين ، أو فيه مصلحة للطرفين ، وليس فيه محذور ولا مخالفة للشرع ، هذا هو الشرط الصحيح ، وهذا كما قلنا يدخل في البيع والشراء والإجارة والرهن والنكاح والضمانات وغيرها ، وأما الشرط الباطل : فهو الذي يتضمن تحليل حرام أو تحريم حلال ، وهذا يدخل أيضاً فيه جميع الشروط سواء كانت في البيع أو الرهن أو النكاح ، فمتى اشتمل العقد على تحريم الحلال أو تحليل الحرام كان شرطاً باطلاً ، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم (( كلُ شرطٍ ليس في كتابِ الله فهو باطلٌ وإنْ كان مائة شرط ))(13) يعني ولو اشترط مائة شرط إذا كانت ليست في كتاب الله ، فلا قيمة لها بل هي باطلة لاغية لا تلزم العبد 0
والشروط تارة تكون لفظية مذكورة في العقد باللفظ ، وتارة تكون عرفية يعني تعارف أهل البلد على هذا الأمر ، بحيث أن كل من باع أو اشترى أو تزوج يعرف هذا الشرط ، وتارة تكون شروطاً شرعية مثل : أن من باع ذهباً بذهب لا بد من التقابض والتماثل ، فإذا انتفى هذان الشرطان بطل العقد ، ولو اشترط أحدهما التأجيل كان شرطاً باطلاً لأنه يخالف الشريعة ، فإذاً هذا يكون قاعدة عامة أن الشروط الصحيحة ما كان فيه مصلحة لأحد الطرفين أو لكلاهما ولا يكون فيه مخالفة للشرع ، والشرط الباطل ما يتضمن تحليل حرام أو تحريم حلال ، وهذا يدخل في كل أنواع العقود ، وإذا تعاقد اثنان على عقد ، واشترط أحدهما شرطاً فإذا لم يف الآخر به فله أن يفسخ العقد 0
(41) تستعمل القرعة عند المبهــم
مــن الحقــوق أو لــدى التزاحـم
هذا البيت في بيان أن القرعة من الشرع ، وأنها معمول بها في الشريعة ، القرعة أمر شرعي ويعمل بها في الشريعة في بعض الأحيان ، متى ؟ قال :
تستعمل القرعة عند المبهم … ، يعني إذا جُهِل المستحق لحق من الحقوق ، ولا مزية لأحدهما على الآخر ، أي استويا وجهل من هو الذي يستحق دون صاحبه ، أو عند التزاحم ، إذا تزاحم اثنان في حق ولم يكن لأحدهما مزية على الآخر ، مثل : أن يتشاح اثنان في الأذان ، أو يتشاح اثنان في الإمامة ، وكلاهما سواء في الحق ، لم يكن أحدهما احفظ من الآخر أو أعلم بالسنة من الآخر بل استويا ، عند ذلك يقرع بينهما ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه(14) ، لأن كل واحدة من نسائه لها الحق أن تسافر معه فاستويا في هذا الحق ، فكيف يحسم هذا الأمر ؟ وكيف يقدم هذه على هذه ؟ يكون ذلك بالقرعة ، إذن القرعة يعمل بها عند الإبهام 0
ومما ذكروا من المسائل الفقهية : إنسان طلق امرأة ثم نسيها ، أو طلق امرأة مبهمة لم يعيّنها ، فقال إحدى نسائي طالق ، وكان عنده ثلاث أو أربع ،فعند ذلك يعمل بالقرعة فأيها خرجت قرعتها طلقت ، كذلك ورد في الحديث : أن رجلاً كان له ستة أعبد فلما مات أعتقهم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق الباقي(15) ، لأنه ليس له في ماله إلا الثلث ، فإذاً القرعة أيضاً يعمل بها عند الإبهام ويخرج بالقرعة من يخرج اسمه ، وبها تحل المسألة ، فالقرعة إذاً تستعمل في الشرع إذا جهل المستحق لحق من الحقوق ، ولا مزية لأحدهما على الآخر أو حصل التزاحم في أمر من الأمور ولامرجح لأحدهما 0
(42) وإن تسـاوى العمـلان اجتمعـا
وفعـــل إحداهمـــــا فاستمعــا
يعني إذا اجتمع عملان من جنس واحد ، وأفعالهما متفقة ، اكتفي بأحدهما ودخل الآخر فيه ، وذلك في مسائل منها : إنسان دخل إلى المسجد في صلاة الفجر ، فإذا صلّى ركعتي السنة دخلت فيهما ركعتي تحية المسجد ، لأن تحية المسجد ليست صلاة مقصودة بعينها ، وإنما المراد أن لا تجلس حتى تصلي ركعتين ، كذلك سنة الوضوء إذا نوى بها الراتبة ، إذا إنسان توضأ ونوى أن يصلي الراتبة وسنة الوضوء ، فإن سنة الوضوء تدخل في الراتبة ، قالوا كذلك : طواف المعتمر يكفيه عن طواف القدوم ، وكذلك طواف القارن الأول وسعيه يكفيه عن سعي الحج ، وهذا طبعاً لا يطرد في كل المسائل لأن في بعض المسائل تكون الواجبات مقصودة لعينها ، وأما إذا تساوى العملان واجتمعا في الأفعال دخل أحدهما في الآخر ، من ذلك أيضاً غسل الجمعة ، إذا اغتسل الإنسان للجنابة بعد الفجر من يوم الجمعة دخل فيه غسل الجمعة عند الجمهور ، وعند الظاهرية(16) لا يجزئ حتى يغتسل غسلاً آخر للجمعة ولعل الأول أقوى 0
(43) وكل مشغـولٍ فـــلا يشغَّــــل
مثالــــه المرهــون والمُسَبّــلُ
هذا معنى قول الفقهاء في قاعدتهم المشهورة : المشغول لا يشغل ، مثل : إنسان رهن بيته ، هذا البيت مرهون فلا يصح بيعه ، فهذا البيت مشغول بالرهن لذلك لا يصح أن يدخل عليه عقد البيع ، كذلك لو كان هذا الأمر موهوباً ولكن إلى أجل ، وهبت هذا البيت لفلان لا يصح أن تبيعه ، لو أن إنساناً وقف عبداً أو دابةً في سبيل الله لا يصح له بيعها لأنها مشغولة بالوقف ، فالمشغول لا يشغل ، كذلك من استؤجر في ساعة معينة أو في يوم معين لا يصح أن يستؤجر مرة أخرى ، إنسان استأجر عاملاً ليبني له جداراً في يوم السبت فلا يصح لهذا العامل أن يشغل ذمته بإجارة في نفس الوقت 0
وهذا يمكن أيضاً أن يعمل به حتى في العلميات ، أن الإنسان المشتغل بطلب العلم لا يُشغل بتجارة ، ولا ينبغي له أن يَشغل نفسه بتجارة إذا كان يريد التخصص في طلب العلم ، بل يتفرغ لهذا الباب حتى يبرع فيه ، وإذا تداخلت وتزاحمت الأشغال حصل النقص ، يقول الشافعي رحمه الله : لو تكلّفت شراء بقلٍ من السوق ما فقهت مسألة ، يعني الإنسان إذا اشتغل بالبيع والشراء والتجارة لا يمكن أن يفقه المسائل بعد ذلك ، لأنها تشغل البال ويقل الفهم ، فينبغي للمشغول بشيء ، أن لا يشغل نفسه بشيء آخر حتى يفرغ من الشاغل 0
(44) ومن يؤد عـــن أخيـه واجبـــاً
لــه الرجـــوع : إن نوى يطالبــا
معنى هذا أنَّ من أدّى عن غيره ديناً واجباً بنية الرجوع ، أي نيته بعد أن يؤدي عنه الدين ، أن يرجع إليه ويقول له : أعطني ما أديت عنك ، فيلزم المؤَدى عنه ما أداه عنه ، يلزمه ما أداه عنه إذا نواه ( أي الرجوع ) ، إما إن كان قد نوى التبرع فليس له الرجوع ، إذا كان قد نوى التبرع في أداء الدين عن أخيه فليس له أن يرجع إليه ويطالبه بالديَّن ، ويدخل في هذا جميع الديون من القرض والسلم وأثمان السلع والنفقات الواجبة للزوجة أوالمملوك أو الأقارب أو البهائم ، كذلك يدخل في هذا قضاء الكفيل عن المكفول ، الكفيل لو ألزم بأن يؤدي الديَّن عن المكفول ونوى بأدائه لهذا الحق عنه الرجوع فإنه يرجع عليه ، هذا كله إذا نوى الرجوع وإذا لم ينو الرجوع فأجره على الله تعالى ، وهذا قالوا في الديون التي لا تحتاج إلى نية ،
لكن مثلاً : الزكاة ، الزكاة في ذمة الإنسان دين ولا يصح أدائها بلا نية ، ولهذا لو أن في ذمة زيد مائة دينار زكاة ، وجاء عمرو وقال لزيد : أنا أديت عنك هذه المائة دينار الزكاة التي في ذمتك ، فإنها لا تصح منه ، حتى ينوي زيد ، ويوكله قائلاً : وكلتك في أن تدفع عني الزكاة واعتبرها ديناً علي ، هذا يصح ، ولهذا كثير من الناس الآن يؤدي الزكاة عن زوجته ، يكون على زوجته زكاة الذهب فيزكي عن زوجته قبل أن تأذن له ، وهذا لا يسقط الزكاة من ذمة زوجته لأنها لم تأذن له ، فإذا أذنت له بذلك ونوت الزكاة بما يدفعه زوجها سقطت من ذمتها ، إما الديون التي لا تحتاج إلى نية كديون العباد ، هذه لا حرج فيها ، أما الديون التي فيها نية كالزكوات والكفارات والنذور ، هذه كلها ديون تحتاج إلى نية ، فلا يؤد عن غيره إلا بإذنه 0
(45) والوازع الطبْعي عن العصيـــان
كالـوازع الشرعــــي بلا نكــــران
الوازع الطبعي : يعني الذي يوجب ترك الشيء في النفس ، النفس فيها وازع مانع يمنعها من أشياء بالفطرة ، مثل : أكل النجاسات ، أو شرب النجاسات ، هذا وازع طبعي ، والله سبحانه وتعالى لم يمنع المسلمين من ذلك ، أو ينزل بذلك آية بخصوصها ، لأنها وازعات طبعية ، أما الوازعات الشرعية فكالنهي عن الفواحش ، لأن الفواحش تميل لها النفس بطبعها ، بخلاف الوازع الطبعي الذي يمنعك عن الأشياء المستقذرة ، أو الأشياء المستقبحة في الفطرة كأكل النجاسات ، وأكل السموم وما أشبه ذلك ، فالمحرمات التي تنفر منها النفوس لم يُرتَّب عليها حد ، لكن للإمام أن يرتّب عليها تعزيراً ، سمعنا أن بعض الناس يتعاطى الحشرات ، يأكل بعض الحشرات أو يجفف بعض الحشرات ويستنشقها من أجل السكر بها مثلاً ! للأسف الشديد مثل هذه الأمور القبيحة قد تسربت إلى بعض المسلمين ، مثل هذا يحتاج إلى تعزير ، إلا إذا ثبت فيه الاسكار فإن فيه حد السكر ، فإذا لم يُرتب عليها عقوبة في الشرع ، بل جاءت هكذا بلا عقوبة محددة ، وهي مما يعرف قبحه وقذارته بالطبع ، فإن فيها التعزير 0
وكلما كان شوق الإنسان للمعصية أكبر ، والمعصية عليه أسهل وأقرب كان الوازع أشد ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام (( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره )) لِم ؟ لأن امرأة الجار قريبة ، ويمكن يحصل بدون أن يعلم به أحد ، لقرب البيت ، وقرب الباب ، وكثرة الرؤيا ، وما أشبه ذلك فقد تقع علاقة (( لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره ))(17) لم ؟ لأن بيت الجار ربما لا يفصله إلا جدار ، ويسهل عليه أن يسرق منه . لهذا كلما كان الأمر أسهل وأيسر وهو قبيح زادت الشريعة في التعزير أو في العقوبة والذنب 0
(46) والحمد للـــه عـلـى التمــام
فـــي البـــدء والختــــام والــدوام
(47) ثم الصلاة مع ســـلام شائـع
علــى النبــي وصحبــــه والتابـع
فنحمد الله سبحانه وتعالى في مبدأ الأعمال وختماها ، واستدامة الحمد من أسباب الزيادة في النعمة والفضل والكرم من الله سبحانه وتعالى ، وحمد الله على النعم يوجب بركتها ونماءها وكثرتها ، وحفظها من الزوال ، وحفظها من الآفات ، نسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن ينفعنا بما سمعنا في هذه الرسالة من الفوائد ، ورحِم الله تعالى ناظمها رحمة واسعة ، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين 0
الهوامش:
(1) سورة الضحى (11) 0
(2) سورة إبراهيم (34) 0
(3) سورة الزمر (53) 0
(4) سورة إبراهيم (31) 0
(5) سورة الإسراء (1) 0
(6) سورة الفرقان (1) 0
(7) وقد سبق بيان شيئ من ذلك عند البيت (30) 0
(8) سورة الزمر (65) 0
(9) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/499) 0
(10) سورة تبارك (2) 0
(11) رواه أحمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( إرواء الغليل ـ7/298) 0
(12) رواه مسلم عن بن عمر رضي الله عنهما (13/171 ـ نووي ) 0

(13) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها (10/145 ـ نووي ) 0
(14) ورواه البخاري (5/257 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (15/309 ـ نووي ) عن عائشة رضي الله عنها 0

(15) رواه مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه (11/139 ـ نووي ) 0
(16) المحلى (2/42) 0
(17) رواه أحمد وقال العلامة الألباني إسناده جيد ( السلسلة الصحيحة ـ1/136)