ابو وليد البحيرى
2024-10-01, 01:01 PM
المَنَّانُ جل جلاله، وتقدست أسماؤه
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المَنَّانِ).
ثانيًا: وُرُودُهُ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإيِمَانِ بهذا الاسْمِ.
خامسًا: المَعَانِي الإِيمانِيَّةُ.
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ: قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة ـ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ ـ لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً لله في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك.
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- لَفْتُ نَظَرِ المُسْلِمِينَ إِلَى بَعْضِ نِعَمِ الله عَلَيْهِم.
2- حَثُّ المُسْلِمِينَ عَلَى شُكْرِ رَبِّ العَالِمَينَ.
3- تَحْرِيمُ المَنِّ بِالعَطِيَّةِ.
4- الإِخْلَاصُ فِي الإِنْفَاقِ.
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المَنَّانُ):
المَنَّانُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغِ المُبَالَغَةِ عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ، فِعْلُهُ مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا، يَعْنِي قَطَعَهُ وَذَهَبَ بِهِ.
وَالمَنِينُ الحَبْلُ الضَّعِيفُ، وَحَبْلٌ مَنينٌ إِذَا أَخْلقَ وَتَقَطَّعَ، وَرَجُلٌ مَنينٌ أَيْ ضَعِيفٌ، يُقَالُ: كَأَنَّ الدَّهْرَ مَنَّهُ وَذَهَبَ بِمُنَّتِهِ أَيْ بِقُوَّتِهِ، وَالمَنُونُ المَوْتُ؛ لَأَنَّهُ يَمُنُّ كُلَّ شَيْءٍ فَيُضْعِفُهُ وَيُنْقِصُهُ وَيَقْطَعُهُ، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30].
وَمَنَّ عَلَيْهِ أَحْسَنَ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: 3]؛ أَيْ غَيْرَ مَحْسُوبٍ أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ أَوْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ[7].
قَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِيّ ُ: «المِنَّةُ النِّعْمَةُ الثَّقِيلَةُ، وَيُقَالُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَينِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالفِعْلِ، فَيُقَالُ: مَنَّ فُلانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَثْقَلَهُ بِالنِّعْمَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، وَذَلِكَ عَلَى الحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لله تَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالقَوْلِ، وَذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا عِنْدَ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَلِقُبْحِ ذَلِكَ قِيلَ: المِنَّةُ تَهْدِمُ الصَّنِيعَةَ، وَلِحُسْنِ ذِكْرِهَا عِنْدَ الكُفْرَانِ قِيلَ: إِذَا كُفِرَتِ النِّعْمَةُ حَسُنَتِ المِنَّةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]، فَالمِنَّةِ مِنْهُمْ بِالقَوْلِ وَمِنَّةُ الله عَلَيْهِمْ بِالفِعْلِ وَهُوَ هِدَايَتُهُ إِيَّاهُمْ كَمَا ذَكَرَ»[8].
وَالَمنَّانُ سُبْحَانَهُ هُوَ العَظِيمُ الهِبَاتِ الوَافِرُ العَطَايَا، الَّذِي يُنْعِمُ غَيْرَ فَاخِرٍ بِالإِنْعَامِ وَالَّذِي يَبْدَأُ بِالنَوالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَهُوَ المُعْطِي ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، فَلِلَّه المِنَّةُ عَلَى عِبَادِهِ وَلَا مِنَّةَ لأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ المُحْسِنَ إِلَى العَبْدِ وَالمُنْعِمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَطْلُبُ الجَزَاءَ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بَلْ أَوْجَبَ بِفَضْلِهِ لِعِبَادِهِ حَقًّا عَلَيْهِ، مِنَّةً وَتَكْرُّمًا إِنْ هُمْ وَحَّدُوهُ فِي العِبَادَةِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
رَوَى البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بِنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ الله عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى الله؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ الله عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبَدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى الله ألَا يُعَذَّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا»[9].
ووَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ فِعْلًا فَقَالَ: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: 3]، ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ (الحَنَّانِ).
وَيُقَالُ مِنْهُ: مَنَّ يَمُنُّ منًّا فَهُوَ المَنَّانُ، وَالِاسْمُ المِنَّةُ، وَاشْتِقَاقُهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ مِنَ المَنِّ الَّذِي هُوَ العَطَاءُ دُونَ طَلَبِ عِوَضٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ص: 39]، فِي أَحَدِ وَجُوهِهِ، وَيَكُونُ أَيْضًا مُشْتَقًّا مِنَ المِنَّةِ الَّتِي هِيَ التَّفَاخُرُ بِالعَطِيَّةِ عَلَى المُعْطِي وَتَعْدِيدِ مَا صَنَعَهُ المُعْطِي. وَالمَعْنَيَانِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى صَحِيحَانِ[10].
وَيَتَّصِفُ أَيْضًا بِهِمَا الإِنْسَانُ لَكِنْ يَتَّصِفُ بِالمَعْنَى الأَوَّلِ عَلَى طَرِيقِ المَدْحِ، وَبِالمَعْنَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ.
فَالأَوَّلُ: الَّذِي هُوَ مَمْدُوحٌ، هُوَ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أَوْ مَنُّهُ لِوَجْهِ الله تَعَالَى لَا لِنَيْلِ عِوَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَمِنْ هَذَا القِسْمِ قَوْلُهُ: «وَإِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ أَبَا بَكْرٍ»، وقوله: «مَا أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَىَّ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ»[11].
وَالقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُنَّ الإِنْسَانُ بِالعَطِيَّةِ، أَيْ يَذْكُرَهَا وَيُكَرِّرَهَا، فَهُوَ المَذْمُومُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلَيمٌ: الُمسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ، وَالمَنَّانُ: الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مِنَّةً»[12] كَذَا جَاءَ مُفَسِّرًا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ.
وَالمَنَّانُ أَيْضًا الَّذِي يَمُنُّ عَلَى الله بِعِلْمِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ المَخْلُوقِ حَرَامٌ مَذْمُومٌ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنَّانٌ»[13]، وَلَّما كَانَ البَارِئُ سُبْحَانَهُ يُدِرُّ العَطَاءَ عَلَى عِبَادِهِ مَنًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَفَضُّلًا كَانَتْ لَهُ المِنَّةُ فِي ذَلِكَ، فَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنَ المَنِّ الَّذِي هُوَ العَطَاءُ إِلَى أَوْصَافِ فِعْلِهِ، وَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا أَخَذْتَهُ مِنَ الِمنَّةِ الَّتِي هِيَ تِعْدَادُ النِّعْمَةِ وَذِكَرُهَا وَالِافْتِخَارُ بِفِعْلِهَا فِي مَعْرِضِ الامْتِنَانِ إِلَى صِفَةِ كَلَامِهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]؛ أَيْ تَفَضَّلَ، وَالمَنَّانُ المُتَفَضِّلُ.
وَقَالَ الحُلَيْمِي: «المَنَّانُ العَظِيمُ المَوَاهِبِ فَإِنَّهُ أَعْطَى الحَيَاةَ وَالعَقْلَ وَالمَنْطِقَ، وَصَوَّرَ فَأَحْسَنَ الصُّوَرَ، وَأَجْزَلَ وَأنْعَمَ فَأَسْنَى النِّعَمَ، وَأَكْثَرَ العَطَايَا وَالمِنَحَ، فَقَالَ، وَقَوْلُهُ الحَقُّ: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]».
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: وَالمَنُّ العَطَاءُ لِمَنْ لَا يَسْتَثْيِبُهُ[14]، وَقَالَ الزَّجَّاجِيُّ: الَمنَّانُ، فَقَالَ مِنْ قَوْلِكَ مَنَنْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا اصْطَنَعْتَ عِنْدَهُ صَنْعَةً وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، فَاللهُ تعالى مَنَّانَ عَلَى عِبَادِهِ بِإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ وَرِزْقِهِ إِيَّاهُمْ.
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَا مَنَّانَ عَلَى الإِطْلَاقِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ الَّذِي بَدَأَ بِالنَوَالِ قَبْلِ السُّؤَالِ، ثُمَّ يَعْتَرِفُ بِالمِنَّةِ لَهُ وَحْدَهُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا جَمَعَ الأَنْصَارَ فَذَكَّرَهُمْ وَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنْ أَمْرُكُم شَتِيتًا فَجَمَعَهُ اللهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خَائِفِينَ، فَأَمَّنَكُمُ اللهُ بِي؟»وَهُمْ فِي ذَلِكَ يِقُولُونَ لَهُ: اللهُ وَرَسُولَهُ أَمَنُّ.. الحَدِيثُ إِلَى آَخِرِهُ[15]، فَاعْتَرَفُوا لله ثُمَّ لِرَسُولِهِ بِالنِّعْمَةِ، وَوَلُّوُا النِّعْمَةَ[16] لِرَبِّ النِّعْمَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِذَا أَعْطَى أَحْدًا مِنْ خَلْقِهِ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَمُنُّ بِهِ، بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ وَيَتَنَاسَاهُ، وَيَرَى الفَضْلَ لِغَيْرِهِ فِي قَبُولِ مَنِّهِ لَا لَهُ[17].
فَإِذَا وَصَلَ إِلَى القَلْبِ نُورُ صِفَةِ المِنَّةِ، وَشَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ المَنَّانِ، وَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِ عَبْدِهِ بِهَذَا الاسْمِ مَعَ اسْمِهِ الأَوَّلِ، ذُهِلَ القَلْبُ والنَّفْسُ بِهِ وَصَارَ العَبْدُ فَقِيرًا إِلَى مَوْلَاهُ بِمُطَالَعَةِ سَبْقِ فَضْلِهِ الأَوَّلِ، فَصَارَ مَقْطُوعًا عَنْ شُهُودِ أَمْرٍ أَوْ حَالٍ يَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِ لِحَالِهِ مَفْصُومًا مَقْطُوعًا عَنْ رُؤْيَةِ عِزَّةِ مَوْلَاهُ وَمُلَاحَظَةِ صِفَاتِهِ.
فَصَاحِبُ شُهُودِ الأَحْوَالِ مُنْقَطِعٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ خَالِقِهِ وَفَضْلِهِ وَمُشَاهَدَةِ سَبْقِ الأَوَّلِيَّةِ لِلأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَغَائِبٌ بِمُشَاهَدَةِ عِزَّةِ نَفْسِهِ عَنْ عِزَّةِ مَوْلَاهُ، فَيَنْعَكِسُ هَذَا الأَمْرُ فِي حَقِّ هَذَا العَبْدِ الفَقِيرِ وَتَشْغَلُهُ رُؤْيَةُ عِزَّةِ مَوْلَاهُ وَمِنَّتِهِ وَمُشَاهَدَةِ سَبْقِهِ بِالأَوْلِيَّةِ عَنْ حَالٍ يَعْتَزُّ بِهَا العَبْدُ أَوْ يَشْرُفُ بِهَا[18].
ثانيًا: وُرُودُه فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:[19]
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَسْجِدَ وَرَجُلٌ قَدْ صَلَّى، وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ الحَنَّانُ المَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ»، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللهَ؟ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئْلَ بِهِ أَعْطَى»[20].
وَوَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ فِعْلًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، وَقَالَ: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: «(المَنَّانُ) فَعَّالٌ مِنْ قَوْلِكَ: مَنَنْتُ عَلَى فُلَانٍ، إِذَا اصْطَنَعْتَ عِنْدَهُ صَنِيعَةً وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ.
فَاللهُ تعالى مَنَّانٌ عَلَى عِبَادِهِ بِإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ وَرِزْقِهِ إِيَّاهُمْ.
وَفُلَانٌ يَمُنُّ عَلَى فُلَانٍ: إِذَا كَانَ يُعْطِيهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ»[21].
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: «وَأَمَّا (المَنَّانُ) فَهُوَ كَثِيرُ العَطَاءِ»[22].
وَقَالَ الجَوْهَرِيُّ: «وَ(المَنَّانُ) مِنْ أَسْمَاءِ الله تَعَالَى»[23].
وَقَالَ الحُلَيْمِي: «وَمِنْهَا: (المَنَّانُ) وَهُوَ عَظِيمُ المَوَاهِبِ، فَإِنَّهُ أَعْطَى الحَيَاةَ وَالعَقْلَ وَالنُّطْقَ، وَصَوَّرَ فَأَحْسَنَ الصُّوَرَ، وَأَنْعَمَ فَأَجْزَلَ، وَأَسْنَى النِّعَمَ، وَأَكْثَرَ العَطَايَا وَالِمنَحَ، قَالَ ـ وَقَوْلُهُ الحَقُّ ـ: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34] [24].
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ هُوَ الأَنْبَارِي ـ: وَفِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى الحَنَّانُ المَنَّانُ، أَيِ الَّذِي يُنْعِمُ غَيْرَ فَاخِرٍ بِالإِنْعَامِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي شَرْحِ الَمنَّانِ:
وَمِنْ هَذَا القِسْمِ قَوْلُهُ: «وَإِنَّ مِنْ أَمَنِّ الناسِ عَليَّ فِي مَالِهِ أَبُو بَكْرٍ».
وَقَوْلُهُ: «مَا أَحَدٌ أمنَّ عَلَيَّ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ»[25].
والقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُنَّ الإِنْسَانُ بِالعَطِيَّةِ، أَيْ: يَذكُرُهَا وَيُكَرِّرُهَا، فَهُوَ المَذْمُومُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].
وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُم اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِعْلَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ».
وَالَمنَّانُ: الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مِنَّةً، كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ الإِيمَانِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ[26].
وَالمَنَّانُ أَيْضًا: الَّذِي يَمُنُّ عَلَى الله بِعَمَلِهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ المَخْلُوقِ حَرَامٌ مَذْمُومٌ.
مَعْنَاهُ: المُعْطِي ابْتِدَاءً، وَلله الِمنَّةُ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَا مِنَّةَ لَأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، تَعَالَى اللهُ عُلُوًّا كَبِيرًا[27].
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: «فِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى (المَنَّانُ): هُوَ المُنْعِمُ المُعْطِي، مِنَ المَنِّ: العَطاءِ، لَا مِنَ المِنَّةِ».
وَكَثِيرًا مَا يَردُ المَنُّ فِي كَلَامِهِمِ بِمَعْنَى الإِحْسَانِ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَثِيبُه وَلَا يَطْلُبُ الجَزَاءَ عَلَيْهِ.
فَالمَنَّانُ مِنْ أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ، كَالسَّفَّاكِ وَالوَهَّابِ[28].
وَقَالَ القُرْطُبِي: «وَمِنْهَا المَنَّانُ أ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ».
قَالَ: يُقَالُ مِنْهُ: مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا فَهُوَ المَنَّانُ، وَالِاسْمُ المنَّةُ، وَاشْتِقَاقُهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ مِنَ المَنِّ وَهُوَ العَطَاءُ دُونَ طَلَبِ عِوَضٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ص: 39]، فِي أَحَدِ وَجُوهِهِ.
وَيَكُونَ أَيْضًا مُشْتَقًّا مِنَ: المِنَّةِ، الَّتِي هِيَ التَّفَاخُرُ بِالعَطِيَّةِ عَلَى المُعْطِي وَتَعْدِيدِ مَا صَنَعَهُ المُعْطِي.
وَالمَعْنَيَانِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى صَحِيحَانِ.
وَيَتَّصِفُ أَيْضًا بِهِمَا الإِنْسَانُ لَكِنْ يَتَّصِفُ بِالمَعْنَى الأَوَّلِ عَلَى طَرِيقِ المَدْحِ، وَبِالمَعْنَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ.
فَالأَوَّلُ: الَّذِي هُوَ مَمْدُوحٌ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أَوْ مَنُّهُ لِوَجْهِ الله تَعَالَى لَا لِنَيْلِ عِوَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.
وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنَّان»[29].
وَلمَّا كَانَ البَارِئُ سُبْحَانَهُ يُدِرُّ العَطَاءَ عَلَى عِبَادِهِ مِنًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَفْضُّلًا، كَانَتْ لَهُ المِنَّةُ فِي ذَلِكَ.
فَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنَ المَنِّ الَّذِي هُوَ العَطَاءُ إِلَى أَوْصَافِ فِعْلِهِ.
وَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا أَخَذْتَهُ مِنَ الِمنَّةِ الَّتِي هِيَ تِعْدَادُ النِّعْمَةِ وَذِكْرُهَا والافْتِخَارُ بِفِعْلِهَا فِي مَعْرَضِ الامْتِنَانِ، إِلَى صِفَةِ كَلَامِهِ تَعَالَى[30].
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ:
1- إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ المَنَّانُ الَّذِي مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ وَالإِنْعَامِ وَالأَرْزَاقِ وَالعَطَايَا.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَثِيرُ العَطَاءِ، فَلَا نِهَايَةَ لِتَوْسِعَتِهِ: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، وَقَالَ: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34].
وَقَدْ ذَكَّرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِبعْضِ مِنَنِهِ عَلَيْهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 94].
فَذَكَّرَهُمْ ـ بِنَعْمَةِ هِدَايَتِهِ لَهُمْ وَقَدْ كَانُوا فِي ظُلَمَاتِ الكُفْرِ يَتَرَدَّدُونَ، وَعَلى شَفِيرِ جَهَنَّمَ هُمْ قَائِمُونَ.
وَنَحْوَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص:5، 6].
فَيَها امْتِنَانٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ العِزَّةِ وَالقُوَّةِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي ذِلَّةٍ وَاسْتِضْعَافٍ وَتَبَعِيَّةٍ لِفِرْعَونَ وَمَلَئِهِ.
وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُم َا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَ ا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الصافات: 114 - 118].
وَيُوسُفُ نَبِيُّ الله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَذْكُرُ نِعْمَةَ رَبِّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُضِعْ صَبْرَهُ وَتَقْوَاهُ بَلْ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ حُسْنَ العَاقِبَةِ، فَيَقُولُ لإِخْوَتِهِ: ﴿ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].
وَكَذَا أَهْلُ الجَنَّةِ يَذْكُرُونَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَخَوْفَهُمْ مِنْ رَبِّهِم ثُمَّ يَذْكُرُونَ نِعْمَةَ الله عَلَيْهِمْ فِي الجِنَانِ، وَنَجَاتِهِمْ مِنْ سُمُومِ النِّيرَانِ، فَيَقُولُونَ: ﴿ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 26 - 28].
قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَا مَنَّانَ عَلَى الإِطْلَاقِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، ثُمَّ يَعْتَرِفُ بِالمِنَّةِ لله وَحْدَهُ.
كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَّما جَمَعَ الأَنْصَارَ فَذَكَّرَهُمْ، وَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنْ أَمْرُكُمْ شَتِيتًا فَجَمَعَهُ اللهُ بِي، أَلَمْ تَكُونُوا عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي، أَلَمْ تَكُونُوا خَائِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللهُ بِي».
وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ... الحَدِيثُ إِلَى آَخِرِهِ[31]، فَأَقَرُّوا لله ثُمَّ لِرَسُولِهِ بِالنِّعْمَةِ، وَوَلَّوُا النِّعْمَةَ لِرَبِّ النِّعْمَةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِذَا أَعْطَى أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَمُنُّ بِهِ، بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ، وَيَتَنَاسَاهُ، وَيَرَى الفَضْلَ لِغَيْرِهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهُ، لَا لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: المَنُّ التَّحَدُّثُ بِمَا أَعْطَى حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ المُعْطَى فَيُؤذِيهِ.
قَالَ العُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا عَلَى المَرْءُ أَنْ يُرِيدَ وَجُهَ الله تَعَالَى وَثَوَابَهُ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى المُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجُو مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَنْظُرُ مِنْ أَحْوَالِهِ فِي حَالٍ سِوَى أَنْ يُرَاعِي اسْتِحْقَاقَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، وَمَتَى أَنْفَقَ لِيُرِيدَ مِنَ المُنْفِقِ عَلَيْهِ جَزَءًا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَهَذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ الله، فَهَذَا إِذَا أَخْلَفَ ظَنَّهُ فِيهِ، مَنَّ بِإِنْفَاقِهِ وَآَذَاهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ مُضْطَرًّا دَافِعَ غُرمٍ، إِمَّا لَأَنَّهُ المُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ لِعِلَّةٍ أُخْرَى، مِنَ اعْتِنَاءِ مُعْتَنٍ، فَهَذَا لَمْ يُردْ بِهِ وَجْهَ الله، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ مَا كَانَ عَطَاؤُهُ لله، وَأَكْبَرُ قَصْدِهِ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ الله[32].
2- قَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي حُرْمَةِ المَنِّ وَأَنَّ المَنَّانَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُم اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلَيْمٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّه.
خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ :
وَقَدْ قَسَّمَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله المَنَّ فِي النَّاسِ إِلَى قِسْمَينِ فِي كَلَامِهِ عَنْ المُنْفِقِينَ وَأَنْوَاعِهِمْ فَقَالَ[33]: «فَالمَنُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنٌّ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُبْطِلِ الصَّدَقَةَ، فَهُوَ مِنْ نُقْصَانِ شُهُودِ مِنَّةِ الله عَلَيْهِ فِي إِعْطَائِهِ المَالَ وَحِرْمَانِ غَيْرِهِ، وَتَوْفِيقِهِ لِلْبَذْلِ وَمَنْعِ غَيْرِهِ مِنْهُ، فَللَّه المِنَّةُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَيْفَ يَشْهَدُ قَلْبُهُ مِنَّةً لِغَيْرِهِ؟
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، فَيَعْتَدِي عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، وَيُرِيهُ أَنَّهُ اصْطَنَعَهُ وَأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَقًّا وَطَوَّقَهُ مِنَّةً فِي عُنُقِهِ فَيَقُولُ: أَمَّا أَعْطَيْتُكَ كَذَا وَكَذَا؟ وَيُعَدِّدُ أَيَادِيَهِ عِنْدَهُ، قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ أَعْطَيْتُكَ فَمَا شَكَرْتَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ كَانَ أَبِي يَقُولُ: إِذَا أَعْطَيتَ رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَكُفَّ سَلَامَكَ عَنْهُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا اصْطَنَعْتُمْ صَنِيعَةً فَانْسُوهَا، وَإِذَا أُسْدِيتْ إِلَيْكُمْ صَنِيعَةٌ فَلَا تَنْسُوهَا، وَقِيلَ: صِنْوانٌ مَنْ مَنَحَ سَائِلَهُ وَمَنَّ، وَمَنْ مَنعَ نَائِلَهُ وَضَنَّ.
ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَ الله تَعَالَى بِالمَنِّ وَأَسْبَابِ ذَلِكَ فَقَالَ:
وَحَظَرَ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ المَنَّ بِالصَّنِيعَةِ وَاخْتَصَّ بِهِ صِفَةً لِنَفْسِهِ؛ لَأَنَّ مَنَّ العِبَادِ تَكْدِيرٌ وَتَعْيِيرٌ، وَمَنَّ الله ـ إِفْضَالٌ وَتَذْكِيرٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ هُوَ المُنْعِمُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ وَالعِبَادُ وَسَائِطُ؛ فَهُوَ المُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ فِي الحَقِيقَةِ.
وَأَيْضًا فَالِامْتِنَانُ اسْتِعْبَادٌ وَكَسْرٌ وَإِذْلَالٌ لِمَنْ يَمُنُّ عَلَيْهِ وَلَا تَصْلُحُ العُبُودِيَّةُ والذُّلُّ إِلَّا لله.
وَأَيْضًا فَالِمنَّةُ أَنْ يَشْهَدَ المُعْطِي أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ وَأَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ وَمُسْدِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الحَقِيقَةِ إِلَّا اللهَ.
وَأَيْضًا فَالمَانُّ بِعَطَائِهِ يَشْهَدُ نَفْسَهُ مُتَرَفِّعًا عَلَى الآَخِذِ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ غَنِيًّا عَنْهُ عَزِيزًا، وَيَشْهَدُ ذُلَّ الآَخِذِ، وَحَاجَتَهُ إِلَيْهِ وَفَاقَتَهُ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِلْعَبْدِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ المُعْطِيَ قَدْ تَوَلَّى اللهُ ثَوَابَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَضْعَافَ مَا أَعْطَى، فَبَقِيَ عِوَضُ مَا أَعْطَى عِنْدَ الله، فَأَيُّ حَقٍّ بَقِيَ لَهُ قَبْلَ الآَخْذِ؟ فَإِذَا امْتَنَّ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ ظُلْمًا بَيِّنًا، وَادَّعَى أَنَّ حَقَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَمِنْ هُنَا ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ بَطَلَتْ صَدَقَتُهُ بِالمَنِّ، فَإِنَّهُ لمَّا كَانَتْ مُعَاوَضَتُهُ وَمُعَامَلَتُهُ مَعَ الله، وَعِوَضُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَاحَظَ العِوَضَ مِنَ الآخِذِ وَالمُعَامَلَةَ عِنْدَهُ فَمَنَّ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ، أَبْطَلُ مُعَاوَضَتَهُ مَعَ الله وَمُعَامَلَتَهُ لَهُ.
يتبع
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المَنَّانِ).
ثانيًا: وُرُودُهُ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإيِمَانِ بهذا الاسْمِ.
خامسًا: المَعَانِي الإِيمانِيَّةُ.
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ: قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة ـ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ ـ لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً لله في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك.
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- لَفْتُ نَظَرِ المُسْلِمِينَ إِلَى بَعْضِ نِعَمِ الله عَلَيْهِم.
2- حَثُّ المُسْلِمِينَ عَلَى شُكْرِ رَبِّ العَالِمَينَ.
3- تَحْرِيمُ المَنِّ بِالعَطِيَّةِ.
4- الإِخْلَاصُ فِي الإِنْفَاقِ.
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المَنَّانُ):
المَنَّانُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغِ المُبَالَغَةِ عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ، فِعْلُهُ مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا، يَعْنِي قَطَعَهُ وَذَهَبَ بِهِ.
وَالمَنِينُ الحَبْلُ الضَّعِيفُ، وَحَبْلٌ مَنينٌ إِذَا أَخْلقَ وَتَقَطَّعَ، وَرَجُلٌ مَنينٌ أَيْ ضَعِيفٌ، يُقَالُ: كَأَنَّ الدَّهْرَ مَنَّهُ وَذَهَبَ بِمُنَّتِهِ أَيْ بِقُوَّتِهِ، وَالمَنُونُ المَوْتُ؛ لَأَنَّهُ يَمُنُّ كُلَّ شَيْءٍ فَيُضْعِفُهُ وَيُنْقِصُهُ وَيَقْطَعُهُ، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30].
وَمَنَّ عَلَيْهِ أَحْسَنَ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: 3]؛ أَيْ غَيْرَ مَحْسُوبٍ أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ أَوْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ[7].
قَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِيّ ُ: «المِنَّةُ النِّعْمَةُ الثَّقِيلَةُ، وَيُقَالُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَينِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالفِعْلِ، فَيُقَالُ: مَنَّ فُلانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَثْقَلَهُ بِالنِّعْمَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، وَذَلِكَ عَلَى الحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لله تَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالقَوْلِ، وَذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا عِنْدَ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَلِقُبْحِ ذَلِكَ قِيلَ: المِنَّةُ تَهْدِمُ الصَّنِيعَةَ، وَلِحُسْنِ ذِكْرِهَا عِنْدَ الكُفْرَانِ قِيلَ: إِذَا كُفِرَتِ النِّعْمَةُ حَسُنَتِ المِنَّةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]، فَالمِنَّةِ مِنْهُمْ بِالقَوْلِ وَمِنَّةُ الله عَلَيْهِمْ بِالفِعْلِ وَهُوَ هِدَايَتُهُ إِيَّاهُمْ كَمَا ذَكَرَ»[8].
وَالَمنَّانُ سُبْحَانَهُ هُوَ العَظِيمُ الهِبَاتِ الوَافِرُ العَطَايَا، الَّذِي يُنْعِمُ غَيْرَ فَاخِرٍ بِالإِنْعَامِ وَالَّذِي يَبْدَأُ بِالنَوالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَهُوَ المُعْطِي ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، فَلِلَّه المِنَّةُ عَلَى عِبَادِهِ وَلَا مِنَّةَ لأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ المُحْسِنَ إِلَى العَبْدِ وَالمُنْعِمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَطْلُبُ الجَزَاءَ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بَلْ أَوْجَبَ بِفَضْلِهِ لِعِبَادِهِ حَقًّا عَلَيْهِ، مِنَّةً وَتَكْرُّمًا إِنْ هُمْ وَحَّدُوهُ فِي العِبَادَةِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
رَوَى البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بِنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ الله عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى الله؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ الله عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبَدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى الله ألَا يُعَذَّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا»[9].
ووَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ فِعْلًا فَقَالَ: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: 3]، ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ (الحَنَّانِ).
وَيُقَالُ مِنْهُ: مَنَّ يَمُنُّ منًّا فَهُوَ المَنَّانُ، وَالِاسْمُ المِنَّةُ، وَاشْتِقَاقُهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ مِنَ المَنِّ الَّذِي هُوَ العَطَاءُ دُونَ طَلَبِ عِوَضٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ص: 39]، فِي أَحَدِ وَجُوهِهِ، وَيَكُونُ أَيْضًا مُشْتَقًّا مِنَ المِنَّةِ الَّتِي هِيَ التَّفَاخُرُ بِالعَطِيَّةِ عَلَى المُعْطِي وَتَعْدِيدِ مَا صَنَعَهُ المُعْطِي. وَالمَعْنَيَانِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى صَحِيحَانِ[10].
وَيَتَّصِفُ أَيْضًا بِهِمَا الإِنْسَانُ لَكِنْ يَتَّصِفُ بِالمَعْنَى الأَوَّلِ عَلَى طَرِيقِ المَدْحِ، وَبِالمَعْنَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ.
فَالأَوَّلُ: الَّذِي هُوَ مَمْدُوحٌ، هُوَ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أَوْ مَنُّهُ لِوَجْهِ الله تَعَالَى لَا لِنَيْلِ عِوَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَمِنْ هَذَا القِسْمِ قَوْلُهُ: «وَإِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ أَبَا بَكْرٍ»، وقوله: «مَا أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَىَّ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ»[11].
وَالقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُنَّ الإِنْسَانُ بِالعَطِيَّةِ، أَيْ يَذْكُرَهَا وَيُكَرِّرَهَا، فَهُوَ المَذْمُومُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلَيمٌ: الُمسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ، وَالمَنَّانُ: الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مِنَّةً»[12] كَذَا جَاءَ مُفَسِّرًا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ.
وَالمَنَّانُ أَيْضًا الَّذِي يَمُنُّ عَلَى الله بِعِلْمِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ المَخْلُوقِ حَرَامٌ مَذْمُومٌ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنَّانٌ»[13]، وَلَّما كَانَ البَارِئُ سُبْحَانَهُ يُدِرُّ العَطَاءَ عَلَى عِبَادِهِ مَنًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَفَضُّلًا كَانَتْ لَهُ المِنَّةُ فِي ذَلِكَ، فَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنَ المَنِّ الَّذِي هُوَ العَطَاءُ إِلَى أَوْصَافِ فِعْلِهِ، وَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا أَخَذْتَهُ مِنَ الِمنَّةِ الَّتِي هِيَ تِعْدَادُ النِّعْمَةِ وَذِكَرُهَا وَالِافْتِخَارُ بِفِعْلِهَا فِي مَعْرِضِ الامْتِنَانِ إِلَى صِفَةِ كَلَامِهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]؛ أَيْ تَفَضَّلَ، وَالمَنَّانُ المُتَفَضِّلُ.
وَقَالَ الحُلَيْمِي: «المَنَّانُ العَظِيمُ المَوَاهِبِ فَإِنَّهُ أَعْطَى الحَيَاةَ وَالعَقْلَ وَالمَنْطِقَ، وَصَوَّرَ فَأَحْسَنَ الصُّوَرَ، وَأَجْزَلَ وَأنْعَمَ فَأَسْنَى النِّعَمَ، وَأَكْثَرَ العَطَايَا وَالمِنَحَ، فَقَالَ، وَقَوْلُهُ الحَقُّ: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]».
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: وَالمَنُّ العَطَاءُ لِمَنْ لَا يَسْتَثْيِبُهُ[14]، وَقَالَ الزَّجَّاجِيُّ: الَمنَّانُ، فَقَالَ مِنْ قَوْلِكَ مَنَنْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا اصْطَنَعْتَ عِنْدَهُ صَنْعَةً وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، فَاللهُ تعالى مَنَّانَ عَلَى عِبَادِهِ بِإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ وَرِزْقِهِ إِيَّاهُمْ.
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَا مَنَّانَ عَلَى الإِطْلَاقِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ الَّذِي بَدَأَ بِالنَوَالِ قَبْلِ السُّؤَالِ، ثُمَّ يَعْتَرِفُ بِالمِنَّةِ لَهُ وَحْدَهُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا جَمَعَ الأَنْصَارَ فَذَكَّرَهُمْ وَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنْ أَمْرُكُم شَتِيتًا فَجَمَعَهُ اللهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خَائِفِينَ، فَأَمَّنَكُمُ اللهُ بِي؟»وَهُمْ فِي ذَلِكَ يِقُولُونَ لَهُ: اللهُ وَرَسُولَهُ أَمَنُّ.. الحَدِيثُ إِلَى آَخِرِهُ[15]، فَاعْتَرَفُوا لله ثُمَّ لِرَسُولِهِ بِالنِّعْمَةِ، وَوَلُّوُا النِّعْمَةَ[16] لِرَبِّ النِّعْمَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِذَا أَعْطَى أَحْدًا مِنْ خَلْقِهِ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَمُنُّ بِهِ، بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ وَيَتَنَاسَاهُ، وَيَرَى الفَضْلَ لِغَيْرِهِ فِي قَبُولِ مَنِّهِ لَا لَهُ[17].
فَإِذَا وَصَلَ إِلَى القَلْبِ نُورُ صِفَةِ المِنَّةِ، وَشَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ المَنَّانِ، وَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِ عَبْدِهِ بِهَذَا الاسْمِ مَعَ اسْمِهِ الأَوَّلِ، ذُهِلَ القَلْبُ والنَّفْسُ بِهِ وَصَارَ العَبْدُ فَقِيرًا إِلَى مَوْلَاهُ بِمُطَالَعَةِ سَبْقِ فَضْلِهِ الأَوَّلِ، فَصَارَ مَقْطُوعًا عَنْ شُهُودِ أَمْرٍ أَوْ حَالٍ يَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِ لِحَالِهِ مَفْصُومًا مَقْطُوعًا عَنْ رُؤْيَةِ عِزَّةِ مَوْلَاهُ وَمُلَاحَظَةِ صِفَاتِهِ.
فَصَاحِبُ شُهُودِ الأَحْوَالِ مُنْقَطِعٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ خَالِقِهِ وَفَضْلِهِ وَمُشَاهَدَةِ سَبْقِ الأَوَّلِيَّةِ لِلأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَغَائِبٌ بِمُشَاهَدَةِ عِزَّةِ نَفْسِهِ عَنْ عِزَّةِ مَوْلَاهُ، فَيَنْعَكِسُ هَذَا الأَمْرُ فِي حَقِّ هَذَا العَبْدِ الفَقِيرِ وَتَشْغَلُهُ رُؤْيَةُ عِزَّةِ مَوْلَاهُ وَمِنَّتِهِ وَمُشَاهَدَةِ سَبْقِهِ بِالأَوْلِيَّةِ عَنْ حَالٍ يَعْتَزُّ بِهَا العَبْدُ أَوْ يَشْرُفُ بِهَا[18].
ثانيًا: وُرُودُه فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:[19]
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَسْجِدَ وَرَجُلٌ قَدْ صَلَّى، وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ الحَنَّانُ المَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ»، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللهَ؟ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئْلَ بِهِ أَعْطَى»[20].
وَوَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ فِعْلًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، وَقَالَ: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: «(المَنَّانُ) فَعَّالٌ مِنْ قَوْلِكَ: مَنَنْتُ عَلَى فُلَانٍ، إِذَا اصْطَنَعْتَ عِنْدَهُ صَنِيعَةً وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ.
فَاللهُ تعالى مَنَّانٌ عَلَى عِبَادِهِ بِإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ وَرِزْقِهِ إِيَّاهُمْ.
وَفُلَانٌ يَمُنُّ عَلَى فُلَانٍ: إِذَا كَانَ يُعْطِيهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ»[21].
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: «وَأَمَّا (المَنَّانُ) فَهُوَ كَثِيرُ العَطَاءِ»[22].
وَقَالَ الجَوْهَرِيُّ: «وَ(المَنَّانُ) مِنْ أَسْمَاءِ الله تَعَالَى»[23].
وَقَالَ الحُلَيْمِي: «وَمِنْهَا: (المَنَّانُ) وَهُوَ عَظِيمُ المَوَاهِبِ، فَإِنَّهُ أَعْطَى الحَيَاةَ وَالعَقْلَ وَالنُّطْقَ، وَصَوَّرَ فَأَحْسَنَ الصُّوَرَ، وَأَنْعَمَ فَأَجْزَلَ، وَأَسْنَى النِّعَمَ، وَأَكْثَرَ العَطَايَا وَالِمنَحَ، قَالَ ـ وَقَوْلُهُ الحَقُّ ـ: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34] [24].
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ هُوَ الأَنْبَارِي ـ: وَفِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى الحَنَّانُ المَنَّانُ، أَيِ الَّذِي يُنْعِمُ غَيْرَ فَاخِرٍ بِالإِنْعَامِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي شَرْحِ الَمنَّانِ:
وَمِنْ هَذَا القِسْمِ قَوْلُهُ: «وَإِنَّ مِنْ أَمَنِّ الناسِ عَليَّ فِي مَالِهِ أَبُو بَكْرٍ».
وَقَوْلُهُ: «مَا أَحَدٌ أمنَّ عَلَيَّ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ»[25].
والقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُنَّ الإِنْسَانُ بِالعَطِيَّةِ، أَيْ: يَذكُرُهَا وَيُكَرِّرُهَا، فَهُوَ المَذْمُومُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].
وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُم اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِعْلَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ».
وَالَمنَّانُ: الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مِنَّةً، كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ الإِيمَانِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ[26].
وَالمَنَّانُ أَيْضًا: الَّذِي يَمُنُّ عَلَى الله بِعَمَلِهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ المَخْلُوقِ حَرَامٌ مَذْمُومٌ.
مَعْنَاهُ: المُعْطِي ابْتِدَاءً، وَلله الِمنَّةُ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَا مِنَّةَ لَأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، تَعَالَى اللهُ عُلُوًّا كَبِيرًا[27].
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: «فِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى (المَنَّانُ): هُوَ المُنْعِمُ المُعْطِي، مِنَ المَنِّ: العَطاءِ، لَا مِنَ المِنَّةِ».
وَكَثِيرًا مَا يَردُ المَنُّ فِي كَلَامِهِمِ بِمَعْنَى الإِحْسَانِ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَثِيبُه وَلَا يَطْلُبُ الجَزَاءَ عَلَيْهِ.
فَالمَنَّانُ مِنْ أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ، كَالسَّفَّاكِ وَالوَهَّابِ[28].
وَقَالَ القُرْطُبِي: «وَمِنْهَا المَنَّانُ أ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ».
قَالَ: يُقَالُ مِنْهُ: مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا فَهُوَ المَنَّانُ، وَالِاسْمُ المنَّةُ، وَاشْتِقَاقُهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ مِنَ المَنِّ وَهُوَ العَطَاءُ دُونَ طَلَبِ عِوَضٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ص: 39]، فِي أَحَدِ وَجُوهِهِ.
وَيَكُونَ أَيْضًا مُشْتَقًّا مِنَ: المِنَّةِ، الَّتِي هِيَ التَّفَاخُرُ بِالعَطِيَّةِ عَلَى المُعْطِي وَتَعْدِيدِ مَا صَنَعَهُ المُعْطِي.
وَالمَعْنَيَانِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى صَحِيحَانِ.
وَيَتَّصِفُ أَيْضًا بِهِمَا الإِنْسَانُ لَكِنْ يَتَّصِفُ بِالمَعْنَى الأَوَّلِ عَلَى طَرِيقِ المَدْحِ، وَبِالمَعْنَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ.
فَالأَوَّلُ: الَّذِي هُوَ مَمْدُوحٌ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أَوْ مَنُّهُ لِوَجْهِ الله تَعَالَى لَا لِنَيْلِ عِوَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.
وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنَّان»[29].
وَلمَّا كَانَ البَارِئُ سُبْحَانَهُ يُدِرُّ العَطَاءَ عَلَى عِبَادِهِ مِنًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَفْضُّلًا، كَانَتْ لَهُ المِنَّةُ فِي ذَلِكَ.
فَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنَ المَنِّ الَّذِي هُوَ العَطَاءُ إِلَى أَوْصَافِ فِعْلِهِ.
وَيَرْجِعُ المَنَّانُ إِذَا أَخَذْتَهُ مِنَ الِمنَّةِ الَّتِي هِيَ تِعْدَادُ النِّعْمَةِ وَذِكْرُهَا والافْتِخَارُ بِفِعْلِهَا فِي مَعْرَضِ الامْتِنَانِ، إِلَى صِفَةِ كَلَامِهِ تَعَالَى[30].
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ:
1- إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ المَنَّانُ الَّذِي مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ وَالإِنْعَامِ وَالأَرْزَاقِ وَالعَطَايَا.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَثِيرُ العَطَاءِ، فَلَا نِهَايَةَ لِتَوْسِعَتِهِ: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، وَقَالَ: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34].
وَقَدْ ذَكَّرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِبعْضِ مِنَنِهِ عَلَيْهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 94].
فَذَكَّرَهُمْ ـ بِنَعْمَةِ هِدَايَتِهِ لَهُمْ وَقَدْ كَانُوا فِي ظُلَمَاتِ الكُفْرِ يَتَرَدَّدُونَ، وَعَلى شَفِيرِ جَهَنَّمَ هُمْ قَائِمُونَ.
وَنَحْوَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص:5، 6].
فَيَها امْتِنَانٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ العِزَّةِ وَالقُوَّةِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي ذِلَّةٍ وَاسْتِضْعَافٍ وَتَبَعِيَّةٍ لِفِرْعَونَ وَمَلَئِهِ.
وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُم َا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَ ا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الصافات: 114 - 118].
وَيُوسُفُ نَبِيُّ الله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَذْكُرُ نِعْمَةَ رَبِّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُضِعْ صَبْرَهُ وَتَقْوَاهُ بَلْ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ حُسْنَ العَاقِبَةِ، فَيَقُولُ لإِخْوَتِهِ: ﴿ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].
وَكَذَا أَهْلُ الجَنَّةِ يَذْكُرُونَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَخَوْفَهُمْ مِنْ رَبِّهِم ثُمَّ يَذْكُرُونَ نِعْمَةَ الله عَلَيْهِمْ فِي الجِنَانِ، وَنَجَاتِهِمْ مِنْ سُمُومِ النِّيرَانِ، فَيَقُولُونَ: ﴿ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 26 - 28].
قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَا مَنَّانَ عَلَى الإِطْلَاقِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، ثُمَّ يَعْتَرِفُ بِالمِنَّةِ لله وَحْدَهُ.
كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَّما جَمَعَ الأَنْصَارَ فَذَكَّرَهُمْ، وَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنْ أَمْرُكُمْ شَتِيتًا فَجَمَعَهُ اللهُ بِي، أَلَمْ تَكُونُوا عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي، أَلَمْ تَكُونُوا خَائِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللهُ بِي».
وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ... الحَدِيثُ إِلَى آَخِرِهِ[31]، فَأَقَرُّوا لله ثُمَّ لِرَسُولِهِ بِالنِّعْمَةِ، وَوَلَّوُا النِّعْمَةَ لِرَبِّ النِّعْمَةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِذَا أَعْطَى أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَمُنُّ بِهِ، بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ، وَيَتَنَاسَاهُ، وَيَرَى الفَضْلَ لِغَيْرِهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهُ، لَا لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: المَنُّ التَّحَدُّثُ بِمَا أَعْطَى حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ المُعْطَى فَيُؤذِيهِ.
قَالَ العُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا عَلَى المَرْءُ أَنْ يُرِيدَ وَجُهَ الله تَعَالَى وَثَوَابَهُ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى المُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجُو مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَنْظُرُ مِنْ أَحْوَالِهِ فِي حَالٍ سِوَى أَنْ يُرَاعِي اسْتِحْقَاقَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، وَمَتَى أَنْفَقَ لِيُرِيدَ مِنَ المُنْفِقِ عَلَيْهِ جَزَءًا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَهَذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ الله، فَهَذَا إِذَا أَخْلَفَ ظَنَّهُ فِيهِ، مَنَّ بِإِنْفَاقِهِ وَآَذَاهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ مُضْطَرًّا دَافِعَ غُرمٍ، إِمَّا لَأَنَّهُ المُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ لِعِلَّةٍ أُخْرَى، مِنَ اعْتِنَاءِ مُعْتَنٍ، فَهَذَا لَمْ يُردْ بِهِ وَجْهَ الله، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ مَا كَانَ عَطَاؤُهُ لله، وَأَكْبَرُ قَصْدِهِ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ الله[32].
2- قَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي حُرْمَةِ المَنِّ وَأَنَّ المَنَّانَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُم اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلَيْمٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّه.
خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ :
وَقَدْ قَسَّمَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله المَنَّ فِي النَّاسِ إِلَى قِسْمَينِ فِي كَلَامِهِ عَنْ المُنْفِقِينَ وَأَنْوَاعِهِمْ فَقَالَ[33]: «فَالمَنُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنٌّ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُبْطِلِ الصَّدَقَةَ، فَهُوَ مِنْ نُقْصَانِ شُهُودِ مِنَّةِ الله عَلَيْهِ فِي إِعْطَائِهِ المَالَ وَحِرْمَانِ غَيْرِهِ، وَتَوْفِيقِهِ لِلْبَذْلِ وَمَنْعِ غَيْرِهِ مِنْهُ، فَللَّه المِنَّةُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَيْفَ يَشْهَدُ قَلْبُهُ مِنَّةً لِغَيْرِهِ؟
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، فَيَعْتَدِي عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، وَيُرِيهُ أَنَّهُ اصْطَنَعَهُ وَأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَقًّا وَطَوَّقَهُ مِنَّةً فِي عُنُقِهِ فَيَقُولُ: أَمَّا أَعْطَيْتُكَ كَذَا وَكَذَا؟ وَيُعَدِّدُ أَيَادِيَهِ عِنْدَهُ، قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ أَعْطَيْتُكَ فَمَا شَكَرْتَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ كَانَ أَبِي يَقُولُ: إِذَا أَعْطَيتَ رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَكُفَّ سَلَامَكَ عَنْهُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا اصْطَنَعْتُمْ صَنِيعَةً فَانْسُوهَا، وَإِذَا أُسْدِيتْ إِلَيْكُمْ صَنِيعَةٌ فَلَا تَنْسُوهَا، وَقِيلَ: صِنْوانٌ مَنْ مَنَحَ سَائِلَهُ وَمَنَّ، وَمَنْ مَنعَ نَائِلَهُ وَضَنَّ.
ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَ الله تَعَالَى بِالمَنِّ وَأَسْبَابِ ذَلِكَ فَقَالَ:
وَحَظَرَ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ المَنَّ بِالصَّنِيعَةِ وَاخْتَصَّ بِهِ صِفَةً لِنَفْسِهِ؛ لَأَنَّ مَنَّ العِبَادِ تَكْدِيرٌ وَتَعْيِيرٌ، وَمَنَّ الله ـ إِفْضَالٌ وَتَذْكِيرٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ هُوَ المُنْعِمُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ وَالعِبَادُ وَسَائِطُ؛ فَهُوَ المُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ فِي الحَقِيقَةِ.
وَأَيْضًا فَالِامْتِنَانُ اسْتِعْبَادٌ وَكَسْرٌ وَإِذْلَالٌ لِمَنْ يَمُنُّ عَلَيْهِ وَلَا تَصْلُحُ العُبُودِيَّةُ والذُّلُّ إِلَّا لله.
وَأَيْضًا فَالِمنَّةُ أَنْ يَشْهَدَ المُعْطِي أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ وَأَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ وَمُسْدِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الحَقِيقَةِ إِلَّا اللهَ.
وَأَيْضًا فَالمَانُّ بِعَطَائِهِ يَشْهَدُ نَفْسَهُ مُتَرَفِّعًا عَلَى الآَخِذِ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ غَنِيًّا عَنْهُ عَزِيزًا، وَيَشْهَدُ ذُلَّ الآَخِذِ، وَحَاجَتَهُ إِلَيْهِ وَفَاقَتَهُ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِلْعَبْدِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ المُعْطِيَ قَدْ تَوَلَّى اللهُ ثَوَابَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَضْعَافَ مَا أَعْطَى، فَبَقِيَ عِوَضُ مَا أَعْطَى عِنْدَ الله، فَأَيُّ حَقٍّ بَقِيَ لَهُ قَبْلَ الآَخْذِ؟ فَإِذَا امْتَنَّ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ ظُلْمًا بَيِّنًا، وَادَّعَى أَنَّ حَقَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَمِنْ هُنَا ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ بَطَلَتْ صَدَقَتُهُ بِالمَنِّ، فَإِنَّهُ لمَّا كَانَتْ مُعَاوَضَتُهُ وَمُعَامَلَتُهُ مَعَ الله، وَعِوَضُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَاحَظَ العِوَضَ مِنَ الآخِذِ وَالمُعَامَلَةَ عِنْدَهُ فَمَنَّ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ، أَبْطَلُ مُعَاوَضَتَهُ مَعَ الله وَمُعَامَلَتَهُ لَهُ.
يتبع