ابو وليد البحيرى
2024-10-02, 03:43 PM
نبوة المصطفى عليه السلام في القرآن الكريم
د. سمير الخال
مقدمة:
استأثرت نبوَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام باهتمام متزايد من طرف القرآن الكريم، بالنظر إلى كونها قضية باتت تشكل أصل أصول العقيدة الإسلامية من جهة، وما يتفرع عن إيمان المؤمن بصدقها من تأثيرات مسَّت الحياة العملية للمسلم والمجتمع الإسلامي على مستوى العبادات، أو المعاملات أو الأخلاق، من جهة ثانية.
وهكذا، فلا معنى للتصديق بأركان الإيمان الستة (وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورُسُله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشرّه) إلا بإثبات صحة نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم. وقُلْ مثل ذلك في باقي مجالات الغيب (كالإيمان بالروح، وعالم الجن والشياطين، وأخبار الأمم الأخرى، وغيرها من الأمور الغيبية).
وإذا كانت صحة نبوة محمد عليه السلام قد باتت تشكل أصل أصول الإيمان والغيب معًا، فإن إثبات صحتها يشكل إحدى أهم الدعائم الأساسية في الصرح الفقهي الإسلامي؛ لما تتفرع عن الإقرار بها من فروع عملية في مجال العبادات، والمعاملات، والأخلاق، على حدٍّ سواء.
وهكذا، يمكن أن نستخلص أن اهتمام القرآن الكريم بقضية إثبات صحة نبوَّة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن من باب الفضول المعرفي، ولا الترف العلمي، ولا التُّخَمة الفكرية، ولا نافلة القول؛ وإنما لبُعْدها المنهجي الخطير في النسيج التأصيلي الكلي لدين الإسلام عقيدةً وشريعةً، وما يتفرع عنه من سائر أصوله الكلية من جهة، وباقي فروعه الجزئية من جهة ثانية.
تبعًا لذلك، فإن عرض منهج تناول الآيات القرآنية لقضية نبوَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام يسوقنا إلى الابتداء بتوجيه ذي بالٍ متميز، في ارتباطه بإحدى أهم الملاحظات التي تشدُّ انتباه الباحث المشتغل على التناول القرآني لنبوَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام، في علاقته بكثرة أسماء المصطفى عليه السلام وألقابه وأوصافه من جهة، وكثرة ذكر صحة نسبة الوحي الإلهي إليه في القرآن الكريم من جهة ثانية.
أسماء المصطفى عليه السلام وألقابه وصفاته في القرآن الكريم:
ومن ذلك:
محمد: ومن المواطن التي صرح فيها القرآن بهذا الاسم قوله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
على أن اسم محمد (منقول من صفة هي في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار؛ فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. [...] وكذلك الممدوح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سمَّاه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوَّته، إذ كان اسمه صادقًا عليه، فهو محمود في الدنيا؛ لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ)[1].
ومن لطائف تدبر القرآن الكريم، ما له تعلُّق بالمواضع التي ذكر فيها اسم محمد، ومنها الآية السابقة من سورة آل عمران؛ وذلك أن الله -لما جعل سُنَّة الموت قاضية على كل البشر بمن فيهم الأنبياء- جعل صفاتهم الحميدة باقية عبر الأجيال.
أحمد: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].
والملاحظ أن أحمد، إنما هو (اسم علم منقول من صفة لا من فعل، فتلك الصفة أفعل التي يُراد بها التفضيل، فمعنى أحمد؛ أي: أحمد الحامدين لربه. والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدًا)[2].
ومن لطائف القرآن الكريم، ما له ارتباط ببشارة عيسى بنبوَّة نبينا محمد، التي كانت من خلال اسمه أحمد؛ فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدًا بالفعل، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته[3].
النبي والرسول: وقد تردد ذكرهما في القرآن الكريم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ [الطلاق: 1] الآية، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
ورغم التقارب الدلالي بين كلمتَي النبي والرسول بالنظر إلى اشتراكهما في الدلالة على تبليغ رسالة الخالق ووحيه إلى الخلق، إلا أن ذلك لا يعني تطابقهما المعنوي الذي يصل إلى حد الترادف بينهما، بالنظر إلى أن فارقًا دلاليًّا ظاهرٌ بينهما، من خلال التأكيد على أن الرسول مأمور بدعوة الخلق إلى الحق بشريعة جديدة ناسخة لما قبلها أو معها زمانيًّا؛ كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام. وأما وظيفة النبي فهي دعوة الخلق إلى طريق الحق بشريعة رسول معه أو قبله زمانيًّا؛ كنبي الله هارون في علاقته برسول الله موسى عليهما السلام، والنبي لوط في ارتباطه بالرسول إبراهيم عليهما السلام، وهكذا.
المزمل والمدثر: وقد وردا في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1، 2].وكذلك في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2].
والمزملوالمدثرص فتان للنبي عليه الصلاة والسلام تدور دلالتهما على المتغطي بالثوب حقيقة، أو المغطى بالنبوة مجازًا. والسبب في ذلك ما ذكره (قال ابن عباس: أول ما جاءه [أي: النبيَّ عليه الصلاة والسلام] جبريلُ عليه السلام خافه وظن أن به مسًّا من الجن، فرجع من الجبل مرتعدًا، وقال: زمِّلوني، فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال: يا أيها المُزَّمِّل)[4].
وفي سنة رسول الله بيان للتمايز النزولي بين المزمل والمدثر، يجليهما ما ورد في الصحيح في قصة بدء الوحي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]". فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ)[5].
وأما المدثر، فتشير إليها قصة فتور الوحي وانقطاعه عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، ففي حديث: (جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الْوَحْيُ فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1] إِلَى ﴿ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5])[6].
ومن لطائف القرآن الكريم، أن الله تعالى خاطَبَ نبيَّه محمدًا عليه السلام بالمزمل والمدثر ههنا؛ لأن الأمر يتعلق ببدايات نزول الوحي على المصطفى عليه الصلاة والسلام، وليس وقتئذٍ شيء مما يبلِّغ به غيره، مما يصح ربطه بالنبوَّة والرسالة، فناسب ذلك نداء الله تعالى له بالمزمل أو المدثر.
الشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى الله، والسراج المنير؛ وهي مجموعة في سياق قرآني واحد عند قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46].
وأما دلالة الشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى الله، والسراج المنير، فبالنظر إلى أنه عليه السلام شاهد على أمته بتبليغه الرسالة إليهم. كما أنه شاهد على سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم وحي ربهم إليهم، ونحو ذلك. وهو مع ذلك مُبشِّر للمؤمنين برحمة الله وبالجنة، ونذير للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد. وهو كذلك داعٍ إلى الله بأذنه (أي: بأمره) بتبليغ التوحيد والأخذ به، والانقياد لطاعته. بالإضافة إلى أنه سراج (أي: مصباح) منير، وهي ههنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرع، من خلال إضاءته قلوب العباد بنور الوحي، كما يضيء السراج المنير ما حوله[7].
المُذَكِّر: وهو الواعظ الذي يعظُ الناس ويخوِّفهم من التمادي في الكفر والشرك بالله، وترك طاعته، والوقوع في معصيته، قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21].
الرؤوف والرحيم: وهما اسمان متقاربان يحومان حول معنى واحد وهو الرحمة، وإن كانت صفة الرحمة في اسم الرؤوف أكثر ظهورًا منها في اسم الرحيم، ما دامت الرأفة أعلى وأجل من الرحمة. ثم إن ذكر الرحيم بعد الرؤوف مندرج تحت إطار ورود الخاص قبل العام؛ للتأكيد على أهمية هذا الخاص في النسق المعرفي والمنهجي للعام، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
رحمة للعالمين: لأنه عليه السلام جاء بدين أساسه الرحمة للناس كلهم، متجلية أبعادها في هداية البشر إلى خير الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
خاتم النبيين: (والخاتم بفتح التاء وكسرها بمعنى واحد)؛ فهو آخرُ الأنبياء وخاتمُهم، الذي خَتَمَهم وخُتِموا به، فهو بالنسبة إليهم كالخاتم والطابع الذي يوضع في آخر الرسالة لإغلاقها، قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40].
الهادي: أي المرشد والدالُّ والداعي إلى الصراط المستقيم، من خلال إظهار الدلائل على صحة الوحي، وكذلك هداية متبعي الطريق المستقيم إلى أقوم طريق موصل إلى صلاح الدين والدنيا، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
النور: وهوالضياء الواضح الذي يرشد من سلكه إلى الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وعلة وصفه عليه السلام (بالنور ظاهرة؛ لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة، والنور الباطن أيضًا هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات)[8]. قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15].
النبي الأُمِّي: قال تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].
وعن دلالة صفة الأُمِّيَّة ههنا، يقول (قال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيُّكم صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [العنكبوت: 48] الآية. وروي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ")[9].
ونظرًا لأن قضية أمية النبي صلى الله عليه وسلم قد باتت محل تشكيك من البعض، فالواجب تخصيص هذه المسألة بمزيد توضيح، بالتأكيد على أن (العرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك؛ فلهذا السبب وصفه بكونه أميًّا. قال أهل التحقيق: وكونه أميًّا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظومًا مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير. فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ [الأعلى: 6].
والثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار مُتَّهمًا في أنه ربما طالَعَ كُتُب الأوَّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعَلُّم ولا مطالعة، كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
الثالث: أن تعلم الخط شيء سهل؛ فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوَّلين والآخرين، وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر، ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعَلُّمه على أقل الخلق عقلًا وفَهْمًا، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريًا مجرى الجمع بين الضدَّيْن، وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارٍ مجرى المعجزات)[10].
ومما سبق، يمكن استخلاص الخلاصة التالية، في علاقتها بالقرآن الكريم الذي أعطى للرسول صلى الله عليه وسلم عدة أسماء، وألقاب، وأوصاف. وهذه الكثرة تفيد أمرين اثنين؛ يتحدد الأول منهما بالنظر إلى الأهمية البالغة التي وضعها القرآن الكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في علاقته بالنسق المعرفي للقرآن الكريم نفسه. وبيان ذلك تجليه قاعدة عقلية كونية مفادها (أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، أو كماله في أمر من الأمور. أما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته، وكثرة أسماء القيامة دلت على كمال شدتها وصعوبتها، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها، وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي صلى الله عليه وسلم دلت على علو رتبته، وسمو درجته، وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه، وفضيلته)[11].
وأما ثاني الأمرين المستفادين من الخلاصة السابقة، فبالنظر إلى أن أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، وألقابه، وصفاته، ليست مترادفة ومتطابقة دلاليًّا، بل ما من اسم، أو لقب، أو صفة، إلا ويحمل سمات دلالية تعتبر قاسمًا مشتركًا مع غيرها من الأسماء، أو الألقاب، أو الصفات، مع انفرادها بسمات دلالية تميزها عن غيرها.
القرآن الكريم وصحة نسبة وحي الله للمصطفى عليه السلام:
لقد نسبت الآيات القرآنية في مواضع كثيرة وحي الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، مؤكدة على صحة استمداده عليه السلام من وحي السماء في مواطن كثيرة، من خلال ربطه بقضايا متنوعة منها:
إثبات الوحي للرسول عليه السلام: لقد حسم القرآن الكريم في كون ما جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وَحْيًا إلهيًّا، مزيلًا استغراب العرب من تخصيص الله له بالنبوَّة رغم صفته البشرية وانتمائه إلى نفس جنسهم العربي، جاعلين هذا الوحي من قبيل السحر اللطيف المؤثر على سامعه، فقال تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2].
الرسول عليه السلام يُوحى إليه مثل باقي الأنبياء: تطرق القرآن الكريم إلى نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام باعتبارها مندرجة ضمن إطار جنس الوحي الإلهي الذي تفضل الله تعالى به على من شاء من رسله وأنبيائه، مؤكدًا على أنه عليه السلام ليس بدعة من المرسلين، وإنما هو حلقة من حلقات عباد الله الذين اصطفاهم بالرسالة والنبوة؛ كنوح، وإبراهيم، وابنيه إسماعيل، وإسحاق، وغيرهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].
إثبات نسبة الوحي إلى المصطفى عليه السلام، وأنه لم يسبق له علم به؛ رَدًّا من القرآن الكريم على من يظن بأن ما جاء به المصطفى عليه السلام من وحي ليس إلا جمعًا وتلفيقًا منه لما ورد في كتب الأمم السابقة -خاصة التوراة والإنجيل- فقد صرح القرآن الكريم بأن الرسول محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يسبق له اطِّلاع على وحي الله، ولا علم له به، ولا طلب منه لذلك، فقال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3].
بيان وظيفة الوحي في علاقته بدعوة الآخرين به: فقد صرح القرآن الكريم بأن المقصد من وحي الله لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام دعوة العرب ابتداء بالقرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ﴾ [الرعد: 30] الآية.
نسبة الوحي إلى الرسول واتصاله بأبي الأنبياء إبراهيم: لما كانت العرب على علم وتوقير لملة إبراهيم الحنيفية، وكذلك كانت اليهود والنصارى تنتسبان إليه، فقد تطرق القرآن الكريم إلى وحي الله لمحمد بن عبدالله، من خلال التأكيد على أن هذا الوحي لا يعدو أن يكون من جنس ما جاء به إبراهيم عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام، فقال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].
نفي كذب المصطفى في الوحي الموحى إليه أو تحريفه إياه: من الأمور الهامة الدافعة إلى تصديق الوحي الإلهي عدمُ تدخل الرسول أو النبي إلى النص الموحى إليه -أثناء تبليغه للناس- بالتحريف زيادةً أو نقصًا، أو بالتأويل على خلاف مقصده الرباني. وهذا ما شهد به القرآن الكريم، من خلال نفي أي تدخل للرسول في بنية النص القرآني نفسه، رغم الإغراءات الكثيرة التي قدمها مشركو العرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 73].
يتبع
د. سمير الخال
مقدمة:
استأثرت نبوَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام باهتمام متزايد من طرف القرآن الكريم، بالنظر إلى كونها قضية باتت تشكل أصل أصول العقيدة الإسلامية من جهة، وما يتفرع عن إيمان المؤمن بصدقها من تأثيرات مسَّت الحياة العملية للمسلم والمجتمع الإسلامي على مستوى العبادات، أو المعاملات أو الأخلاق، من جهة ثانية.
وهكذا، فلا معنى للتصديق بأركان الإيمان الستة (وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورُسُله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشرّه) إلا بإثبات صحة نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم. وقُلْ مثل ذلك في باقي مجالات الغيب (كالإيمان بالروح، وعالم الجن والشياطين، وأخبار الأمم الأخرى، وغيرها من الأمور الغيبية).
وإذا كانت صحة نبوة محمد عليه السلام قد باتت تشكل أصل أصول الإيمان والغيب معًا، فإن إثبات صحتها يشكل إحدى أهم الدعائم الأساسية في الصرح الفقهي الإسلامي؛ لما تتفرع عن الإقرار بها من فروع عملية في مجال العبادات، والمعاملات، والأخلاق، على حدٍّ سواء.
وهكذا، يمكن أن نستخلص أن اهتمام القرآن الكريم بقضية إثبات صحة نبوَّة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن من باب الفضول المعرفي، ولا الترف العلمي، ولا التُّخَمة الفكرية، ولا نافلة القول؛ وإنما لبُعْدها المنهجي الخطير في النسيج التأصيلي الكلي لدين الإسلام عقيدةً وشريعةً، وما يتفرع عنه من سائر أصوله الكلية من جهة، وباقي فروعه الجزئية من جهة ثانية.
تبعًا لذلك، فإن عرض منهج تناول الآيات القرآنية لقضية نبوَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام يسوقنا إلى الابتداء بتوجيه ذي بالٍ متميز، في ارتباطه بإحدى أهم الملاحظات التي تشدُّ انتباه الباحث المشتغل على التناول القرآني لنبوَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام، في علاقته بكثرة أسماء المصطفى عليه السلام وألقابه وأوصافه من جهة، وكثرة ذكر صحة نسبة الوحي الإلهي إليه في القرآن الكريم من جهة ثانية.
أسماء المصطفى عليه السلام وألقابه وصفاته في القرآن الكريم:
ومن ذلك:
محمد: ومن المواطن التي صرح فيها القرآن بهذا الاسم قوله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
على أن اسم محمد (منقول من صفة هي في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار؛ فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. [...] وكذلك الممدوح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سمَّاه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوَّته، إذ كان اسمه صادقًا عليه، فهو محمود في الدنيا؛ لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ)[1].
ومن لطائف تدبر القرآن الكريم، ما له تعلُّق بالمواضع التي ذكر فيها اسم محمد، ومنها الآية السابقة من سورة آل عمران؛ وذلك أن الله -لما جعل سُنَّة الموت قاضية على كل البشر بمن فيهم الأنبياء- جعل صفاتهم الحميدة باقية عبر الأجيال.
أحمد: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].
والملاحظ أن أحمد، إنما هو (اسم علم منقول من صفة لا من فعل، فتلك الصفة أفعل التي يُراد بها التفضيل، فمعنى أحمد؛ أي: أحمد الحامدين لربه. والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدًا)[2].
ومن لطائف القرآن الكريم، ما له ارتباط ببشارة عيسى بنبوَّة نبينا محمد، التي كانت من خلال اسمه أحمد؛ فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدًا بالفعل، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته[3].
النبي والرسول: وقد تردد ذكرهما في القرآن الكريم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ [الطلاق: 1] الآية، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
ورغم التقارب الدلالي بين كلمتَي النبي والرسول بالنظر إلى اشتراكهما في الدلالة على تبليغ رسالة الخالق ووحيه إلى الخلق، إلا أن ذلك لا يعني تطابقهما المعنوي الذي يصل إلى حد الترادف بينهما، بالنظر إلى أن فارقًا دلاليًّا ظاهرٌ بينهما، من خلال التأكيد على أن الرسول مأمور بدعوة الخلق إلى الحق بشريعة جديدة ناسخة لما قبلها أو معها زمانيًّا؛ كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام. وأما وظيفة النبي فهي دعوة الخلق إلى طريق الحق بشريعة رسول معه أو قبله زمانيًّا؛ كنبي الله هارون في علاقته برسول الله موسى عليهما السلام، والنبي لوط في ارتباطه بالرسول إبراهيم عليهما السلام، وهكذا.
المزمل والمدثر: وقد وردا في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1، 2].وكذلك في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2].
والمزملوالمدثرص فتان للنبي عليه الصلاة والسلام تدور دلالتهما على المتغطي بالثوب حقيقة، أو المغطى بالنبوة مجازًا. والسبب في ذلك ما ذكره (قال ابن عباس: أول ما جاءه [أي: النبيَّ عليه الصلاة والسلام] جبريلُ عليه السلام خافه وظن أن به مسًّا من الجن، فرجع من الجبل مرتعدًا، وقال: زمِّلوني، فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال: يا أيها المُزَّمِّل)[4].
وفي سنة رسول الله بيان للتمايز النزولي بين المزمل والمدثر، يجليهما ما ورد في الصحيح في قصة بدء الوحي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]". فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ)[5].
وأما المدثر، فتشير إليها قصة فتور الوحي وانقطاعه عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، ففي حديث: (جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الْوَحْيُ فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1] إِلَى ﴿ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5])[6].
ومن لطائف القرآن الكريم، أن الله تعالى خاطَبَ نبيَّه محمدًا عليه السلام بالمزمل والمدثر ههنا؛ لأن الأمر يتعلق ببدايات نزول الوحي على المصطفى عليه الصلاة والسلام، وليس وقتئذٍ شيء مما يبلِّغ به غيره، مما يصح ربطه بالنبوَّة والرسالة، فناسب ذلك نداء الله تعالى له بالمزمل أو المدثر.
الشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى الله، والسراج المنير؛ وهي مجموعة في سياق قرآني واحد عند قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46].
وأما دلالة الشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى الله، والسراج المنير، فبالنظر إلى أنه عليه السلام شاهد على أمته بتبليغه الرسالة إليهم. كما أنه شاهد على سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم وحي ربهم إليهم، ونحو ذلك. وهو مع ذلك مُبشِّر للمؤمنين برحمة الله وبالجنة، ونذير للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد. وهو كذلك داعٍ إلى الله بأذنه (أي: بأمره) بتبليغ التوحيد والأخذ به، والانقياد لطاعته. بالإضافة إلى أنه سراج (أي: مصباح) منير، وهي ههنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرع، من خلال إضاءته قلوب العباد بنور الوحي، كما يضيء السراج المنير ما حوله[7].
المُذَكِّر: وهو الواعظ الذي يعظُ الناس ويخوِّفهم من التمادي في الكفر والشرك بالله، وترك طاعته، والوقوع في معصيته، قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21].
الرؤوف والرحيم: وهما اسمان متقاربان يحومان حول معنى واحد وهو الرحمة، وإن كانت صفة الرحمة في اسم الرؤوف أكثر ظهورًا منها في اسم الرحيم، ما دامت الرأفة أعلى وأجل من الرحمة. ثم إن ذكر الرحيم بعد الرؤوف مندرج تحت إطار ورود الخاص قبل العام؛ للتأكيد على أهمية هذا الخاص في النسق المعرفي والمنهجي للعام، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
رحمة للعالمين: لأنه عليه السلام جاء بدين أساسه الرحمة للناس كلهم، متجلية أبعادها في هداية البشر إلى خير الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
خاتم النبيين: (والخاتم بفتح التاء وكسرها بمعنى واحد)؛ فهو آخرُ الأنبياء وخاتمُهم، الذي خَتَمَهم وخُتِموا به، فهو بالنسبة إليهم كالخاتم والطابع الذي يوضع في آخر الرسالة لإغلاقها، قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40].
الهادي: أي المرشد والدالُّ والداعي إلى الصراط المستقيم، من خلال إظهار الدلائل على صحة الوحي، وكذلك هداية متبعي الطريق المستقيم إلى أقوم طريق موصل إلى صلاح الدين والدنيا، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
النور: وهوالضياء الواضح الذي يرشد من سلكه إلى الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وعلة وصفه عليه السلام (بالنور ظاهرة؛ لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة، والنور الباطن أيضًا هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات)[8]. قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15].
النبي الأُمِّي: قال تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].
وعن دلالة صفة الأُمِّيَّة ههنا، يقول (قال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيُّكم صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [العنكبوت: 48] الآية. وروي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ")[9].
ونظرًا لأن قضية أمية النبي صلى الله عليه وسلم قد باتت محل تشكيك من البعض، فالواجب تخصيص هذه المسألة بمزيد توضيح، بالتأكيد على أن (العرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك؛ فلهذا السبب وصفه بكونه أميًّا. قال أهل التحقيق: وكونه أميًّا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظومًا مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير. فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ [الأعلى: 6].
والثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار مُتَّهمًا في أنه ربما طالَعَ كُتُب الأوَّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعَلُّم ولا مطالعة، كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
الثالث: أن تعلم الخط شيء سهل؛ فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوَّلين والآخرين، وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر، ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعَلُّمه على أقل الخلق عقلًا وفَهْمًا، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريًا مجرى الجمع بين الضدَّيْن، وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارٍ مجرى المعجزات)[10].
ومما سبق، يمكن استخلاص الخلاصة التالية، في علاقتها بالقرآن الكريم الذي أعطى للرسول صلى الله عليه وسلم عدة أسماء، وألقاب، وأوصاف. وهذه الكثرة تفيد أمرين اثنين؛ يتحدد الأول منهما بالنظر إلى الأهمية البالغة التي وضعها القرآن الكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في علاقته بالنسق المعرفي للقرآن الكريم نفسه. وبيان ذلك تجليه قاعدة عقلية كونية مفادها (أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، أو كماله في أمر من الأمور. أما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته، وكثرة أسماء القيامة دلت على كمال شدتها وصعوبتها، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها، وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي صلى الله عليه وسلم دلت على علو رتبته، وسمو درجته، وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه، وفضيلته)[11].
وأما ثاني الأمرين المستفادين من الخلاصة السابقة، فبالنظر إلى أن أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، وألقابه، وصفاته، ليست مترادفة ومتطابقة دلاليًّا، بل ما من اسم، أو لقب، أو صفة، إلا ويحمل سمات دلالية تعتبر قاسمًا مشتركًا مع غيرها من الأسماء، أو الألقاب، أو الصفات، مع انفرادها بسمات دلالية تميزها عن غيرها.
القرآن الكريم وصحة نسبة وحي الله للمصطفى عليه السلام:
لقد نسبت الآيات القرآنية في مواضع كثيرة وحي الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، مؤكدة على صحة استمداده عليه السلام من وحي السماء في مواطن كثيرة، من خلال ربطه بقضايا متنوعة منها:
إثبات الوحي للرسول عليه السلام: لقد حسم القرآن الكريم في كون ما جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وَحْيًا إلهيًّا، مزيلًا استغراب العرب من تخصيص الله له بالنبوَّة رغم صفته البشرية وانتمائه إلى نفس جنسهم العربي، جاعلين هذا الوحي من قبيل السحر اللطيف المؤثر على سامعه، فقال تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2].
الرسول عليه السلام يُوحى إليه مثل باقي الأنبياء: تطرق القرآن الكريم إلى نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام باعتبارها مندرجة ضمن إطار جنس الوحي الإلهي الذي تفضل الله تعالى به على من شاء من رسله وأنبيائه، مؤكدًا على أنه عليه السلام ليس بدعة من المرسلين، وإنما هو حلقة من حلقات عباد الله الذين اصطفاهم بالرسالة والنبوة؛ كنوح، وإبراهيم، وابنيه إسماعيل، وإسحاق، وغيرهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].
إثبات نسبة الوحي إلى المصطفى عليه السلام، وأنه لم يسبق له علم به؛ رَدًّا من القرآن الكريم على من يظن بأن ما جاء به المصطفى عليه السلام من وحي ليس إلا جمعًا وتلفيقًا منه لما ورد في كتب الأمم السابقة -خاصة التوراة والإنجيل- فقد صرح القرآن الكريم بأن الرسول محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يسبق له اطِّلاع على وحي الله، ولا علم له به، ولا طلب منه لذلك، فقال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3].
بيان وظيفة الوحي في علاقته بدعوة الآخرين به: فقد صرح القرآن الكريم بأن المقصد من وحي الله لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام دعوة العرب ابتداء بالقرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ﴾ [الرعد: 30] الآية.
نسبة الوحي إلى الرسول واتصاله بأبي الأنبياء إبراهيم: لما كانت العرب على علم وتوقير لملة إبراهيم الحنيفية، وكذلك كانت اليهود والنصارى تنتسبان إليه، فقد تطرق القرآن الكريم إلى وحي الله لمحمد بن عبدالله، من خلال التأكيد على أن هذا الوحي لا يعدو أن يكون من جنس ما جاء به إبراهيم عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام، فقال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].
نفي كذب المصطفى في الوحي الموحى إليه أو تحريفه إياه: من الأمور الهامة الدافعة إلى تصديق الوحي الإلهي عدمُ تدخل الرسول أو النبي إلى النص الموحى إليه -أثناء تبليغه للناس- بالتحريف زيادةً أو نقصًا، أو بالتأويل على خلاف مقصده الرباني. وهذا ما شهد به القرآن الكريم، من خلال نفي أي تدخل للرسول في بنية النص القرآني نفسه، رغم الإغراءات الكثيرة التي قدمها مشركو العرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 73].
يتبع